الفصل الثامن عشر
تُبْدَأُ غزوة بونابارتَ لمصر بلِيبْنِتْز وتُخْتَم بجِفْروَا سَنْت هِيلر، وكان أحدُ هذيْن المفكريْن العظيميْن موحيًا بهذه الحملة الخائبة، وكان الآخرُ ظافرًا فيها.
إليك فيلسوفًا في السادسة والعشرين من سِنِيه، إليك هذا الكاتبَ في وزارةِ إمارةٍ ألمانيةٍ صغيرة، قد تَمَثَّلَ وسيلةً لإبعاد الفرنسيين من حدود ألمانية، وكان هذا في سنة ١٧٧١، وكان هذا حين بلوغ لويس الرابعَ عشرَ أَوْجَ مجده، وما كان من اتحادِ الجيوش الألمانية والجيوش الفرنسية ضِدَّ السلطان الذي لم تَنْهَرْ سلطتُه مع هَزِّها ألقى في رُوعه فكرةَ إمكانِ فصلِ قسمٍ من ولاياته من غير أن يثيره ذلك إثارةً خاصة، وكانت هذه الفكرةُ من الفِكَر الدارجة في ذلك الحين ولكن من دون أن يحدِّدَها أحدٌ كما صَنَعَ لِيبْنِتْز في رسالته: المَجْمع المصري، ويَسعَى في شَقِّ طريقه إلى الملك الشَّمس، ولا بدَّ له من تعيين وقتٍ للمقابلة، ويُجَهِّزُه الأميرُ بكتابٍ يقدِّمه فيه إلى ذلك المليك، أوليست هذه المثاليَّةُ العملية من شيم الألمانيِّ الحقيقيِّ؟ ويَوَدُّ ليبنتز أن يسلِّم إلى ملك فرنسة مذكِّرةً يَنْصَحُه فيها بأن يَفتَح بلدًا تركيًّا. وينتظر في باريسَ أربعَ سنين على غير جَدْوَى، وكان ذلك العاهلُ المنهمكُ في حروبه ونسائه يرى أن المَلِك يكون أذكى من أيِّ فيلسوفٍ كان.
ويَغِيب الملِك ويتوارى الفيلسوف، ومع ذلك تداوم الفِكْرة على سَيْرِها رويدًا رويدًا، ومن المغامرين من كانوا يَحُطُّون من قيمة الفكرة أحيانًا ناظرين إلى عبيد مِصْرَ قبل كلِّ شيء، ويَمضِي قرنٌ فيعود إلى الفكرة قطبٌ سياسيٌّ كبير، يعود إليها دُوك شَوازُول في منفاه الرائع بشانتلوب فيُفَهِّمُها شابًّا شَمَّاسًا مجهولَ الأمر، يفهِّمها تاليرانَ الذي أبصر دهاءَه السياسيَّ قبل كلِّ شخصٍ آخر، ويَعرِض تَالِيرانُ تحت تماثيل اللوفر الداعمة، بعد عشرة أعوام — أي في سنة ١٧٩٧ — «ما يُجْتَنَى من المستعمرات الجديدة من فوائدَ في الأحوال الحاضرة.» وما قاله هنالك عن الشرق ماثلٌ في جميع الذاكرات، فلمَّا تمر ثلاثون سنةً على الزمن الذي طَرَدَ الإنكليزُ فيه الفرنسيين من الهند، وكلُّ ما هو حديثٌ في ذلك القول هو ما انطوى عليه من بَرْهَنةٍ مظهرةٍ لأهمية مِفتاح الغرب: مصرَ، ونال تاليرانُ نجاحًا بيانيًّا بذلك، وكان تاليران هنالك أقلَّ فتورًا من عادته، وكان تاليران في أمريكةَ الفتاةِ قد عَرَف كيف يقدِّر فُتُونَ الحياة الاستعمارية، ويغدو تاليران وزيرًا للخارجية بعد خمسةَ عشرَ يومًا.
يأتي كلُّ مجدٍ من الشرق كما تأتي الشمس منه.
