الفصل الرابع
كان الإسكندر الأكبر في الرابعة والعشرين من سِنِيه عندما بَلَغ الدِّلتا، ولا نَدْرِي
هل
تتشابه صُوَرُه النصفيةُ كثيرًا، وإنما الذي نَعرِفه هو أنه لم يُدَارَ بها، غير أن لنا
بتاريخ
روحه ومَجْدِه صورةً له، ولكلِّ واحدٍ منا أن يَتَمثل الإسكندرَ من خِلَال نقوده وصُوَره
النِّصفية وتماثيلِه، وما كان جمالُ الرجل ليؤثِّر في حياته تأثيرًا قاطعًا، وما انتهى
إلينا من
أحاديث معاصريه فيؤكِّد أمرَ هذه الموهبة التي تميزه من جميع الفاتحين، ولم يَحْدُث أن
فاق
نفوذُه الشخصيُّ ما عند إنسانٍ آخرَ من نفوذ، ولم يكن المجدُ والجمالُ لديه من خصائص
الغالب،
وإنما سِرُّ ذلك في القوى التي تَدفَعه من فَوْرِها إلى فتح العالم، ما دامت الآلهة لم
تُنْعِم
عليه بغير حياة قصيرة.
وهو قد حُمِلَ على ذلك بزَعمه أنه سليل الآلهة، وأنه من عنصرِ أشِيل، وأنه ابنٌ لِتِتِيس،
وكان يُحَاط بالشعراء، ويَحسُد أشيلَ لِمَا كان من تَغَنِّي أُوميرسَ به، فإذا ما جَنَّ
١ الليل وَضَع أوميرسَ بجانب سيفه في عُلْبَة فارسية مُطَوَّقَةٍ بالفِضة كانت تشتمل
على عُطُور.
وتراه مدينًا برأسه الأسديِّ لشعره المفروق في ذُروة هامَتِه والمتدلِّي من الجانبيْن
ولشدة
حركة عينيه المذكورةِ في كلِّ مكان والتي يَشُوبُها شيءٌ من الأنوثة فيُعزَى نظرُه إلى
أفروديت،
وله — بالعكس — فَمُ شابٍّ، وهذا الفم لَحِيمٌ من غير أن يكون كبيرًا، وما عليه شفتاه
من إحساس
مُقَلَّص فتخفِّفه نظرةٌ متحوِّلةٌ إلى اليمين وإلى السماء كثيرًا ويخفِّفه مَيْلُ العنق
قليلًا
إلى الكَتِف الشمالية، وكان ذا جبينٍ غيرِ متساوٍ مع نتوءٍ ضئيل في الأسفل ككثير من المصارعين،
وكان ذَقنُه يدلُّ على العزم وعلى البعد من الفنِّ وعلى البراعة في الرماية، لا في هزِّ
أوتار المِزْهَر.
٢
وتُظهِره جميعُ صُوَرُه بعد انتصاراته، حتى إن لِيزِيب
٣ جَعَلَ له وضعًا عصريًّا تامَّ الجِدَّة، وفُسَيْفِسَاء بُونِبشيي وتمثالُ
هِرْكُولُانُوم وحدَهما يُبْدِيَانِه في حَوْمَة القتال، فيبدو في أحدهما فاقدَ الخُوذَة
طائرَ
الشعر مدافعًا عن نفسه فوق حِصانه الشابِي،
٤ ويبدو في الآخر مهاجمًا العدوَّ بَيْضِيَّ الوجه مفتَّح العينين، وكان قد خاض أقسى
معاركه عندما وَصَلَ إلى مصرَ، وكان قد انتصر في إسُّوس واستولى على صور وغزة، وكاد يُقتَل
في
غزة. وغَدَتْ دولةُ الفرس غيرَ موجودة، وصار ما بين البحر الأسود ومصبِّ النيل قبضةَ
هذا
الشابِّ، ولم يكن للولايةِ الفارسة — مصرَ — غيرُ أمل قليلٍ في مقاومته.
دَخَلَ الإسكندرُ مصرَ هادئًا، وتمَّ دورٌ مهمٌّ في حياته بعد الفتح بستِّ سنوات،
ومن
المحتمل قليلًا أن كان يساوره شعورٌ بدُنُوِّ أَجَلِه.
