سقوط البذ
لما خلا الأفشين إلى نفسه بعد خروج سامان فكَّر مليًّا فيما سمعه منه فصادف هوًى في نفسه، وسيان عنده فعل سامان ذلك حبًّا له أو خوفًا منه أو طمعًا في تغيير الوصية، وأعاد ما سمعه عن جهان وتذكر جمالها وكبرياءها فسرَّه أنه ظفر بها، وأنها متى وقعت في يده هذه المرة فلا مفرَّ لها منه، ثم تذكَّر أن ضرغام هو العقبة الوحيدة في سبيله، وفكَّر فيما لمَّح إليه سامان من الاحتيال لإيقاعه، فاعتزم ذلك.
وقضى أيامًا في مثل هذا المنى حتى جاءه صاحب الخبر منبئًا بقدوم الصاحب مع رجاله. وفي صباح اليوم التالي جاء ضرغام، فرحَّب به الأفشين وأثنى على رغبته في نصر الدولة. فأجابه الصاحب شاكرًا، ولحظ الأفشين في وجهه تغيرًا مما أحدثه يأسه من جهان، فلم يبالِ وجعل يبالغ في إطراء بسالته وعلوِّ هِمَّته فقال ضرغام: «لا فضل لنا في خدمة الدولة ونصرة الدين الحنيف.»
قال: «صدقت، وقد جئتنا في إبان الحاجة إليك فإني لا أرى بين قوادي من يُركن إليه في المهمات غيرك، وقد خبرتك وعلمت شجاعتك وصبرك.»
فقال ضرغام: «كنت قد استطلت الحرب واستبطأت الفتح فلما رأيت هذه الحصون ووعورة الأرض أيقنت أن الأفشين قد أتى بما لا يستطيعه إلا الأبطال، وما أنا من يزيد في إقدامه أو يسهل فتحه، ولكنني مللت القعود وأحببت أن يكون لي في هذه الحرب نصيب. فارمِ بي حيث تشاء.»
فتأكَّد الأفشين من يأس ضرغام، وأحبَّ تغيير الحديث ليهيئ له مهلكًا فقال: «بورك فيك. لا بد أن تستريح أولًا من عناء السفر … أخبرني عن أهل سامرا كيف هم وكيف أمير المؤمنين؟»
قال: «كلهم في قلق من أمر بابك هذا، ولكنهم يثنون على ثبات الأفشين وحسن تدبيره … وقد آنست من الخليفة رغبة في إنهاء هذه الحرب، فجئت لألقي نفسي في أقرب السبل إلى ذلك عسى أن أتعجل الشهادة.» قال ذلك وأبرقت عيناه بريقًا حادًّا قرأ الأفشين خلاله حديثًا طويلًا فقال: «غدًا ننظر في ذلك. وأما الآن فاخرج بنا نطلعك على معسكرنا ومواقع القواد ونظام الخنادق والحصون والمكامن.» ونهض وأمر أن تُهيأ الأفراس.
فنهض ضرغام وهو يقول: «قد رأيت بعض هذه المعاقل فعلمت أن مولانا الأفشين قد أتى في تنظيمها بالمعجزات.»
وقضى الرجلان بقية اليوم في التجول بين الحصون والاستحكامات. فرأى ضرغام جندًا كبيرًا وتدبيرًا حسنًا، وسرَّه اهتمام الأفشين بإطلاعه على ذلك من تلقاء نفسه فقال له: «إن مثل هذا الجند لا ينبغي أن يصبر على فتح البلد طويلًا.»
قال: «غدًا أقصُّ عليك سبب الإبطاء.» وافترقا.
فذهب ضرغام إلى فسطاطه وكان وردان في انتظاره وقد أصبحا صديقين حميمين. فلما اجتمعا قصَّ ضرغام عليه ما لقيه عند الأفشين إلى أن قال: «وقد وعدني الأفشين أن يسرع في القتال، وألححت عليه أن يرمي بي في أخطر المواقع فإذا لم أرجع فإني أعهد إليك منذ الآن في العناية بأمي المسكينة.» قال ذلك واختنق صوته فتنحنح حتى يخفي اختناقه وعاد إلى إتمام كلامه فقال: «وأنت تعلم ما قاسته في محبتي. أما ياقوتة فاحتفظ بها ريثما يمنُّ الله عليها برجوع خطيبها. وأظنك تعرفه. وأما جهان فإذا كانت على قيد الحياة ولقيتها بعد موتي فبلغها ما تعلمه من وجدي!»
فقطع وردان الحديث وقال: «لا توصني فإني لن أبقى بعدك، وما صحبتك إلا لأكون معك حيثما ذهبت.»
قال: «إني ألقي بنفسي إلى الهلاك فرارًا من حياة لم يعد لي لذة فيها، فما خطبك أنت؟»
فتنهد وردان وأطرق وذرفت عيناه دمعتين تقطرتا من مآقيه، وكأنه خجل فرفع بصره، وقال: «إن نصيبي من اليأس كبير جدًّا، ولو علمته لطلبت لي أن أسير إلى الهلاك أمامك وإذا بقيت حيًّا قصصته عليك. ومهما يكن من شيء فمصيري رهن بمصيرك.»
