المعتصم والعرب
أظهر سامان أنه يود الذهاب مع ضرغام، ولكن هذا أبقاه هناك ومشى وحده يتعثر بالحصى ويُسمع لوقوع نعاله قرقعة كأن غضبه أعماه عن الخطر الذي يهدده بالسير وحده، ولكنه كان شديد الاعتداد بقوته كثير الاعتماد على بسالته. حتى إذا صار على مرمى سهم من مقر اللصوص، رأى أشباحًا تتراوح بينه وبين المصباح وسمع هرير الكلاب فلم يبالِ. ورآه القوم قادمًا وحده فلم يخطر لهم أنه عدو لعلمهم أن العدو لا يجسر على القدوم وحيدًا، فتصدَّر واحد منهم وصاح: «من هذا؟»
فقال ضرغام: «قادم يبحث عن ضائع … أين كبيركم؟»
ومضت لحظة رأى في أثنائها القوم في حركة وتهامس، ثم تقدم واحد منهم وبيده قبس وقد تلثم بكوفية والْتف بعباءة، فتفرس ضرغام فيه فلم يعرفه ولكنه جعل يده على قبضة سيفه وهو يتحفز للوثوب أو الدفاع ولم يكد صاحب القبس يصل إلى ضرغام حتى قال له: «أهلًا بضرغام، أهلًا بالصاحب.»
فلما سمعه يناديه باسمه خفق قلبه واستأنس به ولكنه لم يعرفه فقال: «من أنت؟»
وكان قد وصل إليه فأزاح اللثام وأدنى القبس من وجهه وقال: «ألم تعرفني؟»
فتفرس ضرغام فيه، ولما عرفه صاح: «حماد؟! ما الذي أتى بك إلى هنا؟»
قال: «أتى بي إلى هنا ظلم صاحبك. تفضل.» قال ذلك وصفر صفيرًا أبطل نباح الكلاب، وفرَّق الرجال الذين كانوا مجتمعين، ومشى وهو قابض على يد ضرغام يرشده إلى الطريق، وضرغام يعجب لما يراه؛ لأنه يعرف حمادًا من وجوه رجال الدولة في سامرا، وقد رآه فيها منذ أسابيع وكان صديقًا حميمًا له، فتبعه مطمئنًّا حتى وصلا إلى بناء قديم حجارته ضخمة وجدرانه مهدمة. ولو تفرس القادم فيما بقي من أنقاضه على ضوء القبس لرأى عليها نقوشًا وصورًا من آثار قدامى الفرس. ولكن ضرغامًا لم ينتبه إلى شيء من ذلك. وإذا بصاحبه قد أوصله إلى غرفة ليس فيها شيء من الأثاث أو الرياش، ولكنه شاهد في أرضها أكياسًا من الحبوب وصناديق فيها الآنية والمتاع كأنها أُخذت من أصحابها التجار في تلك الساعة. فأشار حماد إلى ضرغام فجلس على صندوق وجلس هو على صندوق آخر وقال: «أظنك تعجب لما تراه؟»
فقال: «كيف لا أعجب وقد بلغني عن هذا المكان أنه مأوى اللصوص وأراك فيه كواحد من أهله.»
قال: «بل أنا زعيم أصحابه. ولم أكن لأكاشفك بذلك وأدخلك هذا المكان لولا ثقتي بك ولتعلم مغبة ظلم صاحبك.»
قال: «أتعني أمير المؤمنين؟»
قال: «بل أعني أمير الأتراك والفراغنة، وإذا أحرجتني قلت إنه أمير الكافرين مثل أخيه المأمون.»
فشغل ضرغام بهذا الأمر الغريب عن الغرض الذي جاء من أجله فقال: «إني لا أرى مسوغًا لهذه النقمة، ولولا ما تعلمه من حبي لك ما صبرت على ما أسمعه منك، ولكنني أذكر صداقتك وأحب أن تصرح لي بما يكنه ضميرك عساي أن أذهب ما في نفسك من الغل على الخليفة، ونحن في حاجة إلى رأيك وسيفك وأعداؤنا كثيرون فلا ينبغي أن نتفرق.»
