الفصل العشرون
تغيب في الأفق رويدًا رويدًا أعمدة الكَرْنك التي هي شهودُ الفراعنة.
وما يُحِيط بالنيل في مجراه التحتاني من طيبة هو أقدم — أو أحدث — من الدولة الطيبية،
ويُرجَع في جوار القاهرة إلى ما قبل الميلاد بأربعة آلاف سنة أو ثلاثة آلاف سنة، وتَبلُغ
مصرَ
أممُ البحر المتوسط بعد طويل زمن، ويَتَجَمَّع سلطانها بالقرب من الساحل وعند بدءِ الدِّلتا؛
أي
في المكان الذي يَدُور الآن كلُّ شيء فيه حولَ القطن وحول التجارة العالمية. ويبلغ النهر
في سهل
الأقصر ذُروَةَ مجده، ويؤسس النيلُ في المجرى التحتانيِّ عاصمةً أخرى للدنيا، ويقيم الإسكندريةَ
التي لم تكن غيرَ ذاتِ مجدٍ موقت كطيبة، وتسيطر جبال صحراء العرب على اﻟ ٤٠٠ كيلومتر
من المجرى
الفوقانيِّ قبل القاهرة، وتَتَّجِه هذه الجبال نحو الغرب فتَفْرض على النيل قوسًا يكاد
يكون
تامًّا فتُعَدُّ قِنَا والواسطي طرفيْه. وتتقدم هذه السلسة حتى النهر فيكون قسمُ الوادي
العريض
الخصيبُ على الضِّفة اليسرى كما في مصرَ العليا، ويعيِّن ذلك وضع القنوات.
ولا يمر آخر مسيرٍ للنهر الشائب من غيرِ حوادث، فالنهر يعانِي ضغطين؛ فمن ناحيةٍ
تَفرِض
عليه جبال الشرق — وجبال الغرب أيضًا — مقدارًا من التلافيف والتعاريج والأضوَاج فيَحمِله
ذلك
على تكوين عددٍ من الجُزُر كما لو كانت آخرَ نداءٍ لرجلٍ يُجَرُّ كرهًا، ومن ناحيةٍ أخرى
تقيِّده يد الإنسان بما يُنْشِئه من جداولَ وأسدادٍ، ويظهر النيلُ كعملاقٍ غَضُوبٍ مُكَبَّل
١ فيقاوِم ويُشعِر الإنسانَ بقوته.
وتُمسِك الأسدادُ — التي تعزِّز سدَّ أسوانَ بين أسوانَ والقاهرة — من الغرين الكثير
(نحو
٥٨ في المائة) ما يَجِب معه جَرفُ النيل دومًا، وإن كانت الجُزُر تَظْهر وتَزول بلا انقطاع،
وكان يُحَاط بجزيرة جرجا من الشرق في بدء الأمر ثم من الغرب، والآن تَبلُغ هذه الجزيرة
من
الاتساع ما تبلغ معه من الضِّفة الشرقية مشيًا على الأقدام.
ولا يمكن أن يُصنَع كما في أنهار أوروبة فيحوَّل النيل بالقرب من الأسداد؛ ولذا يجب
في بعض
الأماكن أن يُفرِغ كثيرٌ من السفن الشراعية حجارةً من مسَافة خمسين كيلومترًا أو مما
هو أبعد من
ذلك رفعًا لمستوى النهر ما بين مترٍ ومترين. وهكذا يدوم اصطراع الإنسان والنيل مع تفاوتٍ،
وذلك
مع وجود ما يرضاه النهر من إكراهه الإنسانَ على الحَذَر في كلِّ وقت، ويَزِيد السكانُ
كثافةً
وتَعظُم الحركةُ مقدارًا فمقدارًا، ويرى النيلُ حين مروره ازدهارَ الحياة التي أوجبها،
وتُحْسَب
الأسدادُ طُرُقًا يلتقي المسافرون عليها.
