الفصل العشرون
يقال إن الألبان من سلالة المقدونيين، ولما سار أحدُهم على غرار الإسكندر كان له حقٌّ مضاعفٌ في الادعاء بهذا، وإن لم يكن ابنًا لفليب، وإن كان ابنًا لتاجرِ قهوةٍ في قَوَلَة، وما فَتِئَ الألبان — والمصريون أيضًا — يكونون تُرْكًا إلى زمن قريب، وما كان الألبانيُّ ليستطيع فتحَ مصرَ لهذا السبب، وكان يمكن الألباني أن يَمْلِك مصرَ باسم السلطان فقط لهذا السبب. أجل، بدأ الحكم التركي في سنة ١٥١٧، ودام حتى سنة ١٩١٤، ولكن كما أن مَلك مصرَ الأولَ فؤادًا كان ابنًا لحفيدِ العِصاميِّ المقدونيِّ محمد علي غدا هذا العصاميُّ المقدوني مؤسِّسَ الأُسْرَة المالكة الحاضرة في مصر فَسَلَكَ سبيل بطليموس الذي بدأ أمرَه قائدًا للإسكندر فنَقَل إلى آله مُلْكَ مصر مدةَ ثلاثة قرون، ويظلُّ صاحبُ العبقرية عاطلًا من اللقب، ويَرِثُه من هم دونه من قُوَّادٍ أو صَيَارِفة فينالون تاجًا أو يَرتَدُون شرفًا.
ويَسدل محمد علي ستارًا على دَوْرِ فَتَائه، ويدافع جهرًا عن صحةِ أولِ زواجٍ لزوجته الأولى وصولًا إلى شرعية بنوة ابنه الأكبر، ويَزُورُ بلدَه بعد غِياب خمسين سنة فلم يَعْرِض رايةً ولم يلاطف فرقةً ولم يَضْرِب وِسامًا تذكاريًّا، وكلُّ ما صَنَعَ هو أنه أَسَّس مدرسةً كانت تُعْوِزُهُ في صباه، وكان هذا الضابطُ الألباني قد ذَهَبَ إلى مصر مع الكتائب التركية ابنًا للتاسعة والعشرين من سِنِيه، وكانت هذه الكتائب موجَّهة ضدَّ بونابارت فحال بونابارتُ دون نزولها إلى البر، ولم يَقَعْ بصرُ كلٍّ من الرجلين على الآخر قَطُّ؛ وذلك لأن محمدًا عليًّا سَقَطَ في البحر نتيجةً للارتباك الذي أسفر عن معركة أبي قير الثانية، فَنَشَلَه من البحر مَرْكَبٌ إنكليزيٌّ لم يَدُرْ في خَلَد رُبَّانِه أيُّ رجلٍ شديدِ الشكيمة يُنْقِذ حياتَه. وتمضي بضعةُ أشهرٍ من سنة ١٧٩٩ تلك فيصبح بونابارت القنصلَ الأولَ بباريسَ ويصبح محمد علي قائدَ حامية القاهرة.
وكان كلا الرجلين يعتمد على السلطات القائمة فيُسَلط بعض الأحزاب على بعضٍ اصطيادًا في الماء العَكِر، وكان محمد علي يحرِّض المماليك على الإنكليز الذين يحترسون من الباب العالي ومن القائد الألبانيِّ الجديد، ويَقبِض هذا الأخيرُ على زِمام الموقف في أثناء تَمَرُّد، ولكنه يَجْعَل عَدُوًّا أزرقَ من الباشا المطرود الذي لا ينفكُّ يَحُوك الدسائسَ ضدَّه بالآستانة في سنينَ كثيرةٍ، ويقيم الألبانيُّ بالقلعة ويصبح باشا بفضل مولاه العاجز.
ويَجعَل من المماليك آلةً لقهر الإنكليز الذين عادوا بعدَ أربعة أعوام، ولكنه يُبْدِي من المهارة في هذه المرة ما لا يعتمد معه على عدوٍّ مغلوب. وكان الألباني ابنًا للثامنة والثلاثين حين تدخله في السياسة الكبرى على ضِفاف النيل، وهو لكي يُفْلِح في عمله الإنشائيِّ ينتفع بكلِّ ما لدى «الفرنج» من فوائد، ويُلْغِي جميعَ المخازي التي كان النصارى عُرْضَةً لها.