وفي الشرق سيأفل مجدُه بعد حين، وبما أن بونابارتَ كان مستعدًّا دومًا للانتفاع بالمِدْفَع دَرْجًا لنظرياته الفلسفية أو تخلُّصًا منها فقد كتب — بعد أن قرأ مذكِّرة تاليران — يقول لحكومةِ الديركتوار: إن قهر إنكلترة لا يكون في غير البحر المتوسط، وهو لم يعتِّم أن وَضَعَ خططًا عظيمةً حول البحر المتوسط قائلًا: «ولِمَ لا نستولي على جزيرة مالطة؟ وإذا ما وَجَبَ علينا أن نتنزل عن رأس الرجاء الصالح نتيجةً لمصالحتنا إنكلترة أصبح استيلاؤنا على مصرَ ضربةَ لازِبٍ، ويُمكِن السفرُ من هنا بجيشٍ مؤلَّفٍ من خمسةٍ وعشرين ألفَ رجلٍ تحرسهم ثمانية — أو عشرة — مراكب حربيةٍ، وفَتْحُ مصر بهؤلاء الجنود، فمصرُ ليست ملك السلطان.»
ومما ذَكَرَه ابن الجزيرة هذا بعد حينٍ مُوَكِّدًا أن البحر المتوسط كان هدفَ سياسته الأساسيَّ، ويَجِد في ذلك الوقت — كما يَجِدُ كلُّ جنديٍّ يَرَى تسويغ فتوحه — من الأسباب الأدبية ما يبرِّر خططه، ومن ذلك وجوبُ إنقاذ أولئك المصريين البائسين من جَوْرِ السلطان، ومن حسن حظِّه أن استطاع الانتفاعَ بتقريرِ قنصلٍ يتوجَّع فيه من اعتداءات الحكومة التركية.
ويُعِدُّ بعد خمسةِ أشهرٍ حَمْلةً لم تَجْرُؤْ دولةٌ أوروبية على محاولتها، وما يحيطها به من غموض فيَدفَعه إلى الإسراع، وهذا هو بدء سِبَاقِه الأعظم الذي دام سبعَ عشرةَ سنةً فانساق فيه هو وزملاؤه وفرنسة والعالم بأجمعه، «فلا ينبغي أن يُفَرَّطَ في دقيقة واحدة»، ويهيئُ تلك الحملةَ في ستة وسبعين يومًا، ويبلغ الدلتا بعد سَفَرٍ مُثِير، ويَسهُل عليه بلوغُ الدلتا كما سَهُلَ على الإسكندرِ وقيصرَ من قبل، ولم يكن لأيٍّ من هؤلاء الفاتحين أن يَخُوضَ غمارَ معركةٍ بحرية.
بيدَ أن أول سببٍ في حُبُوط عمل بونابارتَ هو أنه أول من جاء من الغرب لفتح مصرَ. وإذا كانت الإمبراطورية الرومانية صاحبةَ السيادة في بلاد الغُول عندما استولت على مصرَ فإن مركز ثِقَلِها كان في الشرق، ولم يكن ليَفصِل مصر عن جزر البحر المتوسط التابعة لرومة غيرُ وَثْبةٍ واحدة في ذلك الحين، ولم تَزَلْ مدةُ السفر بين طولونَ والإسكندريةِ ثمانيةَ أسابيعَ من دون رسو في ميناء ومع مرور ألفيْ عامٍ على ذلك الزمان، ومع ضرورة الإفلات من أسطول العدو، وكان من المتعذر أن تُقْهَرَ إنكلترة في مصرَ سنة ١٧٩٨ كما تَعَذَّرَ قهرُها سنة ١٩١٥، وكان استقرار الإنكليز بالدلتا نتيجةً وحيدةً لحملَة بونابارت.
والسبب الثاني في حبوط عمل بونابارت هو جهله الحرب البحرية، فمع أن جنوده غَلَبُوا المماليكَ على الرغم من شدةِ الحَرِّ في شهر يوليو — ومن غير أن يُقْتَلَ منهم أكثرُ من خمسين رجلًا — غُلِبُوا في البحر بعد عشرة أيام من قِبَلِ نِلْسُن.
