الفصل السابع عشر
أجل، كانت الكتابات تتألَّف من مدائحَ على الخصوص، ولكن هل تَرَكَ لنا مُعْظَمُ قدماء المؤرخين أمورًا أخرى؟ لقد عُرِضَ الكاتب المقدَّس وإله الكَتَبَة توت على شكل قردٍ ذي شُعورٍ بِيض، وكان عَرْضُه على هذه الصورة وَفْقَ الخيال الشعبيِّ ككلِّ دُعابةٍ في مصر. والدعابة مما لا تَجِدُ له أثرًا عند الفراعنة، ومما أدت إليه الكتابة نفسها وجودُ طبقاتٍ بين الفراعنة والشعب. وغدا الكاتب موظفًا قويًّا محترمًا مثلَ الأمراء في الدولة القديمة، وكان يوجد اختلافٌ بين الكاتب والجنديِّ كما في كلِّ مكان، وذلك مع رُجْحَان كِفَّة الكاتب؛ وذلك لأن المصريين ظلُّوا قومًا غيرَ محاربين حتى النهاية.
وفي مصرَ كانت تلك الكتابةُ — والعلم معها — من الأمور الواقعية التي تَهدف إلى غايةٍ مادية؛ ولذا لا تَجِد واحدةً من تلك الأقاصيص التي كُتِبَ الخلودُ بها للفلسفة أو للمعنى الفنيِّ عند الأمم الأخرى. وقد حَكَمَ النيلُ على المصريين بأن يكونوا من الحاسبين، وقد وجَّهَ المصريون ذكاءهم إلى حلِّ ما فَرَضَه النيل عليهم من عملٍ حلًّا عمليًّا.
وفي أيِّ القرون التي لا حَدَّ لها رَصَدَ الفلكَ أبناءُ الصحراء أولئك ليكتشفوا التقويمَ قبل الفراعنة الأولين بألف سنة؟ لقد أُثْبِتَ أنهم استعملوا التقويمَ قبل الميلاد ﺑ ٤٢٣٦ سنة، وقد كانوا يقسِّمون السنةَ إلى ثلاثة أقسام: الفيضان والبَذرِ والحَصَاد، وذلك مع علمهم منذ أقدم الأزمان كونَ السنة مؤلفةً من ٣٦٥ يومًا ونصفِ يوم، وذلك مع جعلهم السنةَ اثنيْ عشر شهرًا، وجعلهم الشهرَ الواحدَ ثلاثين يومًا مضِيفِين إلى هذه الشهور خمسةَ أيام. وهكذا كان يؤخَّر ستُّ ساعاتٍ في كلِّ سنة، فإذا ما مضى خمسمائة سنة قُلِبَ نظام الفصول قلبًا تامًّا، ثم وجب في نهاية سنة ١٤٦٠ وَضْعُ سنة ١٤٦١ كسنةٍ كبيسةٍ رَدًّا للسنين إلى محلِّها.
وَوَقَعَ ذلك للمرة الأولى في سنة ٢٧٧٦ قبل الميلاد؛ أي في عهد أحد الفراعنة زوزيري الذي بَنَى الهَرَم ذا الدرجات، وَوَقَع ذلك للمرة الثانية في عهد خَلَفٍ لإخناتون في سنة ١٣١٦ قبل الميلاد. وأما في المرة الثالثة — أي في سنة ١٤٤ بعد الميلاد — فقد كان الفراعنة الحقيقيون قد غابوا، وكان المُلكُ قَبْصَةَ بطليموس الذي هو أعظم رياضيِّي عصره. وأما المرةُ الرابعة فقد كانت في عصر المماليك، ولم يَغْزُ الجنرال بونابارت مصرَ إلا بعدها بقرنين. فهذه هي أدوار أمةٍ اكتَشَفَت التقويم منذ ستة آلاف سنة، وهي تثير في الذهن رؤيا قصرٍ عجيب يُسمَع تحته صوتُ نهر حافل بالأسرار.
