الفصل الثامن
ينال النيل في العهد الرومانيِّ أعظمَ تبجيلٍ في تاريخه، وتَحْظُر رومة على جميع الشيوخ والفرسان أن يَطَئُوا أرضَ مصرَ، ويَبْلُغ هذا البلدُ من عِظَم الإغراء ما كان يجب معه أن يُحَرَّمَ دخولُه على كبار موظفي الإمبراطورية، وكان العاملُ في ذلك الحَظْرِ الفريد في بابه هو أن الرومانيَّ يَشْعُر بأنه سيدُ العالَم إذا ما بدا سيدَ ذلك النِّبْر الكبير، وفي ذلك الحين يَعْقِد ديودرس أكاليلَ الثناء على المصريين فيقول: إنهم أكثر شعوبِ العالم عرفانًا بالجميل.
وتصبح مصرُ ولايةً رومانيةً بعد موت كليوباترة، وتظلُّ كذلك سبعمائة سنةٍ، ويكافح الرومانُ كلَّ شيءٍ يونانيٍّ هنالك كما يَفْعَلون في كلِّ مكان، وتَقْرُب صفاتهم من صفات الفراعنة فيما يَصْدُر عنهم من الأوامر على الأقلِّ، ويَتَّصِفون كالفراعنة بروح النظام والتنظيم والإدارة والبناء.
وكان الرومانُ يُدرِكون أمر النيل، أمرَ هذا النهر الذي يُمْكِن أن يلاحَظ ويقاسَ على الدوام، ومن العناصر عنصرٌ تتوقف فائدتُه على ذكاء سكان الضِّفاف وبراعتهم فيزيد من الخِلَال ما يُدني المصريين من أمريكيِّي الوقت الحاضر. ومما كان يلائمهم أن تُحْفَر قنواتٌ وتنشأَ أسدادٌ وتُوضَعَ علاماتٌ لوصول الفيضان، وأن تُنَظَّم تقاريرُ وحساباتٌ. وكان الأباطرة يَحْمِلون رجال الكتائب على قياس ارتفاع النهر فيكتب أحدُهم إلى عامله بمصرَ: «بَلَغَ النيل في اليوم العشرين من سبتمبر خمسَ عشرةَ ذراعًا وَفْقَ تقرير القائد، وكُنْ سعيدًا بأن تَعْرِف ذلك مني عندما لا تَعْرِفُه من أحد.» ويَنِمُّ هذا الكتابُ الذي أُرسل من رومة إلى الإسكندرية على دِقَّةِ الرومانيِّ وغلظته الممزوجتيْن بالزَّهْو الإمبراطوريِّ، ويظهر من هذا الكتاب ما بين الإدارة المدنية والإدارة العسكرية من تعارضٍ يَتَجَلَّى في هذا الوقت.
وإلى ذلك الزمن يَرْجِع تمثال النيل الذي يصوِّر لنا رجلًا لِحْيَانِيًّا مع ستةَ عشرَ ولدًا رمزًا إلى أذرع الفيضان اﻟ ١٦، كما يدلُّ على الروح العملية لدى أولئك الواقعيين أمام ذلك النهر العجيب.
ويَغْدُو ذلك النهر نهرَ ذهبٍ، فينْتِج نصفَ ما تحتاج إليه إيطالية من الحبوب، فإذا ما وَصَلَ الأسطول المصري إليها في شهر يونيو أُقِيمَ مهرَجان شعبيٌّ فيها. وكان الرومان يُعْنَوْنَ بحماية ذلك البلد عن غَيْرَةٍ، وكانوا يُسْكِنون «بَنَّائين» هنالك ليَرْقُبُوا الجداولَ الصغيرة ويَرْفَعُوا الغِرْيَن ويَصِلُوا ما بين القَنَوَات ليُمْكِن المرور من بعض شُعَب النيل السبع إلى بعض، وقد عَبَّدُوا طرقًا في الصحراء لعدم قدرتهم على قضاء شهوة إنشاء الطرق كاملةً بمصر. ويوسِّع تراجانُ قناةَ نِخَلو السويسيةَ فيجعلها صالحةً لسَيْرِ السفن التجارية الكبيرة، ويُجَدَّدُ مَسْحُ الحقولِ دومًا، ويُسْعَى في زيادة إنتاجها، ويَلْجَأ كلُّ مديرٍ إلى الزراعة القَسْرية إرضاءً لإمبراطوره؛ وذلك لأن تلك الولاية عُدَّت مُلْكًا خاصًّا به مقدارًا فمقدارًا فصار يُنْظَر إليها ولايةً نَمُوذجية.
