الفصل الحادي والعشرون
واليومَ يُصْنَع هنالك ملايين الجرار ليُرْفَع الماء بها، وإذا كان النيل إلهَ ذلك البلد فإن هذه الجِرَار كهنته الذين يوزِّعون بين الناس روحَ هذا الإله. وكان الفراعنة يعرفون صلاحَ تلك الأرض للفَخَّار فيدعونها قنا؛ أي الأرض السوداء، معارضين بذلك صُفرة رمل الصحراء. ويرى بعضهم اشتقاقَ كلمة الكيمياء من تلك الكلمة، وللناس الذين يسيِّرون دولاب الفخَّار — أبًا عن جدٍّ، ومنذ قرون — ضربٌ من القدرة السحرية، ولولاهم ما دارت الناعورة ولظلَّ قسمٌ من مصر جديبًا.
ويَشْعُر النهر بذلك، وتُزْبِد أمواجُه المقهورة وتَقصِف متكسِّرة على أبواب الكُوَى التي فُتِحت للمِلاحة على طرف كلِّ سَدٍّ. وإذا ما أدار الرجالُ في الليل الحَلَقَ العظيمةَ التي تُحَرِّك الأبوابَ الحديدية على مدارها أخذوا يُغَنُّون، وهم كلما زاد عملُهم سرعةً أسرعوا في الغِناء. ومن المحتمل أن كان هذا إحياءً للغِناء الذي كان أجدادُهم يحاولون به تسكينَ النيل، وهم — حين يَقِفُون فوق السَّدِّ الحجريِّ وينتصبون كآلهةٍ نحوَ السماء ذات الكواكب — يَقتادون السفينةَ المربوطةَ بقُلُوسٍ ذاتِ كلاليبَ ثابتةٍ في الجدار ويكونون من اليَقَظَة ما يَحُولون به دون كلِّ تحاكٍّ.
وتُغْلَق الأبواب العليا بصَرِيرٍ كزئير الضاري، وتُقَادُ بأيدي حَفَظَة السَّدِّ السُّمْر الهادئة على حين تُمسِك أرجلُهم المجرَّدة بمِرْقَاة الجدار الحديدية، وتُملأ الغرفة بالماء في بضعِ دقائقَ، وتَصِرُّ الأبواب السفلى، وتُفتَح وتَمُرُّ السفينة، ويعودُ الصَّرِير، ويَحُول الماءُ المُزْبِدُ دون انغلاق البابين انغلاقًا تامًّا آيةً على آخرِ مقاومة تَصدُر عن العنصر المغلوب، ويَفتَح وقَّادُ الباخرة مَوْقِدَها ويَندَلِع اللَّهَب من بطنِها ويُنِير الجُدُرَ الرَّمادية التي غادرها فغَدَت وراءَه، وهكذا يَتَلَهَّى كلٌّ من الماء والنار بجانب الآخر، ولكن بين يدي الإنسان، ويظل كلٌّ من صفيرهما ونورهما متوعدًا، ولا يمكن أن يُعْتَمَد عليهما أبدًا.
ويغدو النيل — بُعيد آخرِ هذه الأسداد — من تَقَدُّم السِّنِّ ما لا يقوم معه بمغامراتٍ أخرى، وينقاد النيل بُعَيْدَها لهوى غريب، ويَعُود النيلُ بعد العطبرة غير ذي روافد، ويَصنَع النيلُ من نفسه نيلًا آخرَ يَبعُد منه نحو اثني عَشَرَ كيلومترًا ويُرافقه أكثرَ من ٢٥٠ كيلومترًا، ويكوِّن النيلُ عددًا من الأضواج غيرِ المفيدة التي لم تنشأ عن جبال أو عن عِللٍ أخرى فتُسفِر عن زيادة ثمانين كيلومترًا في طوله. وهذا هو بحر يوسفَ الذي يَظهر في ديروط فيُعَدُّ ضربًا من ظلِّ النيل، وهو يُسَمَّى قناةَ يوسفَ أيضًا، وتَربِطه القصة بيوسفَ، وإن كان مجراه المعوجُّ يناقضها.
