الفصل التاسع عشر
يَرْجِع بعث النيل إلى جنديين، وكما أن اكتشاف منابعه في القرن التاسعَ عشرَ كان من عمل صيادين، لا من عمل عالمين، كان قهر مصبِّه من عمل مستبدِّين، لا من عمل مهندسين، وما فُطِرَ عليه قُوَّاد التاريخ العِظَام الخمسةُ أو الستةُ من مزاجٍ جَبَّار قد حَمَلَهم على مكافحة العناصر وعلى العدول عن الحروب المخرِّبة الدامية وعلى إيقاد حروبٍ مُوَلِّدةٍ كائناتٍ جديدةً نَضِرَةً. وإذا كان حُبُّ الإنسانية لم يَدْفَعهم إلى العمل فإن للناس فوائدَ من أفعالهم على الأقل، وهكذا أخضع نابليونُ ومحمد علي نهرَ النيل على وجهٍ جديدٍ قاطع.
ولو لم يفرَّ بونابارت من أفريقية ليصير إمبراطورًا في أوروبة لحَقَّقَ على ضِفاف النيل أحلامَ فَتَائه كما تَغَلَّب بإرادته على الفوضى فيما بعد. والواقع أن بونابارتَ لم يَحْلُم ببلدٍ كما حَلَمَ بمصرَ فكانت تتمثَّل له دومًا كما تتمثل الفتاة للشاعر، وينتحل خَلَفُه في مصر أفكارَه، ويبدو النيل خطَّ وَصْلٍ بين رَجليْن يُعَدَّانِ أعظم مَنْ في عصرهما من السادة.
وليس ذلك مصادفةً صِرفة، فهنالك تجانسٌ عميقٌ بين محمد عليٍّ ونابليون، بين التركيِّ والفرنسيِّ، وإن شِئْتَ فَقُلْ بين الألبانيِّ والقُوْرسِقيِّ، فكلاهما عَمِلَ في سبيل عظمة وطنه الثاني، وكلاهما وُلِدَ سنة ١٧٦٩، وكلاهما خَرَجَ من طبقةٍ متوسطة، وكلاهما فَقَدَ أباه في صِباه فنشأ بين إخوةٍ وأخواتٍ كثيرين، وكلاهما اضطُرَّ إلى احتمال تَبِعَة أعماله قبل الأوان فأدرك باكرًا أهميةَ وسيلتَيِ السلطان: المال والسلاح، ولم يَسْمَع كلٌّ من الرجلين — ابنِ تاجرِ القهوة الشاب في قَوَلَة وابنِ المحامي في أجاكسيو — في بِيئته حديثًا عن غير الأراضي والسفن والمال وطُرُق جَمْع ذلك كلِّه بفضل حِزْبه، ويشترك ابنا البحر المتوسط ذانك منذ البُدَاءة في المنازعات المحلية بوطنيْهما الصغيريْن، ويؤدِّي الاضطرابُ الاجتماعيُّ إلى تميزهما وسيرهما قُدُمًا، ويمنُّ وطنهما المنكور عليهما بالدهاء، وتُوحِي صروفُ الدهر إليهما بالأحلام الجريئة التي يغامَر من أجلها بكلِّ شيءٍ والتي يُمْكِن بها كلُّ شيء، وتُسْفِر هذه العناصرُ الكثيرةُ الاختلافِ عن واقعيةٍ يُثِيرها الخيال، وعن تحويلِ الرجلِ نفسِه إلى دِبْلُمِيٍّ وإلى جندي.