فاعتدل حماد في مجلسه وبان الاهتمام في وجهه وقال: «لا ألومك على دفاعك عن المعتصم؛ لأنه صديق الأتراك والفراغنة، وقد عادى أهله وعشيرته من أجلهم. وأنت الآن صاحبه ومن أقرب المقربين إليه. لا أقول إنك لا تستحق ذلك بل أنت أهل لأكثر منه، ولكنك لو كنت في مكاننا نحن العرب لما قبلت ما يأتيه هذا الرجل من المظالم؛ لم يَكْفِه أنه صادرنا في ديننا وجلَد الإمام أحمد بن حنبل الرجل التقى البار حتى غاب عن رشده وسال دمه وتقطع جلده، ثم قيَّده وحبسه واضطهد كل من لم يقل بخلق القرآن، لم يَكْفِه ذلك حتى قطع العطاء عن العرب كافة، ومنع المسلمين من رواتبهم ولم يفعل ذلك أحد قبله. ولا أذكرك بما كان للعرب من العز والسؤدد في عهد الراشدين والأمويين يوم كان الفرس والترك وسائر الأعاجم يُعدون من العبيد والموالي، ولا يستنكفون أن يكون العرب سادتهم، بل كانوا يتشرفون بالانتماء إليهم. وإنما أذكرك بما كان لهم من الزعامة في صدر الدولة العباسية مع أنها قامت بسيوف الفرس. حتى المأمون الذي حارب العرب وحاربوه لم يُنْقِصْ شيئًا من أعطياتهم كما فعل المعتصم هذا، مع أن المأمون كان معتزليًّا مثله يقول بخلق القرآن ويضطهد الأئمة القائلين بقدمه، ولكنه كان يعلم أن العرب مادة الإسلام وأصل هذه الدولة وروح هذه الأمة. أما صاحبك فقد قطع العطاء عن كل عربي، ولم يفعل ذلك عن فقر أو جدب فإنه ينفق الأموال الطائلة في اصطناع الأتراك والأشروسنية والفراغنة، وقد بنى لهم سامرا وأحضر لهم النساء والجواري وأسال النضار في خزائنهم. ولو كنت أنت أعرابيًّا ما صبرت على ذلك.»
فلم يرَ ضرغام حجة يدفع بها قول حماد؛ لعلمه أنه يقول الحق، ولكن غيرته على المعتصم وإخلاصه في خدمته حملاه على انتحال الأعذار فقال: «لا أنكر عليك ما ذكرته من مواضع النقد على أمير المؤمنين. ولكنك حملت ذلك منه على سوء القصد؛ فهو قطع العطاء عن بعض العرب بعد أن تحقق عداوتهم للدولة، ومنهم من حاربه وجرَّد الجيش عليه. أما الذين يخلصون في خدمته فيبالغ في تقريبهم والإنعام عليهم. هذا القاضي أحمد بن أبي دؤاد لا أزيدك علمًا بمنزلته عند الخليفة وهو عربي. وأنت؟ ألم تكن مقربًا ولك منصب رفيع؟»
فهزَّ حماد رأسه وقال: «أراك تحسن الدفاع عن صديقك الخليفة. وقد أتيت بالقاضي أحمد شاهدًا وهو عربي من بين ألوف قد لحقهم الذل والعار والفقر. أما أنا فقد كان لي منصب وبئس المنصب لو بقي! جعلني سادن الكعبة التي أنشأها في سامرا ليحول المسلمين عن كعبة مكة ويذهب بما بقي للعرب من مصادر الرزق حتى يميت عرب الحجاز؛ لأنهم يرتزقون من الحجاج، فأنشأ الكعبة في سامرا ليغني المسلمين عن الحجاز …»
فقطع ضرغام كلامه قائلًا: «ولكنه ليس أول من فعل ذلك من الخلفاء أو الأمراء؛ فقد حاول ذلك الحجاج والمنصور ولم يفلحا.»
فقال: «وهذا لن يفلح أيضًا؛ لأن بيت الله في مكة فلا يقدر أن يجعله في سامرا.»
•••
ورأى ضرغام أن الحديث قد طال لا يهمه بقدر ما يهمه الأمر الذي جاء لأجله، فأراد أن يختصر الكلام فقال: «ومع ذلك لا أجد فيما ذكرته مسوغًا يجيز لك اللصوصية.»
فقال: «لا تقل اللصوصية. إننا لم نرتكب شيئًا من ذلك على الإطلاق.»
فتضاحك ضرغام وهزَّ رأسه استخفافًا بدفاع حماد. فابتدره هذا قائلًا: «لا تضحك يا صديقي. إننا لا نسرق وما نحن لصوص وإنما نحن نستولي على حقوقنا بأيدينا.»
فاستغرب قوله ونظر إليه وتطاول بعنقه نحوه كأنه يستفهمه فقال حماد: «إن هذه الأموال التي تجدها ملقاة هنا إنما هي حق الفقراء وأبناء السبيل بأمر الله — تعالى — في كتابه، وهي عشور الأموال أو أخماس الفيء، فهذه كان الخلفاء في صدر الإسلام يأخذونها من أصحاب الأموال والتجار ويفرقونها صدقة أو عطاء، وقد قطع المعتصم هذه الأعطيات، فهل يموت المسلمون جوعًا لأنهم عرب؟! فنحن إنما نستولي على حقوق الفقراء بالقوة؛ لأن الإمام أراد ضياعنا!»
فتعجب ضرغام لقوة تلك الحجة ولكنه أراد وقف الجدال فقال: «ما لنا وذاك! لقد علمت أنك كنت في سامرا من عهد قريب ولم يقطع الخليفة عطاءك فما الذي حملك على الخروج؟»
فوقف حماد وتنهَّد وتغيَّرت سِحْنته من الغضب إلى الكآبة ونظر إلى ضرغام وقال: «إن ما حملني على هذا الخروج وأثار فيَّ هذه الضغائن أمر أصاب مني مقتلًا، أصاب قلبي فأذهب رشدي؛ فأنا ناقم على الرجل الظالم ما دمت حيًّا.» قال ذلك وقد تصبب العرق من جبينه، فازداد ضرغام رغبة في كشف خبره وتوسَّم من عبارته أنه يشكو من حبيب فارقه فقال: «وما ذاك يا أخي؟ قل وأوجز فإني أتيتك لأمر يهمني كثيرًا فشغلتني بأمورك.»
