الفصل السادس عشر
وماذا كان على فرعون أن يَخشَى؟ كان عليه أن يخاف المرضَ قبل كلِّ شيء؛ لأنه قد يَقضِي على حياته أو على سلطانه على الأقل. ومما نَعرِف أن الكهنة بمروى الواقعةِ على النيل الأوسط كانوا يقتلونه ليُحلُّوا روحه في بدنِ خَلَفٍ أقوى شَكِيمةً، ولا تزال هذه العادة موجودةً لدى الشِّلُّك في النيل الأعلى. وفرعونُ كان يجازف بتاجه بعد حربٍ خاسرة أو محصولٍ رديء. وفي التوراة نصٌّ على مسئوليته عن السنوات السبع الشِّدَاد في زمنِ يوسف، وعن جوائحِ مصرَ في زمن موسى، وأشدُّ ما يَحِيقُ بالفراعنة من خطرٍ هو ما كان يَصدُر عن شعبهم.
ونَجْهل أيُّ الفراعنة حُقِّرَ أو مُقِتَ؛ وذلك لأن التاريخ — الذي يُعْرَض بكتاباتٍ وتصاويرَ على جُدُر المعابد والقبور على المِسَلَّات، صادرٌ عن العقيدة القائلة بالنَّسَبِ الإلهيِّ وعن عواملَ حكوميةٍ.
وقَبض على زمام الحكم بمصرَ ثلاثون أُسرةً في ثلاثة آلاف سنة، فيكون المعدَّل المتوسط لكلِّ أُسرة قرنًا واحدًا، وما كان من نَسَبٍ إلهيٍّ ولُؤمٍ شعبيٍّ ليصونَ فرعونَ من حذَرٍ عميق تِجاه أولئك الذين جرَّدَهم من كلِّ حقٍّ. فهو إذا ما كان على شُرفَة قصره ساورته الرِّيَب — لا ريب — حَوْل ما يأتي به النهرُ إلى العاصمة وحَوْلَ ما يحمِله الفلاحون أو العمال على ظهورهم من حجارة استخرجها هؤلاء العبيد من المقالع، ومن محصولٍ قَطَعُوه ودَرَسُوه بأنفسهم، وأَبْصَرَ العَرَقَ يَتَصبب على سِيقَانِهم عندما يَصْطَفُّون على سَدِّ النيل، فيقول في نفسه: إن أَمُون رَع وهَبيس لم يكونا من غيرِ البَلَايَا على هؤلاء التُّعَساء المحكومِ عليهم بنَزْف الماء وحَمْله مَدَى حياتهم.
وما كان الفلاح ليمتاز من البهائم بغيرِ الغِذاء والفكر. وكان غِذَاء الفلاح أردأ من غِذاء البهائم في الغالب؛ وذلك لأن الناس كثيرٌ، ويَسهُل استبدالُ بعضهم ببعض، ولم يكن لدى الفلاح — مهما كان حرًّا — سوى فِكْر الفراعنة، وكان لأسرَى الحرب مثلُ نصيب الأهلين تقريبًا، وما كان من عملِهم على ضِفاف النيل وفي الحقول وفي المقالع والقبور فيؤدِّي إلى مثلِ ضَنَى أولئك. وكانت الحرية حرامًا على كلا الفريقين وإن لم يَحمِل الفلاحُ اسمَ الرقيق، وكان الجميع من الفَدَّادين خلا طبقةٍ متوسطةٍ قليلةِ العدد من التجار والصُّنَّاع، وللجميع مثلُ نصيب آبائهم فيَندُر أن يَرتَقِيَ الواحدُ منهم إلى ما هو فوق حاله. وفي الأمثال: «لا يُولَد الولدُ إلا لِيُنزَع من ذراعَيْ أمه، فإذا صار رجلًا كُسِرَتْ عظامه.» وهم يُوسَمُون في ذُرْعَانهم كالمواشي.
