الفصل الثامن
تقُوم منازل جميلةُ الألوان على شاطئ بحيرة فيكتورية الشمالي كالتي جاءت في صور بُوفِيس
دُوشَافَان،
١ وذلك في حديقةٍ عميقةٍ مخضرَّة لا يَعْرِف الجفاف إليها سبيلًا، وذلك تحت ظلال
أشجار الجُمَّيز وبين بساتينَ مزهرةٍ على الدوام.
ومن بين تلك المنازل وعلى طرقٍ حمر معبَّدةٍ يحيط بها سَنْطٌ ذو عناقيدَ صُفرٍ تُبْصِر
سياراتٍ تنحدر نحو الخليج، وتُبصِر زنجيين يُسوِّيَان الأرض راكبَيْن عربةً مقرَّنةً
بقرةٌ
فيها، وتبصر مِجَزَّ
٢ الكلأ القصير وهو يُطقطق، وتبصر لهذا المِجَزِّ مِقبَضًا ذا انعكاس فضيٍّ في يد
قائده السمراء اللامعة.
وهكذا يعيش سادةُ الدنيا في عَنْتَبَة التي هي وَشنغتُنُ الصغرى في أوغندة، كما أن
كَمْبالا
الواقعة في شمالها القريب تُعَدُّ نيويوركَ أوغندة لحركتها التجارية، وتنتصب على سبعة
تلالٍ
كنائسُ بعدد المذاهب النصرانية تقريبًا، وتَحْفَظُ الخُوَذُ رءوسَ الإخوان البيض الأَلَاحِي
٣ ورءوس الراهبات اللائي يضعنها على عصائبِ هاماتهن، واللائي لا يَدَعْنَ واحدةً من نُقَبِهِنَّ
٤ في بيوتهن، وهنالك تَهبِط طائرةٌ بيضاء آتيةٌ من لندن في كل أسبوع لتذهب إلى الكاب،
ويَهتِف لها الإنكليز بحماسةٍ، ولا يكاد سكان البلاد الأصليون يلتفتون إليها.
ولا يقيم الزُّرَّاع بشواطئ البحيرة وحدها، بل تجد لهم في مكانٍ بعيدٍ جدًّا، في
سواء
الغابة البِكر — في فوربورتال — بيوتًا استعماريةً جميلة، وينبت في حدائقهم، كما في دِيفُونْشَايَر،
٥ الشِّلَكُ
٦ والبنفسج والنَّرْجِس والزعفران، وهنالك، في جَنُوب بحيرة ألبرت، وعلى حدود
الكونغو، وحيث ملتقى الطرق الكبرى، تتلاقى السيارات والفاتحون وسكانُ البلاد الأصليون
بالسوق في
أيامٍ معيَّنَة.
ويصل الأوغنديون مدثَّرِين بنُسُجٍ زاهية الألوان وَفْقَ الزي الإغريقي حاملين على
رءوسهم
قَرْعًا ذات أعناقٍ أنيقة أو أوعيةً خَزَفِيةً على الطراز الكِرِيتيِّ، ويظل كثيرٌ من
النساء
ساكناتٍ كالتماثيل مضفورات الشعور أو مُزَرْفَنَاتِها
٧ كقيصرات الرومان مثيراتٍ فينا ذكرياتِ القرون الغابرة، وبالقرب منهنَّ يتَّكِئ
رعاةٌ عُرَاةٌ على عصيِّهم متخذين وضعَ الأجداد من الرُّعْيَان منذ ألوف السنين، ويَمُدُّ
أقزامٌ عراةٌ ذُرْعَانَهم الشُّعْرَ نحو صُرَرٍ من الملح فيُعرض عليهم أخذها مقايضةً
مع
تردُّدٍ.
