الفصل الخامس عشر
النيل — لا الحربُ — هو الذي عَيَّنَ مصيرَ ذلك الشعب، وما أسفر عنه النيلُ من اكتسابِ البلد شكلًا ملتويًا كالحيةِ فقد حال دون نَيْلِ وَلِيِّه وجهةَ نظرٍ يَرْقُبُه بها، ويمكن طَرَفَه أن يُفصَل عنه كالثعبان من غير أن يؤثِّر ذلك في أعضائه المركزية. وكان فرعون — لكي يَضَعَ حَدًّا لصراعِ الرؤساء المتصل ضدَّه — يَعْمَل على إلقاء الرُّعْب في قلوبهم بما لَهُ من أصلٍ إلهي، وكان يَرقُبُهُم بما لديه من سلسلةِ مراتبَ وما يُوجِبُه من إعجابهم به، وما بين الآلهة من صلةٍ دينية، وما في النظام القرطاسيِّ من عَلاقةٍ واقعيةٍ، فتقوم عليهما طُرُقُ فرعونَ في الحكم.
وكان إيمان فلَّاح أدفو بحكمةِ الحكومة يزيد كلما أبصر الرسولَ الحاملَ علاماتِ مقياسِ النيل من جزيرة الفيل يَصِل ليقدِّم أرقامه في قوائمَ مَلَكيةٍ ويقابلَ فيما بينها، وكان زعم فرعونَ أنه ابنٌ لهوروس يؤيَّد بحِذْقه في حساب المحصول سلفًا. وكان فرعون حليفَ العناصر، وكان الفلاح يسأل في نفسه — مستطلعًا — عن مَدَى خضوع هذه العناصر لفرعون، وكان يقال للفلاح في المعبد: «إن فرعونَ يأمر النيل بالارتفاع، فيُطيعه النيلُ في أحرج ساعة؛ أي حين يُوشِك أن يتوارى في الهاوية.»
السلام عليك أيها النيل الذي يَخرُج من الأرض ليغذِّي مصرَ، والذي يَخرُج من الظلمات إلى النور لُيَشادَ بوروده، أنت تَسقِي الحقول، وقد خَلَقَك رَع لتُطعِم القِطَاع. أنت تروِّي حتى الصحراء البعيدةَ من كلِّ ماء، ما دام الطَّلُّ هو الذي ينزل من السماء. وإذا ما كان النيل مِكْسَالًا سُدَّت الأنوف وهَزَل الناس وزالت القرابين وماتت الملايين. وإذا ما ارتفع النيل كانت الأرضُ في سرورٍ، وكانت المِعَدُ في حُبُور، وضَحِكت الظُّهُور وابتسمت الثُّغُور.
والنيل هو الذي يُنْبِت الشجر ويُنتِج السُّفُن لتَعَذُّر صنعِها من الحجارة. ومن ذا الذي يَجْرُؤ أن يشبِّهك بالبحر الذي لا يُخْرِج حَبًّا أيها النيلُ الكريم الذي يروِّي المروجَ ويَهَبُ القوة إلى الناس؟
وهكذا يمتزج بعضُ رموز الآلهة وأعمالِها ببعضٍ امتزاجًا جميلًا، وكان المصريون يَجْهَلون سلسلةَ المراتب بين الآلهة لعَجْزِهم عن تنظيم ما يتَعَذَّر إدراكُه، والمصريون — على العكس من ذلك — كان لهم بما هو ماديٌّ من فَنِّ الإنسان وقُدرة الدولة ما يَصْلُحُ لإقامة الهَرَم العجيب. والنيل — عُنْصُرًا — قوةٌ غامضةٌ هائلة. والنيل في الدولة أمرٌ منظَّم، وكلُّ حوضٍ يُحدِث ولايةً زراعية، ويتوقَّف أمرُ كلِّ مِنطقة على المناطق المجاورة، ويُدِير الماء كلُّ مديرٍ ناظرًا إلى حساب الجار، ويعبِّر المديرون عن رغائبهم للسلطة المركزية فتقرِّر هذه السلطة ما ترى، وهكذا يؤدِّي النيلُ إلى نظام الحكم المطلق، ولم يَغْدُ فرعونُ ابنًا حقيقيًّا لإلهٍ إلا بعد أن انتحل لقبَ ابن هَبِيس، فصار يَخْشَى — من بين جميع الآلهة — هَبِيسَ، النيلَ، على الخصوص.