وليست المِنزَفة أشقَّ أعمالهم، ويجب عليهم في المقالع — حيث تُسْتَخرج التماثيلُ الضخمة من غيرِ استعانةٍ بآلة — أن يَنْقُرُوا خروقًا في الصخر، وكان المئات من الناس يَعْمَلون عامَهم في نقل جَنْدَلٍ يَبْلُغ من الطول خمسةَ أمتار ومن الوزن ألفَ قنطار إلى كفرين، وكان قياس كلٍّ من حجريْ سَقْفِ معبدٍ بالفيوم ثمانية أمتار، وكان طولُ كثيرٍ من المِسَلَّات يزيد على ٣٣ مترًا، وكان يُؤْتَى بغرانيتِ التماثيل والنَّوَاوِيس الأسودِ من خلال الصحراء على مراكبَ خشبيةٍ بلا عَجَل، ويُرَى في أحد النقوش البارزة عَرِيفٌ واقفٌ على ركبتيْ تمثالٍ ضخم يجَرُهُّ مئات العبيد إلى أحد القبور فيَصرُخ لكي يُرَوِّي الطريقَ مئاتٌ من الناس فيَحُولوا بذلك دون الْتِهَاب الخشب.
وفي الحين نفسِه يُضرِب العمال الذين يُنشِئون مدينةَ رمسيس المأتميةَ ليُعطَوْا أرزاقًا، وما انتهى إلينا من وثائقِ ستةِ أشهرٍ فيُظهِرُهم وُقُوفًا في أول الأمر، ثم يُبْدِيهم سائرين ضارعين قائلين: «لم يكن عندنا ما نأكله من سمكٍ وخُبْزٍ وخُضَرٍ منذ ثمانيةَ عشرَ يومًا، فالحقُّ أنه يُسْلَك مسلكٌ خبيثٌ في هذا المكان من المملكة.» فبهذه الوسيلة يَنَالُون من الكَتَبَة والشرطة خمسين كيسًا من الحَبِّ في كلِّ شهرٍ؛ مع أن هذه الإدارة تسلِّم إلى كَهَنَة طيبة وحدهم ١٠٠٠٠ كيسٍ من الحَبِّ في كلِّ سنة.
رأيتُ عامل المعادن حين عمله، فأبصرتُ أصابعَه كالتمساح، وهو يلاقي من التعب في الليلِ أكثر مما تحتمله ذُرعانُه، وإذا ما أنجز النَّحَّات عملَه وَقَعَ منهوكًا على حجر، ويَبحَث الحلَّاق عن زُبُنٍ له حتى ساعةٍ متأخرة من الليل فيكاد يقطِّع أذرعَه ليملأَ جوفَه، ويعمل الملَّاح الذي يَنقُل سِلَعه حتى الدلتا أكثرَ مما تستطيع سواعدُه ويقتُله البَعُوض، ويَجلِس الحائكُ القُرفُصاء في مَصنَعه على ما هو أسوأ من حال امرأةٍ فلا يكاد يَتَنَفَّس، ويذهب الرسول إلى البلاد الأجنبية فيُوصِي بأمواله لزوجه وأولاده؛ خوفًا من الآساد والآسيويين، ويَحلِف السَّكَّان دَوْمًا ويأكُل جلدَه، ويغسل الغسَّال الثيابَ على الرصيف ويكون جارًا للتماسيح، ويَزِيد صيَّاد السمك عليه سوءًا لأنه أقرب إلى التماسيح منه.
وتدوم تلك الحال عِدَّةَ قرون.
وهذه هي الثورة الوحيدة التي اشتعلت في تاريخ ذلك العالم فلم تنتهِ إلينا وثائق عنها غيرُ التي جاءت من المغلوب، وليس عندنا خبرٌ عنها من الغالبين ما دام الخَطُّ الهيروغليفي وحدَه هو الذي كان موجودًا، ولم يكن الكُهَّان من الشجاعة ما يَذكُرُون الوقائعَ معه، وما وَصَلَ إلينا من أنباءٍ عن العويل والأنين فمبهمٌ محوَّلٌ إلى رموزٍ وأمثالٍ على نحو الأحاديث الإسرائيلية والقِصَص العربية المنسجمة، وهو ممتعٌ بروعته، طريفٌ بسهولةِ نقله من لهجة المغلوبين الصغرى إلى لَهْجَة الغالب الكبرى. وقد قال أحد كُهَّان هليوبوليس: «ضاع البلد، وعادت الشمس لا تُضِيء، وغدا النيلُ فارغًا، فيمكنك أن تَعْبُرَه ماشيًا، وتَشْرَب ضواري الصحراء من نهرِ مصرَ، ويَنْهَض أعداءٌ في الشرق فيَرَوْنَ هذا البلد في مأتم وأَلَم، وكل واحدٍ يَقْتُل الآخرَ، ويَسُود الحقد بين أهل المُدُن، ويُحْمَل الفم المتكلِّم على السكوت، وينقلب كلامُ الآخرين إلى نارٍ في الفؤاد.»