فأعجب ضرغام بأريحيته، وكان قد شعر بشيء مما يجول بذهنه، ولم يشأ أن يستطلعه إلا إذا همَّ هو بنفسه بأن يكشف عما به، فقال: «لك ما تريد يا وردان، وغدًا نرى ما أعده لنا الأفشين من المهام.»
أما الأفشين فقضى تلك الليلة مع سامان يكيدان لضرغام. وفي صباح اليوم التالي زار ضرغام الأفشين ومعه وردان، فوجداه وحده، وسأله ضرغام عمَّا استقر عليه رأيه فقال: «لا أزال أرى التريث في الحصار برهة أخرى.»
فأجفل ضرغام لهذا التغيير وساءه تأجيل الهجوم فقال: «ولماذا؟»
قال: «إني أرى هجومنا اليوم مجازفة لا تُحمد عقباها. فقد قضيت البارحة وأنا أقلب الأمر على وجوهه فلم أُوفق إلى تعبئة تضمن لنا النصر.»
قال: «هل لك أن تطلعني على ما تخشاه؟»
فنهض الأفشين ومشى حتى وقف بباب الفسطاط وأطلَّ على البدو حصونها ثم قال: «أرأيت هذه المدينة، إنها أمنع من عقاب الجو ولا سيما من جهة الغرب حيث هذا القصر الفخم فإنه قصر بابك الذي يقيم به، فإذا وصلنا إلى باب السور الذي يليه أخذنا المدينة.»
ثم قال: «ألا ترى هذا التل الشاهق المشرف على المدينة من غربيها؟ لا سبيل إلى القصر إلا من ورائه، والطريق وعر لا يسلكه الجند الكثير ولا يجسر الجند القليل على سلوكه؛ لما يلقاه من نبال الخرمية ومجانيقهم. وبابك كثير الاعتماد على الكمناء فنخاف أن يكون له كمين أو أكثر وراء ذلك التل أو في واديه.»
فقال ضرغام: «أنا ذاهب إلى ذلك التل مع رجالي الفراغنة.»
قال: «إذا فعلت ذلك فإني أعبئ الجند حول الأسوار من جميع جهاتها فتضمن الفتح بإذن الله.»
فقال ضرغام: «ومتى الهجوم؟»
قال: «متى شئت.»
قال: «الليلة. دعني أدهم القوم ليلًا فإذا أصبح الصباح ودخلت البذ حيًّا، فاهجموا أنتم على سائر جهات البلدة فيكون فتحها أمرًا مقضيًّا.»
قال الأفشين: «بل أرى أن نتهيأ جميعًا للهجوم ليلًا، على أن تذهب أنت برجالك من وراء التل وتمكث تجاه المدينة حتى ترى نارًا أوقدها هنا بعد نصف الليل، وعلامتها أنها مثلثة؛ أي تكون ثلاث نيران متحاذية، فإذا رأيتَها علمت أن الجند كله مهاجم المدينة من كل جهاتها فاهجم أنت برجالك من ناحيتك، ولا يخفى عليك يا ولدي أنك في أشد المواقع خطرًا.»
قال: «لا أبالي بالخطر … أنا ذاهب الآن لأعد رجالي وأرجو أن نلتقي جميعًا في قصر بابك غدًا.» قال ذلك وتضاحك مكشرًا عن أسنانه كما يكشر الأسد إذا همَّ بالوثوب. وكان الغضب واليأس قد زادا وجهه هيبة وقوة فازداد شارباه وقوفًا وحاجباه خشونة وعيناه بريقًا وحِدَّة حتى تهيَّب الأفشين النظر إليه والتفرس في عينيه فقال له: «لو كان لنا عشرة مثلك لفتحنا البذ من زمن بعيد.» أراد بذلك أن يثبته في عزمه وهو على يقين أنه لا يستطيع تجاوز التل إلى السور لما وضعه بابك هناك من آلات الدفاع الخطرة فضلًا عن الكمناء. وأغرب من هذا أن ضرغامًا ودَّع الأفشين ليذهب ويتهيَّأ للهجوم وهو لا يعرف شيئًا عن الطريق ولم يسأل عنه. وقد فرح الأفشين لذلك؛ لأن جهله الطريق يؤكد فشله.
فخرج ضرغام وهو يقول للأفشين: «غدًا نلتقي هناك.» وأشار بيده إلى قصر بابك، والأفشين يهشُّ له حتى إذا توارى عن الخيمة لقيه وردان فماشاه وسأله: «ما الذي استقرَّ الرأي عليه؟»
قال: «الليلة نهاجم البذ.» قال: «من أين؟»
قال: «نأتيه أنا والفراغنة من وراء ذلك التل حتى ندخل من الباب الغربي وبجانبه قصر بابك، فنكون أوَّل من يدخله أو نموت تحت الأسوار.»