والسببُ الثالث في ذلك الحبوط هو أنه كان على بونابارت أن يقاتل نَجَدَاتٍ تأتي من الخارج مع أنه لم يكن على قَمْبِيزَ، ولا على الإسكندر، ولا على قيصرَ، أن يخشوا تدخُّلًا أجنبيًّا من ناحية البحر.
والسبب الرابع — وهو أعمق الأسباب — هو أن الفرنسيَّ، أو نصفَ الفرنسيِّ بونابارتَ، كان يَبْغِي الرجوعَ إلى الغرب بأيِّ ثمنٍ كان، وإن لم يَثْبُتْ وضعُه بمصرَ بعدُ، وكان اكتراثه لباريسَ أكثرَ من اكتراثه لجميع سُوَرِ القرآن، ولم يكن المجد الذي يقتطفه على ضِفاف النيل — على ضفاف هذا النهر المنسيِّ — ليُذكَر بجانب ما يَجْنِيه على ضفاف نهر السِّين، ويَفِرُّ بونابارت من مصر عندما أدرك ببصيرته أن السلطان بفرنسة صائرٌ إليه، وكان الرجل الذي جاءه بأحدث الأنباء — وقد مضى عليها شهران — وبالجرائد المشتملة على أخبار انكسارات فرنسة، إنكليزيًّا، ولولا وُدُّ هذا الإنكليزيِّ ما غادر بونابارتُ مركزَه، وما تَرَكَ ضباطَه وجنودَه مستخفيًا خلافًا لكلِّ نظام عسكري، وما قام بانقلابه بعد بضعةِ أسابيعَ من عودته مستفيدًا من توتُّر النفوس. وبونابارتُ قرَّر كلَّ شيء في ليلةٍ واحدة بالقاهرة قضاها في مطالعة تلك الصُّحُف.
وكان النيلُ يرتفع يومَ معركة الأهرام، وكان النيل بالغًا حدَّه الأقصى من الزيادة حينما تسلَّق بونابارتُ هَرَمَ خوفو في يومٍ من شهر سبتمبر، ولم يَنْطِق بونابارتُ بكلامٍ فَخْمٍ في حضرة أبي الهول، بل أخذ يداعب، وهو لم ينفكَّ يناكد برْتيه؛ وذلك لأنه «لا يجد موضعَ أفكاره في الأعلى هنالك.»
وأدرك بونابارت أمرَ النيل كما أدركه الرومان، وذلك كما يُعْلَم من قوله الرائع: «ترى النيلَ بمصرَ، أو رسولَ الخير، وترى الصحراء بمصرَ، أو رسولَ الشَّرِّ، حاضريْن على الدوام.»
ويضيف بونابارت إلى ذلك قولَه بإمكان اكتساب مملكة كاملة في الصحراء إذا ما أُنشئت مئاتُ الأسداد والقَنَوات، ودَرَس بونابارت أمرَ القنوات فرَسَمَ — حتى في جزيرة القديسة هيلانة — مشاريعَ للتَّقْنِيَة والزراعة، وسحرت قناة السويس القائدَ العظيم بونابارت الذي كان لديه مزاجُ مهندسٍ قبل كلِّ شيء. وإذا كان بونابارت في منفاه لم ينفكَّ يَشغَل بالَه بتقنيات النيل فإنه كان — حين قيامه بمنصب ملازم — يقتطف عباراتٍ من مؤلَّفٍ عن قناة السويس في القرون القديمة فيرى في رسالةِ تحقيقٍ كتبها أن «حفر البرزخ» عملٌ يقع على عاتقه.
وذهب بونابارت إلى السويس مخاطرًا بحياته، وذلك أن حَرَسَه ظلَّ خَلْفَه وأنه وَجَدَ مع دليلين بقايا القناة القديمة فتَتَبَّعَها مسافةَ خمسةِ أميال خاسرًا حصانين وأحدَ الدليليْن، وقام بونابارت بتلك الرحلة بلا مَتَاعٍ فعلًا، فيَرْوِي أهلُ تلك الناحية بعد زمنٍ أن كلَّ جنديٍّ كان يحمل رغيفًا مغروزًا بحربته، وأن كلَّ جنديٍّ كان يعلِّق قِرْبَةً بعُنُقه، وبيَّن بونابارت إمكانَ حفرِ البرزخ ووَصْلِ البحريْن بقناةٍ مجهَّزَةٍ بأسداد.
