الفصل الرابع عشر
قَبَضَ على زمام الحُكم بمصرَ مدةَ خمسةِ قرونٍ أولياءُ أمرٍ مسلمون مستقلُّون ليسوا عربًا ولا أمراءَ تابعين لخلفاءِ بغداد، فكانوا يُعْلِنُون أنهم خصومٌ للخليفة وكانوا يَرَوْنَ أنهم أصدقُ إيمانًا وحديثًا من هؤلاء العرب الذين فَتَحُوا مصرَ حوالي سنة ٦٤٠، وكان هؤلاء الفاطميون الذين استولَوْا على مصرَ ودام ملكُهم فيها مائتي عام يَدَّعُون أنهم من أبناء فاطمةَ بنتِ النبيِّ؛ أي من صُلْبِ النبيِّ، وكان الفاطميون مقاتِلين لا يعتمدون على غيرِ القوة.
ومما حَدَث ذات يومٍ أن سُئِلَ الرئيسُ، الذي جاء هو وعِصاباتُه من طرابلس الغربِ فأنشأَ القاهرةَ عن أصله، لِمَا كان من إنكارِ كثيرٍ من الناسِ أنه من ذُرِّيَّةِ فاطمة، فاستلَّ سيفَه وقال: «هذا نَسَبِي!» ثم نَثَرَ نقودًا من ذَهَبٍ على الجُمهور وقال: «هذا حَسَبي!»
وكان حفيده الحاكمُ هَلُوعًا يُلْقِي في الروع هَوْلًا، وكان الحاكم هذا مجنونًا يَتَسَكَّع في المدينة ليلًا، وكان الحاكم هذا ابنًا لنصرانيةٍ فيَحْمِيها أولًا، ثم ينقلب إلى عدوٍّ ضِدَّ النصارى ويُمْعِن في حَرْقِ الكنائس إلى أن غاب في جبلِ المقطم غيابًا غامضًا، ولم يُوجَدْ جسمُه قَطُّ.
وتَعْقُبُ الفاطميين أُسَرٌ مالكة أخرى، ويكون رجالها من أهل الحرب، ولكنها لم تَلْبَثْ أن انحطَّت، ولم ينقطع صلاحُ الدين الشهير عن الحرب، فلم يَعِشْ في عاصمته غيرَ سنينَ قليلةٍ، وما كان لصلاح الدين من سلطانٍ بعيد المَدَى فقد أَدَّى إلى حَوْكِ كثيرٍ من الأقاصيص عنه على ما يحتمل، وقد بَنَى صلاحُ الدين القلعةَ ضدَّ رَعِيَّتِهِ أكثرَ مما ضِدَّ أعدائه، وقد كان الرجلُ الذي عَهِدَ إليه في بناء القلعة خَصِيًّا — لا جنديًّا — فهَدَم هذا الخَصِيًّ أهرامًا صغيرة في الجيزة لينتفع بحجارتها في بناء القلعة، ولم يُجَنِّدْ صلاح الدين قومَه لشَيْد ضريحه، بل أمر بأن يأتيَ كلُّ زورقٍ يجري مع النيل بعددٍ معيَّن من الحجارة فيَحمِل أَسْرَى من الفرنج على نحتها. ولَمَّا دخل السلطانُ عاصمتَه ظلَّ يتأمَّل القلعة التي يُنْشِئُها ساعاتٍ كثيرةً فيتلهَّى أحيانًا بأن يَحْمِل حَجَرًا بنفسه.
ويَتَجَلَّى الفرقُ بين الفراعنة والمسلمين في أن الفراعنة أَفْنَوْا أجيالًا بأجمعها في نقل حجارة إلى ضِفة النيل اليُسْرَى نَيْلًا لملجأٍ يعيشون فيه إلى الأبد، وفي أن المسلمين — في المكان نفسه تقريبًا، ولكن على الضِّفة اليمنى — أتوا بحجارةٍ لإقامة قلعةٍ لم تَرَ مصرُ مثلَها قبل ذلك الحين، وبذلك تَبْدُو لك مقابلةٌ بين ضمانٍ تِجاه الموت وضَمَانٍ في سبيل الأحياء، وفي كلتا الحالين يُحْرَم شعبٌ حريتَه نتيجةَ حُلُمِ مَلِكٍ بالسلطان، ويبقى الفلاحُ عبدًا ويداوم على حمل حجارةٍ على ظهره.
