المعتصم و«سامرا»
ظلَّت جهان واقفة تنظر إلى الأفشين حتى غادر غرفتها، فرفعت بصرها إلى صورة مطرزة على ستارة الحائط تمثِّل وجه أبيها، وتنهَّدت تنهدًا عميقًا وأحسَّت بضعف مفاصلها كأنها خارجة من عمل شاقٍّ فألقت نفسها على الكرسي، والْتفتت إلى ما حولها وناجَت نفسها قائلة: «آه يا جهان، أواه يا عروس فرغانة! ما الذي دهاني في هذين اليومين؟» مات أبي، وحسَّنت السفر لحبيبي. ولكن لا بأس من سفره حتى لا يعلم بما يضمره ذلك الشيخ الجاهل — قبحه الله من ملك صعلوك وتبًا له من قائد مغرور! أيطمع في جهان وهي أبعد عنه من الثريا؟ ما لي لم أقل له إن قلبي لضرغام؟ ولكني لو قلت ذلك لعرضت حبيبي للخطر. حبيبي ضرغام أين أنت؟!» ولما ذكرت اسمه وتذكرت بعده عنها انقبضت نفسها واستسلمت للبكاء؛ فأطلقت لدموعها العنان وهي تحاذر أن يسمع صوت بكائها أحد، وكأنها نسيت نفسها وهوَّن عليها البكاء آلامها فأغرقت فيه. وفيما هي في ذلك أعادها إلى نفسها أن سمعت وقع خطواتٍ مسرعة نحوها، فالتفتت فإذا بالقهرمانة دخلت مذعورة وقد فتحت ذراعيها كأنها تهم بأن تضمها إليها، فترامت جهان بين ذراعيها وقد أخذها الخجل لما بدا من ضعفها فابتدرتها خيزران قائلة: «ما بالك يا سيدتي، ماذا أصابك؟»
فقالت وهي تتجلد وتمسح دموعها: «أتستغربين بكائي يا أماه وقد فقدت أبي بالأمس؟ إن مصيبتي بفقده مضاعفة!»
ولم تكن خيزران غافلة عما دار بين جهان والأفشين وإن لم تسمعه، ولكنها أدركت شيئًا منه لما رأت وجه الأفشين عند خروجه فقالت: «صدقت، إن وفاة سيدي المرزبان رزء عظيم، خصوصًا إذا خلفه مثل هذا الوصي!» وغصَّت بريقها وهمَّت بجهان فضمتها وقبَّلتها وقالت: «أنا أعلم سبب بكائك فلا تهتمي، واعلمي أني أضحي بحياتي في خدمتك، وكذلك كل أهل القصر بل أهل فرغانة جميعًا يفدونك بأنفسهم.»
فتخلصت جهان من بين ذراعي خيزران بلطف، وأشارت إليها أن تقعد إلى جانبها، فجلست وهي ترمق جهان ولا ترتوي من النظر فرأت وجهها تغير من الحزن والقنوط إلى الاهتمام والجد وأطرقت وبدا التفكير في عينيها وجبينها. وطال سكوتها وخيزران مصغية تنتظر ما يبدو منها وما تريد أن تقوله، وأخيرًا وقفت جهان فجأة ونظرت إلى خيزران نظرًا حادًّا وقالت: «لا مقام لي بهذه الديار بعد الآن!»
فصعقت خيزران عند سماعها ذلك منها ووقفت وصاحت قائلة: «ماذا تقولين؟!»
قالت: «ينبغي أن أترك هذا القصر، يجب أن أسافر حالًا.»
قالت: «وإلى أين؟ كيف تتركينه وفيه كل مالك وقد رُبيت فيه؟! لمن تتركينه؟»
قالت: «أتركه للطامعين فيه. أتركه للأفشين والموبذ!»
قالت وقد اصفرَّ وجهها وجلًا: «كيف تتركينه وفيه ثروتك وأنت صاحبة الأمر والنهي فيه؟!»
قالت والحزم بادٍ في محياها: «لا تهمني الثروة ولا الأمر والنهي، وما الفائدة من الجدران والأشجار والأحجار؟ ليست السعادة بهذه الأمور.»
فأدركت أنها تشير إلى ما تخشاه من مطامع الأفشين وهي بعيدة عن ضرغام، فقالت: «إذا كان ذلك الرجل قد أساء إليك فانبذيه نبذ النواة. لا تعيريه الْتفاتة فأنت سيدة في قصرك ولن يجرؤ على إخراجك منه.»
فنظرت إليها شزرًا وقالت: «هل هو يريدني أن أبقى فيه وأنا التي أطلب الذهاب.»
قالت: «كيف تذهبين يا سيدتي وإلى أين؟»
فأطرقت ثم قالت: «إني ذاهبة. نعم ذاهبة … لا محالة. وأما أنت فامكثي هنا!»
فقطعت خيزران كلامها وقالت وهي تشرق بدموعها: «أنا أبقى؟! وماذا أفعل هنا من غيرك؟ إني بين يديك حيثما تذهبين. وإنما أردت أن أعلم الجهة التي تقصدين.»