وإليك رجلًا طويلًا نحيفًا — من قَبِيل دوت كيشوت — مسلَّحًا بقَصَبَة سكر كبيرة،
وتجاوزه
سيارةُ فوردٍ قديمةٌ مشتَملةٌ على ستةٍ من العرب اللابسين عمائمَ بيضًا وجِبَابًا متموجةً
بفعل
الريح، ومن الوقار عند هؤلاء أن يَلبَسُوا ثيابًا كثيرة في أثناء السفر، وتتقدم — مع
حملٍ ثقيل
وهَدَفٍ إلى النقل — أربعةُ جِمالٍ وحماران وجمعٌ من الأولاد رجلًا وزوجتَه، ويتجاذب
هذه
القافلةَ الصغيرةَ التي أرادت ذلك أو حُمِلَت على ذلك عاملا الخوف والرجاء، ويتعارض بُرقُعا
فتاتين لابستين جلبابين أسودين، ويَجلُب غلامٌ بعيرًا كبيرًا إلى الحوض، ويُصَلِّي ثلاثةُ
شبابٍ
تحت جُمَّيْزَةٍ محرِّكين أبدانَهم ورافعين أيديَهم إلى آذانهم، وتَرْتَمُّ
٢ خيلٌ بجانبهم، وتبدو ظلالٌ سمرٌ بين زَعفران الصحراء الأصفر والفَيروز السماويِّ
الأزرق. وتُبصِر بين حجارة الجبل الرملية الصُّفْر رجلًا طويلًا أبيضَ الثياب ذاهبًا
إلى
المَقْلَع كما لو كان موسى حين نزوله من جبل حوريب.
وانظر إلى هذا الجَمع المؤلَّف من رجالٍ حاملين سِلاسلًا على أكتافهم فتبدُو أشباحهم
واضحةً
في الأُفُق مجعَّدةً مع حياة منفصلة عن جِدار أحد المعابد، ويُرَى هيكلٌ عظميٌّ لجملٍ
على ضِفة
مرتفعة فإذا هو يتحوَّل إلى هيكلِ قاربٍ تُرِكَ حيث أُنْشِئ فيرفعه الفيضان في الصيف
القادم،
فالنيلُ آتٍ للبحث عن سُفُنِه، والنيل قد أزال الترابَ عن أسفل شجرةِ أَثْلٍ قديمةٍ فبَدَتْ
جذورها، والنيل إذا ما كانت كُهُوف الجبال قريبةً منه ألقَى الصيادون أشراكَهم فيه. ومن
النادر
أن تَرَى في هذا النهر زَوْرَقَ تَجْذِيفٍ بلا شِراع.
وفي وَسَط أحد الحقول تُبصِر ثلاثَ منازفَ تَرفَع الماء من سِماطٍ تحت الأرض، فتتكوَّن
بئر
هنالك ما دامت الأرض أعمقَ من الأحواض مترًا ونصفَ متر، ويقوم بهذا العمل في أربعين يومًا
ستةُ
رجالٍ قائم بعضُهم فوق بعض، ومَنْ كان من هؤلاء في الأسفل فأحسنُ مكانًا في الصيف، ولكنه
في هذا
الزمن — في يناير — يَعمَل في الظلام والبرد فيغنِّي دالًّا على حياته، ويمرُّ قطيعٌ
من المعز
ويعدو الغلام الذي يحرسه بما أوتي من قوةٍ ليدركه، ويَعبُر النيلَ في زورق كبير فريقٌ
من الرجال
والحيوانات فيَسِير في الوحل على الضِّفَّة غير المتماسكة وتَلحَقُهم امرأةٌ محجَّبةٌ
بالأسود
على حمارٍ ذي قوائمَ دقيقةٍ، ويَسلُك هؤلاء سبيلَ السهل الضيق الخصيب وصولًا إلى الصحراء،
فالواحةُ هي هَدَف سَفَرهم لا ريب.
