الفصل الثاني والعشرون
ولا تُدْهِشُنا رَوْعَة هذه الآثار بمقدار ما اقتضاه النيلُ والإقليمُ من الصفات الأساسية كروح الناس الواضحة الحاسبة وميلِهم الجامحِ إلى قهر الموت بما لم يُسْمَع به من العُدَد المؤدية إلى برودة الخطوط المحترقة بالشمس وتَوَتُّرِها فسُخِّرَت الرياضياتُ لأهدافٍ مضحكةٍ وسُخِّر الوضوح العجيب لغايات غير مُجْدِية، وما كان من الاختراعات العظيمة للظفر بعنصر بلدهم الأساسيِّ؛ أي رفعِ الماء وتوزيعه؛ أي جميعِ ما أدركوه وعَرَفُوه قبل غيرهم، أدى إلى هذه النتيجة الطائشة، إلى أن هذه الأماكن لم تُقَمْ تمجيدًا لإلهٍ أو تبجيلًا لسلطانِ مَلِكٍ أو بلوغًا لمَسَرَّةِ عاهلٍ أو تمتُّعًا بمعاشقَ سريةٍ، وإنما نُصِبَت هذه الجُدُر التي تناطح السماءَ نتيجةَ خُنْزُوَانةِ ملكٍ ممسوسٍ أو نتيجةَ خوف عاهلٍ مفتون.
وتبدو مجموعتها الرمادية فوق صحراءَ صفراءَ مع ظلالٍ واضحة تمتدُّ بعد الظهر، وتَزيد الوجوهُ المائلة تلك الأشكالَ الهندسية توترًا، وعلى ما هو واقع من تأثُّر الجميع بتلك الآثار البالغة البساطة لا يستطيع الإنسانُ أن يمنع نفسه من إنعام النظر في عدم فائدتها. وقد يكون للعُقْم روعَتُه، والعقم هنا منطقيٌّ فقط، وقَضى فقدان كلِّ تصورٍ فنيٍّ على الخيال تحت هذا النور الشديد، ولم يَبْقَ غيرُ المفاجأة التي تُسْفِر عنها تلك الخطوطُ المستقيمة بين تَمَوُّج تِلال الصحراء.
ولا نَعْرِف عن الملوك الثلاثة — الذين بنوا تلك المباني المعدودةَ أعظمَ المزارات — عملًا أو فكرًا أو رأيًا غيرَ ما يَهْدِفُ إلى حمل شعبٍ على نقل حجارةٍ في مائة سنة لسَتْر نَوَاويسهم بأبنيةٍ مضاعَفةٍ لم يُبلَغْ لها ارتفاعٌ ولا ثِقَلٌ، وكلُّ ما نَعلَمه عن خُوفُو هو أن الغمَّ كان يستحوذ عليه دَوْمًا فيأتي من منفيس بساحرٍ ليُسَليَه بقِصَصٍ وأحاديثَ، فيَعْرِض هذا الساحرُ عليه أن يُلْزِقَ رأسًا مقطوعًا ببدنه الذي فُصِلَ عنه.
وتطابق أسطورةُ ابنته خُزَعْبَلَات تلك الحياة، فهو يُكْرِهها على البِغَاء وعلى مطالبةِ كلِّ واحدٍ من عُشَّاقها بحجرٍ لقبر أبيها، وكان هذا القبرُ يتطلب مليونيْن ونصفَ مليونٍ من الأمتار المكعبة. فلو افترضنا أن تلك البنتَ كانت لها قوةُ الحديد، وأنها اتخذت ذلك العملَ حِرْفَةً لها مدةَ مائة سنة ما استطاعت بذلك أن تساعد على أكثرَ من حجارةِ ذُروة الهَرَم.