قال: «مهما يكن من أمرك فلست بالغًا أمري. أحببت جارية لبعض البغداديين وأحبتني، فلما أقدمت على الزواج بها، تصدى لي رجل من خاصة المعتصم اسمه الحارث السمرقندي أظنك تعرفه وطلبها لنفسه وأخذها مني عنوة، فشكوت أمري إلى الخليفة على يد القاضي الذي ذكرته فأجابني بقوله: «ابحث عن جارية أخرى فإن هذه لا تكون لك.» مع علمه بأنها تحبني حبًّا شديدًا.» ثم تنهَّد وقال: «آه يا ياقوته!»
فقال ضرغام: «هل اسمها ياقوتة؟»
قال: «نعم هذا اسمها. فهب أني أغضيت عن كل السيئات التي ذكرتها فهل أقدر أن أغضي عن هذه؟ إني واللهِ ناقمٌ على الخليفة ودولته، وما خرجت لأكون لصًّا وإنما خرجت لأنتقم من هذه الدولة ما وجدت إلى ذلك سبيلًا، وأعداؤها كثيرون.»
فتأثَّر ضرغام من حكاية ياقوتة؛ لأنه واقع في مثلها. والإنسان إنما يشارك الناس في المصائب التي أُصيب بمثلها أو يخشى أن يُصاب بها. فالأعزب لا يشعر بمصاب الآباء بفقد أبنائهم كما يشعر من تزوج وله ولد، ولا يشارك المحب في شعوره إلا الذي جرَّب الهوى. فقال ضرغام لحماد: «هوِّن عليك ولعلي أنفعك في شيء من شكواك. وقد آن لي أن أسألك عن الأمر الذي جئتُ في هذا الليل لأجله فأعرني سمعك واعلم أني أول من يشاركك إحساسك؛ لأني واقع في مثل ما أنت فيه.»
فقال حماد: «قل أيها البطل فإني سامع.»
قال: «لي خطيبة كانت في فرغانة وأنا في سامرا، فركبت مع أخيها وجاريتها، فلما وصلوا إلى همذان هجم عليهم اللصوص واختطفوا الفتاة وجاريتها وجاء إليَّ أخوها بالخبر فأسرعت للبحث عن الجناة فأنبأني صاحب البريد عن هذا المكان فأتيت، فما قولك؟»
قال: «أما نحن فلا نختطف نساء. وقد أخبرتك بما نفعله، وأنا على يقين أنه ليس في هذا الجوار لصوص أو قاطعو طريق.»
قال: «ولكن أخا الفتاة شهد الوقعة وهو الذي نجا من المعركة وأخبرني.»
فهزَّ رأسه هزة الإنكار وقال: «نحن هنا منذ أسابيع، ولم نسمع بحدوث شيء من ذلك وأظن الراوي كاذبًا.»
فانتبه ضرغام إلى ما يعلمه من سوء نية سامان من يوم عرفه فقال: «إن الراوي واقف في مدخل هذه الشعب. وسأستقدمه إليك لتسأله.»
فأشار حماد إلى بعض رجاله أن ينادي الرجل الواقف هناك، فذهب وعاد يقول إنه لم يجد أحدًا. فذهب ضرغام بنفسه فلم يجد سامان. وسأل الدليل عنه فقال إنه مضى إلى حيث لا يعلم. فبعث في البحث عنه فلم يقف له على أثر، فرجح لديه أن في الأمر سرًّا غامضًا وأن الرجل قد يكون كاذبًا فيما رواه حتى عن الأفشين، فقلَّت ثقته بما رواه عن جهان. ولم يرَ بدًّا من الرجوع إلى سامرا، فاستأنف الكلام مع صديقه ونصح له أن يرجع معه فلم يرضَ وقال: «لا أرى في رجوعي فائدة ولو اقتصر ظلم صاحبك على خسارة المال لتحملته ولكنه طعنني في قلبي وأنت تقدر شعوري. فلا تلمني.»
فتذكر ضرغام مصيبته وتصوَّر نقمته على خاطف حبيبته فعذره وقال: «صدقت إني معك فيما ذكرت، ولو علمت أن الخليفة صادرني في خطيبتي لنقمت عليه مثل نقمتك وأشد منها. فافعل ما بدا لك. وعلى كل حال أرجو أن تذكرني ولك مني مثل ذلك.» وأطرق قليلًا ثم قال: «وإذا حدث ما يدعو إلى الاتصال بك أو المجيء إليك فهل أجدك هنا؟»
فأجاب: «لا أعلم أين يكون مقري بعد الليلة، وما قيامي هنا إلا إلى أَجَلٍ موقوت. وأنا إذا وُفقت إلى أمر يسرُّك وأردت أن أراك فأين تكون؟»
قال: «في سامرا.»