وكان السلطان يخشاه فيحترمه، وما كانت الدول المتقاتلة لتنظر في أمره فلم يَلْبَث أن صار محبوبًا لدى الجمهور بمصر، وكان يُعَوِّل على فريق الساخطين منذ البُدَاءة، أي على الشعب المصريِّ الذي يشعر بأنه مُعْتَصَر، وقد أعلن أنه «مختار الشعب» فصدَّقه جميع العالم لِمَا كان يَعلم من قيادة الجماهير. ولم يَبْقَ عليه غيرُ كَسْر المماليك الذين لا يزالون مسلَّحين في القاهرة فتَخَلَّص منهم بأن قتلهم في يوم واحد.
والتاريخ حتى اليوم — حتى بعد انقضاء أكثرَ من مائة عام — يحدِّث بإسهابٍ عن ذلك اليوم أكثر من حديثه عن جميع أعمال محمد علي الأخرى، وترانا نَزْهُو على نابليون خُلُقِيًّا لما كان من قتله دُوك دُنْجان رميًا بالرصاص ولِمَا كان من قتله فرائسَ الطاعون بيافا، ويُبْدَى من الشدَّة تِجاه مَنْ يقترفون مثلَ ذلك الذبح أكثرَ مما يُبْدَى تجاه من يستأصلون أممًا بأسرها؛ وذلك لأنه يُرَى في هذه الحال أن مجدَ السلاح يتطلب ضحاياه التقليديين. ويجمع نابليون ومحمد علي لحروبهما ألوفَ الشبَّان قَسْرًا فيَقْضُون نَحْبَهم لأسبابٍ لا يهمُّهم أمرُها أو لأسبابٍ يعارضونها مع أنه لم يَهْلِكْ بالقاهرة في ذلك اليوم من مارس أكثر من ٣٥٠ رجلًا كانوا يَتَمَتَّعون بضروب السلطان أو الملاذِّ على حساب سعادة نصف أمة، حتى إن هذا العدد لو زاد على ألفٍ ما عَرَفَ التاريخ مملوكًا واحدًا يَأْسَفُ عليه.
ومن تقاليد الترك، ومن تقاليد المصريين، أن يُصَارَ إلى إنزال تلك الضَّرَبَات، وكان محمد علي قد قَهَرَ المماليك في مصرَ العليا منذ سنة، ومما ادعاه وجودُ بيِّناتٍ جديدة على ائتمارهم به، وهذا الادعاءُ قريبٌ من الصدق، ويَدْعُوهم إلى القلعة لتنظيم حَمْلَةٍ، ويستقبلهم محتفلًا في الرُّوَاق الكبير ويرفع الجِسْر المتنقل، فلما وَقَعُوا في الفخِّ أَمَرَ محمد علي رجالَه من الألبان بإطلاق النار عليهم من فوق الأسوار عند خروجهم من القاعة، ولم يَتَفَلَّت منهم سوى واحدٍ وَثَبَ بحِصانه من الجدار، ووَصَلَ مملوكٌ آخرُ متأخرًا جدًّا فوجد البابَ مغلقًا فَرَجَعَ فلم يَقِفْ حتى بَلَغَ سورية، ويَمْثُلُ طبيبُ محمد علي الجنوي بين يدي نائب السلطان هذا ويُخْبِرُه بنجاح العملية، ويسكُت محمد علي، ويُومِئُ بإحضار ما يَشْرَبه.
وكان ذلك الانقلاب الذي تَمَّ على الطريقة الشرقية أمرًا ضروريًّا لإنجاز مشاريع الباشا الجديد، ولكنه ليس من شِيَمِه، فهو لم يَعُدْ إلى مثله، وهو لم يلجأ إليه في أحوالٍ خاصة ولا في السودان. والواقع أن تلك المذبحة خيرٌ للبلد الذي يَئِنُّ منذ قرونٍ تحت نِيرِ المماليك فكانت تَهْدِف إلى غيرِ هَدَفِ المذابح السابقة، وهذا ما أثبته محمد علي فيما بعد.
