الفصل الثاني عشر
يمشي الفارس في الأسواق المجاورة للأزهر، وسوقُ المكتباتِ هي أول ما يَدخُل، وينشأ جوٌّ ثقيلٌ أعفرُ نَتِنٌ عن تزاحم الإنسان والحيوان والسِّلع في هذه الطرق الضيقة، وتتحاكُّ الجِمَال الراشحة عَرَقًا والحمير الناهقة، ويَظهَر أن الناس والأشياء يعيشان منذ قرونٍ في عَالَم واحد من الجمود والقذارة، والحريقُ وحدَه هو الذي نَظَّفَ كلَّ شيءٍ بهدمه كلَّ شيءٍ.
ويَقِفُ طَبَقٌ كبيرٌ من عقيق نظرَ الفارس الغريب أكثرَ مما تقدَّم، ويبدو هذا الطبق أثرًا فنيًّا ذا تسعةَ عشرَ وجهًا فتَلْمَع بجانبه مصابيحُ من بِلَّوْر ومقابضُ أبوابٍ من برونز، وفيما هو أبعدُ من ذلك تُرَى صُدْراتٌ مخطَّطة من حرير ومعاطفُ ذاتُ خيوطٍ من ذهب يُخرِجها البائع التَّعِبُ من رِزَمها كما يُخْرِج الله الطائرَ المسحورَ الذي ذَكَرَتْه القصة.
ويداوم الفارس على سَيْرِه فيُبْصِر أذرعًا سُمْرًا تَرْفَع آنيةً نُحاسيَّةً لامعةً من صُنْعِ بلغارية، ويُبْصِر حريرًا من صُنْع أرمينية يُنْشَر بين يديْ شائبٍ تَعِب، ويبصر نسيجًا من فلانْدِر يُخَشْخِش بين أصابعِ غلامٍ أبيضَ اللون جُلِبَ في السفينة نفسِها على ما يحتمل، ويبصر خلف الزجاج اللامع الوارد من قبرس امرأةً مبرقَعَةً تَتْبَعه بعينيها.
ويَصِلُ الفارس إلى الشارع الرئيس في نهاية الأمر، ويقال بصوتٍ عالٍ: من يريد ماءً؟ وفي كلِّ مكانٍ أُنْشِئَت عيونٌ عن تَقْوَى وتوبة؛ وذلك أن محمدًا سُئل عن خير الأعمال فقال ابنُ الصحراء هذا بتوزيع الماء بين الناس.
وتنتصب جُدُرُ القلعة فوق الفارس الغريب في نهاية الأمر، ويحاول الفارس أن يُغِذَّ في السير فلم يَسْطِعْ من شدَّة الزِّحام، ويَقِفه بناءٌ مهمٌّ مرةً أخرى، ولم يَحْدُث أن رأى حجارةً منقوشة ضَخْمَةً كالتي وَجَدها فيه، وهذا هو مسجد السلطان حسن الذي نشأ عن قَتْله جلوس السلطان الحاضر على العرش، ويَبْرُزُ الجدار في السماء الزرقاء مقسومًا إلى خمسِ عصائبَ صُفْرٍ ضاربةٍ إلى لونٍ بنفسجي، وتَظهَر أبوابٌ وأقواسٌ مضاعفةٌ وطاقاتٌ ثُلَاثِيَّةٌ مزخرفة مصنوعة من مِلاطٍ واقعةٌ بين وردة جميلة، ويَتْعَب البصرُ بالمتدلِّيات في الخارج، ويَقَرُّ البصرُ بها في الداخل؛ وذلك لأنك تَرَى في وسط ساحة واسعة مربعة مبلَّطةٍ بالرخام بِرْكَةً كبيرةً يَغْسِل أناسٌ كثيرون أرجلَهم فيها، وما عليه المصلَّيَات الجانبيَّة من تناسقٍ وما عليه البناء من أبعادٍ واسعة فيُلْقِي السكينةَ في قلب المؤمن، وما على الجُدُر من شَرَفٍ فيطمئنُّ له الجندي.
وإذا ما رَفَعَ الفارسُ بصرَه وأبصر الجدارَ عموديًّا رأى أعلى أبراج القاهرة، وإذا ما خَفَضَ الفارسُ بصره أبصر على طول الأقواس العربية سلاسلَ حديديةً تعلَّق المصابيح بها لتُضَوَّأَ ليلًا في أول العيد، ويدلُّ الكرسي الثابت من المِنْبَر إلى الوراء على الروح التي توجِّه جميعَ ذلك، كما تدلُّ عليها الآية القرآنية البارزة بحروفها البِيضِ حول أعلى جدارِ الساحة الأسمر، ويتطارد الحَمَام تحت سماء الله حتى يظهر هُورُوس، حتى يَظْهَر الصقرُ الأكبرُ، فيَطْرُد الحمام جميعًا.
ويُهْرَع مائةٌ من الرجال لحَطِّ سلعةٍ غريبةٍ عن الجمال تَسِيلُ قطرةً قطرةً من رِزَمٍ كثيفة، ومنذ عهد الفاطميين تَجْلِب قافلةٌ في كلِّ يومٍ رِزَمًا مشتملةً على ثَلْجٍ من لُبَنانَ لكي يرتشف السلطانُ ورجالُ بَلاطه أَشْرِبةً باردةً في فصل الصيف بمصرَ، وتدون رِحْلةُ القافلة في الصحراء بضعة أسابيعَ ويبرِّد الله الحيوانَ والإنسان في أثناء هذا الحجِّ العجيب، ويَذْهب صُرَاخُ الخَزَنَة في وجه السائقين أدراجَ الرياح، ولا يَحُول ذلك دون ذَوَبَان نصفِ الأحمال.