قالت: «إني ذاهبة إلى العراق.»
قالت: «إنك تقولين ما يسهل لفظه ويصعب فعله، أتعلمين المسافة بيننا وبين العراق؟»
قالت: «لا أعلم، ولكني سأذهب إليها.»
قالت: «إنك حكيمة لا تقدمين على أمر إلا بعد التفكير، فهل تعلمين أن بيننا وبين العراق مسيرة بضعة أشهر، يُقطع معظمها في البراري الخطرة التي لا يستطيع سلوكها إلا القوافل المحروسة لكثرة اللصوص وقاطعي الطريق؟»
قالت: «مهما يكن من الأمر فإني ذاهبة إلى العراق.»
قالت: «تبصري يا سيدتي، أو يا حبيبتي، وأشفقي على شبابك ولا تعرضي نفسك للهلاك … إن القاصد إلى العراق ينبغي له أن يقطع صحاري قاحلة يكثر فيها اللصوص من التركمان وغيرهم، وكثيرًا ما يعترضون قوافل التجار الذاهبة إلى خراسان أو فارس فيقتلون أصحابها ويسلبون أموالها فكيف تسافرين أنت فيها؟»
قالت: «أسافر كما يسافر الناس. وسندبِّر وسيلة للسفر.»
فلما لم ترَ حيلة لإرجاعها عن عزمها قالت: «إذا كنت تذهبين إلى العراق خوفًا من الأفشين فالعراق مقره وهو صاحب النفوذ هناك.»
قالت: «لست أخافه هناك، فإن يد الخليفة فوق يده، وهناك ضرغام أيضًا.» قالت ذلك وسكتت لحظة ثم استأنفت الكلام قائلة: «لا أعني أن أستعين بضرغام عليه ولكنني ألقى هذا الشيخ الجاهل في بلد يُسمع فيه صوت الحق. إنه يغلبني هنا بجنوده ولكنه هناك لا يقدر على ذلك، فلا تحاولي أن ترجعيني عن عزمي.» ومشت إلى الباب فتبعتها خيزران وقد أخذتها الدهشة ولم تتمالك عن البكاء.
أما جهان فمشت مسرعة نحو غرفتها لا تلتفت يمينًا ولا شمالًا وقد تمثَّلت فيها الشجاعة وثبات الجنان، ولم تجرؤ خيزران أن تعترضها ولا أن تدخل في أثرها فتباطأت في مشيتها. وإذا بجهان تناديها من الداخل، فأسرعت إليها فرأتها جالسة على سريرها والحيرة تتجلى في عينيها رغم ما في جبينها من دلائل العزم الصادق، فلما دخلت ابتدرتها جهان قائلة: «ألم يَعُدْ سامان بعد؟»
قالت: «كلا يا سيدتي، لم أشاهده هذا الصباح.»
فهزَّت رأسها وقالت: «تعالي، اجلسي بجانبي يا أماه.»
فجلست خيزران وهي تتهيَّب النظر إليها، فقالت جهان: «احذري أن يعلم أحد سبب سفري، وأوصي المهتر (قيِّم القصر) بأن يستمر في تعهد أموالنا ومغارسنا، وأخبريه أننا خارجون إلى بلد قريب …»
قالت: «سأفعل ذلك يا مولاتي … ومتى السفر؟»
قالت: «في أقرب وقت. وقبل انقضاء عدة الحداد وهي لا تزال طويلة وسأحدده لك. إنما أرجو منك أن تعدي ما ينبغي حمله من الأمتعة فإننا على سفر طويل.»
فأشارت برأسها مطيعة وسكتت تنتظر ما يأتي به الغد، وإن كانت لا تتوقع رجوع جهان عن عزمها لما خبرته من إقدامها وثباتها وحزمها فتركتها في الغرفة وحدها وخرجت.
قضت جهان بقية اليوم تفكر في أخيها سامان لاحتياجها إلى صحبته في ذلك السفر الطويل وهي تعلم أنه لا يقل عنها رغبة فيه. وأصبحت في اليوم التالي فإذا سامان يقرع باب غرفتها فابتدرته بالعتاب على غيابه فقال: «إذا كان غيابي عنك يومًا واحدًا قد أقلقك فكيف إذا غبت عنك أشهرًا؟»
قالت: «هل اعتزمت السفر؟»
قال: «وفيم الإقامة ببلد حُرمت من خيراته فأنا غريب بين أهلي! أما أنت فإنك وريثة القصر والمال فامكثي ودعيني أضرب في الأرض.» قال ذلك وهو يتظاهر بالحزن فلم يفُتها قصده ولكن سفره وافق هواها فقالت: «وما قولك إذا سافرنا معًا؟»
قال: «أعازمة على السفر أيضًا؟»
قالت: «نعم.»
قال: «لا أرى باعثًا على شكرك إلا إذا كنت تقصدين العراق وهناك ضرغام حبيبك.»
قالت: «نعم أنا عازمة على السفر إلى العراق. وأنت؟»
قال: «ولكن مثل هذا السفر لا يتأتى إلا بعد التأهب الكافي، ولا بد لنا من صحبة قافلة؛ لأن الطريق وعر وطويل.»