ويشتمل «عمود سِنِي المجاعة السَّبْع» على كتابةٍ من أقدم كتابات مصرَ، ويحتمل أن هذه الكتابة أقدمُ من الأهرام، ويئنُّ أحد الفراعنة على هذا العمود بما يأتي: «لم يَرتفع النيلُ منذ سبع سنين، ويُعوِزُنا الحَبُّ، وقد جَفَّت الحقول، وعاد الرجل لا يَدْفِن جارَه، وصار الجميع يَفِرُّ على ألَّا يَرجِع، ويَبْكي الولد، ويَذْوِي الشابُّ، ويَذْبُل الشائب، وتَزُول قوة سُوقِهم، ويَجلِسون القرفصاء على الأرض متكتِّفين.» ويكون النيل مؤذيًا إذا زادت قوتُه كثيرًا، ويمضي ألفا سنة على ذلك فيقول أحد فراعنة الأُسرة الثالثة والعشرين متحسرًا: «أصبح الوادي بحرًا بأسرِه، ومُلِئَت المعابد بالماء، فيلوح أن الناس تحوَّلُوا إلى طيور مائية.»
ومع ذلك يَندُر أن تُضَعْضِع نكبةٌ كتلك بُنْيَانَ تلك السلسلة المُحْكَم، ذلك النظامَ الذي هو أعجبُ ما في القرون القديمة، والذي لم يَفُقْه شيءٌ عصريٌّ قطُّ. ويشتمل هذا النظام على «جميع ما أسَّسَه فَتَاحُ وكَتَبه في السماء، وتُبصر الشمس والقمر والعناصر الأخرى في الأعلى، ثم يأتي العالَم بأجمعه من الموجودات العلوية والآلهة والإلهات والمَلِك والمَلِكة ووزيرُ الملك إلى موظفي طيبة والولاية والوادي مع كلِّ ما يخصُّ المعابدَ والقانونَ والمالية والجيش فإلى كَتَبَة المَلِك وصُنَّاعِه ونحَّاتيه ونجَّاريه وحذَّائيه»، وتَقِف القائمةُ عند هذا الحدِّ.
وإن نظامًا كنظام بقاء الدولة هذا يسيرُ من الشمس حتى الحَذاء لإظهار فرعون قريبًا من الشمس ويهيمن على شعبٍ مؤلَّف من ثمانية ملايينَ نَفْسٍ مما لم يَعْرِفه التاريخ قبل ذلك قطُّ. وسيَبْهَر هذا النظامُ جميع طُغَاةِ المستقبل المفطورين، وكان هنالك شعبٌ يؤَلِّه ملوكَه. ولم تكن المصادفة هي التي ساقت قيصرَ ونابليونَ إلى أبي الهول، وساورت الأغارقةَ الأولين الذين دَنَوْا من النيل رُؤى روائيةٌ، وما فَتِئَ النيل بعدهم يُشبِع جميعَ من دَخَلوا مصرَ من الروح الفرعونية، وكان الإنكليزُ آخرَهم.
وإذا كان الكهان حَمَلَة جميعِ المعارف وكانوا ساحرين وعلماءَ حقيقيين فإنهم كانوا يَتَّخذون سلطانَهم الدينيَّ للتهديد، وكانوا يَتَّخِذون صِلَاتِهم بالآلهة وسيلةً للسلب، ويَعُمُّ الخطُّ الدارج بين الناس نتيجةَ إصلاحٍ، ويُوَفَّق الكُهَّان لحفظ كلِّ ما كان خفيًّا، وما فَتِئ الكهان في قرون كثيرةٍ يُؤَثِّرون في الجمهور بتمثالِ سايس المُقَنَّع مع أن القناع لم يَستُر سوى سهميْن متعارضيْن. وزِدْ على ذلك أن الكهنة كانوا يَرقُبون الناسَ بمدارسِ طبِّهم وبمغاسلهم وببيع كلِّ ما هو ضروريٌّ للتحنيط واللَّحْد وبالإقبال على التماثيل المصفوفة ما خُصَّ الكَرْنك معه بخمسمائةٍ من إلهات الحروب ذواتِ الرءوس الأَسَدية، وبالعناية بالحيوانات المقدسة كالهِرَرَة والبقر والسمك والتماسيح والجِعلَان التي تتطلَّب جيشًا من الحَرَس للمحافظة عليها.