•••
ودَّع ضرغام صاحبه وهو يفكر فيما سمعه، وصورة جهان لا تذهب من مخيلته؛ لأنه في المكان الذي قِيل له أنها أُخذت فيه والليل مظلم مثل ظلام الليلة التي خطفت فيها. فتصور حالها وهم يقبضون عليها وتوهم أنه يسمعها تستغيث به وتناديه باسمه فاقشعرَّ بدنه وحرق أسنانه. وقضى في تلك الهواجس مدة وهو يتلمس ذلك الطريق الوعر على هدي الدليل يسير بين يديه حتى أدرك محطة البريد فركب وعاد إلى سامرا. وطريق البيت في الرجوع إليه أقصر منها في الخروج منه ولكن ضرغامًا استطال الطريق واستبطأ وصوله لشدة رغبته في ملاقاة وردان لكي يستشيره في الأمر وقد تعوَّد ذكاءه وصدق فراسته.
وأشرف ضرغام أو الصاحب على سامرا نحو الغروب والشمس تقابله وقد ضعف نورها وتبددت أشعتها واحمرَّ لونها وتكوَّر شكلها وتعاظم حرُّها فظهرت كأنها كرة من نار سابحة في ضباب من دم. ونظر إلى أبينة سامرا وأعظمها قصر الخليفة والمسجد الأعظم ومنارته تناطح السحاب. ويخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب نهر دجلة وعلى ضفافه أشجار النخيل واقفة وقوف الجند يحملون سهامهم في عمائمهم. فشغله منظر الطبيعة عما في نفسه فأحسَّ بارتياح فوقف هنيهة والبريدي على بغلته إلى جانبه لم يدهشه ذلك المنظر؛ لأنه تعوده، والنفس يختلف تأثرها بمناظر الطبيعة باختلاف حالها. والمحبون أكثر الناس مشاركة للطبيعة في أحوالها.
وأحسَّ ضرغام بميل إلى الانفراد هناك، فأشار إلى البريدي أن يسبقه إلى سامرا فأطاع، وبقي ضرغام وحده يراقب الشمس ساعة الغروب وهي تتراءى لعينيه من وراء جذوع النخل عن بعد، بألوانها القزحية وإن غلب عليها لون الأرجوان، حتى إذا أدركت حافَّتها الأفق استطالت تلك الحافة إلى شبه خرطوم نزل وراء الأفق وهبطت في أثره الهويناء وقد أخذت الظلال تستطيل وتنتشر حتى توارت الشمس وخلَّفت مكانها أفقًا أخذ احمراره في الاكفهرار شيئًا فشيئًا؛ من الدموي إلى الأرجواني فالبنفسجي فالأزرق على اختلاف ألوانه، حتى استحالت الظلال إلى ظلام. فأحسَّ ضرغام بانقباض نبَّهه إلى المسير فوخز الفرس وخزًا خفيفًا فمشى مشيًا بطيئًا حتى تخلل مغارس المدينة من طرفها الأسفل، وتراءى له دجلة في مكان لا يغشاه النخيل فيممه على أن يسير على ضفته إلى الجوسق.
وكان الجو هادئًا، فلما دنا من دجلة عاد إلى تخيله فلج في نيار فكره والجواد يسير على ضفة النهر من تلقاء نفسه، وقد هب النسيم عليلًا، وسكنت الطبيعة، فلم يعد يسمع إلا حفيف الورق ووقع حوافر الفرس. ولم يكن ضرغام يسمع شيئًا لذهوله، وإذا بجلبة فاجأته من ورائه وسمع صوتًا وقع وقوع السهم في قلبه وأجفله؛ لأنه صوت امرأة تستغيث قائلة: «خافوا من الله … اتركوني … يا ناس … اتركوني …» ثم اختنق الصوت. فارتعدت فرائص ضرغام؛ لأن الصوت كثير الشبه بصوت جهان، وتذكر ما أصابها من اللصوص، وتصوَّر أنها استغاثت بمثل الكلام ولم ينجدها أحد فصمَّم على نجدة هذه المستغيثة لعل الله يوفق جهان إلى منجد ينقذها. وسرعان ما ترجل عن جواده وركض إلى جهة الصوت شاهرًا في يده حسامه وهو يقول: «لبيك لبيك. اتركوها أيها اللئام.»
قال ذلك وهو لا يرى أحدًا لشدة الظلام، فخاف أن تكون قد خدعته أوهامه وأن ما سمعه هاتف يمثل له جهان. لكنه ما عتم أن سمع الصوت يقترب منه ورأى شبح امرأة تعدو من ضفة النهر باسطة يديها إليه وتصيح: «بالله أغثني أشفق على حياتي.» ورأى رجلين يجريان في أثرها وقد شهر أحدهما السيف ويقول: «إلى أين تهربين يا خائنة؟! سأقتلك لا محالة.»
فصاح ضرغام: «دعها يا رجل وإلا ضربت عنقك.»
فلم يبالِ الرجل وظلَّ مسرعًا حتى كاد يدرك المرأة، وكانت قد وصلت إلى ضرغام وترامت على قدميه. فلما رآه ضرغام هاجمًا والسيف بيده تناوله بضربة أطارت رأسه فوقع مجندلًا بدمه، وهجم على رفيقه وهمَّ بأن يضربه فرآه أعزل، فأمسك وصاح فيه: «من أنتم؟» فقال: «ما لك ولنا؟ ليس هذا من شأنك. دع الجارية وامضِ في سبيلك وسترى عاقبة أمرك.»
