المعتصم والأسد
نهض ضرغام في صباح اليوم التالي، فقبَّل يد أمه وأفطر، ثم ارتدى الثياب التي يدخل بها على الخليفة وأهمها: القلنسوة حولها العمامة، والسواد وهو الجبة السوداء الخاصة بالعباسيين وتحتها القباء والسراويل. وتقلَّد السيف، ثم ركب جواده، وركب وردان في أثره، وسارا يلتمسان قصر الخليفة.
وكان قصر المعتصم في الجانب الشرقي من سامرا، ويُقال له الجوسق، ويحتوي على أبنية عدة يضمها سور واحد. وقد قُلِّد في بنائه طراز الأكاسرة في المدائن؛ فجُعل بابه الخارجي مثلث القناطر؛ القنطرة الوسطى كبيرة لمرور الفرسان، وإلى كلٍّ من جانبيها قنطرة صغيرة يمرُّ تحتها المشاة. ويستطرق الداخل إلى حديقة كبيرة بها أبنية كثيرة أكبرها البناء الذي يقيم به المعتصم، وبقية الأبنية للحاشية وفي جملتها بناء للأضياف وآخر للسباع. فقد كان المعتصم مولعًا باقتنائها وكثيرًا ما يخرج لاقتناصها.
وصل ضرغام إلى ذلك القصر في الضحى، فلما أقبل على الباب وقف له الحرس وحيوه، فدخل على جواده، وترجَّل وردان وقاد فرسه في أثره أما ضرغام فلم يترجل حتى دنا من قصر الخليفة فأخذ وردان فرسه وساق الفرسين إلى الإصطبل، فرحَّب الحاجب بضرغام، ولما سأله عن المعتصم قال: «لقد خرج أمس للقنص ولم يَعُدْ بعد.»
قال: «وهل تظنه يعود الآن؟»
قال: «لا يلبث أن يأتي.»
فأدخله الحاجب إلى قاعة يستريح فيها، ووقف بين يديه وأخذ يرحب به ويسأله عن سفره، فطمأنه وسأله عن الأحوال الجارية لعله يفهم سبب طلبه فلم يجد ما يشفي غليله. ومكث وهو يتشاغل بمشاهدة ما أُحدث في القصر من الرياش الجديد. ثم رأى أن يخرج إلى الحديقة يتفرج على ما فيها من الأشجار والرياحين فرافقه الحاجب إلى بعض أطرافها وإذا بأهل القصر في هرج ومرج وصاح بعضهم: «عاد الخليفة.» فتحول القوم نحو الممر المؤدي إلى القصر وأخذت طلائع الموكب تتقاطر بين فرسان ومشاة، ثم أقبل الخليفة على جواده وعليه لباس الصيد فوق الدرع التي يلبسها إذا خرج للصيد خوفًا من وثوب السباع أو غيرها من الضواري.
وكان المعتصم ربع القامة طويل اللحية أبيض أصهب مشربًا حمرة تلوح الشجاعة في وجهه وتتجلى القوة العضلية في بدنه. وبلغ من قوته أنه كان يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات. وإذا اعتمد بإصبعيه السبابة والوسطى على ساعد إنسان دقَّه. وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقًا ويشد على الدينار بإصبعه فيمحو كتابته. وكان غضوبًا شديد النقمة منصرف الهمة إلى ركوب الخيل واللعب بالصوالجة. فلما وصل إلى باب القصر ترجَّل وحيَّا الوقوف وأكثرهم من القواد والفرسان، فوقع بصره على ضرغام فهشَّ له وحياه فأسرع ضرغام إليه وهمَّ بتقبيل يده. فمنعه وقال: «أنت هنا!»
قال: «جئت يا مولاي طوعًا لأمرك.»
قال: «وددت لو كنت البارحة معي في هذا الصيد.»
قال: «وأنا أشتهي ذلك يا أمير المؤمنين … لا زلتَ ظافرًا غانمًا.»
