الفصل السادس عشر
والطمعُ آفة السلاطين، ويفاجِئ اللهُ هؤلاء الطُّمَعاء بأمرٍ في بعض الأحيان، ومن ذلك أن جاء الطاعون من بلاد الصين حَوَالَيْ سنة ١٣٥٠ فمَرَّ من مصرَ قبل أن يجتاح أوروبة، فبلغ عددُ من يَمُوتُون به في القاهرة في اليوم الواحد عشرين ألفَ شخصٍ أحيانًا، ويُفْزَرُ السمكُ فيعود فوق النيل، وتُكْسَى أجسامُ المواشي بالدَّمَامل، ويُفْسِد الدُّودُ ثِمَارَ النخيل، ويصادر السلطانُ جميعَ المواريث التي يَتَعَذر تنظيمُ أمرها في أثناء تلك الفوضى السائدة لكلِّ مكان. والواقع أن الطاعونَ أنقذ سلاطينَ مصرَ من الإفلاس مرتين.
والسلاطينُ كرماءُ مع ذلك، وإذا كان الشعبُ قد جعل من القِرَى أساسًا للعلاقات، وإذا كان أفقرُ مسلمٍ سلطانًا في سبيل ضَيفه الذي يُؤْوِيه تحت سَقْفِه، فما أعظمَ ما يُثْبِت السلطانُ به أنه مسلم! وإن السلاطين ليرمون إلى الفقراء ذلك الذهبَ الذي يَضْغَط ضميرَهم كما يَضْغَط ضمير كثيرٍ من الأغنياء، فيتقاتل أولئك الفقراء لينالوه، ويُنْشِئ السلاطين حمَّاماتٍ ومساجدَ، ويُجْزِلون العطاء للشعراء والعلماء بلا رَوِيَّة كما يَنْثُرُون النقودَ في الشارع، ويَرُدُّونَ الضرائب إلى قريةٍ ما من غير سببٍ خاصٍّ، ويقدِّمون سلاحًا وبُزَاةً إلى أمراء مُرَاضِين، ويقدِّمون إلى الرجل الذي يريدون إكرامَه أجملَ هديةٍ يَعرِفُها عربيٌّ؛ يقدِّمون إليه جوادًا أصيلًا.
ومما يُرْوَى أن السلطان الظاهر دفع مبلغ ١٥٠٠٠ جنيه ثمنًا لحصان، وقال سلطانٌ آخر لوزيره الذي كان طبيبًا كبيرًا فطَرَحَ على قدميه كتابَ طبٍّ: «أريد أن أكافئك بأحسنَ مما كافأَ به الإسكندرُ أساتذتَه.» فأقطعه أطيانًا عظيمةً في الدِّلتا، ويَعْزُو هذا السلطانُ في زمنٍ آخرَ ما انتابه من انحرافٍ إلى مُسْهِلٍ قَوِيٍّ رَتَّبَه له ذلك الوزير الطبيب فيأمر بقتله في الغد مع بلوغه الثمانين من سِنِيه.
والقسوةُ هي صفتُهم الثانية، ومن ذلك أن ناظرَ بيتِ مال الناصرِ محمد النصرانيَّ الأصلِ لم يَعُدَّ كافيًا ما قام به من تعذيب أحد الأغنياء حَمْلًا له على الاعتراف فلفَّ يديه بنسيجٍ مبتلٍّ بقَطِرَانٍ وأشعل هذا النسيجَ. ومن ذلك أن آخرين كانوا يُغْطَسون في ماءٍ مُمَلَّح ويُغْسَلُون بكِلْسٍ ثم يُرْمَوْن على صفائحَ حجريةٍ باردةٍ، ولم يكن الجَلَّادون وحدَهم هم الذين يَجْلِدُون ويُعمُون ويَنْزِعون اللسان ويَنْعَلُون الإنسانَ كالحِصان ويسمِّرون الناسَ على السُّرُوج، بل كان السلطان يَثِبُ من فوق عرشه ليَضْرب صاحبَ مَنْصِب كبير حتى يُدْمِيَه، ومن ذلك أن سلطانًا آخرَ الْتَهَبَ غيظًا من عدم كفاية الجِبابة فأمر بإحضار اثنتيْ عشرة حمامةً وقطع رِقابها وقال: «هكذا سأذبحكم جميعًا.»
ومن ذلك أنه لم يُقْتَصَرْ على السير في الشوارع برأسٍ مغروزٍ على حَرْبَةٍ لعدوٍّ مقهور، بل طُرِحَتْ جُثةُ هذا العدوِّ في بالوعةٍ إيذانًا للشعب بأن للسلطان حقَّ الحياة والموت على أكابر الرجال في دولته، ومن ذلك أن السلطانَ الناصر سَجَنَ أحدَ المقرَّبين لديه وحَكَم عليه بالموت جُوعًا، فأرسل إليه في اليوم الثامن ثلاثةَ أطباقٍ مُغطَّاة، فخُيِّلَ إلى هذا المُحْتَضَر أن السلطان عَفَا عه فَكَشَف عن الأطباق شَرَهًا، فوَجَدَ الطبق الأولَ يشتمل على ذهبٍ، وَوَجَد الطبق الثاني يشتمل على فِضة، وَوَجَد الطبق الثالث يشتمل على حجارة كريمة، فلما انقضى اثنا عَشَرَ يومًا مات الرجل ووُجِدَتْ في فمه إصبعٌ انتزعَها من يده التي قَرَضَ راحتَها.