والآن لا يزال الفلاحون يقصُّون أسطورةً البطرك يوسف، فيذكرون أن رجال البلاط سئموا منه كما يسأمون من كلِّ وزير يحتفظ بالسلطان زمنًا طويلًا، فودُّوا أن يتخلَّصوا منه فأخذوا ينتقصونه أمام فرعونَ ويقولون له: «يا فرعونُ العظيم. لقد شَابَ يوسفُ كثيرًا، وقَلَّ ذكاؤه وزال جمالُه وضَعُفَ رأيه.» غير أن فرعون — الذي لم يَنْسَ ما تَمَّ على يد يوسفَ من عمل معلِّمٍ — أراد أن يُرِيَهم ما لا يزال عند يوسفَ من قدرةٍ سحرية عظيمة فقال لهم: «والآن، أَثْبِتُوا لي ذلك، والآن اسألوه أن يقوم بعملٍ عظيم لا يَقْدِر على إنجازه.» فقال خصومُ يوسف: «مُرْهُ أن يستنزف ماءَ النيل من الأراضي المستغدرة تحت البحيرة، وأن يُجَفِّف هذه الأرضيَ وأن يَسْقِيَها فيكون لك بذلك ولايةٌ جديدة ودَخْلٌ جديد.»
ويُظْهِر فرعونُ إشارةَ القَبول، ويدعو يوسف ويقول له: «يوسفُ! لي ابنةٌ مفضَّلة أريد أن أُحْسِن جهازَها، ولكن ليس عندنا أراضٍ، أفتقدِر أن تُحَوِّل البقعة المستغدرة هنالك إلى ولاية؟ هي حسنةُ الموقع، وهي غيرُ بعيدةٍ من عاصمتي، وهي في وَسَط الصحارى، وستكون ابنتي مستقلةً فيها.»
وهنالك يسأل يوسفُ: «ومتى تريد ذلك يا فرعونُ العظيم؟ فسيكون ذلك بعون الله.»
وهنالك يجيب فرعون قائلًا ككلِّ صاحب سلطان: «بما يُمْكِن من السرعة.»
وهنالك يأمر الله يوسفَ بأن يُنْشِئ ثلاث قَنَواتٍ، فتكون إحداها من مصرَ العليا، وتكون الثانية من الشرق، والثالثة من الغرب، فتُسْتَنْزَف الأرضُ بهذه القَنَوات، ويَغْرِسُ يوسفُ فيها أشجارًا وألفًا من الأَثْل، ويدخل النيلُ في وقت الفيضان إحدى القَنَوَات ويَسقِي البلدَ المجفَّف ويَخْرُج من القناة الأخرى، ويتمُّ كل شيء في سبعين يومًا. ويقول فرعونُ لرجال بَلَاطه حينئذٍ: «هذا هو الذي عَمِلَه يوسفُ الشائب الضعيف الرأي، وهذا ما لا تقدرون على صنعه في ألف يوم!» وما فتئ ذلك البلدُ يُسَمَّى بلدَ ألف يوم أو الفيوم!
ويُشِير العريفُ إلى هذا الجمهور ويقول: «ستة ملايين متر مكعب.» ويتصرف كل ناقلِ ترابٍ في ثلاثة أشخاصٍ أحدثَ منه سنًّا، ويشتغل معهم اثنتي عشرةَ ساعةً أو أربعَ عشرةَ ساعةً من كلِّ يوم، ويُعَدُّ عملُه أقسى من العمل في الساقية، ويتألَّف طعامه من الخبز الأسود والبصل والفجل فقط، ويختار عُمَّالُ كلِّ زمرةٍ، في كلِّ يومين، مَنْ يُمسِك السَّوْطَ، وينقل كلُّ حمَّالٍ في اليوم الواحد ١٢٥ قُفَّةً مشتملة كلُّ واحدةٍ منها على اثنين وعشرين كيلوغرامًا؛ أي ما يَعدِل ثلاثةَ أمتار مكعبة ونصفَ متر مكعب في كلِّ يوم؛ ومن ثم تساوِي ستةُ الملايين من الأمتار المكعبة نحو ٢١٤٢٨٥٠٠٠ قفة تراب، وأجرةُ الرجل شلنٌ إنكليزيٌّ واحدٌ في كل يوم، ولا يُحْسَب ما يسيل من العَرَق، ويُعْهَد إلى عمَّالٍ بالغي البراعة أمرُ المُنْحَدَرَات والدَّرَجَات، ويَزِيد ما ينالونه من أجرةٍ يومية نصفَ شِلِنٍ على ما يناله أولئك، ويَعرِفون القياس والكتابةَ ويَعْلَمُون أين يجب أن تُبْنَى المُنْحَدَرَات مقدِّرين قَرضَ الزوابع للضفَّة.
وإذا ما غَدَت تلك القَنَوَات فارغةً في الشتاء أُكْرِيت أقسامًا صغيرةً كأنها حقولُ حَبٍّ. ويرى الفلاح أن قليلَ انخفاضٍ في الأرض يُسْفِر عن كثيرِ غِرْيَن، فيختار هذه القطعةَ ويَحصُدُ زرعَها في شهر مايو.