قال: «قف حيث أنت وإلا قتلتك. أو قل لي من أنت وما خبر هذه الفتاة؟»
قال: «إنها جارية هربت من بيت مولاها فبعثنا للبحث عنها فأدركناها هنا وأبت الرجوع فهدَّدها رفيقي تخويفًا لها. ولولاك لرجعت صاغرة ولكنها سبَّبت قتل رفيقي. وسوف تعلم مصيرك.»
فلما سمعت الجارية كلامه وكانت مستلقية على العشب من التعب نهضت وصاحت: «كذبتم أيها الغادرون، ليس الأمر كذلك.»
فلما سمع كلامها شُبِّه له صوت جهان واختلج قلبه في صدره واستبعد أن تكون هي نفسها؛ إذ لو كانت هي لعرفت صوته فقال للرجل: «قل الحق ولا تخوفني بأحد وإلا ألحقتك برفيقك.»
قال: «لا تغتر بما سمعته، إن هذه الجارية هاربة من بيت الخليفة فمن يجسر على حمايتها؟»
قال: «أنا أجسر، دعها وسر في طريقك.»
فصاح الرجل: «من أنت حتى تجسر على ذلك؟»
فحول ضرغام وجهه عنه وأمسك الفتاة بيدها ومشى وهو يقول: «قل للخليفة أو لسواه ممن يدعي السيادة على هذه الفتاة أنها في حماية الصاحب.»
فلما سمع الرجل اسمه تراجع وبهت كأنه صعق ثم قال: «عفوك يا مولاي عن جرأتي؛ إذ لم أكن أعلم أن مولانا الصاحب يخاطبني.» قال ذلك وقفل راجعًا.
أما ضرغام فترك يد الفتاة ومشى إلى جواده وكان لا يزال واقفًا في مكانه، فقاده بلجامه وسار وقال للجارية: «امشي يا بنية لا تخافي. وأخبريني عن حقيقة أمرك فقد سلمت الآن من الخطر.»
فقالت وصوتها مختنق: «أشكر الله إذ أرسلك لإنقاذي، ولولاك لذهبت ضحية الظلم.»
فأطربه صوتها وأحبَّ أن ينظر إلى وجهها وقلقه على جهان يوهمه أنها قد تكون هي بعينها، ولكن الظلام كان يحول دون ذلك فقال لها: «قولي ما خبرك؟»
قالت: «كنت جارية لبعض الناس وأعتقني سيدي لوجه الله. فطلبني شاب عرفني وعرفته وتحاببنا وتواعدنا على الزواج، ثم رآني رجل من بطانة أمير المؤمنين يُقال له الحارث السمرقندي، فتقرَّب إلي وخطبني لنفسه، فأبيت عليه ذلك.»
فلما سمع ضرغام اسم الحارث ذكر ما سمعه من حمَّاد فقال: «وما اسم خطيبك؟» قالت: «حماد.»
قال: «فأنت إذن ياقوتة؟!»
فلما سمعته يذكر اسمها دُهشت وتلعثم لسانها وقالت: «كيف عرفت ذلك يا مولاي؟ هل تعرف حمادًا؟ أين هو؟»
قال: «عرفته ولكن لا سبيل إليه الآن. وسأقصُّ عليك خبره فيما بعد. فأتمي حديثك.»
فلم تعد تعرف كيف تتكلم لشدة فرحها فقالت: «فلما أبيت على الحارث ما أراد وسَّط القاضي أحمد لدى أمير المؤمنين، فطلب الخليفة أن يراني، فلما مثلت بين يديه نظر إليَّ طويلًا ثم أودع أذن القاضي كلامًا وأمرني أن أبقى عند الحارث بلا زواج حتى يبدي رأيه فيَّ. فأخذني الحارث إلى منزله وحبسني وأخذ يحاول إقناعي بأن أقترن به، تارة بالحسنى وطورًا بالتهديد. حتى جاءني منذ بضعة أسابيع وهو يهزأ بي ويقول: «إن خطيبك غادر سامرا.» فلم أصدقه، وعزمت على الفرار إلى حماد وهو على مقربة من قصر الخليفة. فأدركني هذان الرجلان وهما من أعوان الحارث وأرادا إرجاعي، ولما رفضت الرجوع هدداني فصحت الصيحة التي سمعتها وجئت لإنقاذي، جزاك الله عني خيرًا.»
فلما فرغت من حديثها سرَّه أنه أنقذها إكرامًا لصديقه، ولكنه تذكَّر أن حمادًا برح همذان في الليلة التي فارقه فيها ولا يعرف مقرَّه، فظل ساكتًا وهو يفكر في ذلك وصورة جهان أمام عينيه وهو يناجي نفسه: «هل يُتاح لجهان من ينقذها يا ترى كما أنقذت أنا هذه الفتاة؟» ظلَّ برهة يفكر في ذلك وياقوتة ماشية إلى جانبه وقلبها يخفق سرورًا وقلقًا وهي تتوقع أن تسمع منه ما يعلمه عن حبيبها، فلما استبطأته قالت: «وعدتني يا مولاي أن تخبرني عن حماد. هل خرج من سامرا؟»
قال: «نعم، خرج منها كما قال لك الحارث.»