تُحْفَر على طول القناة قَنَوَاتُ ريٍّ لتوسع مَدَى الزراعة عن اليمين وعن الشمال عِدَّةَ أميال … وإذا ما كان من الأسداد ألفٌ غُلِبَ الفيضان ووزِّع، وتقَسَّم في جميع أنحاء البلاد مليارات أقدام المياه المكعبة التي تَضِيع كلَّ سنةٍ في البحر بين أقسام الصحراء المنخفضة حتى الواحات وإلى ما هو أبعد من ذلك في جهة الغرب … ويُوجِبُ عددٌ كبير من المِضَخَّات النارية والمطاحن الهوائية رفعَ المياه إلى المقاسم حيث تُؤْخَذُ للسَّقْي … وستنتشر الحضارةُ داخلَ أفريقية بعد حيازة خمسين سنةً.
ولا تقلُّ حماسة غُوته عن حماسة نابليون في الموضوع، وهكذا يكفي لجعل الأمر محلَّ بحثٍ ماثلٍ للأعين. وتمضي سبعون سنةً فتقوم الإمبراطورة أُوجيني التي هي زوجٌ لنابليونٍ آخرَ بالإشارة الرمزية فتجمع البحرين.
ويؤثِّر الفرنسي في الفلاح عند أول تماسٍّ كتأثير جميع الفاتحين السابقين، فيُهْتَف له، وذلك لفِرار ظالميه من خِلال الصحراء، ولأنه عَدَّ ما وَقَعَ فجرَ عهد سعيد. ومما أبصر الفلاحُ بعد معركة الأهرام حنوُ الفرنج حِرَابَهم ثانيةً لتصيُّد المماليك الغَرْقَى وتجريدِهم من ذهبهم، وما أكثر ما اغتنى من جنودهم في ذلك اليوم! ويُبْصِر الفلاح سيدًا آخرَ يحتفل بوفاء النيل، ويعلم الفلاح أن هذا السيد أسَّس ديوانًا جديدًا يرأسه في الحين بعد الحين، مع جلوسه على الطريقة الأوروبية ومع ظهوره بهذا — أيضًا — أعلى من الترك القاعدين القرفصاء.
ويرى الفلاح حائرًا أن النصارى يَجُوبُون الشوارع كالإقطاعيين من غير أن يُكْرَهُوا على النزول من فوق حميرهم كما كان في الماضي، ويَخِيب ظن أهل القاهرة بما رأوا من بساطة باشاهم الجديد، والأذكياء وحدَهم هم الذين أدركوا الوضعَ فقال أحدهم: «إنني تاجر بسيط، ولديَّ أحدَ عشرَ خادمًا مع ذلك، وليس عند القائد ثلاثةٌ من الخَدَم، فلا عَجَبَ من قهره البك لذلك.»
ويُبذل جهدٌ لمعاملة الفلاح بالعدل كالذي أبداه دِيزِه في أثناء حملته بمصرَ العليا على الخصوص، وماذا يَدُور في خَلَد الفلاح إذا اطَّلَع على ما يُبْدِيه الباشا الجديد نحو موسى ومحمد من إعجاب وعلى جعلهما فوق عيسى مرتبةً، وعلى الوجه الذي يَسخَر به من الصليبيين الذين يُصَلُّون بدلًا من أن يسيروا؟
وإذا رَجَعْتَ البصرَ إلى جميع حروب نابليون لم تَجِدْ لواحدةٍ منها — حتى لحرب روسية — مثلَ تلك الصفة غير الحقيقية، مثل تلك الصفة الوهمية. وتُثِير تلك الحملة في النفس فكرةَ قِطعةٍ ناقصةٍ من الأدب كتبها شاعرٌ في شبابه، وكلُّ ما يقوم بقوة السلاح يزول حالًا، وما كان من تسليم فرنسة التامِّ أمام إنكلترة فيعد نتيجةً لتلك المغامرة، حتى إن بونابارت أبصر ذلك قبل عودته، فأباحه للقائد الذي خَلَفَه إذا ما اضْطُرَّ إليه.