وكانت مصر في الوقت نفسه تُعَدُّ صُنْدُوقًا يستعين به الإمبراطور لمكافأة ذوي الحُظْوَة لديه. وكانت حيازةُ مصرَ تقرِّر وِراثة التاج غيرَ مرةٍ، ومع ذلك لم يَزُرْ ضِفافَ النيل غيرُ قليلٍ من الأباطرة. والأباطرةُ كانوا يعتمدون على خِصْبها من غير أن يتساءلوا عن الشعب الذي يقضي ضروبَ المَشَاقِّ في سبيلهم.
تلك أرضٌ راضيةٌ عن خَيْرَاتِها، تلك أرضٌ راغبةٌ عن غير سِلَعِها، هي غيرُ مفتَقِرةٍ إلى جُوبِيتِر ما دام النيلُ محلَّ ثقتها.
وجعل الرومانُ من ذلك المَجْمَع الذي كان أهمَّ ما في ذلك العصر مدرسةً فنيةً عالية، فاخترع هارونُ فيها أولَ آلةٍ بَيَّاعَةٍ تُخْرِجُ لك هديةً إذا ما أدخلتَ إليها قطعةً من النقود. وأنشأ آخرون فيها أولَ عَرَبَةٍ تسير بنفسها، وأولَ آلةٍ بخارية، وأولَ مِدْفع، وابتَدَع الاختزالَ الذي هو سيارةُ الكاتب عالِمٌ موهوبٌ فيها، ويظهر العالِم الجغرافيُّ بطليموس الذي هو آخرُ من نَبَغَ في الإسكندرية فعُدَّ مكتشفًا لسِرِّ منابع النيل، والذي هو بقيةُ أكابرِ الباحثين الذين عاشوا هنالك، ما كان ذلك البلد وتلك المدينة قبضةَ الأغارقة.
وظلَّ الأغارقة سادةً مدةَ ثلاثة قرون في تلك العاصمة الجامعة بين العقل والعاطفة فصاروا يَأْسَفُون على البطالمة وعلى أُبَّهَتِهِمْ وإسرافهم وعلى جرائمهم الطريفة. وكان الأغارقة يُقَطِّبون تجاه النظام العسكريِّ، وتجاه ما يَرَوْنَه من فُتُورٍ وعدمِ خيالٍ لدى الحكَّام الرومان الذين يُمَيِّزُون جميعَ المنازل بأرقامٍ فيحملونها على نظافةٍ لا تطاق، والذين لا يرغبون في غير أمرٍ واحد، في غير فَرْزِ ثروةٍ كافية يَتَمَكَّنون بها من استنشاق هواءِ رومةَ مُجَدَّدًا، وتُفْرَض على الأغارقة في تلك الأثناء وظائفُ فخريةٌ فيحتملون نفقاتِها ويفتقرون من أجلها، وما كان فِيَنِّيُّو القرون القديمة هؤلاءِ ليُطِيقُوا الهواءَ البروسيَّ. وكان أصحابُ ذلك البلد الحقيقيون محتَقَرين هنالك مع ذلك، وبيان ذلك أن المصريين لم يَعُدُّوا البطالمةَ من الفاتحين قَطُّ، وأن هؤلاء البطالمةَ من ناحيتهم كانوا يَثِقُون بالمصريين، وأن الرومان كانوا يَحْسُبُون المصريينَ من الأعداء المغلوبين، فلما تتابعت القرونُ تحولت مشاعرُ المغلوب من حقدٍ إلى بَغْضَاءَ، وإذا نظرتَ إلى كثيرٍ من الرسائل والتقارير وجدتَها تَنُصُّ على «أن المصريَّ ليس إنسانًا.»
