الفصل السادس
ومهما يكن من أمرٍ فإن الإسكندرية — لا رومة — هي التي كانت عاصمةَ العالَم في القرون
الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد، وكان ذهبُ الملوك هو الذي يَجْذِب إليها رجالَ العلم والأدب،
ويَبلُغ سِحْر النساء غايتَه، وتُثِير شهرتُه حبَّ الاطلاع في الإنسان، ويغدو الميناء
خَطَّ
وصلٍ بين القارَّات الثلاث.
وكان لاختلاط العروق عملٌ واسع خصيب كما في كلِّ مكان، وكان الملوك فراعنةً لدى المصريين
في
أمور الدين على الخصوص، وكان الملوكُ الذين هذه هي حالهم يَنْتَوُون أن يَبْدُوا إخوانًا
للأغارقة الذين يديرون شئون البلد.
والواقع أن كلًّا من الفريقين لم يكن مخدوعًا، فكُهَّان مصر يزدرون هؤلاء المتوَّجين
الحديثي النعمة الذين لا تُرَى وراءهم حضارةُ أربعة آلاف سنة، والأغارقةُ يعدُّون الكهنة
كالمقدونيين الذين هم من شِبَاه البرابرة، وكان اليهود أغنياءَ أقوياءَ في الإسكندرية
فيَرَوْنَ
أنفسَهم فوق الجميع كشعبٍ مختار. وأما البطالمة فيَجِدُون أنهم ورثة الإسكندر، وأن من
الواجب أن
يكونوا سادةَ العالَم، ويوكِّدون أصلهم العاديَّ بلُبْسهم أحذيةً طويلة وقلانسَ عريضةً
من لِبْدٍ
١ مع التكلم بلهجة مقدونية، وقد رَأَوْا تقليدَ عادات الإسكندر في أواخر حياته
فأدخلوا طرقَ المَرَازبة إلى موائدهم.
حقًّا إن الولائم والأعياد كانت أهمَّ ما يشغل بلاط الإسكندرية، وكان بعض الملوك
يحتفلون
بعيد ميلادهم في كلِّ شهرٍ فيجوبون الشوارع راكبين عَرَبَاتٍ مزيَّنَة بالعِنَب موزِّعين
خمرًا
بين الجمهور، وإذا ما تَصَاعَدَتْ رائحة الجُمهور إلى عَرَبَة الملك الفِضية ارتمت
أَرْسِينُويِه الثانيةُ الحسناءُ إلى الوراء متميِّزَةً من الغيظ،
٢ وترى السفينةَ العظيمة راسيةً في الميناء مَحَلًّا لإعجاب العالم بأجمه بالغةً من
الطول ١٥٠ مترًا صالحةً لرُكوب ثلاثة آلاف شخص.
ولما أنشأ بطليموسُ المكتبةَ جَمَعَ فيها مائةَ ألف طُومارٍ من البرديِّ. ولما حُرِقت
هذه
المكتبةُ كانت أهمَّ مكتبة في القرون القديمة، وبَلَغَ البطالمة من الزَّهْو بها ما رأوا
معه أن
يَحُولوا دونَ منافَسَة فَرْغَامُس
٣ لها فحَظَرُوا إصدارَ ورق البردي، ويَتَّفِق لهم كما يتَّفِق لكل من هو حديث عهد
بالملك، وذلك أنهم كانوا يُغْرُون بالذهب فيجتذبون الأدباءَ والعلماءَ من أكثر المدن
ثَقَافةً،
فيلبِّي الرياضيون والجغرافيون والأطباءُ والخبراءُ الصحيون دعوتَهم، ويبقى من هؤلاء
كثيرٌ في
الإسكندرية، ويتذوَّق أبيقور — الذي هو أكثرهم حكمةً — ملاذَّ الحياة هنالك، فيكتب رسالتَه
الأخيرة الخالدة.