ومع ذلك امتدَّ دَوِيُّ هذه الحملة إلى التاريخ الحديث. وقد طلب بونابارت ارتيادَ وادي النيل رِيادًا تامًّا لإنشاء مستعمرة فرنسية فيه، وقد أراد بونابارت أكثرَ مما هو ضروريٌّ نافع قضاءً لمطالب الروح، فتَرَك سلطانُ فرنسة العابرُ في مصرَ آثارًا بعيدةَ الغَوْر مع أن النظام التركيَّ المسلَّمَ به والذي دام ثلاثمائة عام لم يترك أثرًا. فالذي يلوح هو أن ذلك القائد الشابَّ الذي احتفل في القاهرة ببلوغه الثلاثين من عمره وَدَّ لو يَضْمَن نفسَه ضدَّ النسيان، وقد أعان العلماءُ على ذلك، فأَحْيَوْا ذكرى ذلك القائد الذي لم يَعْرِف غيرَ قليلِ نصرٍ في ذلك البلد.
والواقعُ أنه عَنَّ لبونابارت أن يأتيَ بمعهدٍ للعلوم والفنون حتى يحاربَ معه، والواقعُ أنه عَنَّ لبونابارتَ هذا الأمرُ الذي لم يَأتِ بمثله أحدٌ من الفاتحين السابقين، وما كان من ذُيُوع صِيته ومن تأثير المبادئ العامة في ذلك الزمن حَفَزَ أكابرَ العلماء من ذوي الشعور السُّمْر إلى الإبحار من طُولُون وإلى الاشتراك في حَمْلَةٍ لا يَعْرِفون هَدَفَها، فقال أحدُهم، وكان من علماء الأرض: «أذهب إلى ذلك البلد المجهول ما وُجِدَ فيه حجر.»
فلما نَزَلَ هؤلاء الغلمان والمتفنِّنون اﻟ ١٤٣ — الذين عُنِيَ باختيارهم من كلِّ نوعٍ والذين قُسِّمُوا إلى خمسة فروع — إلى سفينتهم الشراعية أخذ القائدُ العامُّ يقيم — في كل مساءٍ، في غرفته بالمركب — حفلةَ نِقَاش بعد أن يكون قد بلغهم الموضوعُ وقتَ الصباح ليستعدوا، وبعد قليلٍ يُقِيمون بقصرٍ رائعٍ في القاهرة جديرٍ برواية ألف ليلة وليلة، ذي روضةٍ غَنَّاءَ يَتَفَلْسَفُون فيها على طريقة المشائين، فيرون درجةَ تقدير القائد لهم، ويشترك هذا القائد في اجتماعاتهم غيرَ حاملٍ حُسامَه، ويُسَمِّي ضباطُه هذا المعهدَ ﺑ «خليلة القائد المفضَّلة»، ويُدرِك العلماء أن هذا الرجل الذي يُوشِك أن يَعْلُوَ الجميعَ ليس سائفًا عاديًّا ولا جَبَّارًا أُمِّيًّا، وإنما هو عبقريٌّ راغبٌ في الاطلاع بلا انقطاع فيَحضُرُ كلَّ اجتماع يَعْقِدُونه.
