الفصل الثامن عشر
كاد جميع ذلك الماضي المترجِّح بين خمسة وثلاثين قرنًا وأربعين قرنًا يظلُّ مجهولًا لدينا تقريبًا، وكِدْنا نعتمد مع الحَذَر على القِصَص الناقصة المُمْتِعة الحية التي جاء بها هيرودوتس وسترابون وديودورس؛ فقد عاد الخط الهيروغليفي لا يُسْتَعْمَلُ منذ قرون التاريخ النصراني الأولى. ومما حدث في القرن الثالث من الميلاد أن ظَهَرَ كاهنٌ مصري كبيرٌ اسمه مَانِيتون عالمٌ باللغتين اليونانية والأهلية فوَضَعَ جدولًا مهمًّا للأُسَرِ المالكة والملوك قائمًا على تقسيمٍ لخمسةِ قرون، فلما أُغْلِقَتْ معابد إيزيس غابت لغةُ الكهنة وغابت معها معرفةُ الخطِّ الهيروغليفي، وأَخَذَ رهبان الأقباط — الذين كانوا يستعملون تلك اللغة في بدء الأمر — ينتحلون اليونانية كجميع العالَم، وصارت القبطيةُ لا تُمَارَس في سوى الصلوات المصرية النصرانية.
ولكن كلما سَتَرَ صدأ القرون تلك الكتابةَ استولى عليها الخيال، ومَنْ كان في القرون الوسطى يُرِيد أن يَدَّثر بالأسرار من الصليب الورديِّ والبنَّائين الأحرار وضروب التصوف لم يَرَ بُدًّا من الرجوع إلى العالَم المصريِّ الكثير الإلغاز ما ظلَّ حقلًا طليقًا للوهم. وعند السُّيَّاح أن «الشَّفَقَ المقدس» أو لغةَ تماثيل أبي الهول السحرية تلائم سجيَّة النيل العجيبة، ولم يَعِنَّ لأحدٍ كونُ الْتِماع الجوِّ يتضمَّن وضوحَ الطبائع والأفكار.
ويدوم ذلك الجهل قرونًا، يدوم حتى وصولِ بونابارت. أجل، لم يُحَقِّق بونابارت أيةَ خطَّة من التي كانت تساوره، غير أن إحدى فِكَره جعلت من تلك الحملة الضارَّة حادثًا ذا شأن في تاريخ العالم، فقد بَحَثَ عن المَجْد على ضِفاف النيل، بحث عن مَجْدِ الفاتح مرجِّحًا، عن مجد العالَم الأثريِّ في جميع الأحوال. ولو لم يأتِ بونابارت معه بكتيبةٍ من العلماء لكَسَرَ جنودُه ما يلاقونه من تُحَفٍ على ما يحتمل.
وما أهمية حَجَرٍ مستورٍ بإشارات غير مقروءة يُخرِجه من الأرض جنوده عند حفرهم خندقًا بالقرب من رشيدٍ في شرق الدلتا؟ ويأمر الضابط بحمل الحجر إلى القاهرة، ويُرَى أن مرسومًا أصدره بطليموس الخامس سنة ١٩٦ قبل الميلاد نُقِش على ذلك الحجر مع عنوان: «بالخطِّ المقدس والخطِّ الدارج والخطِّ اليوناني.»
أَلزَمُ الباب، فلا بدَّ من أن يكون المِفتاح لديكم، غير أن سِنَّ مفتاحكم هو من شدَّة البَضْع ما لا يحرِّك لسانَ القُفْل معه.
ويحاوَل حلُّ اللغز بعناد، ويُدِير المفتاحَ في القفل الصَّدِئِ أقدرُ القفالين، ويعودون فيُدِيرُونه، ويظلُّ البابُ مغلقًا مع ما بُذِلَ من جهود وما سُمِعَ من قَلْقَلَة، أَوَيُمَثِّل الهيروغليفُ أفكارًا أم أصواتًا؟ وهل الهيروغليفُ خَطٌّ تصويريٌّ أو خطٌّ صوتي؟! وأين تكون أسماءُ الأعلام التي يُسْتَعَان بها على ذلك؟ وَيَمضي خمسَ عشرةَ سنةً في نِقَاش تمازجه مسائلُ قومية، ويحتلُّ الإنكليز مصر فيَسلُبُون ذلك الحجرَ الشهيرَ ويُرسِلونه إلى المُتْحَف البريطانيِّ حيث لا يزال موجودًا، ويكون لدى الفرنسيين نُسَخٌ صالحةٌ عنه فلا يألون جهدًا في كشف معنى ذلك الشيء الذي كان أعداؤهم قد اغتصبوه منهم.