أركبُ الزورقَ هنالك حيث خريرُ الماء المقدس، وأكون تحت السُّرَادِق فأسمعهم يفتحون القَنَوَات. وهل ألاقيه، يا روحي؟ وهل نتبادلُ الأزهارَ عند أبواب الجداول؟ أَدنُو منه باسمةً مسدولةَ الشَّعْر إسكارًا له، عندما أكون بجانبه أشعر بأنني كبناتِ فرعونَ، وليِّ أمرنا في كلتا المملكتين!
وفي المهرجان يصار إلى زواج النهر الذكر زواجًا رمزيًّا بعذراءَ تحريضًا له على إخصاب الأرض. وكثيرٌ عدد الأساطير التي تذكِّرنا بقدرة النيل الجنسية الابتدائية. وأقدم الآثار يعرض النيلَ جامعًا للذكورة والأنوثة، وارجعِ البصرَ إلى ذكورته تجدْ صورتَها الغريبة ذاتَ ثديين كبيرين، وبطنٍ رابٍ أيضًا دليلًا على الخِصْب.
وكانت هذه الأعياد تؤدِّي إلى زيادة سلطان الكهنة السياسي والاجتماعي، وكان الموظَّفون يبدون بجانب الكُهَّان راجين أن ينالوا قسطًا من الأصل الربانيِّ الذي يَعْدِل السيادةَ العليا. وسِرْ من فرعونَ إلى مديرِ المكوس تَجِدِ الجميع يتمسَّك يوم الموكِب بالتقاليد نَيْلًا لقطعةٍ معينة من كلِّ ثور أو لقُلَّة جِعَةٍ. وأوجب وجودُ ألوفٍ من الموظفين بلا عملٍ تعيينَ «مديرٍ حقيقيٍّ للوظائف» وتعيينَ «قاضٍ حقيقيٍّ» بجانب مدير الوظائف، وذلك على حين كان موظَّفُو البلاط يحملون مثلَ الألقاب: «رئيس مديرية النيل»، و«مفتش القرون والحوافر والريش»، و«مُزَيِّن فرعونَ وحَفَّافُه»، و«مستشار التاج الخاص»، و«رئيس أسرار الصباح»، و«رئيس مفتشي قاعة حمَّام المَلِكة الكبرى»، و«مدير جميع النُّزَهِ الجميلة»، وأضخمُ من ذلك كله لقب «قائد الصحراء».
وكان الكاتب دولابَ ذلك النظام الرئيس، ووُجِد في أحد القبور تصويرٌ جداريٌّ لمكتب يُنَظِّم الكتبةُ فيه محاضرَ ويَحسبون ويقيِّدون ويُرسِلون بإشراف رئيسٍ كاتبٍ بلا عمل، فتلك هي صورة إدارةٍ أساءت استعمالَ خطٍّ اختُرِع حديثًا.
وبلغ أمر إحصاء السكان من التقدم ما غدا الكاتبُ معه أقوى في المِصْرِ والولاية، وبلغ الأريبُ أمازيسُ — الذي هو من أواخر الفراعنة المحليين — من الغلوِّ في النظام القرطاسيِّ والاشتراكية الحكومية ما كان يجب معه على كل مصريٍّ في كلِّ سنة أن يُصَرِّح لشُرطَة مديريته بوسائلِ عيشِه، فكان يُحْكَم بالموت على من لم يكن لديه من وسائلِ العيش ما يمكن تحقيقُه. وكان سولون قد أدخل إلى أثينة قانونًا مماثلًا مُقْتَبَسًا من مصرَ على ما يحتمل.
ورَقابةٌ حكوميةٌ مثلُ تلكَ يُرَادُ إعادتها في أيامنا هي مما يُحْتَمَل بين أناسٍ من الأحرار، وسلطانٌ مثل ذلك في دولةٍ مؤلَّفة من عبيدٍ أو آدميين مُعَبَّدِين لا يمكن قيامُه إلا بالإرهاب.