وبعد أن حوَّل الخليفة وجهه نحو القصر رجع كأنه تذكر شيئًا وأشار إلى الوقوف فانصرفوا واستبقى ضرغامًا، وقال له: «سأذكر لك الآن شيئًا يسرك؛ فقد اصطدت أسدًا هائلًا، ولا أرى أسدًا إلا تذكرتك؛ لأنك تُسمى ببعض أسمائه.» ثم أشار إلى الحاجب فوقف بين يديه فقال له: «قل لأصحاب الصيد أن يأتوا بالأسد إلى تلك المصطبة.» ومشى الخليفة إلى مصطبة في بعض جوانب الحديقة وهو يراعي ضرغامًا ويكلمه، واغتنم فرصة الانتظار وأخذ يسأله عن سفره قائلًا: «عسى أن تكون قد وُفقت في هذه الرحلة إلى ما يسرنا.»
قال: «صدعت بأمر مولاي فرافقنا توفيقه فابتعنا الجواري …»
فقطع كلامه قائلًا: «أنت ابتعتهن؟»
قال: «كلا يا مولاي، فليس لي أن أكون تاجرًا، ولكنني ساعدت الجماعة في ابتياع ما يلزم وسيصلون هنا عما قليل، وإنما تعجلت المجيء طوعًا لأمر أمير المؤمنين.»
فلما قال ذلك بدا الاهتمام في وجه المعتصم وأطرق ثم قال: «سنتكلم في هذا بعد قليل.» والْتفت إلى باب الحديقة فأبرقت أسرته، وأشار إلى ضرغام فالْتفت فإذا بجماعة يحملون قفصًا من قضبان الحديد على أعمدة. وفي القفص أسد هائج يكاد الشرر يتطاير من عينيه. فقطب ضرغام حاجبيه تهيبًا وكأن شيئًا جاش في خاطره؛ إذ تمثَّلت له الشجاعة في وجه ذلك الحيوان المفترس.
فلبث المعتصم واقفًا، فلما اقتربوا بالقفص أمرهم بوضعه، فوضعوه أرضًا والأسد يزأر زئيرًا تصطك له المسامع، فقال المعتصم: «إنه يزأر من شدة الألم؛ لأني رميته بنبل أصاب ليته، وأخشى أن يموت منه. مع أني أحب أن يبقى حيًّا لأتمتع بلذة هذا الصيد كلما رأيته.» قال ذلك ومشى إلى القفص وضرغام بجانبه إلى الوراء تأدبًا حتى أصبحا على بضع أذرع من الأسد. وكان بيد الخليفة نبل ليس معه من الأسلحة سواه؛ لأن صاحب لباسه أخذ أسلحته ساعة وصوله واستبقى النبل بيده يتشاغل به. فلما دنا من القفص أخذ يداعبُ الأسد ويشير إليه بالنبل كأنه يهمُّ بضربه والأسد يزأر ويتململ والدم يقطر من ليته وقد جمد بعضه على صدره وقائمتيه واحمرَّت عيناه وتناعستا، فظنَّ المعتصم أنه سيموت فرمى النبل عليه لمداعبته، فأصاب عينه فهبَّ الأسد غضبًا وألمًا ووثب يطلب الخليفة فلطم رأسه قضبان الحديد فارتدَّ وقد اشتد غضبه كأنه جُنَّ، والمعتصم وضرغام ينظران إليه مستهزئين وقلباهما يخفقان، فإن للأسد رهبة حتى في حالة الاحتضار.
وفيما هم في ذلك وضرغام يتفرَّس في الأسد راثيًا لما أصابه إذا بالأسد يضرب جانب القفص برأسه ضربة قوية حطَّمت منه قضيبين وأحدث فرجة نفذ منها خارجه، فذُعر الناس وفرُّوا مسرعين يطأ بعضهم بعضًا، ما عدا ضرغامًا والخليفة. ولم تكن إلا لحظة حتى هجم الأسد على الخليفة ممسكًا ذراعه بمخالبه، وفتح فمه وهمَّ بأن يلتقم رأسه، فبغت المعتصم، وذهبت قوته وأيقن بالهلاك؛ إذ لم يجد شيئًا يدفع به عن نفسه ولا وسيلة للنجاة من براثن الأسد وقد ولَّى الناس فرارًا ورعبًا. على أن ضرغامًا ثبت في موقفه وانقضَّ على الأسد فقبض على فكه الأسفل بيد وعلى الأعلى باليد الأخرى، وهو يقول: «لبيك يا مولاي. سلمت بإذن الله.» وما عتم الخليفة أن سمع تمزق شدقي الأسد. وشعر بأن ذراعه تخلَّصت من مخالبه ثُمَّ رآه يهجم على ضرغام، ولكن هذا استلَّ خنجره ومضى يطعنه في ليته وخاصرته وتحت إبطه، وقد غلبت عليه سورة الغضب حتى أصبح منظره أشبه رهبة من الأسد، فوقف شارباه واحمرَّت عيناه وتقطَّب حاجباه.