وما ابتدعه بطليموسُ الثاني بتلك المكتبة فقد كان أمرًا جديدًا وحيدًا في القرون القديمة،
وقد كانت أولَ مؤسَّسَةٍ أقيمت على غير مأربٍ نفعيٍّ من وراء المباحث العلمية، فكان يُنْفَق
عليها بسخاء. أجل، كان لا يُتَمَتَّع هنالك بحريةٍ فكرية مطلقة كما في النظم الجمهورية
الحاضرة،
غير أن الأول والثاني من البطالمة كانا لا يَحمِلان أحدًا على تغيير عقائده بالذهب، وكان
الأساتذة والطلبة يَرِدُون إلى هنالك من جميع البلدان.
وكان المصريون واليهود — قبل وصول الرومان — يقاومون مُغْرِيات الثقافة اليونانية
بعِناد،
وإن سَلَكَت الأكثريةُ سبيلَ الاندماج كما في كلِّ مكان.
واثنان من أحياء الإسكندرية الخمسة كانا خاصيْن باليهود، وكان اليهودُ أقلَّ من الأغارقة
وَجَاهةً، ولكنهم كانوا أحسنَ من المصريين مقامًا، فينطوي هذا على جَوْرٍ مضاعَف وعلى
سببٍ
مزدوِجٍ لاضطهادٍ يَقَعُ في المستقبل، وكان ذلك فاتحةَ هجرتهم، فاتحةَ ذلك المصير الذي
يَحْمِلُهم على ملاءمة أيِّ شعبٍ يعيشون بينه مع عَدِّهم أجانبَ مع ذلك، وعلى تركهم
قسمًا
كبيرًا أحيانًا — صغيرًا أحيانًا — من تُرَاثِ آبائهم، وعلى تأليفهم دولةً روحية ضمن
الدولة مع
عَطَلٍ من القوة المادية، ويَبْدُون بين الأغارقةِ أغارقةً باللغة والطبائع، ويَتَمَتعون
بجميع
نِعَمِ الحياة، وينال أناسٌ كثيرٌ منهم حقَّ المدينة، ويُدِيرُون شئونَ أنفسهم بأنفسهم،
ويُقِيمون زمنًا طويلًا من غير أن يُؤْذَوْا، ويصبحون من الإغريقية ما يريد أحدُ كبار
كُهَّانهم
معه أن يَجعَل أورشَلِيم إغريقيةً، وكان لدى كليوباترة قُوَّادٌ من اليهود.
وكان عدد قُوَّاد المصريين ومديريهم أقلَّ من عدد قُوَّاد اليهود ومديريهم على الراجح.
ويلوح أن الأغارقة عَدُّوا مصرَ القديمة ضريحًا لمجموعةِ عظامٍ من الحيوان والإنسان يُنْعِمُ
السائح نظره فيه صامتًا من غير أن يباليَ بالحَرَس. وهم — إذ يفرضون لغتَهم ويَبدُون
سادةَ
البلاد — يوافقون على أن أفلاطونَ كان تلميذًا لكهنة المصريين، ولكن مع حَظْرِهم تزاوج
العرقيْن. وكانوا يتكلمون عن زُوس أَمُون، وكانوا في الفيوم يقدِّمون قرابينَ إلى نِمِيزِيس
٤ وإيزيس معًا، وكانوا يُعْنَوْنَ في الإسكندرية بثورٍ مقدس مع عَدِّهم ذلك أمرًا
مضحكًا، وكانوا يتركون للكهنة دَخْلَ عَرْضِ هذا الثور على الجُمهور، وكانوا يؤدُّون
عند موته
نفقة تكفينه الغاليةَ، ولكن مع إلزام كهنة المصريين بتعلُّمِ اليونانية على نفقتهم، ويُرْفَع
مستوى الدِّيانة المصرية الروحيُّ بتأثير الدِّيانة الإغريقية، وتَظَلُّ مسألةُ الحياة
بعد
الموت — التي هي أصعب ما في الدِّيانة المصرية — أثرًا غامضًا مع ذلك الاختلاط.