وتمضي ثلاثة أسابيعَ على فتح القاهرة فيَطْرَح الأسئلةَ الآتية في اجتماعهم الأول وهي: (١) كيف يجب أن تُبْنَى الأفران؟ (٢) أَوَيجب أن تكون المطاحنُ هوائيةً أم مائيةً في هذا البلد؟ (٣) أيُّ نوع من حشيشة الدِّينار يجب أن يُسْتَعْمَل في الجِعَة المحلِّيَّة؟ (٤) تصفية ماء النيل. (٥) أَوَيوجد هنا من الموادِّ ما يَصْلُح لصنع البارود؟ (٦) أَوَيمكن إصلاحُ العدل والتربية في هذا البلد وَفْقَ رغائب السكان؟
ومما حدث — لمرةٍ واحدة فقط — أن وافق على قراءة صحيفةٍ له بنفسه، وهو الذي سَجَّلَ نفسَه بين الرياضيين مع حفظ مكانٍ له بين الشعراء، فبَيَّنَ له مُونْجُ محذِّرًا — بلباقةٍ — أنه لا ينبغي له أن يُنْتج ما هو متوسط، ويَعدِلُ بونابارتُ عن الكلام بنفسه، ويَجْعَلُ من شخصه مثلًا على الامتناع لم يَتَّبِعه الطُّغاة الأصاغر في الزمن الحاضر.
ويدرس العلماء والمتفننون في ثلاث سنوات جميعَ ما هو موجودٌ في وادي النيل فيبحثون في نباتاته وحيواناته وطبقاتِ سكانه وتاريخِ أهله وفي معابده وقبوره وتماثيله وكتاباته، ويَضَعُ بونابارت قائمةً عن قَنَوَاته لم يَسْبِقْهُ أحدٌ إلى مثلها، ويُشَارُ في هذه القائمة إلى درجة الانتفاع بالقَنَوَات وتوسيعها وإلى مِساحة الأراضي الصالحة للفلاحة، وهذا عملٌ عظيمُ الشأن، وهذا عملٌ استفاد منه العدو، استفاد منه الإنكليز، وقد أُخْرِجَ حجرُ رشيدٍ من الأرض قُبَيْل رجوع بونابارت، فاعترف أعضاءُ المعهد بأهميته من فَوْرِهم، وإن صَرَّحوا بعدم معرفة ثاني الخطوط الثلاثة.
وكادت تلك الوثائقُ المهمة تَضِيع، فلما فتح الإنكليزُ مصر ورَكِب العلماءُ سُفُنَ الإنكليز في سنة ١٨٠١ وَفْق معاهدة الاستسلام أمرَهم أميرُ البحر الإنكليزي بأن يسلِّموا مجموعاتهم مقدَّمًا، ويَخْرج شَرَرٌ كما في كلِّ مرةٍ يتصادم فيها السيف والرُّوح، ويَخْرج الشررُ من الروح — لا من السيف — في هذه المرة؛ وذلك أن جُوفروَاسَنْت هِيلِير قال بشدةٍ للإنكليزي الذي حَضَرَ للمفاوضة: «نفضِّل حرقَ كنوزنا بأيدينا على تسليمها إليكم، والصيتُ هو ما تَهْدِفون إليه، فَكروا في صحائف التاريخ، ذلك يَعْنِي حرقًا ثانيًا لمكتبة الإسكندرية.» ويُنْقِذ هذا الاحتجاجُ البليغ ما بَقِيَ من تلك الحملة من أمر وحيد، ويَتِمُّ النصر للروح على الإنكليزيِّ في المكان الذي انتصرت فيه قنابلُ الإنكليز على الفرنسيين.
فتح بونابارت مصرَ في ثلاثةٍ وعشرين يومًا من تاريخ وصول أول مركب، ونُشِرَت مجلداتُ المعهد المصريِّ التسعةُ في ثلاثٍ وعشرين سنةً، وتمَّ صدورُ آخرِ المجلدات في عهد آل البوربون، ونُزِعَ العلماء من عملهم فوَجَدُوا أنفسهم أمام مَلِكٍ حينما كانوا منهمكين في تكديس وثائقهم، فكأنهم أناسٌ قَضَوْا ليلة في قَصْفٍ ولهوٍ فأبصروا الفجرَ وعادوا إلى منازلهم صُحَاةً عُشْيًا بنور النهار.
وهكذا خُتِمَتْ الحملة المصرية — كما بُدئت — بإشارةٍ من عالِم، وكلُّ ما أَتَى به بونابارتُ لنفسه من تلك الحملة هو مملوكٌ طويلٌ ينام أمام بابه وجُعَلٌ نَزِع من إصبع أحد الفراعنة.