والهنديُّ الصامت الساحر النظرِ يسيطر عليهم كلِّهم في أكواخٍ مصنوعة من نسيج القِنَّب
حيث
يَعرض للبيع ذخائر أوروبيةً، ويمدُّ الزنجي إليه نقودًا إنكليزيةً كَسَبَها في مزارع
البيض
بمشقةٍ، ويقدَّم إليه بدلًا منها مصابيح بترولٍ وأباريق شايٍ ومِظَالُّ وطنابير
٨ ودبابيس شابكةٌ وأُطُرٌ قديمةٌ، ولكن الإنكليزي يعلو الهندي، والإنكليزي هو الآمر
المسيطر، وهو يَلبَس ثياب الاستعمار البيض ويركب سيارته، وهو لا يزال يبدو نصفَ إله،
وإلى
متى؟
وتمضي ثلاثون سنة على اكتشاف الإنكليزي الأول لأوغندة في سنة ١٨٦٠، ويبدأ الإنكليز
حواليْ
سنة ١٨٩٠ باستغلالها رويدًا رويدًا، ويسير كل شيء في البَداءة سيرًا حسنًا، ثم يثور الزنوج
على
المبشرين، ولِمَ لا يؤذن لهم بأكثر من امرأة واحدة بدلًا من ست؟ ذلك تدبيرٌ حسنٌ للفقراء
الذين
لا يستطيعون أن يَشرُوا بما لديهم من الوسائل أكثر من واحدة، وهل في ذلك ما ينافي الأدب؟
وهم
يجهلون أن الرجل في أوروبة لا يحقُّ له أن يتزوج أكثر من امرأة واحدة، ولكنه ينال زوجَ
جاره بلا
جزاء، على حين يُمكِن الزنجيَّ هنا أن يَنكِح عدة أزواج، ولكن من غير أن يأخذ زوجَ الجار
بلا
عقاب.
والزنوج عرفوا فقط أن القوم أرادوا تحريم عادةٍ يقوم نظامهم الاجتماعي عليها، ومن
ثم كان
عصيانهم وقتالهم، ويأسف الملك متيزا في آخر عمره على أنه ترك المبشرين يدخلون بلادَه،
وينشأ
أسفُه عن تنازع الإخوان الفرنسيين الكاثوليك ومرسَلي الإنكليز، ويَنفِر الشعب من بعض
الشروط
التي فرضتها الحكومة الإنكليزية على ابن مُتيزا في معاهدة سنة ١٨٩٠، وتشتعل الحرب ويُقهر
الملك
ويُنفى، ويشابِه ابنُه بمظاهر الملك أجدادَه مشابهةَ نَسْر أسيرٍ لرفقائه الطلقاء، والسكونُ
يسود البلد منذ سنة ١٩٠٥.
ولم يحتفظ الإنكليز بذلك القطر الفاخر بلا قتالٍ حقيقيٍّ إلا باحترامهم للأسماء والأشكال
على قَدْر الإمكان، وتركِهم للرؤساء قضاءً سطحيًّا وشعورًا بالاشتراك في الحكومة، والإنكليز
مع
ذلك قد ضَمِنُوا لأنفسهم حقَّ الرفض في تعيين أحقر رجال الشرطة كما كان الإمبراطور الروماني
المقدس يعترض على تعيين الأساقفة في القرون الوسطى، والإنكليز — فضلًا عن ذلك — يُؤْزِرون
سرًّا
— كمؤازرة الملك متيزا لرجاله في كفاحهم — جهودَ مُرسَلِيهم الذين حُظِر عليهم كلُّ عنفٍ
في حمل
الآخرين على انتحال دينهم، والذين يُعَلِّمون السود قواعد الصحة ويُنشِئون المدارس، وما
تَذَرَّع به الإنكليز من رَشَدٍ وعنادٍ فقد عاد عليهم منه أجرٌ كبير، والإنكليز يَقبِضون
بذلك
على ناصية بلدٍ متمٍّ لخطوطهم الجوية والتجارية، والإنكليز في الحرب العالمية (الأولى)
قد جمعوا
مائتيْ ألف مقاتلٍ زنجيٍّ حاربوا بهم جيرانَهم ألمان أفريقية الشرقية، والإنكليزُ قد
وَجَدوا
سُوقًا جديدة لسلعهم، والإنكليز يبيعون تسعين في المائة من أهم محاصيل أوغندة بمليونيْ
جنيهٍ في
الإمبراطورية البريطانية. وقد بلغت الزيادة في ميزانية ذلك البلد السنوية مليون جنيهٍ
منذ بضع
سنين.
