الفصل السابع
أوغندة بلد أغنى من جميع البلدان المجاورة وأوفرُ حظًّا منها، وذلك لما تتمتع به
من جوٍّ
سخيٍّ تنمو به ثمرات الأرض من تلقاء نفسها، ولِمَا أنعَمَ القَدَر عليها من إبعاد البيض
حتى سنة
١٨٦٠، وتمضي ألوف السنين ويعيش فيها بضعة آلافٍ من السود هنالك جاهلين شَهَوَات الشرق
والشمال،
ويدخلها سبيك
١ ويكون أول من يتكلم عن شعبٍ فِرْدَوْسيٍ يحسب نفسه سعيدًا، واليوم لو سئل أوغنديٌّ
على شواطئ بحيرة فيكتورية لأجاب أنه يأتي من بلدٍ «يقتبس القمرُ فيه قواه الجديدة ونوره
الجميل
الأبيض من ذرى جبال الثلج»، وهو يمدُّ يده نحو منبع النيل في بعض الأحيان فيقول: إنه
من البلد
الذي يلد فيه النهر الأكبر، ولكنه إذا ما سئل عن سَيْر الزمن أبصر أن السنةَ ستة أشهر
لغَلَّتَين ينالهما، وصرَّح بأن الشهر الأول من السنة هو شهر البَذْر، وأن الأشهر الخمسة
التالية هي أشهر الأكل، وكان لدى أولئك القوم قبل أن يُكشَفَ أمرهم كلُّ ما يحتاجون إليه
من موز
وحبوب وبقولٍ وأسماك وضأن، وهم لم يهلك منهم أناسٌ كثيرون في القرون الأخيرة إلا نتيجةً
لما
اشتعل بين العروق من حروب طويلة.
ويُعتقد أن ذلك العرق مزيجٌ من البانتو ومن قبائلَ نيليةٍ وحاميَّة، ونحن — لأنه ليس
لدينا
وثائق مكتوبةٌ — نرى أن اختلاط العروق مصدر سعادتها، وأن غرورَها مصدر سقوطها.
والبانتو، وهم عرقٌ زنجيٌّ مسيطرٌ، زُرَّاعٌ، مستديرو الرءوس، ضُلُعٌ
٢ صحيحو البنية، سمرٌ لامعو الجلود حسنو التكوين، والباهيما، وهم قومٌ من الرعاة
انفصلوا عن أولئك بفعل ما كان بين البدويين والفلاحين من صراع، أجملُ من أولئك وأسطع
لونًا مع
أنوف مستقيمة وشفاهٍ رقيقة ومنظرِ مَنْ أبوهم من البيض وأمهم من الخِلَاسِيَّات.
٣
وفي زمنٍ مجهول أتى الباهيما فاتحين من الشرق، ومن الحبشة على ما يحتمل، فاستقروا
حول بحيرة
كِيُوغا وبحيرة فيكتورية، ثم قُهِرُوا في تاريخٍ متأخر من قبل البانتو الذين يفوقونهم
مع
ازدرائهم للبانتو بسبب امتيازهم منهم حسنًا وحِذْقًا، وعلى ما كان من وَضْع فريقٍ من
كبار علماء
وصف الإنسان علامةَ استفهامٍ بجانب النتائج التي انتهوا إليها من أبدان كلا العرقين وعنعناتهما
ترى في تلك الهجرة الباكرة إيضاحًا وحيدًا لعادات أولئك الزنوج المنعزلين عن سواهم.