ويتموَّج قصب السكَّر على جزيرة طويلة فيَنزِل عشرون جملًا من الساقية نحو الضِّفَّة،
ويُرَى على بعد بضعة أمتارٍ أربعُ عرباتٍ كبيرة فوق سفنٍ تجرُّها باخرةٌ صغيرة. ويُرَى
بضع
عشرات من الفلاحين العُرَاة يَحُطُّون الأثقالَ عن الجمال، ويُرَى فلاحون آخرون يَنْقُلون
قصبَ
السكَّر إلى تلك السفن التي يَمْنَع نقصُ الماء من ربطها بقُلُوس،
٣ وتَجُرُّ تلك الباخرةُ ذلك الأسطولَ الصغير إلى رصيفٍ في المجرى التحتانيِّ حيث
تُعَاد العَرَبَات إلى خطٍّ حديديٍّ وإلى مصنع سكَّرٍ قريبٍ، وقد انتُفِع بحجارة معبدٍ
خَرِبٍ
لبطليموس في إنشاءِ معبد إله السكَّر هذا.
ويهتزُّ النهر قريبًا من القاهرة، ويُصلِّي المَلَّاح مساءً فيقعُد منحرفًا في قاربه
الضيق،
فهو يَعرِف أين تكون مكةُ على الرغم من جميع التعاريج، ويدير الجاريةَ
٤ جريان النهر قليلًا ويغيِّر الرجل مكانه من فَوْره ويظلُّ متوجهًا إلى جهة نبيِّه،
وتَرَى في جزيرةٍ بعيدة من الشاطئ بعضَ البُعد امرأةً وأولادًا قُعُودًا بجانب حَمِير
تَرْتَمُّ، ويصطاد الزوجُ سمكًا بصنَّارة سابحًا في رؤياه، ولا يُرَى منزلهم، فيُشْعَر
بأنهم
أبطال أسطورةٍ محاطون بنور شَفَقيٍّ في سواء النيل، وتَصِل باخرةٌ متمهلة وتَقِف فارغةً
تقريبًا، ويَرفع رجلٌ دَرَّاعَتَه
٥ ويَبلُغ المركبَ ويَغرِز في الأرض مِسْمارًا طوله متر، ويُدخِل رجالٌ آخرون أوتادًا
إلى الأرض بمطارقَ طويلةٍ من خشبٍ كما في غابر الأزمان، ويُمَدُّ نسيجٌ حول السفينة،
وينتظر
المسافر الليلةَ في خليِّج.
وتؤلِّف تلالُ الشرق رصيفًا ثلاثيًّا قريبًا من الضِّفة، وتُبصِر في الأسفل قاعدةً
ذاتَ
درجتين متوازيتين تمامًا، ثم تُبصِر بُقْعةً مركزيةً رملية حَفَرَتها الريح، ثم تُبْصِر
هضبةً
صخرية وخطوطًا عمودية هابطة نحو القاعدة التي يَلُوح أن أقدامَ أفيالٍ نَقَشَتْ آثارَها
فيها،
وتُلقِي هَضبةٌ عالية موحَّدةٌ في النفس أثرًا فنيًّا صادرًا عنها، فيُظَنُّ أنها قطعةٌ
موسيقيةٌ لِبَاخ.
٦
وتدنو جبالُ العرب من النيل في منفلوط والقوصية، وتغدو المناظرُ الجيولوجية ذاتَ
وقعٍ في
النفس مقدارًا فمقدارًا، ويكون للطبقات الرسوبية الكلسية المتفتتة بفعل الماء والريح
ما
للسُّحُب من تَغَيُّر الأشكال، وتَبْدُو هضبةٌ صحراويةٌ جديبة فوق الخُضْرَة على ارتفاع
مترين،
وتبدو قاعدةٌ سَوَّدَها غِرْيَن النيل وقَرَضَتْها الريح، فكأنها وجهٌ متكرِّشٌ لشائب،
وتَبْدُو
هنالك لُهُوبٌ
٧ كظهور الفُيُول وأعمدةُ معبدٍ مُحَطَّمةٌ، وتبدو في وسط ذلك كلِّه قطعةُ أرضٍ لا
يكاد طولُها يَبلُغ مائةَ خُطوة وعرضُها عشرين خطوة حيث يَسقِي فولَه فلاحٌ لابسٌ جِلبابًا
أزرقَ وممسكٌ دلوًا بيده فيَصعَد المُنْحَدَر ويَنزِل منه متواضعًا باحثًا عن الماء،
وعن الماءِ
على الدوام.