ويُضَاف إلى عاملي الطموح والمنافسة ما تأصَّل بالتدريج من وجود قطرٍ مصريٍّ حافل بالأسرار، وتَدُور الحُمَيَّا في رءوس الباحثين فيَجِدُّون في كشف السرِّ، وفي ذلك الدور يَدرُس العالِمُ الطبيعي الإنكليزي المعروف توماس يانغ حَنْجَرَة الإنسان لتعيين دَرَج الأصوات فيه، وفي ذلك الدور يبحث ذلك العالِمُ في جميع الأبجديَّات القديمة والحديثة ليَصِلَ إلى تلك الغاية فيجد نفسَه أمام ذلك الحجر المُعَمَّى، وفي ذلك الدور يَغُوصُ ذلك العالِم في هذه المُعْضِلة بما أُوتِي من وَلَعٍ وهَوًى فيطَّلع على صوتيَّةِ الهيروغليف، غير أن ذلك العالِم هو من الروح العلمية والرياضية ومن الانهماك في حساباته ما لا يَبلُغُ الهدفَ معه.
ويستحوذ شيطان البحث على أحد الفتيان في الناحية الأخرى من المانش، فقد كان شَنْبُولْيُون (١٧٩٠–١٨٣٢) منذ صباه موسومًا بالقَدَر، وما تَذَرَّعَ به شنبوليون من حماسة وإصرار فقد أوجب انتصاره.
بلغ شنبوليون الخامسة من سنيه، وما فَتِئَ يلازِم دكَّانَ أبيه الكتبيِّ بالقرب من غرينُوبل فيقطِّع حروفًا في كتاب صلواتٍ لأمه ويؤلِّف منها كلماتٍ، وما كان عليه من وجه بيضيٍّ ومن حَدَقَتَيْن سوداوين محاطتين بأجزاءٍ صُفْرٍ فيُعطيه ملامحَ شرقيةً ويجعله عُرْضةً لكثيرٍ من المماحكات التي لم تنقطع إلا حين رَفَضَ بونابارت أن يَجْلِب إلى مصرَ أخاه الشابَّ العالِم الذي يزيد عليه في العمر اثني عشرَ عامًا، ويغدو بلدُ رمسيسَ من التقديس ما لا يجرؤ أحدٌ معه أن يتكلم عنه.
ويمرُّ ستُّ سنين (وكان شنبوليون في السنة الرابعةَ عشرةَ من عمره) فيعيَّن مديرٌ جديدٌ لإيزر، يعيَّن فوريه المساعدُ العلمي المفضال للحملة المصرية نتيجةً لسقوط حُظْوةٍ لدى الإمبراطور، وتصبح مصر موضوعَ بحثٍ ثانيةً، ويتكلَّم جميع العالَم عن زِيجِ دندرة الذي اكتُشِف حديثًا، فيُعْنَى به العالِم الغرينُوبلي الناشئ أكثرَ من عنايةِ نابليون، ويَحلُم شنبوليون برمسيسَ، ويلاحظ فرويه هذا الغلام المتمرد على نظام الكلية العسكري، والذي يتعلم الصينية والقبطية والعربية، والذي يُخْفِي معاجمَه تحت وِسادته للدراسة على نورِ أحد المصابيح.
ويعيَّن الغلام — عند خروجه من الكلية — عضوًا في أكاديمية غرينوبل لِمَا كان من عَرْضِه عليها مذكرةً عن جغرافية مصر، ويبلغ السابعةَ عشرةَ من سنيه ويبدأ بتصيُّد الكتابات الهيروغليفية، ويصيرُ طالبًا بباريس ويتَّصِل بالأقباط من الطلاب، ويتغيَّر رنينُ صوته بفعل تكلمه اللغةَ العربية، ويَخلُف أستاذَ العربية فيلقِّبه الطلابُ الأكبرُ من سنًّا بالبطرك، ويَرَى أن يَتَمَرَّن فيستنسخ نصوصًا قبطيةً بالخطِّ الدارج، ويُوشِك أن يَكشِف سِرَّ الخط الهيروغليفيِّ، وإن لم يَسطِع أن يَفُكَّه، ويَعرِف قبل يانغ بأربعِ سنين أن تلك إشاراتٌ صوتيةٌ فيقول في إحدى رسائله: «تبلغ شعورنا المستعارة درجةَ الهذيان حينما تَزْعم أنها تمثِّل فكرةً، وأجادل حتى في تمثيلها كلمةً واحدة.»