وهنا يُسأل: هل استرقُّوا ملايين الزنوج الثلاثة؟ كلا، وإليك قائمةَ ما رَبِحَه الزنوج
من
اكتشاف بلدهم والاستيلاء عليه:
يتعلم السَّواحليةَ
٩ والإنكليزية وإحدى الحرف مائتا ألفِ ولد؛ أي ما يَعْدِل عدد الجنود الذين قدَّمهم
الزنوج في أثناء الحرب، ويغدو الكثير منهم سائقين، ويُنقِذ الطبيب الأبيض كثيرًا من الفتيان
والصبيان من المَنُون،
١٠ وتُحيا مساحاتٌ واسعة من الآجام، ويُمنَع دخولُها، ويَسلُك ذباب تسي تسي
١١ سبيلَ الزوال فيزول معه مرض النوم ويقلُّ الموت، وإذا أراد الزنجيُّ ترك القرية
التي هي مسقط رأسه طلبًا للرزق حملته باخرة الأبيض بأجرةٍ زهيدة إلى الطرف الآخر من بحيرة
كيوغا
ثم عاد الزنجيُّ مع قليلِ مالٍ، ويندر أن تستولي جماعات الفيول على الحقول فتأكل غلالها
في ساعة
أو ساعتين، وتنظِّم الحكومة أمور صيدها وتنقيص عددها وتَرقُبها وتكافح غزوَها.
وتُصَفَّى حياة الزنوج وعملهم، فتُصنَع أكواخُهم من الصَّلْصال بدلًا من اللِّيف،
وتُعَرَّض
فُرُشُهم، وتنمو الفواكه كما في كل وقت، ولكن السُّود فيما مضى كانوا يَكسِرون قطعةً
من قصب
السكر في أثناء مرورهم ويَبْزُمُون
١٢ عليها ويمصُّون عُصارتها ويرمونها، واليوم يقطَع السودُ قصب السكر في الحقول
المزروعة بانتظام ويأتون به إلى مقطوراتٍ صغيرة تحت سقف معمل السكر المصنوع من الحديد
المصفَّح المتموج، ويُنشِئ لهم صاحب هذا المعمل حُجَيْرَاتٍ
قريبةً منه إغراءً لهم على العَوْد في الغد أو بعد الغد، وكان السود يدخِّنون تبغًا برِّيًّا
فيما سلف، والآن يزرعونه وفقَ الأصول، فيشترون بثمنه سَغَاير أوروبيةً تسحر الأفئدة،
وكان السود
يجمعون البنَّ البريَّ الأحمر من فوق الأرض ليحمِّصوه ويشربوا محلوله بعد نقعه، والآن
يجلسون
القرفصاء تحت شجره الصغير المغروس على أسطرٍ لِجَنْيِه في سلالٍ ثم وضعه في أكياسٍ تحملها
عربات
نقلٍ بعد الوزن.
وكان أجدادهم يشقُّون سُوقَ الشجر ذي الزهر الإكليلي الأخضر نَيْلًا لعُصَارةٍ لَزِجة،
وهم
في ذلك كانوا كالكهنود الحُمرِ الذين أبصرهم كريستوف كُولُنبس يلعبون بكراتٍ كبيرة سودٍ
نطَّاطةٍ فقضى منها العجبَ، فتعلَّم الأوغنديون زرعَه في الوقت الحاضر على صُفُوف كما
تَعَلَّموا تفريضه
١٣ بمباضعَ
١٤ مسنونةٍ جيدًا وعلى عمقٍ مُقَرَّرٍ واتجاهٍ محدود وفي ساعةٍ معينة، وذلك على أن
يرجعوا وقت الفجر حاملين دِلَاءً صغيرة؛ أي حينما تَسِيلُ العُصارة بغزارةٍ، ويشاهد السود
في
المصنع المجاور سرعةَ تجميد هذا اللَّبَن الذي يقطَّع عصائبَ أو صفائح ثم ضَغْطَه، فيُعجَبُون
بروح البيض المُبدِعة وبكلِّ شيء جديد يَجِدُونه في بلدهم القديم.