وستظلُّ تلك الثورةُ الوحيدة التي قام بها الفلاح المصريُّ في غُضُون خمسين من القرون غامضةَ الأمر إلى الأبد كما تشهد بذلك قبورُ الفقراء القليلةُ المصنوعة من الآجرِّ والمُدْرَجَة بين قبور العظماء الهِيف التي أُنْشِئت في ذلك العصر. وكلُّ ما صُنِعَ أن اطُّلِعَ — بعد الحل — على شَكَاوَى الأغنياء المغلوبين الفريدةِ بما تَحْوِيه من سوداء. ولنا بالتحولات التي أوجبها ملوكُ طيبة في الدولة الوسطى — حوالي سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، وأيام الأسرتين المالكتين الحادية عشرة والثانية عشرة — فكرٌ عن نتائج تلك الثورة. فلما اعتبر الأمراء والكُهَّان بالكارثة التي أصابت آباءَهم مَنَحُوا الشعبَ بعضَ الحقوق، فسَمَحُوا له بالاشتراك في الطقوس الدينية، وأخذوا يَعْرِضون حياتَه وطبائعَه على القبور، وصاروا يصرِّحون بأن الخلودَ يُكْتَب لمن يُخلِص للعادات؛ وذلك لأن الشعب غدا مطَّلِعًا على أسرار معبدِ أوزيريس بانتهابه، وتُسَكِّن هذه الدُّعَابَة الكلبية الجمهورَ المتوعِّد.
وهكذا يُفَرَّغُ الغَمُّ — قبل القديس بولس بألفي سنة — عن المضطَهدين والمكروبين ببعثٍ مَرْجُوٍّ في الله حيث يكون الجميعُ متساوِين، ويُسْلَكُ سبيلُ الوضوح فيُؤذَن للموظفين — وللصُّنَّاع أيضًا — في إنشاء قبور لأنفسهم وفي الاشتراك في الخلود على هذا الوجه.
أنت ترتقي جميلًا إلى أُفُق السماء — يا أَتُونُ — يا مَنْ هو مطَّلعٌ على أسرار الحياة، وأنت حينما تَستَدِير في الأفق تملأ الأرض من جمالِك، وأنت تبدو منيرًا فوق الأرض، فتغشاها بأنوارشك كما تغشى كلَّ شيء خَلَقْتَه. وإذا ما رَكنت إلى الراحة في الأُفُق الغربيِّ أظلمت الأرضُ كأنها ميتةٌ ونام الناس في غُرَفهم وأمكنت سَرِقَةُ كل ما يَضَعُونَه تحت رءوسهم من غير أن يَرَوْا ذلك.
وكلُّ شيء خلقته عظيمٌ، ومما خَلَقْتَ نَذْكُر الناسَ والحيواناتِ والكبارَ والصِّغَار وجميعَ ما يَدُوس ترابَ الأرض، وجميعَ ما يطير في الهواء وبلادَ سورية والنوبة وقطرَ مصرَ، وتَضَع كلَّ إنسان في مكانه وتُنْعِم عليه بما يحتاج إليه. وقد قسَّمتَ الناس إلى شعوبٍ مختلفةِ اللغات والأشكال والألوان.
وأنت خلقتَ النيلَ في العالم الأدنى فأتيتَ به إلى حيث تودُّ إطعامَ الناس يا ربَّ الجميع. وقد وَضَعْتَ النيل في السماء — أيضًا — لكي يَنزِل نحوهم فيَلْطِمَ الجبالَ بأمواجه كبحرٍ ويَسقِي حقولَهم بما فيه الكفاية. وفي السماء نِيلٌ واحدٌ للبلاد الجبلية ولجميعِ الحيوانات التي تَذْهَب إلى سفوحها، وقد وهبتَ نيلَ العالم الأدنى لمصر.
وأنت خلقت السماء البعيدة لتَصعَد إليها، ولتُبصِر من عَلٍ كلَّ ما أبدعتَ وحدَك. والجميع يَرْفَعُ بَصَرَه إليك، أنتَ أيها الشمسُ، ومكانُكَ في قلبي، ولا أحدَ يُدْرِك أمرَك غيري. أنا ابنُك إخناتون، وقد أطلَعْته على خططك. أنت يا حياتَنا ويا مَنْ نعيش به، وقد نشَّأت — منذ خلقت الأرض — جميعَ الناس في سبيل ابنك الذي خَرَجَ من صُلْبِك وفي سبيل من يُحِبُّ، في سبيل المَلِكة التي تعيش وتَسعَد سعادةً أبدية.