وتساوره الظنون ويحرِّكه عدم الصبر فيولِّي وجهَه شطرَ الباب المغلق الذي ينتصب وراءه رمسيس المستولي على أَخْيِلَتِهِ.
ويُعَدُّ اليوم الثامن من شهر مارس سنة ١٨١٥ تاريخًا جديرًا بالذكر عنده؛ فقد مَثَلَ فيه بين يَدَيْ نابليون الذي ناهضه هو وأقرباؤه سرًّا، وكان ذلك بعد العَوْدِ من جزيرة إلبة بثمانية أيام، ويَجِدُ الإمبراطور وقتًا لاستقبال جانعةِ غرِينُوبل، ويتحادث في أكثرَ من ساعةٍ هو والأَخَوَان شَنْبُوليون، ويطَّلع على آثار الأخِ الأصغر حَوْل اللغة القبطية، ويَحلُم في جعلها لغةَ مصر الرسمية، ويتكلَّم عن النيل وعن ألوف التُّرَع التي لا بد منها ضمانًا لمستقبل واديه، وهو إذ يَبْدُو واقفًا لابسًا مِعطفه الرماديَّ القديم ويواجه جميعَ العالَم للمرة الثانية ويحتمل نتائجَ ذلك يُلْقِي نظرةً على الماضي ويفكِّر في مستقبل مصر! ويحلم الشاب الهزيل الخَجِل — الذي يُطْلِعه على أعماله — بماضٍ يريد أن يَفُكَّه، ومع ذلك يشعر كلٌّ من الرجلين — اللذين يأخذ أحدهما العروش ويدعي الآخر منهما قدرتَه على البحث — بأنه أدرك أمرَ صاحبه.
وما كان أحدٌ بين العلماء ليَعْرِفَ قيمةَ أعمال شَنْبُوليون، وقد اكتشف يانغ أن كتابةً في حَلْقةٍ تَعْنِي مَلِكًا، ويَعْرِف فيما بعد أن الكلمة المحاطة بإطار في حجر رشيد تدلُّ على اسم بطليموس، ويَرَى الباحث الإنكليزي والباحث الفرنسي أولَ وهلةٍ أن مما يخالف الصوابَ أن تُعتَقَدَ الحقائق الخفية التي تَحْفَظُها إشاراتٌ لُغْزِيَّة من فضول الجمهور، وأن عليهما أن يعالجا كتابةً واضحةً مناسبةً مؤلَّفةً من إشاراتٍ أكثرها صوتيٌّ وأقلُّها تصويريٌّ، بيد أن رمسيس يَقِفُ دومًا خلف الباب المقفل.
وتمرُّ أعوامٌ، أعوامُ كفاحٍ ضدَّ الزملاء الذين يقاومونه نتيجةً لتشجيع أخيه، أعوامُ سَقَمٍ وفقرٍ تَحُول دون سفره إلى لندن لدِراسة أوراق البرديِّ، ويعيش شنبوليون بباريسَ في مُحْتَرَفِ مصوِّرٍ لأصدقائه ويصوِّر على المِرْقَاة حَلَقًا مَلَكيةً وإشاراتٍ غريبةً، ويَعرِف كتابةَ الاسمين كليوباترة وبطليموس بالخطِّ الهيروغليفيِّ، ولكن مع عجز عن إثبات عدم زَلَلِه، ويَبْلُغ السنةَ الحادية والثلاثين من عمره، ويَسلُك الدَّرْبَ الصالحَ، ولكنه لا يُقنِع أحدًا، وقد قال: «هذه هي دار الصناعة التي أُطَرِّق الحديدَ وأُعِدُّ أسلحتي فيها.» وعنده المفاتيح مع أسنانِها الغريبة، والمفاتيحُ أقل قلقلةً، ولكنها لا تَفتَح شيئًا.