وإذا كان السُّودُ ينتفعون منذ زمن طويل بالحديد الخام في صنع سهامهم فإنهم اليوم
يَنشُدون
فيَجِدون مَعدِنًا أحسنَ من ذلك، يَجِدُون معدنًا يلمَع على نور الشمس، ويَظهر البِيض،
الذين
يأمرونهم بالبحث عن الذهب في الجبل، راغبين في الزيادة منه مقدارًا فمقدارًا ويُلقِي
البيض،
أيضًا، عَيْنَ طمعٍ على شجيرةٍ خضراء، ذات ثَمَرٍ على شكل الكُبَب، أحضَرُوها من مكانٍ
قصيٍّ
فكُثِّرت بالملايين، وقد هَيَّأَ الأبيضُ للسود أراضيَ تترجَّح بين فدانٍ وخمسة أفدنة
وأعطاهم
بُذُورًا مجَّانًا غيرَ مطالبٍ إياهم بسوى حُسنِ العناية بالنبات مُجزِلًا لهم الثمن
عندما تأتي
عَرَبَةُ النقل لأخذ المحصول، والنيل يشاهد القطنَ على ضفافه للمرة الأولى ثم يشاهده
فوق السفن،
والنيلُ قد جَهِلَ القطنَ في قرونٍ، وهذه هي فاتحةٌ محتومة يُجْهَل الآن نفعُها أو
ضَرُّها.
وقد حَوَّل ذلك الإنتاج المفيد للبيض نصفَ مليونٍ من السود إلى عمال؛ أي ثُمُنَ سكان
البلاد
الأصليين الذين يَقطُن بالمدن منهم تسعون في المائة، ومن رَشَد الحكومة منعُ السُّخْرة،
ويَعمَل
معظم السُّود لحساب أنفسهم، غير أن مشاريع البيض جعلت من الرجل الفطريِّ عاملًا يَكسِب
اثنيْ
عَشَرَ شِلِنًا في الشهر، والصنَّاع والسُّوَّاق وحدهم هم الذين ينال الواحدُ منهم أربعين
شلنًا
في الشهر، ويُكَلِّف بُوشِلُ
١٥ المَوْز أربعين سِنْتًا،
١٦ ويكلِّف بُوشِل الفول وبوشل البطاطا الحلوة عشرين سنتًا فيبقى للعامل أربعةُ
شِلِناتٍ في آخر الشهر إذا ما عَمِلَت المرأة قليلًا، ومما يتعذَّر على العامل أن يَكسِب
أكثر
من ذلك ما دام المطَّاطُ خاصًّا بالأبيض وما دام معظم البُنِّ وقصبِ السكر خاصًّا بالهنديِّ،
وما دام ربح القطن يقل مقدارًا فمقدارًا، وإذا أراد العامل إرسال ولده إلى مدرسةٍ عالية
ابتلع
ذلك جميعَ مكسبه تقريبًا، ومع ذلك إذا عمل للعامل نساءٌ كثيرٌ أمكنه أن يقوم ببعض الأشرية،
وذلك
كأنْ يذهب إلى شارع القرية فيَجِد زنجيًّا جالسًا أمام خِيَاطته فيأخذ له هذا الخيَّاط
قياسَ
قميصٍ أو سروال، ثم يجلس القُرفُصاء على درجةٍ منتظرًا إياهما، وكأن يشتري قلنسوةً أو
فانوسَ
جيبٍ، وكأنْ يَشرَبَ قدحًا من راح الويسكي مُتَغَفِّلًا الشُّرْطِيَّ.
ولكنه يقتطف القطن في ساعاتٍ ثَمَانٍ تحت وَهَجِ الشمس، ولكن زوجَه تظلُّ ساعاتٍ
عشرًا
بجانب مِحْلَجها
١٧ وهي تبلع النَّقْعَ
١٨ فلا يكون هنالك وقتٌ للصيد الذي دَخَلَ في ذِمَّةِ الماضي، وإذا أراد العامل أن
ينام مَخْمُورًا متأخرًا نُبِّهَ أو عوقب، ومما لا ريب فيه أنه حُرٌّ، ولكن أين الدَّوْر
الذي
كان يَبْذُرُ فيه شهرًا ويغتذي فيه من الغَلَّة خمسةَ أشهرٍ؟ والآن يُبْصِر العالَم حافلًا
بأشياء كثيرةٍ، والآن يبصر أنه ينحطُّ إذا ما اقتصر على قَطْع قِطف موزٍ وقت الصباح،
ويزول غفول
آبائه الذي كان لا يقطعه غيرُ الحرب، ويذكُر القسُّ النصراني له وجودَ آلهة، وكان جده
يقول له
إن الآلهة وُجِدَتْ في كلِّ وقت كالقهوة، ولكن كلَّ أمرٍ أحسن ترتيبًا في الوقت الحاضر،
وبناتُه، بالعكس، يَصنَعْنَ كلَّ ما يُرِدْنَ، ويُحْظَر بيعُهُنَّ لمنافاة هذا للأدب،
ولا
يَعُدْنَ بضاعةً غضةً مريئةً يجب رُقُوبُها، وتَحْتَشِد الأسرة في كُوخٍ واحد لفَرْض
الأبيض
ضرائبَ على الأكواخ بدلًا من ضريبة الرءوس القديمة، ولا يَعرِف أحدٌ من هو ضجيعُه.