فوقف وردان والْتفت إليه وقال: «هل تعرف الطريق إلى التل؟»
قال: «لا … لا أعرفه … ولكن …»
قال: «ولكن ماذا؟ إنه طريق طويل يبغي لسالكه أن يسير من وراء التل مسافة تستغرق ساعات حتى يأتي إلى سفحه تجاه السور.» وكأنه نبَّه ضرغامًا فقال له: «وهل تعرف الطريق أنت يا وردان؟» قال: «نعم أعرفه.»
قال: «إذن أنت دليلنا بل أنت قائدنا، هلمَّ إلى رجالنا ليتأهبوا من الآن، ثم ننتقل بهم أصيل اليوم إلى الطريق الذي تعرفه حتى نصل في العشاء إلى تجاه المدينة.» قال: «حسنًا.» ومشيا وكلاهما ساكت يفكر، يريان الخطر الذي يهددهما واليأس يعزيهما عنه حتى وصلا إلى معسكر الفراغنة، وكانوا قليلين لا يتجاوز عددهم بضع مئات لكنهم أشداء مُنْتَخَبون يتفانون في طاعة ضرغام لو قال لهم ادخلوا النار لتسابقوا إليها.
أما الأفشين فجاءه سامان بعد خروج ضرغام فقصَّ عليه ما فعله وقال: «والباقي عندك يا سامان.» فقال: «سمعًا وطاعة.» وخرج. وعبأ الأفشين جنده للهجوم في ذلك الليل ليأخذوا القوم على غِرَّة وجعل فرقته بحيث تهاجم المدينة من جهة الباب المؤدي إلى قصر النساء الذي تقيم فيه جهان أو جلنار، حتى إذا فتح البلد ودخل الناس للنهب استولى هو على قصر النساء وأعطى جهان إلى من يحتفظ بها وانصرف إلى قيادة الجند.
أما ضرغام فجهَّز رجاله ومشى بهم ووردان دليلهم، وداروا حول التل حتى وصلوا إلى مكان فيه يشرف على البذ من الغرب، فمكثوا هناك حتى أظلمت الدنيا فأمرهم ضرغام أن يتربصوا ويكونوا على أهبة الهجوم، وخلا إلى وردان على أكمة ونظر إلى البذ فرأيا فيه أنوارًا متفرقة كما يطل القادم على بلد في الليل فإنه لا يرى إلا أنوارًا ويندر أن يتبين شيئًا من أبنيتها أو قلاعها. فقال وردان: «إن أقرب هذه الأنوار إلى السور وأكثرها إشعاعًا أنوار قصر بابك، وهو الذي سنفتحه أو نموت دونه، وتُرى أنوارًا بعيدة في الجانب الآخر من البلد فهناك قصر النساء، ولا أظنك تجهل استكثار هذا الرجل من النساء وانغماسه في الملذات.»
قال: «وقد رويت لي ما طرأ عليه من التغيير من عهد بعيد بفعل امرأة من نسائه ذات عقل وتدبير. ما أكبر عقل تلك المرأة!»
فقال: «إنها عاقلة؛ ولذلك تسلطت عليه، فأصبح لا يقطع بأمر إلا برأيها.»
فتنهَّد ضرغام وقال: «ما لنا ولهذا الآن! دعنا ننظر في الطريق الذي نسلكه في الهجوم. ما الذي يحول بيننا وبين المدينة الآن؟» قال: «بيننا وبينها وادٍ.»
قال: «وكيف نقطعه؟» قال: «نقطعه من مكان فوقه قائم كالجسر، ومتى صرنا في الجانب الآخر أصبحنا قريبين من السور فنهجم ونتسلقه، ولا أظننا نجد عليه حامية؛ لأن الخرمية لا يخطر لهم أن عدوهم يأتيهم من هذا الطريق الوعر أو يجسر على النزول هنا.»
قال: «إذن هلم بنا ننزل.»
قال: «تمهَّل يا مولاي حتى تطمئن القلوب ويهجع الناس فلا يجدر بنا أن نزحف قبل نصف الليل وبعد أن نرى نيران الأفشين.»
قال: «حسنًا.» وتحوَّل إلى رجاله وأوصاهم بالسكون والتربص وبألا يوقدوا نارًا ولا يسمعوا صوتًا حتى يأمرهم بالتقدم، ثم تركهم وأشار إلى وردان فلحقه فقال له: «تعالَ نتجسس الممر الذي قلت عنه لنرى هل هو سالم أو لعلَّ فيه عقبة.»
