فذلكة تاريخية
فرغانة مدينة كبيرة على حدود تركستان، كانت عاصمة الكورة المسماة باسمها، وكان الفرس يسمونها «اخشيكسيت». وهي تطلُّ على ضفاف نهر جيحون الذي يسميه العرب نهر «الشاش» ويسميه الإفرنج نهر «يكسارت» والأتراك يسمونه نهر «سرداريا».
وبيننا وبين فرغانة بُعد شاسع يستغرق قطعه بضعة أشهر، في السير شرقًا عبر الشام فالعراق ففارس فخراسان. ثم عبور نهر سيحون واختراق بخارى وسمرقند وأشروسنة للوصول إلى ضفاف جيحون أو نهر الشاش، بعد اجتياز كثير من الجبال والصحاري والسهول والأودية، ومشاهدة أمم شتى فيما بين سيحون وجيحون. تختلف لغة وعنصرًا ودينًا. ناهيك بالمفاوز التي يعسر سلوكها، وكثرة قطاع الطرق فيها، وأكثرهم من بدو التركمان وهم أهل خشونة وسطو.
وقد استطاع العرب بعد الإسلام أن يفتحوا الشام والعراق ومصر وفارس في بضع عشرة سنة. لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى فرغانة إلا في أواخر القرن الأول للهجرة. وكان فتحها على يد قتيبة بن مسلم فاتح تركستان سنة ٩٤ﻫ. ولم يستعمرها العرب أو يقيموا بها إلا بعد ذلك بأعوام عديدة. وكانت تابعة لعامل خراسان في تأدية الجزية والخراج.
وبرغم ما تقدم ذكره من المفاوز والجبال في الطريق إلى فرغانة، كان المسافر إليها إذ ينتهي بعد تلك الأخطار إلى نهر جيحون يسير ما بقي من الطريق حتى مدينة فرغانة على ضفة النهر الشرقية، فيرى هنالك الأسواق والقصور ذات الأسوار العالية، ويرى الأرباض والبساتين على ضفتي النهر ممتدة في أرض مستوية مساحتها ثلاثة فراسخ. ثم يرى شماليها جبلًا وعرًا على بعد ميل منها. ويرى وسطها قلعة عظيمة يُقال لها في اصطلاح الفرس «قهندر» شِيدت لتعتصم بها حامية المدينة عند الحاجة. ولذلك بُنيت بناء متينًا بالأحجار الضخمة دون كل أبنية المدينة المتخذة من الطين. وحول القلعة سور له أربعة أبواب. تليه أرباض فسيحة، ثم سور ثانٍ بأبواب أربعة أيضًا. ويتخلل المدينة والأرباض مياه جارية وحياض كثيرة. هذا إلى ما يحيط بالمدينة كلها من بساتين ملتفة ونهيرات جارية تصلها بالنهر. فكانت هذه المنطقة من أنزه بلاد تركستان أو ما وراء النهر.
وكان سكان فرغانة عند الفتح الإسلامي خليطًا من أهل البلاد الأصليين الذين يسمونهم «طاجية». وجماعات من الفرس والهنود والأتراك وأهل الصين. وكان الفرس أرقاهم جميعًا. بل كانوا أرقى المشارقة في ذلك العصر. فكانت لهم الرياسة والسياسة والنفوذ الأدبي والديني، لأنهم كانوا ينقلون معهم تمدنهم حيثما حلوا. وكانت لغتهم البهلوية (الفارسية القديمة) لغة الطبقة الراقية في الشرق الأقصى، كما هو شأن اللغة الفارسية الحديثة الآن. وكانت لغة أهل فرغانة الأصليين التركية القديمة المعروفة بالشاغطائية. وكانت المجوسية دين أكثر الفرس حتى ذلك الحين.
وحينما فتح العرب فرغانة كان يحكمها أمراء أو ملوك يُلقب كلٌّ منهم بلقب خاص بهم هو «أخشيد». كما يُلقب ملك الحبشة بالنجاشي، وملك الروم بقيصر، وملك الفرس بكسرى. وكان الأخاشيد الذين يتولون أجزاء كورة فرغانة كثيرين. فلما دخلت في حوزة المسلمين وألحقوها بإمارة خراسان، لم تبقَّ بها حاجة إلى ملوكها المذكورين، ولم يعترضهم المسلمون في دينهم أو عاداتهم أو شيء من أحوالهم، فبقي أكثرهم في البلاد يتمتعون بالسكينة والعيش الهنيء في ظل المسلمين، ونزح بعضهم إلى قلب المملكة الإسلامية في العراق، فتقربوا إلى بلاط الخلفاء وخدموهم واعتنقوا الإسلام وتولوا الأعمال، وأشهرهم الأخشيد طغج بن جف صاحب مصر.