ويُسلِّم محمد علي قيادةَ جنوده في جزيرة العرب إلى ابنه الأكبر إبراهيم فيُدْهَش العالَم إذ يُبْصِر ظهورَ قائد عظيم، وكان يمكن محمدًا عليًّا أن يَقْطَع صلتَه بالسلطان مستعينًا بابنه ذلك فيبدو سيدًا لجميع جزيرة العرب، ويَجْعَل من مصرَ مركزَ إمبراطوريةٍ جديدة كما صَنَعَ ابن وطنه الإسكندر المقدوني، ولِمَ لَمْ يفعل ذلك؟
هو لم يفعل ذلك — مع ما ناله من انتصاراتٍ سريعة — لِمَا لم يكن عنده من الجرأة البالغة، وهو قد كان — كبعض التماثيل الموضوعة أمامَ جُدُر الكنائس القديمة — محتاجًا إلى الشعور بوجود جدارِ الخلافة الكبير وراءَه، وهو لم يَفتأ يُدِيرُ ظهره إلى السلطان مع دوام خوفه من انهيار ذلك الجِدار وسقوطِ الإمبراطورية التركية في زمانه، وما تمَّ لابنه من انتصاراتٍ قد هَيَّأَ له سبيلَ الانفصال مرتين فكان يمكنه أن يَبْسُطَ حمايتَه على الأماكن المقدسة بما اتَّفَق له من سلطةٍ ونفوذٍ قويٍّ بين ملايين المسلمين، فيناديَ بنفسه خليفةً أو سلطانًا كما صَنَعَ صلاح الدين النَّيِّر في وادي النيل منذ سبعة قرون، وهو لم يَفْعَلْ هذا، بل أعلن أنه لم يَسْتَوْلِ على سورية وجزيرة العرب إلا تابعًا للسلطان عاملًا على زيادة شوكته.
وتُقْطَع الصلة بالسلطان مع ذلك، وتتوالى انتصارات إبراهيم فيُهدِّد البُسْفُور، وتَتَدَخل روسية، ثم الدولُ الخمسُ العظمى، فتُنْقِذ السلطان؛ وذلك لأن هذه الدول لم تكن لتَخْشَى شيئًا كظهور هذا الألبانيِّ المرهوب أميرًا للإسلام؛ وذلك لأن هذه الدول لم تكن لتَرغَب في شيءٍ أكثرَ من تجديدِ عهد المماليك الضعيف القائم على الشهوة والطمع.
والإنكليز على الخصوص هم الذين أفزعهم هذا الباشا الذي كان سلطانُه يمتدُّ إلى جبال أرمينية وإلى الخليج الفارسيِّ، ولكن الإنكليز لم يَقْهَرُوا نابليون الشرقيَّ هذا في عكا — التي ارتدَّ عنها بونابارت منذ أربعين سنة — إلا بمساعدة مراكب الدول الأخرى.
وكان محمد علي في السنة الثالثة والسبعين من عمره حينما خَسِرَ الفصلَ الأخير، ويُلزَم بتسليم سورية وبدفعِ جِزْيَةٍ إلى السلطان وبتركِ الأماكن المقدسة له وبالتنزل عن قسمٍ من استقلاله الماليِّ. والشيء الوحيد الذي ناله بتلك المعاهدة هو الشيء الذي كان يتمنَّاه في صميم فؤاده، هو الاعترافُ بكون الحُكْمِ في ممتلكة مصرَ التابعةِ أمرًا وِرَاثيًّا في آله.
وهو إذ لم يَقْبِض على التاج المصري بنفسه كما صنع نابليون فإنه لم يَسْطِع أن يَضْمَنَ استقلاله، وهو إذ كان له حَفَدَةٌ وتَقَدَّمَ في السنِّ فإنه ضَمِنَ لهم وِراثة العرش خلافًا لنابليون، وهنا يُسْأَل: أيُّ الرجلين أوفر حظًّا لدى القَدَرِ؟