ومشيا مسافة طويلة في أرض صخرية كثيرة الحجارة يتلمس الماشي أرضها تلمسًا، وكان الظلام مخيمًا لا يكاد الناظر يرى ما بين يديه. وقد ساد السكون فلم يكن يسمع هناك أي صوت سوى حفيف الثعابين والحيات المنسابة بين الصخور أو رفرفة طائر يحلق بجناحيه في الجو. فكان لوقع أقدامهما صوت بذلا الجهد في إخفائه لئلا ينمَّ عن مكانهما. ولما اقتربا من الوادي رأيا فوقه شبه جسر من الصخور يمر عليه الاثنان والثلاثة معًا. فقال ضرغام: «تحدثني نفسي أن أسير توًّا إلى السور فأصعد عليه والناس في غفلة ومتى صرت داخله يشتد أزر المسلمين بي فيكون هجومهم أدعى إلى الظفر.»
فقال: «أخاف عليك كمينًا، وأرى أن تعود معي أو أعود أنا وحدي فأدعو الرجال ونتعاون على العمل.»
قال: «اذهب أنت واتركني هنا حتى تعود بهم.»
فقال: «احذر يا مولاي أن تبرح مكانك أو تظهر أي حركة.» ثم عاد وردان إلى الفراغنة، وظل ضرغام وحده. فلما خلا إلى نفسه نظر إلى السور فوجده على بعد مائتي خطوة منه فسوَّلت له نفسه أن يمشي الهويناء حتى يصل إلى السور فينظر ما وراءه ثم يعود. فمشى وهو لا يعرف الطريق وإنما جعل وجهته السور. وكان ينقل قدمه محاذرًا سماع وقعها. ويرفع السيف بيده حتى لا يقعقع. ولما دنا من السور وجده عاليًا وعليه الأبراج، ولم يسمع هناك صوتًا ولا رأى نورًا إلا في برج كبير فوق الباب رأى فيه ضوءًا ضعيفًا. ولما ازداد قربًا من السور سمع حركة فوقف ويداه على قبضة حسامه، وإذا بعشرات من الرجال خرجوا من وراء الصخور وأحدقوا به وسيوفهم مشرعة كأنهم كانوا ينتظرونه فأدرك أنه وقع في كمين، فاستلَّ حسامه وصاح فيهم صيحة أجفلتهم ووثب وثوب الأسد يضرب ذات اليمين وذات اليسار ضرب رجل شديد البأس قوي القلب لا يهاب الموت، وكانوا يفرُّون أماه فرار الظباء من الأسد، وهو وراءهم لا يحترس، فما درى إلا وهو يهوي في حفرة، فانقلب وسقط السيف من يده، وشُدَّت الحبال حول قدميه وكتفيه وأخذوا في إخراجه من الحفرة. وسمع جلبة وقرقعة ودبدبة وصوت وردان ينادي لبيك يا سيدي. فتحوَّل الكمين نحو الصوت وتركوا عند ضرغام من يخفره. وفهم ضرغام أن رجاله أتوا لنجدته من بعيد فزأر زئير الأسد ونادى: «وردان اقطع هذه الحبال.»
فما كان إلا كلمح البصر حتى قفز وردان إليه وقطع الحبال. فلما أفلت ضرغام أخذ سيفه وهجم على الخرمية وأعمل فيهم سيفه فقتل من قتل وفرَّ الباقون ولم تمضِ ساعة حتى خلت الساحة منهم فصاح ضرغام في رجاله: «هلم إلى السور.» وما أتم كلامه حتى سمع صوتًا هائلًا كأنه دبدبة جبل يتدحرج، ثم ناداه وردان: «تنحَّ يا سيدي إنهم يرمون بعجلات من أعلى الجبل عليها صخور كبار لا تلبث أن تدحرج علينا ولا تغني الشجاعة في دفعها.»
فتنحَّى ضرغام وقد كلَّت ذراعه من الضرب والطعن، ولو لم ينبهه وردان لهرسته واحدة منها؛ إذ لم يمضِ إلا يسير من الوقت حتى وصلت كالسيل الجارف أو كالرجم المتساقطة أو هي كجلمود صخر حطَّه السيل من علٍ.
