الفصل الثالث
نَرَى بين الفراعنة الأخيرين الذين ملكوا الدلتا واحدًا جديرًا بالذكر، وكان أمازيس من أصل وضيع، ولم يكن ليَخْشَى أن يُذْكَر حتى في كتابات المعابد أنه كاتبُ خزينةٍ سابقٌ، وأن يُصَرِّح فيها لرعاياه بأنه لم يَمْلِك إلا إلى وقت الظهر؛ وذلك لأنه يجبُ حَلُّ القَوْس بعد أن تُسْتَعمل، ويَعزِل القضاةَ الذين برَّءوه في فَتَائه؛ وذلك لأنهم صدَّقوا صَرَخَاتِه ببراءتِه مثبتًا جهلَهم، ويكافئ من حَكَمُوا عليه في شبابه، وذلك لما أبدَوْه من فِطْنة، ويأمُرُ بصَهْر طستٍ من ذهبٍ كان يَغسِل فيه رجليه وبأن يُصنع منه تمثالٌ للرب، ويبجِّل النُّدَمَاء هذا التمثال ويخبرهم أمازيس بأنه صَنَعَه من الطَّست الذي كان يَبْصُق فيه.
ومع ذلك ثار المصريون عليهم عِدَّةَ مراتٍ. ومما كان يحدث أحيانًا أن يَنْزِع أميرٌ محليٌّ منهم فُتَاتًا من السلطة، وكان آخرُ أولئك الأمراء يَخرُج من المناقع الواقعة في شمال الدلتا الشرقيِّ، من تلك البُقعة المنيعة الخاصة بالرُّعاة والصائدين، من تلك الجزر العائمةِ التي لا يَجِدُها أحد، من تلك الغِيَاضِ ذاتِ الأعشاب العالية والآجام ذات الأشجار الكبيرة، من تلك المخابئ والجداول التي يَلْجَأ إليها الفُرَّار منذ أنجب إيزيسُ الطريد بابنه، وهنالك رؤساء عِصَابةٍ من ذوي البأس كانوا يحالفون مرتزقةً من الأغارقة، ومن أغارقة إسبارطة، الذي يخدمون من يَدْفَع إليهم رواتبَ، والذين يتسرَّبون في مصرَ من القرن الرابع قبل الميلاد مقدارًا فمقدارًا.
وتَصْحُو حَيَوية الفراعنة في مؤسِّس آخرِ أُسَرهم الثلاثين، ويُقِيم هذا الباني معابدَ بالكَرْنك وبِلاق وحُصونًا في الدلتا ويستدرج أسطول فَرنَبَازَ الكبير ويُطْبِق عليه في شعبة النيل التي كانت لا مخرجَ لها، ويَتَقدم الفُرْسُ إلى منفيسَ مع ذلك، بيدَ أن عدوًّا غيرَ منتظرٍ يَقِفُهم، بَيْدَ أن فيضانًا عنيفًا يردُّهم إلى الدلتا فيعودون إلى البحر في نهاية الأمر، وهكذا يُنْقِذ النيلُ مصرَ مرَّةً أخرى.
وتمضي عشرون سنةً، ويَصِلُ الفرس إلى الدلتا مُجَدَّدًا بجيشٍ عظيم ويُكتَب لهم النصر، ويَفِرُّ آخرُ فراعنة مصرَ ويَرْكَبُ النيلَ ويَتَوَجَّه نحو مجراه الأعلى مع خزائنه ويلجأ إلى إثيوبية، فكانت هذه خاتمةَ آخِر الفراعنة. وهكذا تدفعه آسية البالغةُ القوةِ إلى سُودِ الشلالات كما لو ودَّت أن تَحْمِلَه على طَيِّ تاريخ النهر إلى الخلف.
وتنهار دولة الفرس بعد عشر سنين، ولم يَبْقَ في مصرَ من الفرس غيرُ شجرةِ الدَّرَّاقِ التي أتى بها قمبيز من إثيوبية كما يظهر، وتَسقُط تلك الدولةُ الآسيوية العظمى تحت ضَرَبَات قسمٍ من أوروبة الحديثة سارَ حاملًا مبدأ النصر.
وضُمِنَ للأغارقة فتحُ قسمٍ من العالَم الماديِّ والعالم الروحيِّ بذلك المبدأ الذي يُعْرَف ﺑ «كالون كاغاتون»، ويمكن أن يفسَّر ذلك للولد باجتماع الذكاء والجمال الموجب للخير. ومن المتعذر أن تَجِدَ من التباين بين أمتيْن كتباين الفلاح والإغريقيِّ، ويَظَلُّ كلٌّ من الفلاح والإغريقي غريبًا عن الآخر، ويُسَلِّي مُغَنُّو الأغارقة الأثنيَّ الصغير بالسخر من المصريِّ العابد للبقر بدلًا من أكله والمؤلِّهِ للسِّنَّور بدلًا من سَلْخِه. ولو تواجه فلاحو النيل وفلاحو الإغريق لتفاهما من فورهما، ولكن الجنودَ والتجارَ هم الذين يجيئون من ساموس وقبرس وأقرِيطش وأثينة، ويُدخِلون إلى البلاد شجرَ الزيتون والعنبَ كما يُدْخِلون إليها عاداتِهم وآلهتَهم، ويؤسِّسون مدنًا في الدلتا.
ويقيم رجال إجينَ معابد لجوبيتر، ويقيم رجال ساموس معابدَ لجونَون، وذلك مع إنشائهم مرافئَ حرةً لكيلا يَدفَعُوا مُكُوسًا، ويتساءل المصريون حائرين عما يَعِنُّ لأولئك الآدميين من فَرْضِ عاداتهم الأجنبية على شعبٍ يوجد خَلْفَه تاريخُ أربعةِ آلاف سنة، وما كان أولئك الغرباء ليدركوا أن هؤلاء الفلاحين يعيشون مختلطين بأنعامهم على حين يَقْبِض كُهَّانُهم على ناصية الحكمة العليا.
وتتعارض الأمتان: الديمقراطية والمَلَكية، ولا يُدْرِك شعب الجزيرة أمرَ شعب الواحة، ويَشعُر كلٌّ منهما بأنه ليس من البرابرة، والفارق بينهما هو أن يظلَّ شأن المصريين الذين يَستعملون جميعَ الوسائل الكيماوية حِفْظًا للجثث خافيًا على الأغارقة الذين يَحْرِقُون موتاهم، ويُعارَض الوضوح والظرف بتصوفٍ تُعْوِزُه وسائل التعبير، وتُعارَض حرية الفكر والنشاطُ والشك بضغط التقاليد والثِّقَل والإيمان، ويُعَارَض الجمال والمرونة بجمود الجُمْهُور، ويُعَارَض بلدُ الجبال واليَنَابيع والجداول بالصحراء، ويُعَارَض البحرُ بالنهر.