ومع ذلك يَقَعُ في مصرَ أمرٌ لا مثيلَ له سابقًا، فللمرة الأولى يَقْبِضُ العبدُ — لا الفلاح — على زمامِ أمور مصر، ويظلُّ ابنُ البلد التَّعِس تابعًا مصريًّا، ويَصِل المماليك؛ أي العبيد البيض، من آسية التي يَجْلِبُ تجار الرَّقيق منها رجالًا أصِحَّاء مِلَاحًا، ولم يَحْدُث أن رأى النيلُ في جَرْيه الطويل مثلَ ذلك المنظر، وكثيرٌ من المماليك الذين ملكوا مصر نحو ثلاثمائة سنة (١٢٥٤–١٥١٧) وُلِدُوا عبيدًا، وجميعُ هؤلاء المماليك من أصلٍ نَذْلٍ لم يحاولوا كتمانه فتَحَار بذلك النفوس.
ونَقَشَ جميعُ فاتحي بلدِ الملوك المؤَلَّهين هذا صُوَرَهم في الجُدُر على صورةِ الفراعنة في أكثرَ من ألفِ سنةٍ. والآن يَصعَد في دَرَج العرش أناس من أصلٍ وضيع في المجتمع، أناس عُدُّوا سلعًا كسَلَّة تِينٍ أو كثوبٍ من حرير، وكان أوائلُ السلاطين يحافظون رسميًّا على لَقَبِ البَحْرية، نسبةً إلى البحر، نسبةً إلى النيل، حيث كان آباؤُهم يعملون عُرَاةً على ضِفته في حصون جزيرة الرَّوْضة. ومن أولئك من كانوا يُضِيفُون إلى اسمهم الرسميِّ اسمَ تاجرِ الرَّقيق الأول الذي باعهم كأنهم يودُّون تخليد الرجل الذي يَرَوْنَ أنهم مَدِينُون له بسعادتهم، ومن أولئك من كانوا يعتمدون على قُوَّتِهم — كالسلطان الفاطميِّ الذي تكلمنا عنه آنفًا — فيَحظُرُون وِراثَةَ العرش.
وبما أن السلاطين يحتاجون — دومًا — إلى جنود، كانت الضرورة تَقْضِي عليهم بجلب ألوفٍ من العبيد، وبَلَغَ ما اشتراه قلاوُون أربعةً وعشرين ألفَ عبدٍ، وكان الوزراءُ والأمراء والأغنياء يبتاعون عبيدًا أيضًا؛ وذلك لأن العبيدَ يحافظون عليهم ويُدَارُونهم ويُصانعونهم، وكان العبيدُ من ناحيتهم يلاطَفُون بجعلهم قَوَّامين على غِلْمانٍ حسانٍ مشهورين بِطُول قُدُودِهم ومواهبهم الفنية.
وكان التجارُ يَعرِفون لماذا يبحثون في بلاد القفقاس عن الغِلمان والجَوَارِي بين الكَرْجيات والشركسيات اللائي هنَّ أجملُ مَنْ في العالَم، ويَسهُل على المرء أن يَغْدُوَ ضروريًّا بالمَلاحة ومعرفة حسن السلوك، ويمكن الشخصَ أن يُخْتَار غلامًا بنظرة وجيه وبنظرة سلطانٍ أحيانًا، وإذا ما أُضِيفَ الهَيَفُ إلى الدهاء استطاع صاحبهما أن يصبحَ من الحرس وحُرِّرَ على العموم، وإذا كان هذا الصاحبُ من ذوي الحَظِّ ولم يَغِبْ عن نظر مولاه صار حاملَ سيف وحافِظَ مِدَاد وعُيِّن منذ صباه «أميرَ عشرة»؛ أي نُصِب صاحبًا لأدنى المراتب بين مَنْ يَقْبِضون على زِمام قِيَادةٍ، ثمَّ يُمَثِّلُ دَوْرَه في دسائس القلعة وينحاز إلى أمير الإصطبل أو إلى الساقي الأكبر الذي هو خصمُ أمير الإِصْطَبل هذا، ثم يشترك في العام القادم في مؤامرةٍ فيُصْبِح كلُّ شيءٍ ممكنًا له.
ويا لَلْحِرْص على الحياة! ويا لَلشَّوْق إلى الارتقاء! ويُفَكِّرُ المملوك منذ دُنُوِّ سفينةِ التاجر من الإسكندرية، ويُفَكِّرُ المملوك منذ مشاهدتهِ شاطئَ أفريقية المستويَ للمرة الأولى، في إخوانه الذين كانوا قد نَزَلُوا إلى البَرِّ مثله فصاروا وزراءَ وسلاطينَ، فتُثِيرُه رغبةٌ واحدةٌ، تُثِيرُه شدَّة ميلٍ إلى نَيْل حريته، وذلك لِمَا يعلمه من جميع المخاطر المباركة التي وقعت في عشرات السنين الأخيرة.
