جهان عروس فرغانة
أصبح أهل فرغانة في يوم من أيام سنة ٢٢١ للهجرة وهم يتأهبون للاحتفال بالنيروز (رأس السنة). فأخذوا في إقامة معالم الزينة، ناصبين الأعلام الملونة فوق منازلهم، معلقين طاقات الرياحين على أبوابها. ثم تقاطروا إلى الأسواق يبتاعون الألبسة الجديدة لهم ولأولادهم، وأطباق الحلوى وغيرها من المآكل التي تكفي خلال أيام العيد الستة.
ولو دخلتَ المنازل لرأيت النساء قد أوقدن النيران لإعداد الأطعمة والحلوى، وأحمين الحمامات للاغتسال. ولرأيت الجواري مشتغلات بتزيين الأولاد والطبخ وعجن أرغفة العيد. وهي أرغفة كان يصنعها الفرس في ذلك اليوم من حنطة السنة الجديدة ليقتسموها صباح العيد متفائلين بأكلها استبشارًا بخصب تلك السنة.
وكانوا يتعاملون في ذلك اليوم بالنقود الجديدة ويتهادون الحبوب الجديدة على أطباق من الفضة ونحوها، ويترامون بالبيض والثمار.
أما الأسواق فكانت في ذلك الصباح تحفل بالمارة من الرجال والأولاد. هذا يحمل قفة وذاك ينقل سلَّة، وذاك يسوق حمارًا أو فرسًا، وكلهم يتسابقون إلى المنازل أو إلى بيت النار، يحملون الهدايا لأولادهم أو للموبذان — كهان المجوس — وقد تصاكت مناكبهم وتصادمت أقدامهم.
ولو أنك صعدت إلى القلعة الكبرى (القهندر) القائمة وسط المدينة وأشرفت من سطحها على أطراف فرغانة، لرأيتها أشبه بخريطة مرسومة على ورق أو صورة ملونة. فحول القلعة مبانٍ متشابهة من الطين كلها من طبقة واحدة ما عدا بناءين: أولهما «بيت النار» وهو الهيكل الذي يتعبد فيه المجوس. وكانت المجوسية لا تزال متغلبة هناك، ويسمونه «كارشان شاه». وهو رفيع العماد يظهر بارزًا بين أبينة المدينة كالنخلة بين الرياحين وقد نصبوا حول سطحه رايات من الديباج طول الواحدة منها عشرات من الأذرع، مرسلة في الفضاء يلاعبها الهواء، أكثرها خضراء اللون. أما البناء الثاني فهو «بيت المرزبان» — والمرازبة هم حكام المقاطعات في عهد الأكاسرة — وحول البيت حديقة فيها من كل فاكهة زوجان.
وهناك وراء سور المدينة امتدَّت الأغراس والأعناب والرياحين تتخللها مجاري الماء وتتغنى على أفنانها الأطيار.
فبينا أهل المدينة في ذلك الاحتفال إذا بموكب جليل يخترق الأسواق ويشغلهم عما هم فيه لفخامته وغرابته. وهو مؤلَّف من مركبة كبيرة أشبه بالغرفة منها بالعربة، فوقها قبة من الفضة المموهة بالذهب قائمة على أعمدة من الخشب الملون بينها ستائر من الديباج الأزرق، ويجر المركبة جوادان مجللان بالحرير المزركش، وقد ركب السائق أحدهما وفي يده سوط يسوقهما به. وعود كبير يصوبهما به إذا عاجا عن القصد. ويكتنف المركبة بضعة من الخصيان يركضون إلى جانبيها، وقد أُرخيت الستائر على الراكبين فلا يراهم أحد. على أنه لم يكن في فرغانة أحد من الرجال أو النساء لا يعرف صاحب هذه المركبة؛ إذ ليس هناك مثلها، وهي مركبة مرزبان المدينة، أهداها إليه بعض أهل امرأته في بلاد القوقاز؛ إذ كان فارسي الأصل وامرأته جركسية من القوقاز. وأهل تلك البلاد يستخدمون هذه المركبات لحمل الخواتين في خروجهن أو أسفارهن، وفي المركبة كل ما يحتاج إليه الخاتون من الأدوات حتى الطعام والشراب، فكان أهل فرغانة لا تمرُّ بهم هذه المركبة إلا تشوقوا لرؤية من فيها لعلمهم أنها تقلُّ بنت المرزبان التي يحبونها ويجلُّون قدرها ويُعجبون بجمالها وتعقلها. وكثيرًا ما رأوها تمرُّ بهم في مركبتها وقد أزاحت ستائرها فلا تحتجب عن أحد. وإذا وقع بصرها على أحدهم ابتسمت له ابتسامًا يزيده تهيبًا منها.