قالت: «وأين هو؟» قال: «لا أدري. وقد لقيته منذ بضعة أيام في مكان خارج بغداد، وأخبرني أنه مسافر إلى حيث لا يعلم، وقد قصَّ عليَّ غضبه من الحارث والخليفة من أجلك. كوني على ثقة أنه شديد المحافظة على ودك.»
فلطمت خدَّها بكفها وقالت: «ويلاه وأين أذهب وأين أبيت وكيف أعرف مقره؟!»
فقال: «لا بأس عليك، إنك تمكثين في منزلي مع أمي حتى يأتي الله بالفرج، فإني على موعد مع حمَّاد أن يكتب إليَّ عند الحاجة؛ لأنه صديقي.»
فقالت: «جزاك الله خيرًا يا سيدي، ولكن …»
قال: «لا تخافي يا أُخية، إنما تكونين مع أمي في خير وأمان لا يمسك أحد بسوء، إن أمي وحيدة في البيت ولا ريب أنها تتخذك ابنة لها وتستأنس بك كثيرًا.»
وانتبهت ياقوتة في تلك اللحظة إلى أنها على مقربة من الجوسق، فوقفت وقالت: «أراني بجانب قصر الخليفة؟»
قال: «إني أقيم بقصر داخل هذا الجوسق.»
فتراجعت وقالت: «أكون إذن في خطر إذا عرف الخليفة بأمري؟»
قال: «كوني مطمئنة. إنك في مأمن عندي.» وكانا قد وصلا إلى باب الجوسق، فلما رأى الحراس ضرغامًا وسَّعوا له وتقدَّم أحدهم فأخذ الجواد إلى الإصطبل. وسار ضرغام مع ياقوتة حتى أتى منزله، فلما رآه الخدم أسرع بعضهم إلى أمه فبشَّروها وأناروا الشموع، فدخل والفتاة في إثره حتى توسَّط الدار، وأوَّل شيء فعله أنه تفرَّس في الفتاة على نور الشموع، وحالما وقع بصره عليها خفق قلبه وبدت البغتة في وجهه لشدة المشابهة بينها وبين جهان، فقال في نفسه: «سبحان الخالق! ما هذه الصدفة؟» وأحسَّ بارتياح إلى الفتاة، وأعجبه ما قرأه في محياها من الهيبة والجمال رغم ما كان يغشاها من الاضطراب. ويكفي لارتياحه إليها مشابهتها حبيبته بالوجه والصوت. وزاده استئناسًا بها ما قاساه في سبيل إنقاذها. والمرء بفطرته يحب الذين يشقى في سبيل راحتهم، ولذلك كان الرجل أكثر انعطافًا إلى أشد أولاده حاجة إليه. وكلما تعب الوالد في سبيل ابنه ازداد تعلقًا به. ولو لم يكن قلب ضرغام مشتغلًا بجهان لتعلَّق بياقوتة.
أما آفتاب فكانت قد تهيأت لاستقبال ابنها، فلما سمعت وقع خطواته أسرعت إليه وقبَّلته. ثم شعرت بحركة في الدار فقالت: «من رفيقك؟» قال: «بل هي رفيقة لك.»
فظنَّت أنه جاءها بجهان فتوجهت ببصرها نحو الحركة التي كانت تسمعها كأنها تستقبل الضيفة وصاحت: «هل هي جهان؟»
فوقع قولها وقعًا شديدًا على قلب ضرغام فتح جراحه فتنهد وقال: «كلا يا أماه ولكنها عزيزة عليَّ؛ لأنها خطيبة بعض أصدقائي.»
ودنت الفتاة من آفتاب وهمَّت بتقبيل يدها فضمَّتها ورحَّبت بها وقالت: «ما اسمك يا حبيبتي؟»
قالت: «اسمي ياقوتة يا سيدتي.»
فلما سمعت صوتها دُهشت وبان الاستغراب حول مبسمها وفي اختلاج عينيها البيضاوين وقالت: «سبحان الله، كأني أعرف هذا الصوت!»
فقال ضرغام: «أظنك تعنين صوت جهان فإنه كثير الشبه به وقد لحظت ذلك منذ سمعتها تتكلم للمرة الأولى.»
فسكتت آفتاب ولم تجبه، وأخذت الفتاة بيدها وأجلستها إلى جانبها وجعلت تضمها وترحب بها والْتفتت إلى ضرغام وقالت: «كيف لقيت هذه الياقوتة، وأين كانت؟»
فقال: «اتفق لي وأنا عائد من المهمة التي أخبرتك عنها أني مررت بأسفل المدينة، فسمعت الفتاة تستغيث من رجلين كانا يحاولان أخذها إلى رجل يريد أن يتزوجها رغم إرادتها، فأنقذتها منهما وجئت بها.»
قالت: «ومن هو ذلك الرجل؟»
قال: «يُقال له الحارث السمرقندي من أعوان أمير المؤمنين.»