وعَنَّ لخَفْرَع الذي شاد الهَرَمَ الثانيَ فكرٌ، فهو لَمَّا كان أمام تمثاله، أمام ذلك الوجه العريض البسيط (إذا كان الرجلُ العاري الذي يَحْمِل اسمَه يُمَثِّله حقًّا)، لم يلاحَظ في بدء الأمر أن هوروس — الصقر — يستتر وراءَه، وأن جناحيْه المبسوطين يَحفَظَان رأسَه وعُنُقَه، وكان مِنْكُرَع ثالثَ الثلاثة، ورُئِيَ أنه أحسنُ من سلفيه فعُدَّ ملكًا صالحًا، وقد اكتفى بهرمٍ أقلَّ ارتفاعًا من ذلك بمقدارِ النصف، وقد بَدَا عاشقًا لابنته بدلًا من أن يبيعها فشَنَقَتْ نفسها غمًّا، وقد دفنها أبوها في عِجْلٍ من ذهب، فكان هذا العِجْل موجودًا في زمن هيرودوتس، وقد أوصت قبيل موتها بأن ترى الشمسَ مرةً واحدة في كلِّ سنة فصار يُسَارُ بالعِجْل مرةً في كلِّ عام.
وتطبَّق تلك الأساطير البربرية على أناسٍ كان هَمُّهم مصروفًا إلى بناءِ ضرائحهم، ولم يرتفع غيرُ صوتٍ بشريٍّ واحد بين تلك الأقاصيص الكريهة، غيرُ صوت فتاةٍ تريد أن ترى شمسَ مصرَ دقيقةً واحدة.
وماذا بَقِيَ من جميع ذلك؟
بَقِيَ اسم خوفو مقرونًا بذلك البناء الذي ظلَّ أعظم ما في العالَم. أجل، نُسِيَ الاسمان الآخران في الوقت الحاضر، غير أن الجميع شُنِّعَ عليهم في ألوف السنين من قِبَل الشعب الذي أُكْرِه على التضحية بأربعة أجيالٍ منه في سبيل ذلك الهَوَى الحجريِّ المَلَكِيِّ، وما فَتِئَ الناس في زمن هيرودوتس يَعُدُّون هؤلاء الملوك من العفاريت والسَّحَرَة، وكان الناس يجتنبون النُّطْقَ بأسمائهم اللعينة فيَدْعُون المكانَ الذي وُجِدَت الأهرام فيه بفيليتيس؛ أي باسم الراعي الذي كان يَرْعَى قِطَاعَه هنالك.
ومع ذلك عاد داخلُ الأهرام الذي أُفرِط في الدفاع عنه لا يشتمل على شيء، فقد فرَّغ النَّهَّابون — الذين هم أمهر من البنَّائين — النواويسَ وكَسَرُوها فلم يَبْقَ أيُّ اسم، لم يبقَ غيرُ ما وُجِدَ على قُبَّةٍ من سِمَةٍ حمراءَ، غير لافتةٍ تُشِير إلى عمل نحَّات. ومما بَقِيَ على جدارٍ منذ زمنٍ طويل كتابةٌ قائلةٌ إن العُمَّال كانوا قد أكلُوا ما قيمتُه ستةُ ملايينَ فرنكٍ ذهبيٍّ من البصل والفجل والثوم.
ومن ثَمَّ ترى ثلاثةً من الفراعنة قد طلبوا الخلود بأعظمَ ما في العالم من كتلٍ حجرية، فبَقِيَ اسمُ راعٍ وسِمَةُ عاملٍ وحسابُ بَصَلٍ، ومن ثَمَّ تَرَى الفلاح قد قهر سادتَه الفراعنة في نهاية الأمر.