والأبيض قد أيقظ الأسودَ، وصوابًا ما صنع، ومن المحتمل أن يكون قد أفاق بأسرعَ مما
كان
ينتظر، ويُمَثِّل حفيد الراعي الذي لم يَدْرِ ما الكتابُ ولا الخَطُّ، دورَ هُورَاسْيُو
١٩ في عَرْضٍ مدرسيٍّ بكَمْبَالا فتصفِّق له الإنكليزيات في القاعة، وما الذي يَمنعُه
من مطالعة الصُّحُف؟ هو قد تَعَلَّمَ المواقعَ من دروس الجغرافية فيُمكنه أن يَدُلَّ
عليها، هو
يفكِّر في أمرها فيُوضِح لأبيه الجالس أمام كوخه مساءً سببَ ما يساور البِيضَ من ضَجَر
منذ زمن؛
وسببَ نَقصِ الغَرْس وقلة الأجر، وسببَ ما يُصِيب البُنَّ من العَفَن على الأرض، وسببَ
عَوْد
شجر المطَّاط إلى نوعٍ بريٍّ، وسبب التفاف النبات المُعَرِّش حول المَقْر،
٢٠ وسبب طغيان الغاب منذ بضعِ سنين على الأراضي التي استُؤْصِلت آجامها
٢١ منذ ثلاثين عامًا وبدئها بالرجوع إلى سابق عهدها، وهَلُمَّ جَرًّا.
ذلك ما يُفصِّله الزنجيُّ الشابُّ لأبيه الشائب، والشابُّ الزنجي هذا قد تسلَّم من
مكتب
البريد كُتُبًا وقرأ صُحُفًا فعَلِم تضاعف صادرات أوغندة في عشر سنين وتناقصَ ثمن ما
يصدر إلى
نصف ما كان عليه، وهل ضَجِرَ البيض من ذلك؟ ومما قرأه أيضًا أن العامل الأبيض يكسب أربعين
جنيهًا في كل شهر، وأن زميله الأسود الذي يقوم بعمل مماثل تقريبًا لا ينال غير أربعين
شِلِنًا،
والأبيضُ هو سيد العالم، واحتياجات الأبيض أكثر من احتياجات الأسود لا ريب، ولكن هل لديه
منها
ما يزيد على ما لدى الأسود عشرين ضعفًا؟ وكيف لا يشعر كاتب البريد الأسود بقدره حينما
يخدمه
الأبيض واقفًا في مخزنه فلا يروق الأسودَ نسيجُه فيعرض عنه فيجذب الأبيض إليه نسيجًا
آخر راجيًا
أن يقدم على ابتياعه؟ وهذا الأبيض هو الذي يأنف من الجلوس مع الأسود حولَ مائدةٍ واحدة
أو أن
يلعب معه لعبة كرة القَدَم.
وقد يأتي يومٌ على كاتب البريد ذلك يجرِّب فيه عن كثبٍ مسدسًا علمه أخوه الشرطي كيفية
استعماله، ويمكن ذلك الكاتبَ أن يحسب وجودَ ألفيْ أبيض في هذا البلد الواسع مبعثرين بين
ثلاثة
ملايين ونصف مليون من الزنوج الذين يعرفون كيف يصطادون الفيل والنمر والذين كان آباؤهم
أهلَ
قتال، ومن المحتمل أن يَضَع شعبٌ فطريٌّ — له مثل تلك الحيوية ومثل تلك الحضارة الطبيعية
التي
هي على شيء من النمو — يَدَهُ ذات يومٍ على الزراعة التي أدخلها البيض إليه، وأن يستردَّ
أولاده
كالأيكة البِكْر تلك.