وإذا كان الرومان قد حَظَرُوا على موظفيهم لطويلِ زمنٍ كلَّ زواج باليونانيات فإن حقَّ الوطنيِّ — وحقَّ الانتساب إلى الجيش الرومانيِّ أيضًا — كانا محرَّمَيْن على المصريِّ حتى في القرن الثالث، وكان يَحِقُّ للرومان وللأغارقة أن يَجْمَعُوا الأولادَ الذين تتركهم أُمهاتُهم على الرُّدُوم وأن يُرَبُّوهم عبيدًا لهم، وكان يعاقَبُ المصريُّ الذي يجرؤ على إنقاذ ولدٍ رومانيٍّ من الموت جوعًا!
ويجري سيلُ ذهبٍ من الدِّلتا إلى رومة في قرون، وتَحَولت أمورُ التجارة هنالك منذ صارت الإسكندرية — التي هي أكبر ميناء تجاريٍّ في العالم، والتي هي محل مبادلةِ سلعِ الشرق بأجمعها — جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، فصار تجارُ الرومان يَحْسبون غير ما كان تجارُ اليونان يَحسبون، فتَجْلِب سفنُهم الأبازيرَ والحجارة الثمينة من الهند وتجلب النسائجَ الحريرية من الصين، وتُدْخِل إلى مصرَ خمرَ سورية وخيلَها وثيابًا للرومان وجنودِهم وتُصْدِر منها زجاجًا وبرديًّا ونُسُجًا، وحَبًّا على الخصوص، وتأتي بذلك حتى الرين. ومن المحتمل أن يكون أغسطسُ قد قاوم قيامَ دولةٍ عربية ليَحُول دون انحطاط الإسكندرية.
وأكثرُ الناس بؤسًا هو الذي لولاه لظلَّت الأهراء فارغة، هو الفلاح، ويُحْمَل الفلاح على الإغريقية مدةَ ثلاثةِ قرونٍ من غير أن يتعلَّم كلمة يونانية. والآن يَجِبُ عليه أن يصبح لاتينيًّا، ويقاوم ذلك بما فطر عليه من غريزةٍ بالغةِ القوة. وكانت أمورُ الجباية الإمبراطورية تَسِيرُ كما في عهد الفراعنة فلم يَتَفَلَّت منها أحد، وكان طِيبريوس يقرر مقدار الضريبة التي يجب على مصر أن تدفعها في العام القادم، وكان الحكام والمديرون يكلفون بتحصيل ذلك فيأخذون معلومًا في المائة لأنفسهم، ونعلم من مذكرات الطلب أن الفلاح كان يدفع تسعةً في المائة فائدةً عن ديونه بدلًا من عشرةٍ في المائة كما في العهد الفرعوني، وأن جنود الرومان كانوا يحجزون جمله وحماره، وثياب أمه العجوز أيضًا، وكان يؤخذ رسمٌ عن كل موميا، وكانت تؤخذ ضريبةٌ إضافيةٌ عن كل كرمةٍ باسم باخوس، وكان حديثو النعمة في ذلك الدور أساتذةً في فن ابتداع الأسماء الجميلة اعتصارًا للشعب.
ومن مقتضيات النظام القرطاسي الروماني المشهور إكراه الفلاح على التصريح لعمدة القرية بعدد العجول التي يود أن يأتي بها إلى السوق، وكان الفلاح يحمل على حفر مقدار معين من الأرض لإنشاء جداول جديدةٍ وحفظ القديم منها في حال جيدة، فالكاتب موجودٌ هنالك على الدوام، وأما الغني المصري فكان يبتاع من السلطة الرومانية وظيفة كاهن أو يكتري قريةً ليجور على الفلاح كما يشاء، ويبلغ سكان مصر في العهد الإمبراطوري سبعة ملايين، وما نفع الفلاح من جميع ذلك؟ ويؤلف الفلاحون تسعين في المائة من الأهلين، ومع ذلك لم يكن لدى هؤلاء الفلاحين المحكوم عليهم بالعمل والهلاك ما يحتمل به ارتقاؤهم إلى حالٍ أعلى مما هم عليه في الوقت الحاضر.
ولم يستثن من الضرائب غير أمرٍ واحد: حق الفلاح في نقل موتاه إلى ضفة النيل اليسرى ليدفنهم في الغرب، فقد ترك الرومان له حق الموت!