قالت: «ولماذا لم تقبله فإنه ذو جاهٍ ومال؟»
قال: «لأنها أحبَّت رجلًا اسمه حماد العربي، ألا تعرفينه؟»
قالت: «أظنني سمعت صوته مرة وقد جاء معك. أين هو الآن؟»
قال: «غائب، وستبقى ياقوتة هنا حتى يعود. هل يسرك ذلك؟»
قالت: «يسرني كثيرًا؛ لأنها تكون تسليتي إذا خرجت أنت في مهمة. ولقد شعرت من هذه اللحظة كأني أعرفها منذ أعوام، أهلًا وسهلًا بك يا حبيبتي.»
•••
وأمرت مسعودة فأخذتها لتبدِّل ثيابها وتصلح من شأنها ثم جِيء لهم بالطعام، فقال ضرغام لأمه: «ألم يأتِ وردان؟»
قالت: «جاء منذ بضعة أيام وسألني عنك فلم أقدر أن أخبره عن مكانك.»
قال: «هل أخبرك بشيء عن الأفشين؟»
قالت: «أخبرني أنه جاء وعسكر خارج سامرا على أن ينتقل بعد بضعة أيام إلينا، وأظن أن وردان قد عاد إليه أو لعله يريد الذهاب إليه غدًا أو بعد غد.»
ولم يطيلوا السهرة الْتماسًا للراحة. وأصبح ضرغام في اليوم التالي وقد عادت إليه هواجسه وأصبح شديد الاهتمام بلقاء وردان ليسأله عمَّا سمعه من أصحاب الأفشين عن جهان.
وفي أصيل ذلك اليوم جاءه رسول الخليفة يطلب حضوره، فلبس سواده وقلنسوته وذهب إليه في دار العامة، فاستأذن ودخل فوجد القاضي أحمد فسلَّم ووقف فاستدناه إليه وأمره بالجلوس فجلس. فقال له الخليفة وهو يبش في وجهه: «متى عدت من السفر؟»
قال: «أتيت مساء البارحة يا مولاي، وكنت عازمًا على المثول بين يدي أمير المؤمنين قبل أن يأتيني رسوله.»
قال: «من لقيت في طريقك؟» ففطن إلى أنه يشير إلى ياقوتة، لعلمه أن الحارث لا بد من أن يشكوه فقال: «لقيت فتاة بين يدي رجلين يعذباها.»
قال: «وهل أنقذتها كعهدك؟ بارك الله فيك.»
فعلم أن الخليفة يشير إلى فضله عليه في إنقاذه من مخالب الأسد، فخجل وتجاهل وقال: «لم أتمالك يا أمير المؤمنين عن إنقاذها. ثم علمت أنها تنتمي إلى بعض رجال الدولة فحملت تبعة عملي طمعًا في حلم أمير المؤمنين وهو ذنب أستغفر له.»
فضحك المعتصم وقال: «لقد اصطدت حلالًا، أنت أولى الناس بإحرازه، كيف رأيت الفتاة؟ أهي جميلة؟»
قال: «لا بأس بها يا مولاي.» قال: «قد وجب عليك إقرارك.»
فلم يفهم ضرغام قصده فابتدره القاضي: «أتذكر أن أمير المؤمنين خطب لك جارية؟» قال: «نعم.»
قال: «هذه هي الفتاة بعينها.» فاستغرب ضرغام ذلك الاتفاق الغريب، وتحيَّر في الجواب فقال القاضي: «إن أمير المؤمنين رأى هذه الفتاة للمرة الأولى منذ أسابيع وقد جاء بها الحارث يخطبها لنفسه، وكان رجل آخر يدعي أنها له، وكنت حاضرًا فقال لي أمير المؤمنين: «إنها تصلح للصاحب.» وأمر الحارث أن يحتفظ بها حتى يطلبها. وفي هذا الصباح جاء الحارث يشكوك؛ لأنك خطفت ياقوتة منه فقال له: «إنها للصاحب، ولا سبيل لك إليها.» فخرج مفحمًا، ولذلك قال مولانا إنك اصطدت صيدًا حلالًا ووجب إقرارك عليك.»
فلم يسع ضرغام إلا الدعاء للمعتصم على الْتفاته إليه وقال: «إن أمير المؤمنين يتصرَّف بعبيده ومواليه كما يشاء.»
فقال المعتصم: «أحرزت أجمل نساء سامرا، بارك الله لك فيها.»
ثم صفَّق، فجاء الحاجب، فأشار إليه إشارة فهمها، وخرج ثم عاد غلام يحمل طبقًا عليه عقد من الجوهر يتلألأ كالشمس، فأشار الخليفة إلى الغلام أن يقدمه إلى الصاحب، فقدَّمه، فبُهر ضرغام من لمعان ذلك العقد ووقف احترامًا، فابتدره المعتصم قائلًا: «هذا عقد تلبسه ياقوتة وتتحلى به.»
فانحنى ضرغام احترامًا وامتنانًا وقال: «قد غمرني أمير المؤمنين بإنعامه.»
قال: «إنك أهل لأكثر من ذلك.»
فتناول ضرغام العقد ولفَّه بمنديل وكرر الدعاء. ثم استأذن وخرج فقصد إلى منزله والهواجس تتقاذفه، على أن أمر الزواج بياقوتة لم يزده قلقًا؛ لأنه رأى استبقاءها في بيته حتى يجد خطيبها فيجمعه بها دون أن يعلم الخليفة هل تزوجها أم لا. فوصل إلى المنزل ولقي أمه فسألته وياقوتة جالسة عن سبب ذهابه إلى الخليفة فقال: «دعاني لأمر يتعلق بياقوتة.»