وإذا كان المصريون يَحسبون حركاتِ النجومِ والقمر من أبراجِ معابدهم على ذلك الوجه فإن واقعيَّتَهم لم تؤدِّ إلى استنباط أية نتيجةٍ من وَضْع الكواكب، وهم في ذلك على عكس البابليين، وهم كانوا يَجِدُون في زيادة معارفِهم تنظيمًا لأعمالهم، وهم إذا ما دَلُّوا الميتَ في القبر إلى حركات النجوم كان ذلك للأسبوعين الآتيين فقط مقدِّرين أن الميتَ يستطيع صُنْعَ مثل ذلك في المستقبل لِمَا يكون لديه من الوقت ما يَكفِي للحِساب، وهم في زمنِ الدولة الجديدة قد وَضَعُوا اثنتيْ عشرةَ علامةً لمِنطقة البروج واكتشفوا خمسًا من السيارات وجعلوا لها أسماءً، فوجب انقضاء ثلاثة آلافِ سنةٍ لاكتشاف سيارتيْن أخرييْن. وهم — لكي يَقطَعوا الحقولَ بجداولَ على طولِ النيل — قد اخترعوا القَدَم والذراع، كما اخترعوا النظامَ العُشْرِيَّ الذي غابت رَوعَتُه عن الإنكليز حتى الوقتِ الحاضر.
وإذا كانت روحُ المصريين إنشائيةً أكثر من أن تكون فنيةً فإن تلك الاكتشافاتِ تُثِيرُ إعجابَنا أكثرَ مما تُثِيره مبانيهم مع أن شَيْدَ هذه المباني ينطوي على فنٍّ يَصْعُب إدراكُه ولو نُظِرَ إلى ملايين العبيد الذين قاموا بها.
وتتجلَّى حيوية المصريِّ وتعطُّشه إلى الخلود في المِسَلَّات المنفصلة عن الصخور الابتدائية، والتي يلوح أن نَمُوذَجَها مقتبَسٌ من الطبيعة. وقد أَحْسَنَ العالِم الجيولوجي، غُوتِه، الذي كان يَدرُس الكونَ ببصيرةِ إلهٍ، تقديرَ ذلك فقال: «إنني حين درستُ أشكالَ الغرانيت المختلفةَ عن كَثَبٍ أبصرتُ مطابَقةً عامةً تقريبًا، أبصرتُ الأجرام المتوازيةَ السطوح التي تتألَّف منها مقطَّعةً تقطيعًا منحرفًا فاكتسبت بذلك شكلَ مِسَلَّتَيْنِ. ويُرجَّح أن كان هذا الحادثُ كثيرَ الظهور في صَوَّان جِبَال مصرَ العليا، وكما أنه يُنْصَب حجرٌ كبيرٌ للدلالة على محلٍّ ذي بالٍ نَرَى أنه بُحِثَ في ذلك البلد عن حجارةٍ حادةٍ كبيرة، نادرةٍ على ما يحتمل، لتُصْنَعَ منها آثارٌ عامة.»
ويا لَكَثْرَة ما واجه تلك الأعمدةَ من مغامرات! فمن المِسَلَّات الأربعِ التي نَقَشَ عليها أحدُ الفراعنة الأقوياء تُوتْمُوزِيسُ الثالث مآثرَه نَقَلَ الإمبراطور قسطنطين واحدةً إلى بِزَنْطة، ونُقِلت أخرى إلى رومة فأُقيمت في الميدان العامِّ، ثم ظَلَّت ملقاةً هنالك عدَّةَ قرون إلى أن نَصَبَهَا أحدُ البابوات أمام اللَّاتْران حوالي سنة ١٦٠٠، وبقيت المسلة الثالثة ملقاةً ألفَ سنة، ثم أُخِذت إلى إنكلترة سنة ١٨٠٠ ونصبت على رصيف التايمس.