وبتعاريج لا تُصدَّق وصل — كما يظهر — لُقَاطٌ
٤ من حضارة دلتا النيل إلى تلك العشائر البعيدة، وذلك كشعاعٍ عبقريٍّ ينير أناسًا لم
يَسمَعوا عن وجوده قط، ولم يحدث في زمنٍ أن أوصل المصريون نهرَ النيل إلى أوغندة، ومع
ذلك من
أين أتى هذا الثور المستقيم الظهر والعظيم القرنين الذي يسير بين زنوج خطِّ الاستواء
كما عُرِض
في صور الجُدُر المصرية القديمة؟ ومن أين عَرَفَ ملوك الزنوج ذلك المِعْزَف،
٥ وذلك البوق المصنوع من قرن الوعل اللذين كان الفراعنة يُمَجَّدُون بهما؟
لا ريب في أن حضارة مصر كانت من القوة ما تؤثِّر معه في القبائل الحامِيَّة العربية
بطريق
الصومال والحبشة حيث تُبصِر آثارها باقيةً، وقد سارت تلك القبائل إلى الأرض الخصيبة حول
منابع
النيل تبعًا لموجاتٍ من الحروب والمجاعات، فنَفَذَت الحضارة بذلك في الزنوج الذين كانوا
يجهلونها كما كانوا يجهلون الإنسان الأبيض.
وليس ذلك الشعبُ الذي اكتشفه أوروبيون في سنة ١٨٦٠ لأول مرةٍ مدينًا بحضارته لتاجرين
أو
ثلاثة تجار من العرب أتوا من زنجبار قبل ذلك ببضع سنين ليشتروا عبيدًا من ملك الزنوج،
ولم يكن
الأبيض الأول الذي وَصَلَ إلى البحيرة الكبرى، فوجَدَ ذلك الشعب، مرسلًا أو رائدًا، بل
جنديٌّ
زنجباريٌّ فارٌّ من دائنيه، ويُولَع الملك الزنجي به لبياض أَدَمه
٦ وجمال شعره وحسن لحيته، وما انفكَّ ذلك الزنجباري يعيش بجانب الملك حتى سنة ١٨٥٧
بين نسائه الثلاثمائة، ويكشف ذلك المدين، ذلك الجندي، للملايين من سكان أفريقية الوسطى
حياة
البيض على حين ترى بعض الأدوات والعادات قد انتهت إليهم منذ ألوف السنين من أمدن بلاد
البحر
المتوسط الذي كانوا يجهلون حتى اسمه، ويتَّبِع بعضُ شيوخ العرب وتجارهم بَطلَ الحضارة
الغريبَ
ذلك.
ولم يكن الملك — مع ذلك — أولَ من بُهِتَ في أوغندة، فقد استحوذ الجَزَع والوَلَه
والضِّيق
معًا على الباهيما، الذين أسفر امتزاجهم بالبانتو عن اسودادهم مقدارًا فمقدارًا، نتيجةً
لوصول
أولئك العرب، ومما ذكره الباهيما موكِّدين أنهم من عِرقِ أولئك وأن أجدادهم كانوا أشدَّ
من
حَفَدَتِهم بياضًا بدرجاتٍ وأن شعورهم كانت طويلةً، ويَخشى الباهيما أن يَعنِيَ حضور
أولئك
الغرباء حضورَ أجدادهم لاغتصاب أرضهم المحبوبة منهم.
