الفصل العاشر
يُحطَّم الفراعنة على الجُدْران، ويعتنق الفلاحون الدينَ الجديد فَرِحين. والآن يَبْدُو الربُّ أقربَ إليهم مما إلى آبائهم؛ وذلك لأنه يتكلَّم المصرية، وهم سُعَدَاء منذ أَخَذَ الرهبان يَتْلُونَ عليهم الإنجيلَ بلهجتهم التي لم تَقْضِ عليها لغة الكُهَّان الهيروغليفيةُ الجليلةُ، وما كان ليُزْعِجَهُم أن يَرَوْا كتابةَ لغتهم بالحروف اليونانية ما داموا يجهلون القراءة، وقد أتاهم نداءٌ من بعيدٍ فهزَّ فؤادَهم.
والواقع أن رومة عادت لا تَمْلِك من القوة ما تعارِض به النصرانية، وكان النصارى شُبَّانًا والرومانُ شيبًا. ويقترف الرومانُ أعظمَ خطأٍ باعتناقهم دينَ أعدائهم لِمَا ينطوي عليه ذلك من الحُكم بهلاك أنفسهم، لِمَا يؤدِّي إليه من نَزْعِ سلاحهم وتسليمِ سيوفهم إلى أولئك الذين قاتلوهم، بَيْدَ أن من المألوف — حتى في زماننا — أن ينتحل الورثةُ ما كافحوه زمنًا طويلًا من سياسية ووسائلِ عمل، ويصبح الإمبراطورُ أُسْقُفَ رومة المُسَلَّح.
كان أولئك الناس يَحْمِلون عن شِمَالِهم سيوفًا طويلةً، وكانوا يَحْمِلون عن يمينهم سيوفًا قصيرة محدَّبَةَ النَّصْل داخلةً في مِنْطَقٍ، وكانوا يَحْمِلون تروسًا مدوَّرة، وكان النَّبَّالةُ منهم يَلبَسون جواربَ وأحذيةً مستوية، وكان الفرسان منهم يَلبَسون جراميقَ وصُدْراتٍ قصيرةً، وثلاثةَ أَوْشِحَةٍ ملوَّنةٍ ملفوفةٍ حَوْلَ الخَصْر والصَّدْر والرأس، ويَدخُل العربُ في سنة ٦٤٠؛ أي بعد وفاة محمد بسنينَ ثمانٍ، حظيرةَ التاريخ والدلتا عن انطلاقٍ دينيٍّ حربيٍّ، يدخلها أبناء البحر والصحراء هؤلاء، يدخلها سكانُ شِبْهِ الجزيرة المجاورة هؤلاء.
ويستولي عمرو بنُ العاص — وكان قائدًا لجيش الخليفة الثاني عمرَ — على ميناء بِيلُوزة وهليوبوليس ومدنٍ أخرى في الدلتا، ويَقُوم عمرو بن العاص، ويُعَدُّ نشيدُه مجدًا لمصرَ، بذلك العمل خلافًا لأمرِ مولاه عمر الذي قَدَّرَ عدم كفاية أربعةِ آلافِ فارس لذلك الفتح. ومن النادر أن تُسْفِر مثلُ تلك المخالفة عن مثل تلك الفائدة، ويَدُوم سلطانُ العرب هنالك تسعَمائة سنة بفضل تلك اليد القوية.
ويُخَيَّل إلى بطرك الإسكندرية وقُوَّاد بِزَنْطة أنهم لا يواجهون غيرَ أخلاطٍ من الأعراب الهَمَجِ الذين جابوا الصحراء على حين كان العرب الحقيقيون يَعْمَلُون في سورية وفلسطين، ويَدُلُّون بذلك على جهلهم عواطفَ الأقباط، عواطفَ فلَّاحي النصارى، الذين عَدُّوا الفاتحَ الجديدَ منقذًا، فساروا على غِرضار آبائهم الذين هَتَفُوا لقيصرَ منذ ستمائة سنة وللإسكندر منذ تسعمائة سنة.
ويُلقِي الفاتح حَيْرَةً في قلوب البزنطيين؛ إذ يخيِّرهم بين اعتناق المصريين دينَ الإسلام فيغدون إخوانًا للمسلمين وبين إعطائهم الجِزْيَةَ، ويُنَاقَش في الأمر ولا يُوصَل إلى حَلٍّ، ويقترح قيصرُ بزنطةَ أن يُؤْخَذَ بأحد الأمرين الغريبين الآتيين وهما: أن يعتنق القائد العربيُّ دينَ النصارى ويتزوجَ ابنةَ القيصر أو أن تدوم الحرب، ويرفض القائد العربيُّ ذلك، ويعتمد على الشعب فيَزْحَف إلى الإسكندرية ويحاصرها نحوَ عام، ويسلِّم البطركُ هذه المدينةَ التي لم تُعَانِ مجاعةً ولم تُصَبْ بهزيمة، ويَرضَى البطرك إعطاءَ جزيةٍ في مقابل حرية شعائِر دينه، وهل سَلَّمَ الإسكندريةَ اجتنابًا لملحمة؟ لم تكن لدى العدوِّ سفنٌ، وكان يمكنه أن يَفُكَّ الحِصار عن الإسكندرية مستعينًا بأسطول القسطنطينية، وهل كان ماكرًا أو جبانًا، أو متدينًا فقط، فضحَّى بالإسكندرية إنقاذًا للإيمان؟
ويروى أنه مات بعد زمنٍ قليل معذَّبَ الضمير شاهدًا على صَرَامة الفاتحين، ويَتَوَجَّه الأسطولُ إلى بزنطة مقهورًا، وتَلُوح عودته خاتمة قِصَّةٍ محزنة أكثرَ من أن تلوحَ خاتمة احتلال قرنين، وتقوم بزنطة بآخرِ محاولة لاسترداد الإسكندرية فتجد جميعَ مصرَ مكافحة لها بجانب سادتها الجدد، وتهدَم أسوار الإسكندرية بعد أن ظلت عاصمةَ الدنيا ثلاثةَ قرون ثم عاصمةَ مصرَ وأهمَّ مرافئ البحر المتوسط ستةَ قرون، ويَبْدُو جميعُ نصارى مصرَ أنصارًا شديدي الحمية للعرب الفاتحين الذين طَرَدُوا السادةَ من الأجانب فتركوا للأقباط الابنَ الذي هو من جَوْهَرِ الآب، ولم يُكْرِهُوهم على عبادة إلهٍ واحد ليس ذلك الابنُ من جوهره.
ويُبْنَى حصنٌ جديد، يُبْنَى الفُسْطَاط بالقرب من مَنْفِيس وعلى رأس الدِّلتا، ويُنْقَل نحو الشمال نقلًا خفيفًا في غضون القرون الآتية، ويَغْدُو عاصمةَ مصرَ، ويُطْلِق العرب عليه اسمَ إحدى السيارات مارسَ التي مَرَّتْ في ساعات إنشائه الأولى من دائرة نصف نهاره فيَدْعُونَه «القاهرة».