وكان الجمود قد استولى على الحاضرين، ولكنهم لما رأوا الأسد مضرجًا بدمه وضرغام فوقه والخليفة واقف وعيناه شائعتان إلى ضرغام تقاطروا راجعين، وعلا صياحهم يهنئون الخليفة وينظرون إلى ضرغام معجبين. وابتسم المعتصم لضرغام والاصفرار غالب على سحنته من أثر البغتة، وقال: «بورك فيك يا ضرغام … إنك والله ضرغام حقيقة!»
فلما سمع إعجاب الخليفة به رجع إلى رشده فوقف والخنجر في يده يقطر دمًا. فرماه وقال: «إني عبد أمير المؤمنين ولم أفعل شيئًا إلا ببركته، وإنه أولى مني بالانتقام من هذا الوحش. ولو انفرد به لقتله ولكنني غلبت على رشدي فلم أستطع صبرًا على ما رأيته من جرأته فنُبْتُ عن مولاي بقتله، وهي جرأة أستغفر لها.»
فأُعجب المعتصم بأسلوبه في الاعتذار وشكره، ورأى أن يؤجِّل ما بقي عنده من الكلام لخلوة يختليانها، وهمَّ بالمسير فأحسَّ بألمٍ في ذراعه من أثر مخالب الأسد ولكنه تجلَّد ومشى وأمر القوم بالانصراف، وتحول ضرغام إلى قصره وأمر الحاجب أن يمنع الدخول عليه في ذلك اليوم إلا للطبيب الذي أمر بإحضاره، فلما أتى هذا وكشف عن الجرح لم يجده يستحق الاهتمام؛ لأن الدرع صانت موقع المخالب. فهنأه بالسلامة وأشار عليه أن يلزم الفراش بقية ذلك اليوم.
•••
وتسامع أهل الجوسق بما وقع للخليفة، فتقاطر الوزراء والقوَّاد للسؤال فأنبأهم الحاجب بما أوصاه به فرجعوا. ثم دعا ضرغامًا إلى مخدعه فدخل بعد أن غسل يده وأصلح من شأنه، فتحفَّز المعتصم للوقوف له إظهارًا لإعجابه، فأكبَّ ضرغام على يده يقبلها، ثم أمره الخليفة بالجلوس بجانبه فجلس متأدبًا، فقال له: «إن حياتي الآن من يدك يا ضرغام.»
فأطرق ضرغام استحياء وقال: «عفوك يا مولاي، إني لم أفعل ما يستحق هذا الإطراء فإنما نبل أمير المؤمنين أردى الأسد من قبل، وما وثوبه هذا إلا من حشرجة الاحتضار. وهب أني أتيت شيئًا فأنا عبد أمير المؤمنين أفديه بدمي.»
قال: «بورك فيك. إني لطالما أُعجبت ببسالتك وإخلاصك وأنا محاط بالمداهنين والمملقين لا أثق إلا بقليلين، وإن كنت أظهر وثوقي بهم جميعًا. وإن قائدًا مثلك يندر في بلاط الخلفاء في مثل هذا الجيل الفاسد. ولم أكن أجهل إخلاصك من قبل؛ ولذلك جعلتك رئيس حرسي، فأنت جدير بهذا المنصب ولا يليق إلا بك.» ثم الْتفت إلى الباب ثم إلى النافذة كأنه يتفقد المكان ليتحقق خلوه من الرقباء وأطرق وضرغام ساكت يسترق النظر إليه، ثم رفع المعتصم رأسه وقال: «أتعلم لماذا استعجلت مجيئك من فرغانة؟» قال: «كلا يا مولاي.»