ويشابه النيل المسنُّ ثَوْريًّا هدأ عن مَشِيبٍ فتساوره فَوْرَاتُ تهوُّرٍ، فيُزِيح الجُزُر سنة بعد سنة، ويُزِيغُ مجراه بقوةٍ نحو الغرب في بعض الأماكن كما في منفلوط، غير أن الرجلَ أكثرُ مكرًا منه، فسِرُّ النهر يُكشَف بلونه الذي يَعرِف به الفلاحُ أنه لا يستطيع المرورَ حيث مَرَّ في العام الماضي بمتر و٢٥ سنتيمترًا من دخول المركب في الماء.
وتعارِض أعمالُ الدفاع على طول الضِّفَافِ سُنَنَ النهر نفسَها لِمَا يُبْنَى من رَصَفَاتٍ من حجارةٍ حادَّةٍ للهيمنة على الغِرْيَن وإنقاذِ الأسداد. ومن الطبيعيِّ أن يُثِيرَ شكلُ الحجارة مناقشاتٍ بين المهندسين، فإذا أراد الإنكليز أن تكون مثلثةَ القاعدة وأن يكون طرفُها متجهًا إلى الأسفل اكتسب الجدالُ حولَ المسألة صفة سياسية، وينتقم النهرُ لنفسه — وعلى أسلوبه — من كَيْدِ الإنسان هذا؛ فإذا ما قُسِّمَت جزيرةٌ لتقنيته تَجَمَّعَ الغرين في وَسَط مجراه، وساخت الباخرة فيه، فوجب لتعويمها قضاءُ ساعاتِ عملٍ مُضْنٍ مقرونٍ بدعوةِ الربِّ وصبِّ اللَّعَنَات.
والعملُ في الصحراء المجاورة أَشَدُّ من ذلك وأقسى، ففي الصحراء تُبْصِر صَخْرَ العصر الجليديِّ ممزوجًا بالكِلس فيُنسَف هذا الحجرُ بالديناميت. وفي المساء يَرَى الفلاحون على نور النار — حين يجلسون القرفصاء قريبًا منها — عيونَ بناتِ آوى والضباع اللامعة ويَسمَعون عُوَاءها.
وقد أحدثت قناةُ يوسفَ أخصبَ الواحات وأقربَها بين تلك التي تَخُطُّ صحراءَ مصرَ على طول النيل، وتَفصِل الصحراءُ والجبلُ الفيوم عن النيل، ولم تَتْرُك تلالُ ليبية — التي تَحُدُّ واديَه من الغرب بجوار بني سويف — غيرَ معبرٍ ضيق صالح لمرور تلك القناة الطبيعية. ولولا ذلك المنفذ الذي يجاوزه القطارُ في بضع دقائقَ ما وُجِدَت تلك المديرية التي هي أخصب مديريات مصر على ما يحتمل، ومن شأن طول هذه القناة وعدم الانحدار أن يمسكا الماء حتى بعد الفيضان.
ولا تجد في جميع وادي النيل مكانًا أحسن من هذا المكان يتوقف فن الري فيه على حكمة الطبيعة وعلى أهوائها على ما يحتمل، وقد ضاقت تلك البحيرة في ألوف السنين على حين كانت القناة تتسع، وقد حول البطالمة تلك المناقع إلى حقول حبٍ، وغيروا الزراعة في الدلتا من هذه الناحية، وبلغوا من تغييرهم إياها ما نستطيع أن نتتبع به جميع المراحل حتى أعمال الري العظيمة في أيامنا.
وتلك البحيرة مالحةٌ غامرة غير مقراةٍ ضاربةٌ إلى خضرة فيتفلت الإوز البري فيها من الصائد، وما كانت عين الإنسان الجزوع لتقر إلا بمنظر ما على طرف الواحه الجنوبي من خضرةٍ وخصب، والبحيرة هي دون مستوى البحر بأربعين مترًا، ومما تؤدي إليه أنقاض المعابد والمدن الواقعة على شواطئها أن تزيدها كآبةً، وإذا ما قرأنا أن الشاب إخناتون عاش هنا مع حاشية أمه لم يبلغ ذلك دائرة المعاينة ولم يعد ذلك حد الفكر.
وليست تلك الواحة الخصيبة، التي فتنت هيرودوتس، والتي رآها استرابون مستورةً بشجر الزيتون والعنب، جميلةً في غير جنوب البحيرة، وتبدو الفيوم ضربًا من المراعي الخصيبة التي يحلم بها الفلاح بما فيها من مئات الجداول الصادرة عن القناة نفسها وبما هي مكسوة به من البر والأرز والزيتون والخضر، ولكنها عادت غير ملكٍ للفلاح ككل بقعةٍ بالغة الغنى بمصر.