الفصل الأول
تَمتَدُّ الظلال، ويُقْبِل الليل، ويَدْنُو النهر العظيم المهتزُّ من آخر مجراه، غير أن العجائب التي أوجدتها الطبيعةُ هي نتيجةُ استعدادٍ كثير وجهدٍ كبير فلا تُضحِّي الطبيعة بها مع عدم اكتراثٍ كالذي تضحِّي معه بالملايين من الموجودات الأخرى، «ولها — كما قال غوته — مفضَّلُوها الذين تُعْطِيهم بسخاء، وهي تَحْمِي ما هو عظيم»، وتنتفع الطبيعة بفُسُوق الإسكندر لنَهْكِ قُوَاه، وكان لا بُدَّ من اثني عشرَ قاتلًا لطَعْنِ قيصرَ بالخناجر، وكان لا بدَّ لها من قبائل الشمال لهَدْمِ دولة الرومان، وكان لا بدَّ من البراكين لإهلاك بساتين البرتقال في مَسِّينة، وكان لا بدَّ من جزيرةٍ قَفْرٍ لهَدِّ نابليون، وما كانت الطبيعة لتترك أدعى الأنهار إلى العجب لطالِعِه من دون أن يَجِدَ شكلًا جديدًا غيرَ مُرْتَقَب، من دون أن يَجِدَ حلًّا جديرًا به.
ويَسِيرُ موج النيل من خطِّ الاستواء إلى القاهرة في مائةٍ وخمسين يومًا، ويَقْطَع أكثرَ من خمسة آلاف كيلومتر مجاوزًا ما يزيد على ثلاثين درجةً من العرض، وهل يَصُبُّ في البحر كَمَوْج ألوف الأنهار التي تَصِلُ اليابسةَ بالمحيط؟ وتعيد الطبيعة إلى النيل قدرتَه على الإبداع مرةً أخرى، وينقسم النيل قبل مَصَبِّه، ويستفيد قاهرُ النهر الإنسانُ من هَوَى الطبيعة هذا ويُحْدِث أرضًا جديدة زاخرةً بالغَلَّات، وإذا ما هَبَطَ أحدُ الموجودات منهوكًا بَدَتْ للعنصر صَوْلة عظيمة، فالنهر في الكيلومترات اﻟ ١٥٠ الأخيرات من مجراه يُكَوِّن أخصبَ أقسام العالم المعمور، ويعمَّم معنى كلمة الدلتا وتدلُّ على كل مَصَبٍّ من ذلك النوع.
وبما أن سنن الطبيعة تفسِّر أسرارَ النيل ومغامراتِه الغريبة فإن العلماء بَحَثُوا في أمر هذا المثلَّث الأرضيِّ المائيِّ المُحَيِّر، وقالوا موكِّدين: إن الدلتا بلغت من السن ١٣٨٦٠ سنة، وأثبتوا ذلك كما يأتي:
كان النيل المقسوم إلى فروعٍ كثيرة يتوارى في الدور الابتدائي في مناقعَ كبيرةٍ مستورة بغابة بِكْر يقيم بها جَمْعٌ لا يُحْصِيه عدٌّ من الطيور وذواتِ القوائم الأربع، وحُفِرَت قَنَوَاتٌ وأنشئت أسدادٌ لتجفيف تلك المناقع وتحويلِها إلى أراضٍ خصيبة قبل الفراعنة بطويل زمن، ومن الحين الذي أعمل الإنسان ذكاءَه وحذقه هنالك، والطبيعة تُطِيع، وتتحول تلك البقاع البائرة مقدارًا فمقدارًا، وتتغيَّر صورةُ الدلتا الجانبية وتُبَسَّطُ في الأزمنة التاريخية في نهاية الأمر.
ويقال في بعض الأحيان: إن الدلتا هي أكبر جُزُرِ النيل، وكانت الشعبتان اللتان تحيطان بها — وهما كانُوب وبِيلُوزَه — أعرضَ من الشعبتين الحاضرتين: رشيد ودمياط، وقد عُرِفَ للنيل ثلاث شعب في بدء الأمر، وتكلَّم هيرودوتس عن خمسِ شعبٍ له، ورأى استرابون وبليني وغيرهما سبعَ شعبٍ له. وعدَّ الإدريسي — الذي هو أكبر جغرافيِّي العرب — ستَّ شُعَبٍ له، ووضع الإدريسيُّ رأسَ الدِّلتا شمالَ ما هو عليه في الوقت الحاضر، ولم يَضَعْه في المكان الذي وُضِع فيه سابقًا، وكان أرسطو يعتقد أن الشعبةَ الغربية هي الشعبةُ الطبيعية، وأن الشُّعَب الأخرى كانت قنواتٍ مصنوعةً، ومن ينظر إلى الخرائط القديمة يُبْصِر أن بعض القَنَوَات غيَّر مكانه خمسَ مرات، وما وقع من تبديلٍ في القرون اﻟ ١٥ الأخيرة فقد ضيَّق الدلتا، ولم يبق منها في الغرب غيرُ اسم الشعبة السابعة الجميل، غير الاسم الرِّعَائِيِّ الذي كانت تُدْعَى به قبيلةٌ من الرُّعَاة نازلةٌ مع قِطاعها هنالك.