وجادت عليه الحياةُ بكلِّ ما يُرضِيه، وكانت سعادتُه في دخوله ميدانَ الوَغَى بنفسه،
وما
فَتِئَ يَثِقُ بصديقه وإن حُذِّرَ منه، وكان يعتقد أن من الممكن أن يسالِم عدوَّه وَفْقَ
قانون
المِزْرَاق الذي يَرَى أنه مَدِينٌ به لجدِّه أَشيل، ولم يَعْمَل بنصيحة أرسطو فيعامِلَ
البرابرةَ المغلوبين كما تُعَامَلُ الحيوانات والنباتات، بل عَزَمَ على تقرير الأمر بنفسه
مهتديًا بقول معلمه: «لا تُقَاسُ العبقرية بشيء، وهي إلهٌ بين البشر، ومن المضحك أن تُفْرَض
قوانين عليها.» وينظِّم الإسكندر حياتَه بحسب هذا الكلام، ولا يكون لرغائبه — ولا لأعماله
—
حدٌّ، وتستقبله مصرُ إلهًا.
ومصر — إذ استغلَّها ملوكٌ من الأجانب مدةَ ثلاثة قرون — اعتقدت — مرةً أخرى — أن
السيد
الجديد هو خير السادة، ويَلُوح كلُّ شيءٍ أسطوريًّا في هذه المرة، ولم يحتج الإسكندر
إلى غيرَ
ثمانية أيام حتى يصلَ من غزة إلى بيلوزة، ويَسِيرُ وشعبةَ النيل الشرقية ويبلُغ منفيس
من غير أن
يُطْلِق نَبَّالٌ سهمًا، ويَبرُز للجمهور وارثًا لآخر الفراعنة — لا فاتحًا — ويقدِّم
قرابينَ
إلى الإله فتاح وإلى الثور المقدَّس، ويُكرِم الكهنةَ الذين استذلَّهم الفرس، ويأتي من
بلاد
اليونان بمئاتِ المصارعين ليشتركوا في الألعاب التي ينظِّمُها، فتُحِسُّ مصر بذلك أنها
آمنةٌ
تحت حمايته، وتُضَمُّ مصرُ إلى أعظم دولة عرفها التاريخ حتى ذلك الحين فلا تعاني أثرًا
لمِثلِ
ما كان يقع من الحروب بين الفرس والأغارقة، ويستولي الأغارقة على جميع شواطئ البحر المتوسط،
ويعود الاتصال بآسية إلى ما كان عليه مع ذلك، وما تَرَكَه الفاتحُ من حامياتٍ قويةٍ فيُلقِي
في
الرُّوع أنها كتائب لجمعيةِ أممٍ، ويَخضَع المَرْزبان
٥ الفارسي في الحال، وتصبح سياسةُ برِقْلس القائلة «إن مصرَ هي لأثينةَ» سياسةَ
السَّلْم العالمية، ويَقَع ذلك سنة ٣٣٢ قبل الميلاد.
ويذهب الإسكندر من شعبة النيل الغربية — من ناحية المثلث الأخرى — ليُعزز في طريقه
مدينةَ
الأغارقة، ويبلُغُ البحرَ بجوار رشيد، ويُدْهَش الناس حين وصوله إلى اللسان الذي يَفصِل
البحرَ
عن بحيرة مريوط. وماذا يصنع في الغرب حين تدعوه رسالته إلى الشرق؟ يتبين من فَوْرِه وجودَ
مرفأٍ
لا تكدِّره الرياح في ذلك الخُلَيِّج المنعزل صالحٍ لوَصْلِ مصرَ بالبحر فلا يملَؤُه
غرين
النيل، ويرى وجوبَ إقامةِ دولةٍ مدنيةٍ هنالك، ويرى تشجيعَ روَّاد الأغارقة على ضَمَان
ما
يُشْرَى من محاصيلِ مصرَ، ويرى إثارة خيال العالم بإنشاء مدينة مناسبة لمجدِ مجاهدٍ سيدٍ
للعالم.
ويرسم الإسكندر خريطة هذه المدينة كما لو كان من أمريكيِّي هذا الزمن الحاضر، ويعيِّن
الإسكندر أماكنَ المباني العامةِ كما يعيِّن مكانَ الطريقين الرئيسين المتلاقييْن على
زوايا
مستقيمةٍ للمرة الأولى دالًّا عليها بحروف الأبجدية. ومما وَضَعَه أيضًا رَسْمُ رصيفٍ
يَربط
البرَّ بجزيرة فارُوس حيث يُشَادُ معبدٌ يقدَّس فيه لإِيزِيسَ وزُوسَ معًا توحيدًا للشعوب
بأن
يُسْمَى فوق الأمم، وفيما تَتَكون أوروبة إذ يُعجِّل بناءُ الإسكندرية تلك الحركةَ التي
حَمَلَت
الفراعنة من طيبة إلى منفيس فجَعَلَت من مصرَ دولةً من دول البحر المتوسط وجَذَبَت النيلَ
إلى
مِنطقة النفوذ الإغريقيِّ.