ويصل الرواد الأولون — أي الإنكليز — على أثر العرب فيَجِدون أنفسهم تِجَاه قومٍ لم
يروا
رجلًا أبيضَ قبل عشر سنين، وماذا كانت حال هؤلاء الوحوش؟
وجد الإنكليز هؤلاء القومَ يعيشون في أكواخ مستديرة مصنوعة من سُوقِ الكلأ الطويل،
أو من
لِيف شجر الموز المجدول جدلًا فنيًّا، وذاتِ سُقُوفٍ على شكل القِبَاب أو ذاتِ أطنافٍ
٧ ووجدوا رجالًا ونساءً يلبسون جُلُودًا أو قِشْرًا ويَدُوسون وقت الصباح طينَ
الجُدُر حفظًا لمساكنهم من المَطْرة اليومية، ووجدوا في البقاع المستغدِرة
٨ أسدادًا أنشئت من جُذُوع
٩ النخل، وطرقًا محاطةً بالقُوَيْسَة
١٠ تصل بين القرى في ذلك البلد الكثير السكان، ووجدوا المَلِك قد جعل القتل جزاء من
يقصد السُّوقَ عاريًا، فلا يَخلَع الرجال جلودَ الحيوانات عنهم إلا في الزوارق أو في
الحرب،
ووجدوا النساء يقمنَ بكلِّ عملٍ؛ فيبذُرْنَ ويحصُدْنَ ويجلسن القرفصاء فيسحقن الحبَّ
بين رَحَوَيْنِ،
١١ ويطبخن على البخار في قدورٍ من فَخَّارٍ مصنوعة بأيديهنَّ، وذلك مع لفِّ اللحم
والسمك في ورق الموز، ويَحبُكن خِصَافًا
١٢ للبُنِّ الضارب إلى حُمرة والذي ينبت شجرُه في أطراف القرية، ويعرفن تجفيف الجلود
تحت الشمس وشدَّها على إطارٍ ودعكها بالزيت وتنظيفها حكًّا بالحجارة وصنعَ نعالٍ من جلد
الجاموس، ووجدوا أولئك الوحوشَ قد بلغوا درجةً من التمدن ما يَغسِلون معه أيديَهم قبل
الطعام
وبعده وقبل شُرب القهوة.
ووجدُوهم يزرعون ثلاثين نوعًا من الموز؛ أي من هبة الله هذه التي يمكنهم أن يكتفوا
بها
وحدها، ووجدوهم يصنعون من الموز سلائق
١٣ على البخار ثم يُتِخُّون
١٤ هذه السلائقَ مع بعض العطور فينالون بذلك خمرًا وضربًا من الجِعَة ذات العذوبة،
ووجدوهم ينتفعون بالسُّعُوف
١٥ في سقوفهم وفرشهم وتغطية اللبَن في قُدُروهم، ويتخذون جذوع النخل في صنع الزَّرَائب
ويجعلون منها مَرَاديسَ
١٦ للأرض أو ركائز لجذب الزوارق إلى الشاطئ، ويستعملون لُبَّها كالإسفنج ويُحَوِّلُون
لِيفَها إلى حبالٍ وقلانس، ويَعُدُّون هذه الشجرةَ شجرةَ الحياة الحقيقية فتَمنَحهم جميعَ
ما هو
ضروريٌّ بعد استثناء اللحم والحديد.
ووجدوا الرجال — عند عدم استعدادهم للحرب — يصنعون شُصُوصًا
١٧ وخيوطًا لها من ليفٍ المَقْر،
١٨ ووجدوهم يحفرون حفائر عميقةً صيدًا للفيل على أن يُجهِزوا عليه برماحهم، ويُمسِكون
الجاموس بأشراكٍ من أغصانٍ شائكة، ويأخذون الأوعالَ بحبائل والآساد والأنمار بفُخُوخٍ
من سوقٍ
شجريَّةٍ ثقيلة، وينطلقون إلى الصيد بالمئات، وأبصروهم مخترعين حتى لسلاحٍ كان يظن أنه
من
أساطير البارون مُونْشهَاوْزِن
١٩ لو لم يَصِفْه أعظم الخبراء في أمور أُوغندة، ومن ذلك أنهم كانوا يُمسِكون أفاعيَ
سامَّةً في الأيكة البكر ويسمِّرونها في شجرةٍ فوق أثر طريدةٍ فتثور تلك الأفاعي ألمًا
وتهجُم
على النَّمِر أو الحيوان الوحشيِّ الذي يمُرُّ وتقتله نفعًا للزنجي المتواري في الجوار.
ومن ذلك أنهم كانوا يحبُكون سِلالًا من شُرُط القشر ويعلِّقونها في رءوس دَوْحٍ يلاحظون
عليها نحلًا، فترى هذه النحل من السعادة اتخاذَ تلك السلال ملجأً تودعه عسلها، وهنالك
يدخِّنها
السود ويستولون على العسل وعلى الموم
٢٠ الذي يصنعون منه أنواعًا من الشمع.