وكيف يُنال ما فيه الكفاية من الماء في هذه الأراضي التي انتَزعها الإنسانُ من المستنقع مع أن هذه التربةَ الغِرْيَنِيَّةَ لا ترتفع كتربة مصرَ العليا؟ نَعْلَم من أقدم المقاييس — التي دلَّ عليها قياسُ النيل بالرَّوْضَةِ القريبةِ من القاهرة، ومن أحدث المقاييس — أن ارتفاع الدِّلتا المتوسط هو ثمانيةَ عشرَ مترًا، وهو ما يُعَبَّر عنه بكلمة «سَجَّلَ ١٨ مترًا». وبما أن نظام المياه بمصرَ حتى القاهرةِ لم يَتَغَير في غضون القرون، وبما أن واديَ النيل الطويلَ الضيقَ بلا دوافعَ كان ذا عَرْضٍ واحد في كلِّ مكانٍ تقريبًا، فإن ارتفاع الأرض ظَلَّ كما هو مع تعاقب الزمن.
والواقع هو أن فرقَ المستوى بين أُسوان والقاهرة ٧٢ مترًا؛ أي ما يدلُّ على أن الانحدار هو تسعةُ سنتيمترات في كلِّ كيلومتر على مسافة ٨٣٠ كيلومترَا، ويكون الانحدار في الدِّلتا اثنيْ عَشَرَ سنتيمترًا، ويجب أن يكون الارتفاع في السنة الواحدة وفي القرن الواحد أدنى مما في أقسام مصرَ الأخرى إذن، والارتفاعُ واحدٌ مع ذلك.
ومع ما عليه جَرَيَان شُعَبِ الدلتا من سرعةٍ أعظمَ من سرعة النيل قبل أن يُقَسَّمَ نرى أن ارتفاع التربة ناشئ عن رواسب الغِرْيَن التي تتوقَّف على سرعة النهر وطوله، ويدلُّنا قياسُ النيل بالروضَة على مقدار ذلك الارتفاع في غضون القرون، ويساعدنا قياس النيل هذا على اكتشافِ حِيَل الطبيعة، فارجِعِ البصرَ إلى ما سَجَّلَه ذوو البصائر من الناس في ألفِ سنةٍ من قياسات، ثم انظر إلى ما انتهى إليه أحدث طُرُق البحث تَرَ التراب بالدلتا يرتفع مترًا واحدًا في كلِّ ٧٧٠ سنة. وبما أن مستوى الدلتا الحاضرَ ثمانيةَ عشرَ مترًا على ستة سُطُوحٍ يتألَّف كلُّ واحدٍ منها من نحوِ ثلاثة أمتار، وبما أن كلَّ سَطْحٍ تَمَّ في ٢٣١٠ سنوات، فإن تكوين الدلتا يكون قد تَمَّ في ١٣٨٦٠ سنة على الأقل.
ولا نُشعوِذ بالأرقام، فتلك الحساباتُ تقوم على أقدم مباحث العرب، وتَرْجع المباحث الأولى في مصرَ الدنيا إلى ما قبلَ الميلاد بخمسة آلاف سنة، ويمكن خيالنا أن يَتَمَثَّل الدلتا أيامَ بناء الهَرَم الأعظم، ويدلُّنا على الأدوار القريبة ما في قبور الدولة القديمة من تصاويرَ جداريةٍ، فبهذه التصاوير نُبْصِر مراعيَ هادئةً ورُعَاةً يَحتَمون من المطرِ بحُصْرٍ ما عادت الدلتا غيرَ صحراءَ في ذلك الحين، وما دام البحرُ يَفرِض سُنَّتَهُ وما دام الماءُ ينزل من السماء، وبهذه التصاوير الجدارية نرى الراعيَ ينامُ بجانب المناقع، ونرى كلبًا حادَّ الأُذنين يَحرُسه عند قَدَمَيْهِ، ونرى الماشية تَعْبُرُ الماء، ونرى رجالًا عُرَاةً يَرْفَعُون ذُرْعَانَهم ضارعين إلى التمساح المتوعِّد.
والآن — وعلى بعد نصف ساعة من القاهرة بالطائرة — تَتَفَلت هذه القبائل من كلِّ رقابة في جُزُر مُقْصَاةٍ وفي الطرف الشرقيِّ من الدلتا، وتَرْكَب هذه القبائلُ زوارقَ ذاتَ شُرُعٍ مثلثةِ الزوايا، وتَشْرَب الماءَ بمثل مِنْقَار البَجَع وحَوْصلته، ويُعَدُّ هؤلاء الآدميون في المرتبة دون البدويين الذين يَقِيسُونهم بهم؛ وذلك لأنهم لا ينتفعون — كالبدويين — بطول ظلِّهم لمعرفة الساعة، وهم لا يَعرِفُون غيرَ الصباح والظهر والمساء تقسيمًا للوقت، وهم لا يزالون يُمَلِّحون السَّمَك كما كانوا يَصنَعون في زمن هِيرُودُوتس.