ولما استقرَّت العجلات في آخر انحدارها الْتصق بعضها بالسور بحيث يمكن التسلق عليها إلى سطحه. وشاهد ضرغام ذلك فصاح برجاله: «إلى السور.» وركض أمامهم وسيفه مشرع ولم يكد يفعل حتى رأى ظهر السور قد امتلأ بالرجال وفي أيديهم النبال فأخذوا يرمون الهاجمين بها وهؤلاء لا يبالون وفي مقدمتهم ضرغام وقد وقعت قلنسوته وتمزق قباؤه وتقطعت سراويله. ورآه وردان يصعد إحدى العجلات بقرب الباب ويهم بتسلق السور ففعل فعله، وإذا بباب السور انفتح وخرجت منه فرقة من الخرمية أحاطت بالعجلة ومن عليها وألقوا الحبال على ضرغام ووردان فتحولا وأعملا السيف في الحبال فتقطعت وصاح ضرغام: «ما بالكم تحاربوننا بالحبال أين سيوفكم أيها الأنذال؟»
فلم يجبه أحد وهو واقف على العجلة يعمل السيف فيهم فزلَّت قدمه فجأة عن خشب العجلة فوقع وارتطم رأسه بحجر … فلما رآه ورادن شغل به عن نفسه فتكاثر عليهما الرجال فشدُّوا وثاقهما وحملوهما إلى داخل السور وصعدوا بهما إلى البرج فوق الباب وألقوهما بين يدي رئيس الحامية، فأمر بالماء فرُشَّ ضرغام، فلما صحا تحفَّز ليقبض على سيفه ويهم بالوثوب فإذا هو موثق بين يدي صاحب الحامية، والْتفت فرأى وردان إلى جانبه في مثل حاله. فعظم عليه الأمر فصاح في القوم قائلًا: «عار عليكم أن تلجئوا في قتالكم إلى الحبال فإن كنتم رجالًا فحكموا السيف. اقتلوا ولا تأسروا.» والْتفت فرأى قائد الحامية جالسًا وعليه القلنسوة والسراويل من لباس الخرمية. وشاهد بين يديه جماعة من رجال الخرمية الذين نجوا من المعركة وعليهم آثار القتال وسمعهم يتكلمون الفارسية وهو يعرفها فخاطب الرئيس بمثل ما قال بالعربية فلم يجبه وأشار إلى رجاله فخرجوا وأغلق الباب وتقدم إلى ضرغام فحلَّ وثاقه ثم وثاق وردان وقال بالعربية: «قم يا ضرغام. قم واجلس.»
فلما سمع ضرغام الصوت أجفل والْتفت إلى الرجل وتفرس في وجهه فعرفه فصاح «حماد؟!» قال: «نعم حماد.» فنظر إليه والدهشة بادية في وجهه وقال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «جئت بعد أن تركتني قرب همذان لسبب لا تجهله، وقد جُندت في جيش هذا المجوسي للانتقام من صاحبك الظالم، أما كان الأجدر به أن يدخر هذه السيوف للدفاع عنه بدلًا من أن تكون عليه؟»
فابتسم ضرغام رغم ما هو فيه من القنوط وقال: «ليس صاحبي ظالمًا.» ثم تذكر ما وعده من البحث عن جهان فقال: «خفف عنك إني حامل إليك نبأ يسرك فعسى أن تكون حاملًا مثله لي.»
فاضطرب حمَّاد وبدت الدهشة في عينيه وقال: «ماذا؟ هل وجدت ياقوتة؟ وأين هي؟»
قال: «نعم وجدتها، وهي الآن بسامرا عند أمي معززة مكرمة.»
فظنَّ حماد نفسه في حلم، ولم يتمالك عن النهوض وقال: «ياقوتة في منزلك الآن؟» وأكبَّ عليه وقبَّل رأسه ووجهه وهو يقول: «هل هي في خير وصحة؟ إني أشكر لك فضلك.» ثم تراجع وتغيَّرت سِحْنته كأنه تذكَّر أمرًا أزعجه وقال: «ولكني لسوء الحظ لم أُوفق إلى خدمتك مثل توفيقك في خدمتي. على أني لم أدخر وسعًا في السعي والاستفهام، ماذا فعلت أنت هل وُفقت على خبر جهان؟»
قال: «لم أجد وسيلة من الوسائل لم أتبعها وذهب سعيي عبثًا.» ثم تنهَّد وقال: «ليتك تركت رجالك يجهزون عليَّ، إذن لأحسنت إليَّ؛ لأني لم آتِ هذه البلاد الْتماسًا للفخر بالفتح أو الكسب بالغزو وإنما أتيت لألقى حتفي وأتخلص من هذه الحياة.» قال ذلك وهو يحرق أسنانه ويتململ.
فشاركه حمَّاد شعوره وأخذ يخفِّف عنه فقال: «لا تيأس يا صديقي من الفرج فإنه يأتيك وإن حسبته مستحيلًا. فقد تعلم ما كان من أمري مع ياقوتة وكيف تركت وطني وأهلي يأسًا من العثور عليها، وهذا أنت تحمل لي نبأ سلامتها، فأتاني الفرج من حيث لا أتوقع. ولا أخفي عليك أني صمَّمت بأن أفعل مثلك وعرَّضت نفسي للقتل، ولكني وُفقت إلى أمر هدأ روعي وساعدني على الصبر، فلو وُفقتَ إلى مثله لصبرتَ صبري. لقد وُفقت إلى فتاة تشبه ياقوتة فتعزَّيت برؤيتها وخفف ذلك كثيرًا من لوعة البعد.»
فتذكر ضرغام مشابهة ياقوتة لجهان فقال: «لكني وُفقت إلى من تشبه جهان ولكنني لم أشعر بما يخفف اللوعة، بل زاد ذلك في أشجاني!» فاستغرب حمَّاد وقال: «أما أنا فإني أستأنس بشبه ياقوتة استئناسًا يكاد يذهب بقنوطي، وإن لم يكن لي سبيل إليها. فقد رأيت لياقوتة شبهًا في هذه المدينة هي أعز نسائها جانبًا وأسماهن حسنًا وأمنعهن مقامًا، وهي لا تحتجب فتخرج سافرة لا تبالي أن يراها الناس، وكنت كلما نظرتها تيمنتُ بطلعتها وارتويت برؤيتها.»