ووجدوا أن الرجل يُمكنه نكاح ما طاب له من النساء، والنساءُ كُنَّ ثلاثة أمثال الرجال،
والنساء لا يَزَلْنَ أكثر من الرجال؛ وذلك لأنهم كانوا يقتلون بعد النصر جميعَ الفتيان
ويَسبُون
جميع النساء، ولا سيما من هن من حسان الباهيما؛ ولذلك كان النساء في أوغندة أرخصَ، دومًا،
مما
في أي مكانٍ آخر، فكانت الواحدة منهن تُساوي ثلاثة ثيرانٍ، ثم أصبحت الواحدة منهن تُساوي
ستَّ
إبرٍ أو حذاءً واحدًا.
وكانوا قليلي الولد، فإذا ما وضعت المرأة للرجل ولدًا آخر حُقَّ له أن يطبِّل أمام
بابه مدة
شهرين داعيًا بذلك أصدقاءه إلى الشرب معه، وكانوا من مشاعر اللَّيْق والذوق كما يقول
جونستن
عنهم: «إن جميع الباهيما أماجد مولدًا.» وكان الباهيما يُرسلون مرطِّباتٍ إلى السائح
الذي يمر
ويَدَعُونه يستريح تحت الخيمة قبل أن يزوروه، وهم لا يزالون يستعملون صيغًا غريبةً في
أثناء
الحديث كقول بعضهم لبعض: «أشكر لك ترويحَك لنفسِك، أشكر لك إعجابَك ببيتي، أشكر لك ضربك
ولدي.»
تلك هي مشاعر وأعمال شعبٍ لم يُؤثِّر فيه اعتقادٌ معيَّن أو مذهبٌ خلقيٌّ، تلك هي
الحال
التي كانت عليها حوالي سنة ١٨٦٠ حضارةُ أولئك القوم الذين زُعِم توحشهم.
والملك هو الذي كان حاميًا لهم، والملك هو الذي كان له حق الحياة والموت عليهم، والملك
كان
محاطًا بحاشيةٍ كحاشية الكارولنجيِّين
٢١ مؤلفةٍ من وزيرٍ وساقٍ وعازفٍ وزمَّار وحاجبٍ وحاملِ غَلْيونٍ
٢٢ وجلادٍ وطاهٍ وصانع جِعَةٍ، وكان لأحد أولئك الملوك أكثر من سبعمائة ولد، وكان لديه
— عدا زوجاته — مئاتٌ من البغايا اللائي أرسلَ منهن نحو ألفٍ وتسعمائةٍ إلى لبيعهن، فكان
له
بذلك أسلوبٌ طريفٌ لجباية الأموال بمنح رعاياه ملاذَّ حسِّيَّة، وكان الملك صاحبَ الأطيان
والقطعان فيقطِع «كونتاته» الإقطاعات كما كان ملوك الغرب في القرون الوسطى يَشُرونهم
بتمييزهم
من سواهم على حساب الفلاحين مع إثارة تحاسدهم.
وكان الملك على الذروة من هرم الدولة، وكان الفلاح قاعدةً له مع عَطَلٍ من الأرزاق
كما في
عهد قياصرة روسية، وكان الملك يَفْرِض ضريبةً على البقر فيجعل «الكُونتَات» مسئولين عن
كل واحدٍ
منها، وكان هؤلاء «الكونتات»، عند ظهور أسدٍ، ملزمين بتنظيم موكب صيدٍ إنقاذًا لها، كما
أنهم
مُلزَمُون بالقتال عندما يُغِيرُ جارٌ على البلد.
وكان مُتِيزا الذي هو آخر ذوي السلطان من أولئك الملوك (١٨٤٠–١٨٨٤) يتَّصِف بجميع
صفات
نُظَرَائه من البيض في أوروبة مع حكمةٍ أكثرَ مما لدى الكثير منهم، ومما حَدَثَ أن استقبل
الغرباءَ الأولين في بَهْوِ قصره البالغ طوله ثلاثين مترًا على صوت الصُّنُوج
٢٣ محاطًا بالأعلام وبحَمَلَة الرماح مُظهِرًا عِزَّة العاهل الأكبر.