فأجفلت ياقوتة؛ لأنها كانت تخاف وشاية الحارث، لكنها اطمأنت لما رأته يبتسم ونظرت إليه مستعطفة، ثم سألته أمه عما جرى فقال: «شكانا السمرقندي إلى أمير المؤمنين، فأرجعه خائبًا، وأوصاني بياقوتة خيرًا.»
فانشرح صدر الفتاة وازدادت إعجابًا بضرغام وسمو منزلته عند الخليفة ونفوذ كلمته في الدولة، وأُعجبت بهيبته وجلال طلعته. والإعجاب إذا اقترن بالألفة وبالعادة تحوَّل إلى غرام، ولكن ياقوتة كانت مشتغلة القلب بحماد ورأت ضرغامًا فوق ما ترجوه لنفسها. ولما سمعت قوله عن الخليفة تورَّدت وجنتاها حياء ولم يمنعها الحياء عن الكلام؛ لأنها كانت عاقلة رابطة الجأش فقالت: «أشكر لمولاي الصاحب فضله؛ فقد أنقذني من العار والموت، ورفع منزلتي؛ إذ جعلني تحت حمايته.»
فمدَّ ضرغام يده إلى جيبه وأخرج العقد وقدَّمه إليها وقال: «هذه هدية أمير المؤمنين إليك.»
فأصبحت ياقوتة لا تدري كيف تعبِّر عن إحساسها، فتناولت العقد ودفعته إلى آفتاب فأخذته وتلمست حباته وقالت: «يظهر أنه عقد جدير بك.» وتقدمت نحوها وقلَّدتها إياه.
كل ذلك لم يشغل ضرغامًا عن قلقه وكل ما حدث في مساء الأمس وصباح اليوم يذكِّره بحبيبته وخاصة العقد لمَّا لبسته ياقوتة فقال في نفسه: «لماذا لا تكون جهان هنا وتلبسه!» فلما تخيَّل ذلك اضطرب وترك الغرفة وخرج ليسأل الخدم عن وردان، فلقيه داخلًا وفي وجهه ذعر. ولما رأى ضرغامًا حيَّاه، فقال ضرغام: «قد طال غيابك، فما الذي أعاقك؟» ثم مضى إلى حجرة منعزلة جلسا فيها، فقال وردان: «قد عاقني تأخر الأفشين عن الحضور؛ لأنه لم يصل إلى سامرا إلا منذ بضعة أيام، ولم أتمكن من إتمام مهمتي إلا اليوم.»
فقال: «وما الذي عرفته عن جهان؟»
فتوقف وردان لحظة ثم قال: «عرفت من صديق لي في حاشية الأفشين لا تخفى عليه من أحواله خافية أن جهان خرجت من فرغانة قبل خروجهم منها.»
قال ضرغام: «عرفت ذلك أثناء غيابك من سامان أخيها.»
فتغيَّر وجه وردان عند سماع اسم سامان، وقال: «سامان هنا؟ أين هو؟ أين هو؟ لأقبض روحه … لعنه الله من منافق.»
فاستغرب ضرغام غضبه وقال: «ولماذا تريد قتله، ماذا فعل؟»
قال: «سأقص عليك فعله وإنما أرجو أن تخبرني عما قصَّه هو عليك.»
قال: «أخبرني أنه خرج من فرغانة مع أخته فرارًا من الأفشين، فلقيهم اللصوص في همذان فأسروا جهان وقهرمانتها ونجا هو ليخبرنا.»
قال: «فأنت عالم بما فعل اللصوص. بقي عليَّ أن أخبرك عما فعله هذا اللعين اليوم: سِرْت أمس لأتمم مهمتي في البحث كما أمرتني، فلم أستطع إلا صباح اليوم؛ إذ لقيت صديقي فقصَّ عليَّ الخبر. وبينما هو يكلمني لمحت سامان مارًّا على فرسه يطلب عرض البر ولم أتحققه، فسألت صاحبي في شأنه فأخبرني بأنه هو بعينه وأنه جاء البارحة في أواخر الليل واجتمع بالأفشين، وقصَّ عليه خبر اختطاف جهان، ولكنه جعل الذنب في ذلك لك، وأساء القول فيك، ولم أعلم ذلك إلا بعد أن غاب عن بصري ولم يبقَ سبيل إليه، ولولا فراره لضربت عنقه، أو قتلته خنقًا، قبحه الله من أجرود لئيم.»
وكان ضرغام قد لمس من قبل نفاق سامان وسوء نيته؛ فأصبح لا يصدق شيئًا من أقواله، ولكنه لم يستطع تكذيبه في اختطاف جهان فقال: «قد عرفت نفاق هذا الشاب من قبل، ولكن هل تظنه كاذبًا فيما رواه عن اختطاف جهان؟»
وجاءت الأخبار أثناء ذلك بقيام بابك واستفحال أمره فأصدر الخليفة أمره إلى الأفشين بالسفر مع جنده إلى أردبيل، ولم يتسنَّ لضرغام الاجتماع به.