وكان وردان جالسًا يسمع ولا يشترك في الحديث، فلما سمع حمادًا يذكر فتاة تشبه ياقوتة تذكر شبه ياقوتة لجهان، وهمَّ بأن يستوضح حمادًا فرأى ضرغام قد سبقه إلى ذلك وقال بلهفة: «أين رأيت شبه ياقوتة؟»
قال: «رأيتها في هذه المدينة في قصر بابك نفسه. لا أظنكم تجهلون الفتاة التي قامت بنصرة بابك وقوَّمت أخلاقه ودفعته من الرذيلة إلى الفضيلة.»
قال وردان: «أظنك تعني جلنار؟»
قال: «نعم إياها أعني، إنها تشبه ياقوتة شبهًا عجيبًا، فكنت إذا رأيتها حسبت ياقوتة أمامي. وكانت تتردد على قصر بابك أو تخرج معه على فرسها سافرة، فلم أشاهد في حياتي أجمل منظرًا ولا أكثر هيبة وجلالًا منها.»
فأحسَّ ضرغام باختلاج قلبه، ولولا الظلمة المخيمة لرأى حماد الدم يتصاعد إلى وجنتيه. فأطرق لحظة راجع فيها ما يذكره عن ياقوتة وشبهها لجهان فقال في نفسه: «لعلها جهان.» والْتفت إلى حماد وقال: «ومن هي جلنار؟ ومن أين أتت؟»
قال: «هي من جملة نسائه، حُملت إليه من بلد بعيد كما حُمل عشرات من أمثالها، لكنها كانت أكثرهن سلطانًا عليه فكأنها سحرته. فبينما ترى رفيقاتها مختبئات في قصر النساء إذا رأين بابك سجدن له تراها راكبة فرسها الأدهم تجول في المعسكر تأمر وتنهي وأمرها نافذ على الكبير والصغير.»
فلما سمع ضرغام قوله: «فرسها الأدهم» انتفض كالعصفور بلَّله القطر أو هي قشعريرة المفاجأة فهبَّ ناهضًا وقال: «فرسها أدهم؟! أين هي بربك أرنيها يا حماد. إنها جهان ولا شك.» فأخذ حماد بلهفته وقال: «ليتها كانت جهان يا صاحبي، ولكنها أخرى اسمها جلنار.»
قال: «قلبي يحدثني بأنها هي، وما دامت تشبه ياقوتة. فإني أعرف أنها هذه شديدة الشبه بجهان. ثم إنك ذكرت أن جوادها أدهم، وأنها حُملت من بلد بعيد، وهذه الأوصاف كلها تنطبق على جهان، ولا عبرة بتغيير الاسم. فأنت تعرفني مثلًا بضرغام وليس في سامرا أحد يناديني بهذا الاسم، فاسمي عندهم الصاحب. هذه جهان لا شك. لقد ذهب اليأس من قلبي. فقل أين هي الآن؟»
قال: «أظنها في قصر النساء، فإنها تبيت هناك وتخرج عند الحاجة إلى قصر بابك.»
فتنهَّد ضرغام تنهد الفرج بعد الضيق، وتحوَّل يأسه إلى أمل، ونظر إلى ثيابه الممزقة وهو يهم بالخروج فاستوقفه حماد وقال: «اخلع ثيابك والْبس ثياب الخرمية حتى لا ينكرك الناس. وكذلك يفعل وردان، وفي صباح الغد نخرج معًا إلى قصر النساء.»
فقطع ضرغام كلامه قائلًا: «أأصبر إلى الغد؟ كيف أصبر؟ وهب أني صبرت فهل تصبر المدينة وقد أحدق بها المسلمون من كل جانب ولا يلبثون أن يفتحوها. وهل يخفى ذلك عليك؟»
قال: «لا أستغرب ذلك؛ لأني من جملة قواد بابك، وقد ندبني الليلة لحراسة هذا الباب؛ لأن بعض الجواسيس أنبأه بعزمكم على الهجوم من هذه الناحية، فأتيت في المساء وأقمت الكمناء حتى رأيناكم قريبين، فأمرتهم بالهجوم عليكم وكان ما كان، فهيا بدل ثيابك.» ثم الْتفت إلى وردان ليقول له أن يبدل ثيابه هو الآخر، فوجده مطرقًا غارقًا في تأملاته، فقال له: «ما بالك يا صاحبي؟ أمصاب أنت بمثل مصابنا أيضًا؟»
فتنهد وردان وقال: «نعم يا سيدي. وستعلم ذلك متى وصلنا إلى قصر النساء وأنا أرى رأي ضرغام؛ أن نسرع الآن بالخروج.»