ويَقِفُ برقوقُ الجميلُ نَظَرَ تاجرٍ في قريةٍ من شواطئِ البحر الأسود فيشتريه من أبويْه بنحو عشرين دينارًا، ويَنقُلُه إلى الإسكندرية على سفينة شِراعية ويَبِيعُه من أميرٍ في القاهرة بخمسين دينارًا، وتَمْضِي عشرون سنةً فيُنَادَى ببرقوقَ سلطانًا لمصر، ثم ينادَى بالمؤيَّد سلطانًا لمصرَ بعد أن اشتراه برقوقُ برُبع قرن، وينال قايتباي — الذي صار سلطانًا كبيرًا بعدئذ — حُظْوَةً عند أميرٍ إقطاعيٍّ كبيرٍ لِمَا اتصفَ به من حِذْقٍ في المُسَايَفَةِ والرِّماية فيُعْتَق، ويَزْهُو قايتباي بأصله فيختار من أبنائه ابنَ أَمَةٍ له ليَخْلُفَه.
ولم يكن هؤلاء الملوك المجهولو النسب ذوي صلاتٍ بملوكٍ من أصلٍ مماثل لأصلهم فقط، بل كانوا — أيضًا — ذوي صِلاتٍ بأمراءَ بلغوا الذُّرْوَة من عُلُوِّ النَّسَب، فيُضْطَرُّ هؤلاء إلى معاملتهم معاملةَ النِّدِّ للنِّدِّ، ومن ذلك أن تَفَاوَض السلطان قلاوون ورُودُولْف الهابِسْبُرْغِيُّ، ومن ذلك أن أتمَّ بيبرس ما لم يَسْطِع صلاحُ الدين أن يتمَّه فطَرَدَ الصليبيين، ومع ذلك كان هؤلاء المماليك يُعْنَوْنَ بحفظِ سليلٍ حقيقيٍّ للخلفاء بجانبهم إبقاءً للخلافة في القاهرة، وكان هؤلاء المماليكُ يَظَلُّون في أثناء الاضطرابات والفِتَن ملوكًا للبلاد المقدسة فيُرْسِلون كِسْوَة الكعبة المصنوعة من حريرٍ إلى مكة.
وإذا كان الإسلام قد صَدَرَ بعضَ الصدورِ عن اليهودية — التي تناوَلَ أربعةً من أنبيائها الستةِ كما تَنَاوَلَ صورَتَها الأولى ومبادئها الأساسيةَ ذاتَ الرجولة — فإن مذهبَه الأصليَّ الذي ما انفكَّ يحافظ عليه قد لَانَ عن تسامحٍ، فالمسلم — وإن عَدَّ نفسَه مؤمنًا حقيقيًّا — لا يَحسب نفسه صَفِيَّ الله. ويقول القرآن بتعدُّد الزوجات، ويُوصِي القرآن بطيب العيش، ولا يأمُرُ بالزهد، ويَجعَل القرآن من الزكاة ركنًا من أركان الإسلام الأربعةِ فيأمُرُ بالتصدُّق على الفقراء، ويَنُصُّ القرآنُ على أن الجَنَّةَ لِمَنْ يَعْمَلُون الصالحاتِ وينالون عفوَ الله، ولا يَرَى القرآنُ أن الجنةَ معمورةٌ بملائكةٍ متفاوتين مرتبةً ناظرين إلى إكليل الرب، وللمؤمن هنالك سُرَادِقٌ من لؤلؤٍ وياقوتٍ وزُمُرُّد.
والمسلم — على ما يتناوله دينه من أمورٍ دنيوية — يقول بأعظم الفضائل، يقول بالقضاء والقَدَرِ فيسلِّم أمرَه إلى الله، والله كَتَبَ عليه ما يُصِيبُهُ، ولو كان شرًّا، وسيكون له كفنٌ من العمامة التي يَضَعُهَا فوق رأسه، فإذا ما حَضَرَتْهُ الوفاةُ في الصحراء أمكنه أن يغتسل متيمِّمًا بالرمل عند عدم وجود الماء، وأن يَحْفر لنفسه حفرة، وأن يَتَلَفَّف بعِمامته التي تَسْتُرُه حتى فَمِه، وأن ينتظر الموت، وهنالك يُرْسِل الله — مُنْعِمًا — ريحَ الصحراءِ فتَسفِي عليه رملًا يُوَارِيه.