ومع ذلك كان بونابارت الشابُّ وارثًا لثقافةٍ ألفيةٍ حينما تمثَّل كنوزَ الماضي، ومع ذلك لم يكن وراءَ محمد علي أيُّ ماضٍ فكان مَلِكًا حينما تَعَلَّم القراءة في الأربعين من عمره. وقد قامت رسالة الأولِ على وَضْع حدٍّ للثورة الفرنسية التي ما فتئت تشتعل منذ عشر سنين، وقد حَرَّكَ الآخرُ جمهورًا فاترًا وأيقظَ شعبًا ناعسًا، وذلك إلى وجود فَرْقٍ جوهريٍّ، وهو أن نابليونَ أنجَزَ عملَه وأبصر انهيارَه في خمسةَ عشرَ عامًا مضطربًا، وأن محمدًا عليًّا قضى خمسين عامًا في إتمام صنعه، فقضى ما بين الثلاثين والثمانين من عمره في إنشاء مصر على الرغم من الحروب. ولما أراد نابليون أن يقوم بعملٍ جليل سيَّرَته ظلالُ انتصارات شبابه إلى بقاعٍ بعيدة، ولما أصبح محمد علي شائبًا ترك كلَّ ميلٍ إلى الفتح متفرِّغًا لإدارة بلده.
وتجد سِرَّ الخاتمتين في اختلاف طموح الرجلين، ولا مِرَاءَ في أن طموحَ محمد علي يعدل طموحَ نابليون، فيصبح تاجرُ التبغ السابق والضابطُ المجهول الأمرِ هذا ملكًا ابنًا للسادسة والثلاثين؛ أي في السنِّ التي غدا نابليون فيها إمبراطورًا، ولكن نابليون يتناول التاجَ من يَدَي البابا ليَضَعَه بنفسه على رأسه، ولكن محمدًا عليًّا ينال الولاية من الخليفة، هو حاكمٌ مطلق مع بقائه تابعًا، هو لم يأتِ حركةً يَصِير بها مستقلًّا، وهو يموت باشا أو عزيزَ مصرَ.
ومع ذلك كانت تساور الغاصبيْن مسألةٌ واحدة، تساورُهما وراثة العرش المباشرة، وكان المسلم أوفرَ حظًّا من النصرانيِّ في هذا الأمر، وكان فؤادُ الإمبراطور يَفِيض حنانًا أسريًّا، ولكن من غير أن يُرزَق ولدًا حتى الأربعين من عمره، وكان محمد علي في التاسعةَ عشرةَ من سِنِيه حينما رُزق ابنَه الأول، فبلغ عددُ أولاده من الذكور والإناث خمسةً وتسعين، وما كان ليحتاجَ إلى إخوته وأَخَوَاته إلا قليلًا.
وفيما كان محمد علي مقيمًا بالقاهرة جادًّا في المفاوضات كان ابنُه الأكبر، كان ابنه الرجلُ الممتاز، ينال اتتصاراتٍ. ولا يقاس محمد علي بنابليون قائدًا عسكريًّا، ولا رَيْبَ في أنه يَعدِل نابليون رجلًا دِبْلُمِيًّا لكونه شرقيًّا. أجل، إنه قَهَرَ الترك والعرب والزنوج، ولكنه لم يقابَلْ بجيوشٍ أوروبية، فكان يجب عليه أن يستميل بالإقناع ما غَلَبَه نابليون من الدول، ومن دواعي العَجَبِ أنه كان يَجْهَل لغات هذه الدول فيقرأ على وجه المفاوضين تبليغَ ترجمانه إليه حقيقةَ الأمر، وما عليه هذا الرجل القصير وذو البصر المنير من فُتُونٍ فكان يَسْحر جميع الزائرين وجميعَ الدِّبْلُميين.
وأكبر حظٍّ لمحمد علي هو توطيدُه سلطانَه بين سنة ١٨٠٣ وسنة ١٨١٣ حينما كان نابليون آخذًا أوروبة بخِنَاقِها وفي اجتذاب الشمس الكبرى لسيَّاراتِ نصف الكُرَة الغربي، ولولا نابليون ما وَطِئَ محمد علي أرضَ مصرَ برجله على ما يحتمل، وما استولى عليها وما احتفظ بها لا ريب؛ ولذا لا عَجَبَ إذا ما أخذ نابليون بمجامع قلبه.