قالت: «دبِّر ما تراه وليكن في القريب العاجل.»
فأبرقت أسرَّة سامان وهو إنما بدأ بتلك المقدمة ليسمع هذه الخاتمة لحاجة في نفسه طالما سعى في قضائها، ولولا رغبة جهان في السفر فرارًا من الأفشين لانكشف لها غرض أخيها، ولكنها تعامت وتجاهلت رغبة في النجاة، والإنسان كثيرًا ما يطغى غرضه على تعقله، فعهدت إلى سامان بتدبير أمر السفر وأخذت هي وخيزران تستعدان في الخفاء.»
•••
وكان المعتصم قد ترك بغداد وبنى مدينة «سر من رأى» أو «سامرا» على مسافة خمسين ميلًا شمالها، ليقيم بها رجاله الأتراك وغيرهم، فكانت المدينة الثانية من مدن بني العباس، وقسَّمها إلى قطائع أقطعها لرجاله وهم فرق تنتسب كل فرقة منهم إلى مواطنها التي حُملت منها، فقد حُمل بعضهم من سمرقند وهم الأتراك، وبعضهم من فرغانة، وبعضهم من أشروسنة أو غيرها، وجعل على كل جماعة قائدًا. وأشهر قواده الأفشين وأصله من أشروسنة، وأشناس وكان في الأصل مملوكًا لبعض قواد المعتصم فابتاعه ورقاه، وأيتاخ، وسما، وكانا مملوكين أيضًا.
ولما استقر رأيه على بناء «سامرا» أحضر المهندسين والفَعَلة والبنَّائين وأصحاب المهن من النجارين والحدادين، وأمر بحمل الساج والخشب والجذوع من البصرة وبغداد وسائر السواد، ومن أنطاكية وسائر سواحل الشام، وأحضر الرخام من اللاذقية.
وأقام قصره وسط المدينة وبجانبه المسجد الجامع، واختطَّ الأسواق حول المسجد، وجعل كل تجارة منفردة في سوق على نحو ما فعل المنصور في بغداد، وأفرد لقواده قطائع أبعدها عن قصره وعن منازل الناس وأهل الأسواق، فأقام أشناس في محلة بأقصى شمال المدينة على بضعة أميال من قصره سمَّاها الكرخ على اسم كرخ بغداد. وأقام الأفشين في الطرف الجنوبي في مكان يُسمى المطيرة على نحو تلك المسافة من قصره. وأنشأ للفراغنة قطائع أقرب إليه من سواهم. وكذلك الأتراك والخراسانية والمغاربة. وأمر قواده أن يبنوا المساجد والأسواق في قطائعهم لرجالهم. وجعل لسامرا شوارع موازية لمجرى دجلة تقطعها دروب وأزقة أكبرها الشارع الأعظم يمتد من المطيرة شمالًا على موازاة دجلة إلى الكرخ، وتمتد قطائع الناس يمنة ويسرة على هذا الشارع وتتصل إليه بدروب وأزقة تنفذ إلى دجلة. وفي هذا الشارع كان ديوان الخراج وقصر المعتصم والمسجد وسوق الرقيق. ويلي الشارع الأعظم شارع آخر على موازاته يعرف بشارع أبي حمد.
وبنى على دجلة جسرًا يوصل الشاطئ الشرقي بالغربي، وأقام في هذا الجانب العمارات وغرس البساتين وحفر الآبار واستقدم من كل بلد أصحاب الأعمال اللازمة للعمارة، فاستقدم مهندسي الماء وصنَّاع القراطيس من مصر، وصناع الزجاج والخزف من البصرة، وأنزل أهل كل مهنة وصناعة مع عيالهم، وجعل الأبنية قصورًا حولها البساتين وبينها الميادين. ولما تسامع الناس ببناء هذه المدينة تقاطروا إليها للبيع والشراء، وزاد فيها الواثق والمتوكل وغيرهما ممن خلف المعتصم كثيرًا من الأبنية الفخمة.
وكان في جملة أبنية الفراغنة بقرب قصر المعتصم بيت متوسط الحجم قائم في حديقة حولها سور، له باب مطلٌّ على دجلة وعنده نخلتان. ولم يكن أهل سامرا يعرفون شيئًا عن أهل هذا البيت؛ إذ قلما كانوا يرون فيه أحدًا غير الخدم الذين يخرجون إلى السوق في حوائجه، على أن القواد كانوا يعرفون أنه منزل القائد ضرغام وكانوا يعجبون لرغبته عن زخارف الحياة خلافًا لسائر القواد أو الأمراء الذين كانوا يستكثرون من الحاشية والموالي والمماليك. وكان أكثرهم يظنونه وحيدًا فيه، وربما زاره بعضهم أثناء إقامته بسامرا. أما بعد سفره الأخير فإنهم انقطعوا عنه إذ لم يبقَ في البيت أحد إلا امرأة مكفوفة البصر هي أمه ومعها جارية عجوز تخدمها اسمها مسعودة.