وتقول القِصَّة: إن الإسكندر بَسَطَ الدقيقَ على مائدةٍ كبيرة في العَرَاء رسمًا لاتجاه
الطرق وأماكنِ الميادين فانقضَّت جماعةٌ من الطير على الدقيق وأكلته، وهنالك يَصرُخُ
عرَّافٌ
قائلًا: «إن هذا دليلٌ على غِنَى المدينة ورخائها»، ويتحقَّق ما أنبأ به.
وفيما يسير الإسكندر على هذا الوجه؛ إذ يبدو ألعوبةَ قُوًى خفيةٍ، ويترك الأشغالَ
الأولى في
مدينته الجديدة ويتوجَّه إلى الغرب مبتعدًا عن هَدَفه مقدارًا فمقدارًا وصولًا إلى أقصى
طرفٍ من
طوافه نحو الغرب، ويَسِير اثنيْ عشرَ يومًا على طول الساحل مع حَرَسٍ صغير، ويُوغِل في
الصحراء،
ويبلُغ واحةً حيث لا يَجِدُ ما يفتحه غيرَ الكلام، وهو يذهب إلى الآلهة — إلى وحيها —
بدلًا من
أن يدعوها، ولا ريب في مساورة كثيرٍ من الأفكار العميقة إياه في أثناء هذا السفر، في
أثناء
رُكُوبه سَنَام جملٍ، قاطعًا الصحراءَ ليسأل إلهًا مجهولًا. ولا غرو، فقد كانت أمُّه
عرَّافةً
تَجُول بين الجبال حاملةً دَبُّوسًا
٦ بيدها فقصَّت عليه أنها رأت في المنام برقًا ينفذ صدرَها فوُلِدَ بعد ذلك بزمن
قليل، وما كان من تسريح فيليبَ هذه الأم ومن جميع الآلام التي هزَّت صباه فأقصاه من أبيه
المقدونيِّ الذي عَدَّه ديموستين
٧ من البرابرة.
ولم يكن بعيدًا ذلك الزمنُ الذي كان الشعراء الهجَّاءون في أثينة يَسْخَرون فيه من
طبائع
المقدونيين وعاداتهم المستكرَهة في بلاد اليونان. فصار الخوف يَحمِلهم على السكوت، وكان
الأغارقة قد نَصَبُوا هيكلًا للِيزَانْدر
٨ واقترحوا إقامةَ معبدٍ لأَجِيزِيلَاس،
٩ فيمكن — إذن — أن يُؤَلَّهَ الإسكندر الذي لم يبجَّل تبجيلًا إلهيًّا بعدُ مع أنه
اتَّفَق له من المفاخر ما لم يتَّفِق لأولئك الناس.
ويذهب الإسكندر للبحث في أقدم البلدان عما ضَنَّ به عليه زُوس
١٠ دُودُون
١١ وأبُولُون
١٢ دِلْفَ،
١٣ يَذهَب إلى معبدٍ حافل بالأسرار خَفِيٍّ في الصحراء، يذهب إلى إلهٍ أجنبيٍّ كان بِنْدار
١٤ قد أشاد بذكر وحيه الألفيِّ، ولم يُرِدِ الإسكندر أن يُتَوَّج في مَنفيس كفرعون وأن
يَهبِطَ في أعين أولئك القوم الذين أخضعهم، وإنما كان يَوَدُّ أن يَقلِب الخيالَ بأن
يباركه
كُهَّان أقدم أديان الدنيا، في حَضْرَة شهودٍ قليلين، في صحراء لم يَدْخُلْهَا إغريقيٌّ
قطُّ.