فأطاعهما، وبعد أن ارتديا زي الخرمية خرج بهما، وأوصى رجاله أن يحرسوا الباب حتى يعود، موهمًا إياهم أن الأسيرين عنده في جملة الأسرى الذين أُخذوا تلك الليلة. وأطلَّ حماد من السور فرأى البذ مضاءة وسمع الضوضاء وسطها فصاح في رجاله فلم يجد منهم أحدًا فنادى خادمه فأسرع إليه فقال: «أين الرجال؟»
قال: «ألم تسمع يا مولاي طبل الهجوم؟»
فقال: «كلا.» وكأنه شُغل عنه بضرغام ووردان.
فقال الغلام: «ضُربت الطبول وصدر الأمر بأن يجتمع الرجال للدفاع عن الباب الشرقي؛ لأن المسلمين هجموا عليه بقيادة قائدهم الأكبر على ما يُقال.»
فقال: «الأفشين نفسه؟» قال: «لا أدري.»
فالْتفت وردان وضرغام معًا إلى معسكر الأفشين فرأيا النار المثلثة موقدة فتأكدا من الهجوم، فقال ضرغام: «هلمَّ بنا إلى القصر.»
ركب كلٌّ من حماد وضرغام ووردان جوادًا من جياد الخرمية، وأركضوها إلى قصر النساء، فلقوا أهل البلد في هرج وخوف وليس فيهم رجل لم يحمل سلاحه ليدافع عن نفسه، وقد ظنوا حمادًا ورفاقه من المغيرين، ثم رأوا نفرًا من المسلمين وسط المدينة ينهبون وأصبحوا كلما اقتربوا من الباب الشرقي رأوا المسلمين يتكاثرون فتحققوا أن البلد قد أُخذ، فلم يبالوا. ولما وصلوا إلى القصر رأوا جنود المسلمين يخرجون منه حاملين الأمتعة والرياش، ورأوا بعضهم يقود نساء فاختلج قلب ضرغام خوفًا على جهان أن تكون في الأسرى، فدخل القصر مع وردان، فقال لهما حماد: «تمهلا حتى أعرف الخبر اليقين من مصدره.» قال ذلك واتجه إلى غرفة بقرب الباب رآها موصدة، فقرعها فلم يسمع جوابًا، فكلَّم الذين في داخلها بلسانهم ففتحت لهم امرأة كهلة أدخلتهم وأغلقت الباب خلفهم وهي ترتعد من الخوف، فقال لها حماد: «ما الذي جرى يا خالة؟»
قالت: «ألم ترَ ما جرى؟ فتحوا المدينة، وجاءوا إلى هذا القصر فدخلوه ونهبوه وسبوا نساءه ولو لم أختبئ هنا، أو لو كان لي بقية من جمال أو مال لأخذوني فاكتفوا بأخذ حليي وانصرفوا.»
فلما سمع ضرغام قولها: «سبوا نساءه»، ارتعدت فرائصه ولم يكن وردان أقلَّ منه اضطرابًا ولكنه كان أصبر منه على كتم شعوره، وأدرك حماد لهفتهما فسأل القهرمانة: «أخذوا كل النساء؟» قالت: «نعم.»
قال: «وجلنار أيضًا؟» قالت: «لا … جلنار لم يأخذوها.»
قال: «أين هي؟» فنظرت إلى رفيقيه وترددت في الجواب كأنها تكتم شيئًا تخاف ظهوره، فقال لها: «قولي ولا تخافي.»
قالت: «إن مولاتنا جلنار ورفيقة لها رومية من نساء بابك خرجتا منذ بضعة أيام في مهمة إلى بابك.»
فتصدى لها ودران مستفهمًا فقال: «وما اسم تلك الرومية يا خالة؟ هل تعرفينها؟»
قالت: «كيف لا أعرفها وأنا قهرمانة هذا القصر أعرف تاريخ نسائه واحدة واحدة؟ فجلنار مثلًا لا يعرف أهل البذ عنها شيئًا وأما أنا فأعرف أصلها وفصلها منذ حُملت إلينا من فرغانة واسمها يومئذ جهان بنت المرزبان، ثم تسمَّت بجلنار، وأحبَّت هذه الرومية وصادقتها وتوافق ذوقاهما حتى ذهبتا في هذه المهمة معًا.»
فثبت لديهم، أن جلنار هي جهان نفسها، ولم يبقَ مكانٌ للشك، أما وردان فلم يشفِ غليله فقال: «سألتك عن المرأة الرومية ما اسمها وهل كان لها اسم غيره؟»
قالت: «اسمها هيلانة ولم تغيِّره منذ سرقوها من زوجها البطريق في أرمينيا.»
فاضطرب وردان وارتجف وصاح: «هيلانة؟ هي … هي … زوجتي!»