وقاوم الشعب المصريُّ الهادئ جميعَ العروق وجميعَ اللغات التي غَزَت الدِّلتا، وتَتَابَعَ
السادةُ الجُدُدُ مع عاداتٍ ولَهَجَاتٍ مختلفة، فكان حَفَدَة الفرس والآشوريين يُقِيمون
بالنيل
الأعلى، وكان السوريون يُوغِلُون في الفيوم، وكان اليهود يوغلون في الدِّلتا، وكان التراكِيُّون
والسِّليزيُّون والليبيون والغَلَاطِيُّون يَتَجَمَّعون في هذه البُقْعَة التي هي أخصب
ما في
الأرض. غير أن الأغارقة هم الذين كانوا يُصْدِرون حبوبَهم إلى الشاطئ الآخر من البحر
المتوسط،
فإذا ما عادت مراكبهم كانت مشحونةً بطائفةٍ من الأدوات التافهة التي يَذكُر الإسكندريُّ
بها
بلادَ أجداده، والتي تُفْرَض على الفلاح المستطلع كأنها عجائب آتيةٌ من بلاد بعيدة،
ويُغَنِّي
ملاحو الإغريق ما يأتي في ذلك الميناء الكبير الذي يلتقي فيه البحر والنيل:
أيها الملَّاحون الذين يَمُرُّون على الأمواج المالحة، أيها المَلَّاحون الذين يقتحمون
الأخطارَ بين الأمواج المُزْبِدة، انظروا إلى هؤلاء النَّوَاتِيِّ الذين يُوحِلون في
النيل،
أعندهم لآلئ؟ هم يَدْخُلونه هادئين، وأما أنا فأعيش كالكلب!
وكان للفلاح الخالد أن يَمْقُت الإغريقيَّ الذي يغتني من غير كدٍّ، والذي لم يكن عليه
إلا
أن يستأجر مركبًا وأن يذهب إلى الجُزُر، وأن يقوم ببعض الأَشْرِية، وأن يَشْحن المركبَ
بها، وأن
يبيع سِلَعَه من سيداتٍ غنياتٍ بعشرة أضعاف ما تساويه من ثمن.
أجل، يُجِيدُ الحائك المصري العملَ. أجل، يقوم الحائك المصريُّ بعمله متأنيًا فلا
يستطيع أن
يُنْجِزَ ما تُقْضَى به جميعُ تلك الحاجات، غير أن الصائغ وصانع الشماعِد
٥ والآنية يتخذان الآن نماذجَ إغريقيةً لتزيين موائد البلاط وموائد الأغنياء، وتدوِّي
الدواليب والمصانع في جميع المدينة، وتؤلَّف نقاباتٌ لوجود ألوفٍ من العمال بجانب العبيد،
وتُوَاجِه جمعياتٍ رأسماليةً تقول برفع الأسعار وخفض الأجور، وتَقَع إضراباتٌ وتشتعل
فِتَنٌ.
بَيْدَ أن أساس جميع تلك الحركة التجارية وجميع الحياة في الدِّلتا هو الحَبُّ الذي
يَبذُره
الفلاح ويحصده على طول النيل كما كان عليه الأمر منذ أربعة آلاف سنة. والفلاح لكي يَشْرِيَ
منه
ذلك، والفلاح لكي يستطيعَ العيشَ مع أُسْرَتِه، يجب عليه أن يَدْفَع ضريبةً عن كلِّ ساقيةٍ
وعن
كلِّ شِبْرٍ من الأرض. وإذا ما أنشأ وليُّ الأمر أسدادًا وقنواتٍ مقابَلَةً وجب إتقان
ذلك،
ويَبْدُو البطالمةُ أبرعَ من الفراعنة في أمور المال فيحتكرون الزيتَ والخمر ويَفرِضون
رسومًا
على كلِّ من يريد أن يعيش، فتؤخذ ضريبةٌ عن الجِعَة وعن الممثلين والأخدان، وعن السطحِ
الذي
يُنَام عليه في ليالي الصيف بعد عملٍ مُضْنٍ في النهار. فالحق أن البطالمة هم الذين اخترعوا
ضريبةَ الهواء الذي يُتَنَفَّس به.