قال: «أتعلم أن دولتنا قامت على كتم الأسرار؟»
قال: «نعم أعلم ذلك، وليتأكد مولاي أني أحفظ لسرِّه من صدره.»
قال: «إني وثقت بك لإخلاصك وحسن بلائك منذ رأيتك للمرة الأولى وقد شعرت بشيء حببك إليَّ.»
فتحفز ضرغام للوقوف إجلالًا وشكرانًا وقال: «تلك منة لا أستحقها، ومن أين لجندي مثلي أن ينال هذه الحظوة عند أمير المؤمنين؟! وأي فضل لي إذا أخلصت الخدمة لخليفة الرسول؟ أليس ذلك فرضًا على كل مسلم؟!»
فقال وهو يقعده بيده: «بلى. إن ذلك فرض على المسلمين ولكن المخلصين قليلون، ولولا ذلك ما اضطررت إلى الخروج من بغداد وإنشاء هذه المدينة ولا كان ثمة ما يدعو لتجنيد هؤلاء الأجناد من أقصى تركستان وفرغانة لأستعين بهم على قومي وعشيرتي، وعلى أولئك الفرس الذين أطمعهم أخي المأمون في الدولة. إني محاط بالأعداء من كل ناحية. وكأنه ما كفاني الأعداء الأباعد في أذربيجان وطبرستان حتى ابتُليت بهم في مدينتي وفي قصري! حتى هؤلاء الأتراك الذين جعلتهم بطانتي وعهدت إليهم في حمايتي ونصرة هذه الدولة، لا ينصرونني إلا طمعًا في المال! وأنا إنما أسايرهم وأخادعهم وأنفق الأموال فيهم، وهم يظنون أنهم يخدعونني!» وسكت وبدا الجد في عينيه فأبرقتا بريقًا يوهم الناظر إليهما أن الدمع يغشاهما فتهيَّب ضرغام من ذلك وأطرق ينتظر ما يبدو من الخليفة فاستأنف هذا كلامه وقال: «ضرغام، هل رأيت الأفشين في فرغانة؟» قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «وما الذي ذهب به إلى هناك؟»
قال: «لم يخبرني عن سبب ذهابه، ولكنني أظنه ذهب ليتعهد بلده وأهله في عيد النيروز. وأظنه قادمًا قريبًا.»
قال: «إنه قادم لا شك؛ لأنه لا يجد رزقًا أوسع من هذا ولكن …»
قال: «وهل أمير المؤمنين في ريب من إخلاصه؟»
فقال: «إني أكاد ألمس ذلك بيدي ولكني أغالط نفسي وأظهر الثقة به؛ لأننا في حرب لا غنى لنا فيها عن رجاله، وليتني كنت مخطئًا، فالذي أبغيه منك الآن أن تكون موضع سرِّي وألا تفارق قصري.»
فأجابه على الفور: «إني عبد أمير المؤمنين وطوع إشارته.»
قال: «أنت منذ الآن صاحبي، فإنه وإن كان اسمك أليق الأسماء ببسالتك فقد اخترتُ لك اسم «الصاحب»؛ لأنك مصاحبي. فهمت يا صاحب؟»
فحنى ضرغام رأسه شكرًا وقال: «لقد تكاثرت عليَّ نعم أمير المؤمنين، ولا أراني أهلًا لها ولكنه أراد أن يرفع صنيعته و…»
فقطع الخليفة كلامه قائلًا: «كيف لا تكون أهلًا لذلك وقد أنقذتني من براثن الأسد؟!»
فأطرق ضرغام استحياء وقلبه يرقص طربًا لما يتوقع من فرح جهان بارتفاعه في نظر الخليفة، وبأنه صار أهلًا لها بحق — والمحبون إنما يطلبون العلا إرضاء لأحبائهم — ونظر إلى الخليفة وقال: «لم أعد أستطيع الشكر على نعم مولاي.»