وأدرك ضرغام أن وردان بطريق من بطارقة أرمينيا، وأن بابك سلبه امرأته فالْتفت ضرغام إليه لفتة تهنئة وعتاب وقال: «أتكون بطريقًا وتحملني على ظنك خادمًا؟ والله، إني رأيت في برديك نفس الرجل الكبير منذ عرفتك.»
فقال: «لجأت إليك ودخلت في خدمة المسلمين في انتظار هذه الساعة حتى أنتقم من ذلك الفاسق الظالم، فأرجو أن يكون قد أُخذ ونال جزاء فعلته.»
فقال حماد: «إن لم يكن قد فرَّ فإنه مأسور لا محالة؛ لأن المدينة سقطت وقُضي الأمر.» ثم عاد حماد فقال للقهرمانة: «لم تخبرينا يا خالة عن الجهة التي سارت إليها جلنار وهيلانة.»
قالت: «سارتا معًا إلى بلاد الروم يستنجدان أهلها على المسلمين. ارتأت جلنار هذا الرأي لنصرة بابك وصحبتها هيلانة؛ لأنها من تلك البلاد وتعرف لسانهم.»
قال حماد: «ومولانا بابك أين هو؟»
قالت: «ليس في البذ الآن ولا هو أسير.»
قال: «فأين هو؟ أخبرينا لا تخافي فإن البذ دخل في حوزة المسلمين، وهم أبقى لنا من سواهم. وأنا أعلم أنك أخبر الناس بما يعمله بابك.»
قالت: «بقي بابك في المعركة يناضل ويدافع حتى تحقق سقوط المدينة فأتاني واصطحب من شاء من نسائه مع أحمال من الطعام والشراب، وأظنه غادر المدينة وأوغل في أرمينيا.»
فنظر حماد إلى ضرغام كأنه يسأله عما يفعلون فقال: «ننصرف.» ثم خرجوا يلتمسون مكانًا يتشاورون فيه، وقد لاح الصباح. فقادهم حماد إلى مكان يعرفه وشاهدوا في طريقهم جند المسلمين ينهبون المدينة ويهدمون بيوتها ويحرقون قصورها حتى لا يبقى فيها ملجأ لعدو أو صديق.
ولما وصلوا إلى المكان قال ضرغام: «ماذا يرى البطريق وردان فيما نحن فيه؟ لقد ذكرت القهرمانة أن جهان وهيلانة ذهبتا إلى بلاد الروم. وهي بلاد واسعة، فلو عرفنا البلد الذي تنزلانه لقصدنا إليه.» فضحك وردان لتسميته بالبطريق وقال: «لا حاجة بي إلى هذا اللقب، يكفيني أني صديق ضرغام. وأما جهان وهيلانة فأذن لي أن أضرب في البلاد طولًا وعرضًا أبحث عنهما ولا أعود حتى أعرف مقرهما.»
فقطع حماد كلامه وقال: «كلا … لا يذهب أحد في هذه المهمة سواي، إن لضرغام يدًا عندي؛ فقد أنقذ خطيبتي واحتفظ بها في بيته مكرَّمة معززة، فإذا لم أجازِه على عمله كنت لئيمًا. دعني أذهب وحدي أبحث وأفتش ومتى وقفت على شيء بعثت إليكما.»
فقال ضرغام: «ليس من العدل أن تكون عالمًا بمكان ياقوتة وهي في لهفة للقياك وتذهب في مهمة أخرى.»
قال: «لا تجادلني. لست راجعًا إلى أهلي قبل أن آتيك بأهلك وأهل هذا الصديق الأرمني. لقد سررت بمعرفته سرورًا كثيرًا. وأما ياقوتة فتبقى عندك في سامرا. ويكفي أن تبشرها باللقاء القريب.»
فقطع وردان كلامه وأخبره بما كان الخليفة قد أمر به ضرغامًا من التزوج بها. وبأن ضرغامًا أوهم الخليفة بأنه تزوجها. فصاح حماد وقد ثارت الأريحية في رأسه قائلًا: «وهل بعد هذا يستعظم أن أبحث عن عروسه؟»
فقال: «إذن أسير معك؛ لأني أعرف البلاد ولغتها وطرقها.» فقال: «لا حاجة بي إلى أحد منكما، أستودعكما الله من هذه الساعة.» قال ذلك وخرج.
فلما خلا ضرغام إلى وردان قال: «أحسبني في منام يا وردان، إن الفرق بين اليوم والأمس كالفرق بين الرجاء واليأس، ولكن …»
فقطع وردان كلامه وقال: «وأنا أحسبني انتقلت من الجحيم إلى النعيم؛ لأني كنت شديد الشغف بامرأتي، وبلغ من قحة ذلك الوحش الكاسر أن طلب مني أن أطلقها ليتزوجها، فلما أبيت بعث جندًا حملها إليه بالقوة! قبحه الله من مجوسي فاسق. والها لو ظفرت به لأشربن دمه.»
فقال ضرغام: «لعلَّ الأفشين ظفر به ونحن لا ندري فهلمَّ بنا إلى المعسكر.»