وكان هِرْكُول
١٥ قد سَأَلَ الآلهة قبل أن يقاتل أَنْتِه
١٦ وبِرْسه
١٧ وقبل أن يَقتُل الغولَ، وكان هؤلاء من أنصاف الآلهة، وقد جَرُؤَ هركول على مقاتلة
آلهة الخالدين وغير الخالدين من الآدميين، وكانت تلك الأفكار والحِكَم والقِصَص والدينيات
والدنيويات، وكانت ذكرَيات الأب والأم، تَزِيد الإسكندر عدَمَ صبرٍ — لا ريب — في أثناء
تلك
الرِّحلة نحو واحة أَمُون.
ومما لا مِرَاءَ فيه أن الإسكندر كان يعرف تعريفَ أرسطو للإله اليونانيِّ حيث قال:
«إنه
الكائن المحرِّك من غير أن يتحرَّك، إنه الكائن القيوم.»
١٨ فيجد أن ذلك يطابق بعضَ صِيَغ كهَّان أَمُون حتى في التفصيل، وأن هؤلاء مستعدون
لاستقباله وإن لم يُنْبِئهم رسولٌ بقدوم العاهل الجديد.
وأخيرًا تبدو النخل في الأفق، ويروي المؤرخ الوَصَّاف الذي جاء مع الإسكندر أنَّ سكون
ذلك
المكان — المحاطِ بالنخيل والزيتون والينابيع المالحة والمياه المعدِنية — استهوى الإسكندر،
ويَدخُل الإسكندرُ في المعبد وحدَه قبل أن يَخْرُج مَوكِبُ الكهنة المقدس إلى لقائه،
ويُحَيِّيه
الكاهن الأكبر ويسير به إلى قُدْس الأقداس، ويقول ذلك القاصُّ: إنه خَرَجَ من هنالك بعد
بضع
دقائقَ طليقَ الوجه ويُصَرِّح بأن جواب الإله ملائمٌ لرغبته، ثم يَحضُر المَوكِب، ويُسَارُ
بالمركب المقدس في أثناء ذلك ويوزِّع الهدايا ويعود إلى منفيس رأسًا.
ولا تَجِدُ واحدةً من الأساطير التي نُسِجَت في ذلك الحين حَوْلَ ذلك المنظر، ولا
واحدًا من
الأسئلة التي عُزِيَت إليه، ولا سيادةَ العالَم التي وُعِدَ بها، ولا الوجهَ الذي حَيَّاه
به
الكاهن الأكبر داعيًا إياه ابنًا للآلهة، يَعدِل ذلك الأثرَ الذي أوجبه هذان السطران
لِمَا
تُسْتَشَفُّ الحقيقة به من خلالِ جَفَافِهما الفاتر: زيارةٌ قصيرةٌ ووجهٌ طليق وتصريحٌ
باسمٌ من
العاهل، وكل شيءٍ على ما يُرَام، ويُرَى دُنُوُّه من الكاهن المذعور، ويُعْرِب له عن
رغائبه
بأسئلةٍ صغيرة، ويغادر المعبدَ بعد أن حَمَلَ على توكيدِ كونه ابنَ أَمُون ما دام فرعونَ
مصر
مضحِّيًا في هذا السبيل بشهرٍ من حياته القصيرة. ويسأله أصدقاؤه في السنوات القادمة عن
وَحْيِ
الآلهة ذلك فلم يَقُلْ شيئًا ولم يُنْكِر شيئًا.
ويغادر ابن زوس أمونَ — الإسكندر — مصرَ على ألَّا يراها، وينظِّم الأمورَ في البلاد
استعدادًا لإدارتها من غير مَلِكٍ لزمنٍ طويل، فيسلِّم السلطة إلى ثلاثة قُوَّاد من الأغارقة
ويسلِّم الشئونَ الداخلية إلى مصريين، ويَتَّخِذ من التدابير ما يَضْمَن حماية الكهنة،
ويبدو
قَرْنا أمون بين خُصَلِ شعره في النقود الذهبية المشتملة على صورته، وهو، لو لم يكن الإسكندرَ
الأكبرَ بسبب مآثره، لكان عندنا كما عند العرب الذين يُسَمُّونَه الإسكندرَ ذا القرنيْن.
وما أخذه من مصرَ هو وحيُ الصحراء الذي أُلِّه به، ويقول قِرْنُهُ
١٩ الوحيدُ نابليونُ في أواخر حياته: «زادت شهرة الإسكندر بتأسيسه الإسكندرية،
وبتفكيره في جعلها مقرَّ إمبراطورية أكثر مما بانتصاراته الباهرة، فكان يَجِبُ أن تكون
تلك
المدينةُ عاصمةَ الدنيا.»