ويَقِفُ بجانب خيل أولئك وجمالهم — التي يحيط بها جنود عابسون وشُرَطٌ راصدون، بُرُدٌ من كُوشَ ونوبية، ومن غزةَ والإسكندرية، ومن بَعْلَبَكَّ وبيروتَ وصيدا، حاملون رسائلَ من وُلَاةٍ وأصدقاء وشِبَاهِ أعداءٍ، ويَحرُسُ في ساحةٍ مجاورة أربعةُ مسلحين خيمةً للأمير قائمة على مِزْرَاقين، وتَبْدُو القاهرةُ للأمير من فُرْجَةٍ في الجدار الخَلْفِيِّ.
ويَدخُل نورٌ ضئيلٌ من نوافذَ شَبَكِيَّةٍ إلى رِدَاه الرجال في الأسفل، وهذه النوافذُ مقسومةٌ إلى مئاتٍ من المربَّعات الفُسَيْفِسَائِيَّة أو الخشبية المحفورة على العموم ما دامت معرَّضَةً للحرِّ، ونصفُ الردهة مرتفع، وتُحيط بها من الداخل مُتَّكَآتٌ مغطاةٌ بفُرُشٍ ووسائدَ ونسائجَ ثمينة، ويشوَّش كلُّ شيء، وذلك لنهوض الرجال حتى يُحَيُّوا القادمَ، ويَتَقدم ربُّ المنزل بوُدٍّ وبوقارٍ لا يُرَى مثلُه في غير الشرق.
ويبدو ربُّ المنزل لابسًا قميصًا أبيضَ متدلِّيًا على سرواله ولابسًا صُدْرَةً بلا كُمٍّ وجِلبابًا حريريًّا مخطَّطًا ذا كُمَّين ساتريْن لليد، وحِذاءً حادَّ الطَّرَف مصنوعًا من جلدٍ مراكشيٍّ أحمرَ، وعَمْرَةً قصيرة على الرأس، ويَقِفُ أمام صديقه الفارس لِحْيَانيًّا ضاحكًا على حين يَخْلَع الخَدَمُ نَعْلَي المسافر ويُسْعِفونه بالماء، ولن يسأله عن مأتاه ومآبه مهما كَلَّفه ذلك، وكلُّ ما في الأمر أنه يُرِيه هديةً كان الآخر قد أتاه بها، ويبلُغ احترام حرية الفرد وحياة الغريب درجةً لا يحاوِل شخصٌ أن يسأل معها صديقًا له عن أصله وفَصْله وماضيه وأهدافه، ومع ذلك يَرْقُب كلٌّ منهما الآخرَ عند تَذَوُّق شرابٍ فيلاحِظ كلَّ حركةٍ وأقلَّ نظرةٍ إلى الرقيق وإلى الباب، ويَدْرُس كلٌّ منهما وضعَ الآخر وثروتَه وسلامتَه من غير أن يَنْبِس بكلمةٍ خلا ما هو خاصٌّ بعيد الغد.
ويَسُود هَمْسٌ وثرثرة في الطبقة العلوية، فالنساء يعشن ويأكلن معًا، وينمن في الردهة الكبرى عادةً، شأن بنات بلادنا في المدارس الداخلية سابقًا، والنساء هنالك مجازيع مباطين مغايير مناكيد، والنساء هنالك شبقاتٌ كثيرات الاستطلاع، ولا يزيد عددهم هنالك على أربع وفقًا لأحكام القرآن، وليست الإماء من هذا العدد، وللإماء مثل نفوذ ربات البيت في بعض الأحيان، وتتشابه النساء في دوائر الحريم، فهن ذوات وجوهٍ ممتلئةٍ محاطةٍ بخصلٍ قصيرة، وهن ذوات بشرةٍ بيضاء عن بعدٍ من الشمس، وهن ذوات حواجب مطولةٍ عمدًا، ويلبسن سراويل حريريةً واسعة مستقرة تحت الركبة، وتظهر صدورهم شبه عاريةٍ، ويبدين عناية كبيرةً بأظفارهن وأصابعهن، ويتخذن منذ قرون لعبًا معدةً للغرام، ويسرهن حوك المكايد كجميع الأسارى، ويُوهنهن الاصطفاء، فإذا بلغن العشرين من عمرهن أخذن في الذبول كما يرى العارفون.
لا دوام لاتحادٍ في تلك البيئة، ولو اقتصر الرجل على زوجةٍ واحدة، وإذ إن حياة المرأة لا تنتهي في العشرين من عمرها فإن الحقد والانتقام والازدراء والوعيد أمورٌ تلم بتلك البيوت المغلقة، والواقع أن هذه البيوت ليست منازل مسرة، وفي هذه المنازل يولد الأولاد ويربون، وفي هذه المنازل لا حد لسلطان الزوج، فإذا ما قال لزوجته «أنت طالقٌ»، وأعاد لها ثلث مهرها كان عاملًا بأحكام القرآن ككل مسلم تقي، ومهما يكن من أمرٍ فإنه يحرم عليه أن يقذف زوجه، وهو إذا ما اتهم امرأةً بريئةً بالزنا، ولو كانت زوجه، عد مقترفًا لإحدى الكبائر الست التي ليس البغاء منها.