الفصل الخامس
لم تَلبَث الإسكندرية أن أصبحت عاصمةً عظيمة، وصارت في القرن الثالث قبل الميلاد — وبعد إنشائها بمائة عام — تشتمل على مليونٍ من السكان، فأضحت — كطيبةَ فيما مضى — أكثرَ بلاد الدنيا أهلًا، وهي لم تلبث — بفضل موقعها الذي هو أقوى من موقع طيبة — أن زادت واديَ النيل أهميةً بربطه بالبحر المتوسط، بربطه بمركز العالم القديم. والحقُّ أن إنشاء تلك المدينة أهمُّ حادثٍ في تاريخ مصرَ، والحقُّ أن العرب والإنكليز لم يستطيعوا أن يَمنَحوا مصرَ مرفأً آخر.
وتُنْعَت الإسكندرية بأنها المصرُ الوحيد الذي لا يَعرِف أحدٌ معنى البطالة فيه، ويقول الإمبراطور هادريان: «هنالك تَجِدُ رجلًا يَصنَع زجاجًا بالنَّفْخِ، وتجد رجلًا آخرَ يُعِدُّ أوراق البردي، وتجد رجلًا ثالثًا يَنْسِج الكَتَّان، ولكلٍّ صنعةٌ فيها، أو يَلوح أنه ذو صنعةٍ فيها، وللعاجزين عملٌ، وللعميان شُغْلٌ، ولا ترى مُبْتَلًى بداء المفاصل عاطلًا، فالجميع يَعبُد إلهًا واحدًا، يعبد المال.» وكان التجار يَصرُخون في الأسواق لَفْتًا للأنظار إلى زيتهم ومِلحهم وخشبهم الأجنبيِّ كما في الوقت الحاضر. وكانت السيدات في الحمَّامات العامة الباردة والحارَّة يَعرِضنَ فُتُونَهنَّ، فتُنصَب الموائد على الماء، ولما طُرِد جميع المصريين من الإسكندرية قَضَت الضرورة باستثناء وَقَّادي الحمَّامات منهم، فكلُّ شيءٍ كان إغريقيًّا، وكلُّ شيءٍ كان استعماريًّا.
ويصير بطليموس — الذي كان من قوَّاد الإسكندر، وكان من أشراف مقدونية الأصاغر، وكان أكبر من مولاه سنًّا — ملكًا لمصر، ويَقَع هذا عند موت الإسكندر وبعد إنشاء الإسكندرية بتسع سنين، ويختلف بطليموس عن الإسكندر بعضَ الاختلاف فيظهر أنه خُلِقَ ليكون حاميًا للآداب والفنون أكثرَ من أن يكون ملكًا، ومع ذلك كان من النشاط ما يَحفَظ به مَنْصِبه الملكيَّ، ويدوم سلطانُ هذه الأسرة المالكة التي هي من الدرجة الثانية ثلاثَمائة سنةٍ، وتنطفئ أسرة الإسكندر معه، فالعبقريةُ ليست أمرًا وِراثيًّا.
وكان هَمُّ بطليموسَ الأولِ مصروفًا إلى حيازة جُثْمان الإسكندر. وقد مات الإسكندر وغدا غيرَ قادرٍ على الدفاع عن نفسه، وينتقل من يدٍ إلى يدٍ، ويُسْرَقُ في بدء الأمر طمعًا في تابوته المصنوع من ذهب، ثم يَحْمِلُه جَحْفَلٌ فيليٌّ، ثم يُجَرَّد من تابوته الذهبيِّ، ومن كان يَحُوزُه — ومن كان يَحُوز إلهَ تلك الإمبراطورية وتلك المدينة — يَشْعُر بأنه موضعٌ لعَوْنِ رُوحِه، غير أن آل بطليموس الذين حازوه قرونًا لم يَرِثُوا سوى طالعه.