فقال: «إذا كنتَ تعدُّ هذه نعمًا، فكيف بما أعددته لك من النِّعَم الحقيقية؟»
فظلَّ ضرغام ساكتًا واستأنف الخليفة الكلام قائلًا: «علمت أنك لم تتزوج بعد وأنك تقيم مع والدتك. فأردت أن تقيما بقصر خاص بجوار هذا القصر، وقد آن لك أن تتزوج. أليس كذلك؟»
فأطرق ضرغام أدبًا وقال: «الأمر لمولاي.»
قال: «لقد استحسنت لك جارية تركية عرفت فيها الذكاء والجمال. رأيتها منذ عام وبعض العام فأضمرت أن أزوجك منها.»
فلما سمع ضرغام كلامه سقط في يده؛ لأن قلبه ليس له، وقد أحب جهان ولا يريد أن يحب سواها، ولكنه لم يستطع مخالفة الخليفة ولا استطاع التأمين على قوله، فظلَّ ساكتًا وقد حار في أمره.
فرأى المعتصم حيرته، ولم يدرِ في خلده أنه يمتنع. فقال: «لماذا لا تجيب؟ ألم يرُقك اقتراحي؟»
قال: «كيف لا! إن جوار أمير المؤمنين أمنية الأماني.» وسكت عن الزواج فظنَّه الخليفة سكت حياء فقال: «والزواج … لعلك لست كسائر الناس؟ ليس في جندي واحد لا يتمنى الزواج؛ ولذلك تراني أبعث في ابتياع الجواري لهم من تركستان؛ لأني لا أريد لهم أن يختلطوا بالسوقة ببغداد وغيرها فيغلب عليهم التخنث. أم لعلك تؤثر أن تختار جارية من الجواري اللواتي ابتعتموهن في هذه الرحلة. ولكنك لن تجد في تركستان كلها فتاة أجمل من التي اخترتها لك ولو جهدت. ويكفي أن اختياري وقع عليها. وقوادي يتنازعون عليها لفرط جمالها وذكائها ولكنني قد اختصصتك بها دونهم!»
فلم يجد ضرغامٌ سبيلًا للقبول أو لإبداء ما يجول في خاطره، ثم تشجع وقال: «إننا في حرب أو في تأهب لحرب، ومتى فرغنا من ذلك فإني عبد أمير المؤمنين.»
فاكتفى المعتصم بما سمعه وأعجبه منه تأهبه للحرب فقال: «وهبْ أننا في حرب فلست تفارق قصري. وأت بأمك وأهلك إلى هنا وأخبرها أن اسمك من اليوم «الصاحب»، وسأوصي بطانتي وقوادي وسائر رجال دولتي بذلك.» ثم تزحزح من مكانه فتحفَّز ضرغام للنهوض وقال: «أيأذن أمير المؤمنين في أن أذهب لأخبر والدتي بما أمر؟»
قال: «سِرْ إذا شئت وستهيئ القهرمانة لكم المنزل اليوم.»
فمشى ضرغام ووجهه إلى المعتصم حتى خرج. ثم أرسل إلى وردان فجاءه بالفرس فركبا قاصدين إلى البيت وضرغام تتقاذفه الأفكار، وقد سرَّه إعجاب الخليفة به ودعوته ليقيم بقربه كما ساءه أمر الزواج، ولكنه لم يعلق عليه كبير شأن؛ إذ لا دخل له بالسياسة فيسهل التخلص منه.
فلما وصل إلى منزله تلقَّته أمه بالترحاب، وسألت وردان عن حاله وكانت قد أعدَّت الطعام فجلست معه إلى المائدة، وشعرت من سكوته أن تغييرًا طرأ عليه فقالت: «هل لقيت أمير المؤمنين؟» قال: «نعم يا أماه.»
قالت: «كيف حاله؟ وهل أخبرك بسبب تعجيله باستقدامك؟»
فأبطأ في الجواب؛ لأنه خاف إن قال لها كل شيء أن يخلف الوعد ويبوح بالسر ثم قال: «أخبرني، ولكن حدث أمر غريب.»