ويَظهر ذلك المدير مدَّثِرًا بنسيجٍ من حرير الهند قاعدًا مادًّا ساقه أمامه كملوك
الغرب في
الرسوم القديمة، ويعامِل أولئك الرجالَ الذين بدوا له من الآلهة بلطفٍ ومن غير فضولٍ،
فأجارهم
بدلًا من أَسْرِهم أو قَتْلِهم، ومن أين تَعَلَّم أن الكرامة والكِيَاسة من صفات السيد
الحقيقي؟
وكان البهو من لُقَاط سُوقِ النبات، ولكنه من الاتساع كإحدى الرِّدَاه في رومة، وكان
الملك يأكل
محاطًا بالنساء والندماء، وكان الوزير وحده واقفًا عند الباب إبعادًا لعين السوء من الأطباق
المغطَّاة، وللوزير وحده أكلُ الفِضَال، والملك إذا تكلَّم آنئذٍ صاح النُّدَماء بعد
كل جملةٍ
قائلين «نِيَانْزِي — جه»؛ أي «حمدًا! حسنًا!» وليس سوى هذا ما يقال حول موائد البلاط
في
أوروبة.
ومن ذا الذي علَّم متيزا أن على الملك أن ينسج حول أبيه أسطورةً من الخيال قبل كل
شيء؟ ومن
قول مُتِيزا: «مَرِض والدي في مَشِيبه فكان يَذْبَح في كل يوم مائة غلامٍ تسكينًا للأرواح
الشرِّيرة، فلما استردَّ صحته وخرج كما في الماضي راكبًا متن وزيره الأول وَقَعَ ميِّتًا،
وقد
خيط ضمن جلد بقرةٍ فتُرِك يعوم فوق بحيرة مدة ثلاثة أيام، إلى أن دَبَّت عليه ثلاثُ ديدانٍ،
وهنالك جيء به إلى البيت حيث تَحَوَّل إلى أسدٍ. وأما جدي فقد كان من القوة ما كان يمكن
عيشه
مخلَّدًا لو لم يفرَّ من هذه الدنيا كساحرٍ بعد أن عَمَّر فاسحًا في المجال لابنه الذي
طال
انتظاره.»
– ومن كان جد آلك؟
قال الملك مُتِيزَا: «إنني الابن الثامن عشر من السلالة، وكان مؤسِّسُ بيتي صيَّادًا
مشهورًا جاء من مكانٍ بعيد، وكان من البأس والجَمَال ما عَشِقته الملكة من فَورها فسَمَّت
زوجَها وجعلته ملكًا وأبًا للملك التالي.»
وروى الرُّوَّاد ثلاث قصصٍ طريفة عن مُتِيزا، ومنها أنه وَدَّ مرورَ غنيمةٍ له من
بَلَدٍ
مُعَادٍ فأرسل إلى الملك الزنجي مائة مِعْولٍ ومائة نَبْلَة، وأرسل إليه قولَه: «إذا
كنت تريد
السلم فخذ هذه المعاول لحرث الحقول، وإذا كنت تريد الحرب فخذ هذه النِّبالَ فسوف تحتاج
إليها.»
ويأخذ الملك المعاول ويُلقَّب بالملك ذي المعاول المائة.
ويستقبل متيزا إنكليزيًّا، ويعتذر له هذا الإنكليزيُّ عن كون الهدايا التي أحضرها
له قد
جَرَفَتْهَا المياه، فاسمع جواب متيزا: «أجل، إن الأنهار الكبيرة تبتلع الأنهارَ الصغيرة،
ولكنني لا أفكِّر في أمرٍ آخرَ بعد أن رأيتك.»