بيد أن أحدًا من أولئك المؤلِّفين الثلاثة لم يتكلمْ عن أبي الهول الرابض أمام الهَرَم الثاني، وهو إذ كان شِبْهَ مطمور في الرمل فإن من المحتمل أن يكون في زمن هِيرُودوتس واسترابون غيرَ ظاهرٍ تقريبًا، وكان تُوتْمُوزيس الرابع قد أبرزه قبل هيرودوتس بألفِ سنة. ومما يُقَصُّ أن توتموزيس هذا كان في أثناء الصيد قد نام ذاتَ يومٍ عند قَدَم أبي الهول فقال له أبو الهول: «سأجعلُك من الفراعنة إذا ما أخرجتني من الرمل.»
وما كان أبو الهول ليَبْدُوَ حافلًا بالأسرار لدى المصريين ما دام قد نُحِتَ رمزًا لخَفْرَع، وكان لا بدَّ من ظهور الأغارقة حتى يُخِيفَهم أبو الهول، وقد أُبْدِع — إذن — أثرٌ فنيٌّ لا يقاس بشيءٍ في العالم في سهل الأهرام الثلاثة حيث كلُّ شيء فكرٌ وحساب؛ وذلك لأنه لا يزال قريبًا من الطبيعة على ما يحتمل.
وكلما نظرنا إلى أبي الهول عند غروب الشمس غَيَّر هذا المَلِكُ الأسدُ منظرَه، ويَبْدُو وجهُه الصامت المُشَوَّهُ ناطقًا ذا معنًى، ولا نَشْعُر بما توحي به التماثيلُ النصفية المبتورة من الشفقة عندما نراه، فما عليه وَضْعُه من سَنَاءٍ فلا يجعلنا نَرثِي لطالعه الدنيويِّ.
وإذا رئي مواجهةً — ومن غير نظرٍ إلى تاجه الفرعوني — وُجِدَ رأسُ شابٍّ طويلِ العُنُق، ضَيِّق الجبين، بارز الأذنيْن، واسع الأنف مع تطامنٍ كأنف الفلاح، ذي ثِخَنٍ في شَفَتِه السفلى مع نُسُك عن قَرْضٍ، ذوي وجهٍ أصمَّ مملوءٍ صبرًا، ولكن مع إيحاءٍ محجريْن عظيمين بين جَفْنَيْنِ كبيرين مفتوحين بحنينٍ إلى الوطن يعجز القلمُ عن وصفه، وعلى الرغم من جميع هذه القوة والهدوء.
«فلقد فُقْتَ بعظمتك جميعَ أولئك الذين كانوا قبلك؛ وذلك لأن عظمتهم هبطت إليك، أنت الأقوى؛ لأنك جوهرٌ غيرُ منقسم، أنت تَزْهَد في مظاهر السلطان والجمال؛ لأنك تُخْفِي قُوَّتَكَ في جسم حيوان، أنت تتأصَّل ببدنك في الأرض التي نَدُوسها والتي نَجْلِس عليها القُرْفُصَاء لسؤالك، أنت قويُّ القول فتصطكُّ رُكَبُنا بريحِ كلامك العظيم. أنت ذو صوتٍ يُدَوِّي في الصحراء الواسعة مع سكوتك، أنت تَبْرُز من الرمال التي جَمَعَتها القرونُ في عُزْلَة البرِّيَّة. أنت تحيا حياةً ذاتَ أسرار بين الرمل والسماء وبالقرب من قبور ملوك مجهولين.
أنت رجلٌ، ويؤيِّد ذلك غَضَنُ جبينك وقوةُ صدغيْك وضُمُورُ خديْك. أنت مصريٌّ ذو وجنتين بارزتين وفمٍ كبير. أنت نشأتَ بين الرمل والصحراء وغرين النيل. أنت لست إلهًا؛ لأن نظرك الحيوانيَّ يرتفع إلى الشَّفَق، نحو النجوم، من محجريْ عينيك. وبما أنك ترنو إلى البروج ببصرك فإننا نتَّبع ذلك، ولا نستطيع أن ندرك ذلك النظام الذي قد تحيط به في صموتك وراءَ حاجبيْك فلا تُطلِعُنا عليه.»