ويَجلُب الرحالة كايُّو نماذجَ قطنٍ إلى مصر في تلك الأثناء ويعود من بِلاق بطَبْعٍ حجريٍّ لمِسَلَّةٍ مستورةٍ بإشارات، ومن هذه الإشارات واحدةٌ مخاطةٌ بدائرة، ويَفترِض شنبُوليون — بعلامةٍ يونانية — أن الأمرَ خاص بكليوباترة، ويحقِّق ويُعِيد تأليفَ اسمها تأليفًا مضبوطًا على هذا الوجه. وكان قدماء المصريين يكتبون كما فَرَضَ الشابُّ الفرنسي، ويُمَسُّ الحل، ويكاد البابُ يُذْعِن، ولا يزال القُفْل يقاوم.
ويمضي زمنٌ فتُرسَل إلى شنبوليون نُسَخٌ من النقوش البارزة في المعابد، تُرسَل إليه الورقةُ الأولى من أبي سنبل، ويَمِيز في الدائرة الملكية حرف «س» مضاعفًا، ويُقَرِّب أحدَهما من إشارة أخرى وتُسْفِر المقابلة بالقبطيِّ عن حلِّ مقطع «مِس»، وتُرَى فوقه الدائرةُ الشمسية، التي تُمثِّل «رع»؛ أي الإله الشمس، فيَقْرَأ «رع، مس» رعمسيس، ويُعِيد النظر في الورقة فيَجِد وجوهًا كثيرةً لهذا الاسم الذي يُبْحَث عنه منذ عشرين عامًا، ويكسر القفل ويسقط الغطاء.
ولم يكُ هنالك أمرٌ سرِّيٌّ، فقد كان ذلك الخطُّ أثرَ وضوحٍ ونتيجةَ عقلٍ، ويجيء ما هو مصدِّقٌ لافتراضات ذلك الفرنسيِّ الواقعي العقلي وتَثبُت صحةُ نظريته، ويستطيع فيما بعد أن يَقرأَ الكتاباتِ وأوراقَ البردي، وأن يُظْهِر تاريخَ أقدم أممِ الأرض وحضارتها. وقد قام بهذا الاكتشاف على بُعْدِ ألف ميلٍ من مصر، في غرفةٍ صغيرةٍ مستعينًا بأوراقٍ وصُوَرٍ قليلة، ومن غير انتفاعٍ بمِدَقِّ العالِم الأثريِّ ومِطْرَقه.
ويُهرَع إلى أخيه حاملًا أوراقَه ويَضَعُها على المِنْضَدَة ويقول بصوتٍ عالٍ: «لقد أمسكتُ الأمرَ.» ثم يَقَع على الأرض، وتَمْضِي خمسةُ أيام قبل أن يُشفَى، ويَلزَم السرير ستةَ أيام مع خَوْفِه أن يرى إفلاتَ شَرَفِ اكتشافه منه، ويُمْلِي على أخيه مجموعةً كاملةً من الخط الهيروغليفي، وتمضي خمسةَ عشرَ يومًا، ويَعرِض الأمرَ على جمعٍ من العلماء جامعٍ ليانغ وهَنْبُولد، ويعمل — مع ذلك — برأي أخيه العارف بأمور الحياة فيَكتم فُجَاءَة اكتشافه ويقدِّمه نتيجةً لأعمال متصلة وَفْقَ الواقع من الأساس! ويغدو شنبوليون مشهورًا على الرغم من حَمَلَات الحَسَد التي قام بها المتخصصون بالآثار المصرية من الفرنسيين، ومن الألمان على الخصوص.
بيد أنه ينتظر ستَّ سنين قبل أن يوجِّه بنفسه بعثةً إلى مصر، ويُحْسَب من فضائل النيل الطريفة أن يَقصِد مصرَ فاتحٌ بلا فرسانٍ ولا مدافعَ قابضٌ على مِفتاح سحريٍّ فتكلمه القبور والمِسَلَّات وجُدُر المعابد وتحدِّثه عن تاريخ بلدها، وقد أرخى لحيتَه وبدا عربيًّا بملامحه ولَبِسَ ثوبًا عربيًّا، وصار الجمهور يحيِّي هذا الأجنبيَّ الذي يقرأ كتابةَ الحجارة، ويَدعُوه الباشا في ختام هذه الرِّحلة ويطلب منه أن يقصَّ عليه حوادثَ بلده في الماضي، فَظَهَر كلٌّ من وليِّ الأمر والساحر مواجهًا للآخر بذلك، وكان أحدُهما يعرف ماذا ينظِّم في الغد كنابليون في غرينوبل، وكان الآخر يعرف الماضي، ولكنه كان أسنَّ منه ثلاثَ عشرةَ سنة، وكانت أيامُه معدوداتٍ.