وترى المِسَلَّة الرابعة في الحديقة المركزية بنيويورك، وتَبْهَرنا آثارُ فرعونَ ذلك بعد ألوف السنين إذا وُجِدَ من يقرؤها، ويَقْرَأ أحدُ كهنة أمون على ابن أخٍ للإمبراطور طِيبِرْيُوس تلك الكتابةَ التي يُشَاد فيها بالانتصارات على مَادِي وفارسَ وبفتح لِيديَة وسورية، والتي يُذْكَر فيها عددُ العَرَبَاتِ الحربية ومقاديرُ ما أُخِذَ من الذهب والعاج فيصرَّح بأن صاحب هذه المفاخر هو رمسيس الأكبر. واليومَ لا يزال ترجمانُ السياح الدليلُ يغزو جميع هذه الأمور المصرية الرائعة إلى رمسيس الأكبر.
وتَدُورُ السيارات حَوْلَ تلك المسلَّات في أجمل ميادين باريسَ ورومة ولندن ونيويورك، وتُبصِرها في أثناء النهار محاطةً بعيون ماءٍ كان فرعونُ يُنْفِقُ نصفَ كنوزه على منظرها لو عَلِمَ أمرَها. أجل، لا أَحَدَ يَفْقَهُ معنى ما تَحْوِيه من كتابةٍ، غير أن تُضَاء في الليل بنُور سحريٍّ يأتي من تحتها، فكأنَّ أوزيرس لا يزال يُنِير مجدَ ابنه من العالَم الأدنى.
وللآثار التي انتهت إلينا من الدولة القديمة تأثيرٌ كثير الاختلافِ تابعٌ لاتساعها وموادِّها ما دام الأثرُ الهندسيُّ الماثل لا يكون تامَّ التأثير إِلا بالحجر وفي المباني. وانظُرْ إلى الزُّمرة الصغيرة المشهورة المصنوعة من الحجر الِكلسيِّ والمؤلفةِ من الزوج والزوجة القاعديْن المتكتِّفيْن تَبْدُ لك الزوجةُ من ملامحها ربَّةَ منزلٍ ويَبْدُ لك الزوج من ملامحه مِطْوَاعًا، ويَبْدُ لك كلٌّ منهما مضحكًا كما تبدو الزُّمَر الأخرى في مُتْحَف القاهرة. ويَظْهَر ملوك الدولة الوسطى العُرَاة برسومهم المكعبة كالألغاز الرياضية. وعكس ذلك أمرُ رَنَافِرَ ذي الحجم الطبيعيِّ؛ فهو لا يزال ذا سَنَاءٍ مع مرور أربعة آلاف سنة على رأسه، وهو يَظْهَر صِنْديدًا معتدلًا مشابهًا لسبَّاحَةٍ معاصرة، وهو يَظْهَر مثالَ الرجل الهادئ الثابت العزم بِعُنُقِه المكشوف وشَعره المكوَّر كالمِغْفَر وعينيه الثابتتين مع حسن تقويمٍ، وفمِهِ ذي الشفتيْن الدالتين على الشهوة دلالةً خفيفة، وذي الروعة الذي ليس كبيرًا فلا يكاد يزيد على أنفه القوي عرضًا، وارجع البصرَ إلى تمثال تِي تَجِدْهُ مماثلًا لذلك، ولكن مع زيادةٍ على ما في الطبيعة، ولكن مع فَمٍ وأنفٍ أكثرَ اتساعًا وشهوةٍ أشدَّ بروزًا وقليلِ أثر للذُّعْرِ، ثم ارجِع البصرَ إلى رأسِ بِرهِرْنِغْرِت ذي النظرة الأعظمِ نُبْهًا وهَلَعًا وذي الفم الخفيف المَيْلِ تَجِدْهُ صاحبَ شخصيةٍ كالتمثال الخشبيِّ الصغير الرائع المجهول الاسم (مُتْحَف القاهرة ٢٦٠٦)، مع نظرته الحائرة التي تَنِمُّ على الفَتَاء.
وارجع البصر إلى تلك التصاوير أيضًا، إلى تمثال زوزيري النصفيِّ الذي هو أقدمُ ما لدينا على ما يحتمل تَجِدْهُ ذا أذنين بَلَغَتَا من التعبير القويِّ ما نتمثَّل معه الأنفَ والعينين العاطل منهما، ويُعَدُّ جَدُّ الآلهة وخالقُ الآلهة والأشياء فَتاحُ إلهَ الفن أيضًا، وكان المصريون يقولون إن إبداع الأثر الفنيِّ يَعني مَنْحَه الحياة.