وقد يتواضعون من فَوْرهم، فيأمرون الشيخَ بألا يَنْطِق باسمهم إلا بعد أن يَنْزِل درجةً من المِنبر، ويصلون ساجدين على أرضٍ مُجَرَّدةٍ من بِساط، وقد يُؤْتَى إليهم بعدوٍّ مقهور معتقِدٍ دُنُوَّ أَجَلِه فيَرْفَعُونه ويعانقونه، ولكن هذا ليس سوى انحرافٍ عن قسوتهم.
والإسرافُ صفتهم الثالثة، وأولُ ما يَتَجَلَّى هذا الإسرافُ في دوائر الحريم كما في زماننا، فإذا ما غَنَّتْ جاريةٌ على أنغام عُودٍ أُعطيت ستين ثوبًا حريريًّا، وأربعةَ حجارةٍ كريمة وستَّ لآلئَ، وأُقطِعَ مولاها أطيانًا، ويُهدِي فريقٌ من الأمراء إلى السلطان ٣١١ شمعةً مستورة برسوم، ويبلغ وزنُ كلِّ واحدةٍ منها قنطارًا، فيقابِل المُهدِين بعَطَايَا يَعْدِل ثمنُها ثلاثةَ أمثال تلك الهدية، ويزوِّج أحدُ السلاطين ابنتَه فيأمر بنصب خيام مُذْهَبة وبإحضار ١١٠٠٠ قرصِ سُكَّر محشوٍّ بالمربَّبَات.
ويَرْوِي المؤرِّخون أن السلطان صَنَعَ مثلَ ذلك في زواج بناته الإحدى عشرةَ فقال ناظر بيت المال مُتَحَسِّرًا: «أُفنِي حياتي في جَمْعِ مالٍ له ثم يبدِّده.»
ويذهب محمدٌ الناصر إلى مكة حاجًّا، وتتقدمه أربعُ سفنٍ في البحر الأحمر، وتشتمل قافلته على ستمائة جمل محمَّلٍ ألفَ إوزَّة وثلاثةَ آلافِ فَرُّوجة وعلى قُدُورٍ مملوءةٍ خُضَرًا طازَجةً وعلى صناديقَ مملوءةٍ أزهارًا، ويجوب الصحراءَ مع هذه القافلة، حتى يَركَعَ أمامَ قبر النبيِّ خاشعًا.
ومع ذلك يُسَاوِر الخوفُ أولئك السلاطينَ دَوْمًا، فكانوا يَخْشَوْن وجودَ خِنجرِ قاتلٍ وراء كلِّ سِتَار، ويَكشِف استياءُ المماليك الذين لم يَقْبِضُوا رواتبَهم عن وجودِ مؤامرةٍ يحوكها أحدُ المقرَّبين ليَظْفَر بهم ويَقلتهم. ولم يتفق للسلاطينِ قَطُّ مثلُ ما كان للفراعنة من صَفاءِ عَيْشٍ فيتمتعوا بأطايب الحياة على حساب عبيدهم ويُمْتِعُوا أُسَرَهُمْ بها، وما كان من رِيَبِهم حَوْلَ كلِّ مَنْ يُحِيطُ بهم، وما كان من مكايد الخِصْيَان الذين ينتقمون من رجالٍ أصِحَّاء جَنَوْا عليهم، وما كان من دسائس لا حَدَّ لها في دوائر الحريم، أمورٌ كان يُخَيَّلُ إلى السلطان معها ائتمارُ كلِّ شيءٍ به فيضاعِف عددَ حَرَسه الليليِّ من فَوْره، أمورٌ كانت تَحْفِز السلطانَ إلى إغلاق دكاكين بائعي السِّلاح، أمورٌ كانت تحْمِل السلطانَ على حَظْر الرِّماية على الشبان، وعلى طَرْد جميع سكان العاصمة من منازلهم، والسلطانُ إذا ما سافر تَحَوَّل في الليل من خَيْمةٍ إلى خَيْمَةٍ غيرَ مَرَّة.
ويسأل المؤرخُ المُوَزِّعُ للعدل في نفسه عن وجوب مَحْوِ ذكرى أولئك الرجال الذين هَلَكُوا كما أهلكوا أعداءَهم.
ويُمَثِّل الكفاحُ والخِداعُ والجمالُ في الإسلام دورًا أعظم مما في جميع الأديان الأخرى، ومن هنا تَجِدُ ما عند أتباعه من طِرازِ حياةٍ تخالطها رُوحُ المغامرة مع إيمانٍ بالقضاء والقَدَر، ومن هنا تَجِدُ فُقْدَانَ روح المواظبة، ولا تُثِيرُ تلك القرونُ التسعةُ في النفس سوى خيالِ سيفٍ لامع، وصوتِ مؤتمِرٍ مُعَذَّب، وصورةِ جاريةٍ فتاةٍ كُتِبَ لها الفوزُ بفضل فُتُونها.