قالت: «ما هو؟» فقصَّ عليها خبر الأسد وما كان من دفاعه عن الخليفة، فانشرح صدرها وبان في محياها. ثم أخبرها أن الخليفة غيَّر اسمه وسمَّاه «صاحب»، وذكر لها السبب فازداد سرورها، ثم قال: «وقد دعاني للإقامة بجواره.»
وكانت تهم بلقمة من الرغيف لتتناولها فلما سمعت كلامه ارتبكت وشخصت بعينيها البيضاوين إليه وقالت: «دعاك للإقامة بجواره؟ لماذا؟»
قال: «لأكون ملازمًا له. وذلك إكرام عظيم.»
قالت وقد توقفت عن ازدراد ما فيها من الطعام: «وهل يريد أن أكون أنا معك أيضًا؟»
قال: «نعم فقد قال لي: «تسكن أنت وأمك هنا».»
فتغيَّر لونها وتشاغلت بالمضغ وبان قلقها من تسرعها فيه وقالت: «اذهب أنت وحدك، ولا حاجة بي إلى الإقامة بقصر الخليفة.»
قال: «ولماذا يا أماه؟ إذا كنت لا تريدين الذهاب معي فأنا أيضًا لا أذهب.»
قالت: «اذهب أنت فإن القرب من الخليفة شرف يتمنَّاه القواد، وأما أنا فأمكث هنا على أن تتردد عليَّ حينًا بعد آخر لألمسك وأقبِّلك.»
فعجب ضرغام من استنكافها وإبائها وقال: «بل تذهبين معي فنقيم هناك كما نقيم هنا، وقد وعدت الخليفة بذلك ولا سبيل إلى الإخلاف.»
فوجمت حينًا ثم قالت: «ننظر في ذلك.»
قال: «ليس في الوقت متسع فإننا ذاهبون غدًا، فقولي لمسعودة تستعد، وسأوصي وردان بأن يساعدها. ولا ريب أنك ستأنسين بمَنْ في قصر الخليفة من النساء فتقضين النهار في الحديث أو سماع الغناء. وذلك خير من بقائك وحيدة هنا. هذا فضلًا عن حاجتي إلى وجودك هناك لأمر يهمني.»
فصعد الدم إلى وجنتيها وتغيَّرت سحنتها وأدارت عينيها دورة تكاد تنطق بما اعتراه من الارتباك، وقالت: «أما الاستئناس فلا أبغيه من سواك فأنت تعزيتي الوحيدة لا أطلب سواها، بل أنا أشترط عليك إذا كان لا بد من ذهابي أن يكون لي الخيار في البقاء بالمنزل أو الخروج منه. ولكن ما حاجتك إليَّ وأنا مكفوفة البصر كما ترى؟»
قال: «أنت ضوئي، وستكونين عوني على إنقاذي من السعادة التي أعدَّها الخليفة لي.»
قالت: «إنقاذك من سعادة؟! ماذا تعني؟»
قال: «أعني أن الخليفة خطب لي جارية تركية ذكر أنها أجمل نساء هذه المدينة واختصني بها دون قُوَّاده.»
قالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «أجَّلت الجواب لأني استحييت أن أرفض.»
قالت: «هل نويت الرفض؟» قال: «وهل أقبل؟»
فسكتت وذكرت أنه عالق بجهان فقالت: «وكيف ترفض أمر الخليفة؟»
قال: «وجهان؟ أليست خطيبتي؟»
قالت: «لذلك تريدني أن أكون معك؟ عسى أن أحتال لإنقاذك من هذه الورطة. ذلك شيء يسير.»
فانشرح صدره وقال: «إذن غدًا ننتقل جميعًا. واحذري أن تناديني ضرغامًا فإن الخليفة قد سمَّاني «الصاحب» وقد يستاء إذا دعيتني بغير ما سماني.»
قالت: «لك عليَّ ذلك.» وكانوا قد فرغوا من الطعام فأمرت مسعودة بالتأهب، وأمر وردان بمساعدتها، وفي اليوم التالي انتقل الجميع إلى قصر الخليفة وأقاموا بمنزل بجانبه وليس معهم من الخدم إلا وردان ومسعودة. اكتفاء بخدم الخليفة.