ويُعَلِّمُهم النيلُ الكتابةَ فيتعلَّمون التلوين، وتُرَى على أقدم التماثيل رَوْعَةُ الألوان، وتَخْرُج هذه التماثيلُ — بفضل الجوِّ، وفي الغالب — سليمةً من الغُرف المأتميَّة، فتدلُّ على الحياة كما كانت عند أولئك الذين عُرِضُوا على ذلك الوجه، ونُبْصِر زوجيْن من الأُسْرَة الرابعة، نُبْصِر راحُوتِب وزوجه نُفْرِيتَ، جالسيْن على عرشيْن أبيضين، وتَظْهَر الزوجةُ على أحدث طِراز، تَظْهَر طافحةً صحةً مستديرةً ضمن مِعْطَفها، ملونةً بالأبيض والأصفر مع قليلِ بُقَعٍ من الأخضر والأحمر في جِيدِها، وتُصْنَع عيناها من الحجارة المُلَونة، وتبدو شعورُها والخطوط الهيروغليفيةُ سُودًا، ويَبدُو الزوج مُتَزَوِّيًا أحمرَ داجنًا فيلوح أنه ملاكمٌ ساذجٌ غبيٌّ فيُحْزَرُ من ملامحهما تاريخ نُهُرِهما ولياليهما وأولادِهما وخصوماتِهما وسعادتهما.
وما لفنِّ تصوير أولئك القوم من قيمةٍ هزيلةٍ فيدلُّ على أنهم لم يُبَالُوا بغير ثلاثة أبعادٍ فقط. وقد كانوا يعرفون تلوينَ تمثالٍ، ومن النادر أن كانوا يَعرِفون نقشَ جسمٍ بشريٍّ، ولا يدل أحسنُ ما لدينا من التصاوير الجدارية الكثيرة على غيرِ قليلٍ من الحِذْق الفنيِّ، ومع ذلك تَرَى في مصلَّيَات معبدِ سِيتُوس بأَبِيدُوس قليلًا من النقوش البارزة المُلَوَّنَة التي هي على جانبٍ كبير من الجَمَال فتَرجِع إلى القرن الثالثَ عشرَ، ويؤدِّي الملكُ واجبَ الاحترام إلى إيزيس، إلى هذه الإلهةِ الصفراء اللون مع حمرةٍ خفيفة على غطاء الرأس. ويظهر الملك أحمرَ أو ضاربًا إلى حمرةٍ مع شعرٍ وتاجٍ أصفريْن، وهكذا يمتازُ الرجال في وَضَحِ النهار من كُبْرَيَاتِ السيدات المتخضِّبَات.
ولم يَصْنَعْ المصريون — على العموم — أشياءَ عظيمةً من غير الحجر الذي هو مصريٌّ، ولم يكن لدى المصريين خَشَبٌ، وكان المصريون يأتون بالنُّحاس من الخارج أيضًا. وقد نما حِسُّ الطِّرَاز الحجريِّ لديهم في ثلاثةِ آلاف سنة من غير أن يُثَارَ أو يُحْتَجَّ على فنِّ البناء هذا.
بيدَ أن الأُسَرَ المالكةَ الأولى أنشأت — حوالي سنة ٣٠٠٠، في داخل المعابد العظيمة — مصلَّيَاتٍ صغيرةً كانت سُوقُ البرديِّ تدعم فيها مظلَّةً خفيفة كما زَيَّنَت على هذا النَّمَط ضَخْم التماثيل بأروعِ الأسوِرة والقلائد. بيد أن طريقةَ المصريين في صقل الفَيرُوز وفي مَطْل حُلِيِّهِم المخرَّمة الدقيقة ظلَّت خافيةً علينا كالوسائل التي كانوا يَرفَعُون بها حجارةَ الأهرام الكبيرة.