أجل، كانت حسنةَ الطالع تلك الأسرةُ التي هي إغريقية بأفكارها وكلامها وحكومتها، والتي لم تكن مصريةً ولا مقدونيةً، فقَضَت جميعَ الأوطار وتمتَّعت بضروب تَرَفِ الحياة وذاقت طَعْمَ الزَّهْو واللذة والانتقام والحضارة من غير أن تُسْأَل عن الوسائل التي تؤدِّي بها ما يقتضيه ذلك من النفقات، وكان لأولئك الملوك بَلَاطُ عَرَائِسَ وأخدانٍ وفلاسفةٍ ومجرمين، وشاد أولئك الملوكُ أجملَ معابدِ مصرَ وبَدَوْا أكثرَ الناس قتلًا لأُسَرِهم، وكان حبُّ الحياة يُثِيرُ الجنونَ فيَدفَع أولئك إلى تأليه خليلاتِهم وجعلهنَّ إلهاتٍ، وكانوا يستخدمون نُغَلَاءَهم في حَوْكِ الدسائس حول وراثة العرش وحول المخالفات الخارجية، وما كانوا يزوِّرونه من وصايا فيسوِّغ قبضَهم على زمام السلطة.
ومما كان يحدث أن تَقتُل الملكةُ بعلَها لتتزوَّج أخاه الأصغر، ومما كان يُرى أن يُتَّخَذَ الذهبُ الذي يُجْمَع على عَجَلٍ ضمانًا ضدَّ الفِتَن والحروب، ومما كان يُشَاهَد — مع ذلك — تجمُّع نوابغِ الزمن حولَ أولئك فيُثِيرُون حَسَدَ أثينة في دور زوالها وحسدَ رومة في دور نهوضها. ومما يُدْهَشُ له أن يُفْنِيَ أولئك الناسُ حياتَهم ويسيئوا استعمالَها إلى سِنٍّ متقدِّمةٍ نسبيًّا، وهم — لِنُدُور انتظارهم مَوتَ سَلَفهم موتًا طبيعيًّا — كانوا يَقبِضون على زمام السلطة صِبيانًا وشُبَّانًا، وتَجِدُ غيرَ واحدٍ منهم دامَ سلطانُه مدةً تترجَّح بين الثلاثين والأربعين من السنين.
ومن المحتمل أن النساءَ في جميع تاريخ الغرب لم يكن لهنَّ من السلطان الكبير مثلَ ما كان لهنَّ هنالك، ولا تَجِدُ في غير ذلك المكان نساءً لا حَقَّ لهن في المُلْك يُصَنَّفْنَ كالملوك فيَرِثنَ ما للخليلاتِ المشهورات من اسم، وكان يُسْفِر طمعهنَّ البالغُ عن جَمْعِ جميع الأدوات الثمينة التي تُنْهَب من البلاد البعيدة، وكان وليُّ الأمر العاشقُ لهنَّ يَضْحَك إذا ما وَزَّعْنَ بين الناس تماثيلهنَّ الصغيرةَ ذاتَ الوجوه المحمرَّة والقمصانِ القصيرة، ولكنه يُرْوَى أن الملك كان يَحْسُدُ الفلاح الجالس تحت نافذته ليأكلَ خبزًا وبصلًا.
ومع ذلك ظَهَرَ من أولئك الملوك من كان لديه من الوقت والإقدام ما يَسِيرُ به على غِرَار الإسكندر في الفتح؛ فقد بَلَغَ بطليموس الثالث نهرَ الفرات وقَهَرَ السلوقيين مستعينًا بقائدٍ قدير، وظلَّ أقوى ملوك عصره بضعَ سنين، وقد كان أولَ من ضَرَبَ نقودًا تَعْلُو رأسَه الكبيرَ الرَّخْوَ فيها مِذراةٌ ذاتُ ثلاثِ شُعَب رمزًا إلى سلطانه على البحار، وقد وَضَعَ تاجَ الفراعنة المضاعفَ على رأسِ بَرْنِيكي الثانيةِ الجميلِ المُزَرْفَنَ الشَّعْر.
وأخذ البطالمةُ يُرسِلون حبوبًا من مصرَ إلى رومة حَوَالَيْ ذلك الدور؛ أي بعد خرابِ قرطاجة، وبدأ البطالمةُ يَقَعون تحت نِيرِ رومةَ شيئًا فشيئًا، وذلك مع الإسراع في الانحطاط داخلَ البلاد.