ويوضح ستانلي
٢٤ لمُتيزا حركات المِعصَم وعَضَلات الأصابع على ألواحٍ تشريحية فيصرخ متيزا قائلًا:
«أجل، إن هذا لأمر عجيبٌ، ولا أستطيع صنعَ مثله، ولا ينبغي لي أن أُتلِف شيئًا لا أقدِر
على
فعله.» ولم يُعتِّم متيزا أن صَلَمَ
٢٥ أحد رعاياه لأنه لم يَرُقْه!
ومن الغريب أن يَعبُد أهل أوغندة الإله النيل مع أنهم لا يَعرِفون غير طفولته الوحشية،
وهم
يجهلون مآثرَه ومصيرَه بعد ألف فرسخٍ من بلدهم.
ومن النفوس الشِّرِّيرة مَنْ هم في جُزَيرات البحيرات، فمما حَدَثَ أن الملك أراد
سفر
رحَّالةٍ أمريكيٍّ آمنًا فأمر بقطع رءوس سبعة سحرةٍ رُئي أنهم عفاريتُ البحيرة.
ويتوجَّه متيزا إلى منبع النهر ابتهاجًا بمهرجان النيل الأكبر، وتَقْدُمه فرقته الموسيقية
الكبرى مع مزاميرها المصنوعة من القصب وأبواقها المصنوعة من قرون الوعول وقيثارتها المصنوعةِ
من
الخشب وجلدِ الحيوان وأوتار المُصْران، وفيما يرقص ألوف الناس على صوت هذه الموسيقى يُجَاوِز
الملك البحيرةَ محتفلًا فوق السفينة مستصحبًا نساءً كثيرًا، وخمرًا، وذلك بعد أمر المُجَذِّفِين
٢٦ بأن يخفضوا رءوسهم لكيلا يروا النساء، وذلك هو نُبْهُ ملكِ أوغندة متيزا، ويشابه
قبره لَحْدَ بطلٍ لإحاطته بالحراب والرماح والسهام.
وهكذا تُبصر شعبًا فطريًّا موهوبًا يثبت بعاداته وبما لَه من نظامٍ حكوميٍّ فردوسي
ارتقاءه
إلى طورٍ من الحضارة لا يكاد يكون في الأساس أدنى من الذي بَلَغَه البيض بعد تطور صعبٍ،
وما
يعانيه البيض من صراعٍ ألفيٍّ بسبب الدِّين فيفزِعنا عنادُهم في ميدانه، وذلك عند نظرنا
إلى
زنوجٍ أُميِّين عاطلين من كهَّانٍ يؤمنون بكائن إلهيٍّ خَلَقَ العالم، ولكن مع دِرَايةٍ
يُقصُون
بها كلَّ طقسٍ دينيٍّ، وما كان جوابُهم عن سؤال الرُّوَّاد الأولين إلا قولُهم: «إن الله
هو من
العلوِّ ما لا يبالي معه بأعمال الإنسان.»
ويدل ذلك الإيمان المكنون
٢٧ عند شعبٍ فطريٍّ في مَعزِلٍ عن الأجانب، وصاحبٍ لنظام وأدب لا جدال فيهما، على نَكْدِ
٢٨ أديان الأمم المستعمرة العظيمة، التي تُدعى بالمسيطرة، في إثارة حسِّ النظام وشعورِ
الجماعة، وإذا كانت الهمجية تدفع إلى الحرب فإن الكسل لا يُوجِب القسوة، ولا مِرَاء في
أن أولئك
الناسَ يعيشون عَيْشَ الجنة، وأنهم لم يرتقوا إلى غير الدرجة الأولى من الحضارة، ولكن
مع بقائهم
أسعدَ مما يكونون عليه لو عَرَفُوا عجائب البيض التي لا تُنال بلا عمل، ومن السودِ أناسٌ
خَضَعُوا منذ قرونٍ لتأثير الحضارة الأوروبية وأديانها فظلُّوا في حالٍ من الحيوانية.
وما هي
المنافع التي نالها شعوبُ أوغندة السعيدة من وصول البيض المتأخِّر إلى منابع النيل؟