أما في ذلك اليوم فكانت ابنة المرزبان قد أرخت ستائر المركبة، وأركض السائق الجوادين، وأدرك المارة من إسراعه أنه يريد الخروج من المدينة. ثم رأوا وراء المركبة جوادين مسرجين لا يقودهما سائق ولا يركبهما راكب، أحدهما أدهم على سرجه جعبة مملوءة بالنبال فلم يخفَ على العارفين أن الجواد لصاحبة المركبة وقد تعوَّدوا أن يروها خارجة عليه بألبسة الرجال للصيد أو السباق، ووراء الجوادين خَدَمَة الصيد وفيهم أصحاب الكلاب والفهود. ولم يعجب أهل فرغانة لرؤيتهم معدات الصيد هذه؛ لأنهم يعلمون مهارة بنت المرزبان فيه، ولكنهم عجبوا لخروجها في ذلك اليوم.
وكان بين المارة رجلان؛ أحدهما تاجر من أهل فرغانة، والآخر قريب له من أهل «خوقند» أتى لقضاء أيام النيروز عنده. ولم يكن رأى شيئًا من ذلك قبلًا. فسأل رفيقه عن صاحب هذا الموكب فقال: «هو موكب الخاتون «جهان» بنت المرزبان «طهماز». ألم تسمع عنها من قبل؟»
قال: «سمعت في المرة الماضية عن مرزبان يقيم بهذه المدينة معتزلًا وأنه ذو ثروة طائلة وليس له إلا ابنة سمعت الناس يتحدثون بجمالها، فهل هي وحيدته؟»
قال: «لها أخ أجرد قبيح الخَلق والخُلق كأنه ليس أخاها.»
قال: «لعل المرزبان من أهل المدينة؟»
قال: «بل هو غريب عنها جاءها وهو شاب منذ ثلاثين سنة أو أربعين، واتخذها وطنًا له فرارًا من المسلمين العرب. وكان حاكمًا في بعض مقاطعات فارس فقاسى اضطهادًا ولم يشأ أن يبدل دينه فأتى بأمواله وأقام هنا.»
فسأله: «وهل هو غني يا صاحبي؟»
قال: «له ثروة طائلة، وأكثر المغارس خارج فرغانة على ضفة نهر الشاش ملك له، فضلًا عن المنازل والنقود والجواهر. ولكن ما لنا وله؟ دعنا من ذلك وامضِ بنا إلى سوق اللحم لنبتاع خروفًا نذبحه لأولادنا.»
وكان رفيقه من محبي الاطلاع على أخبار الناس والاعتراض على أعمالهم فلم يصغِ لرأي صاحبه، بل قال: «قلْ لي كيف تخرج هذه الخاتون من البيت في مثل هذا اليوم؟»
فضحك رفيقه وقال: «كأنك تريدها أن تبقى في البيت لتعجن العجين وتخبزه ولتطبخ الطبيخ كما تفعل نساؤنا؟! إنها يا صاحبي سيدة بيت أبيها، وقد تُوِّفِيَت والدتها منذ أعوام فلم يتزوج المرزبان بعدها إكرامًا لها، فهو يحبها حبًّا جمًّا ويعاملها كأنه عاشق يدلل عشيقته!»
قال: «لست أعني أن تقيم في البيت للعجن أو الطبخ بل تبقى فيه لاستقبال الزائرين الذين يتوافدون على بيت أبيها بالهدايا والتحف في يوم العيد.»
فقطع الآخر كلامه قائلًا: «دعنا من ذلك يا صديقي، وسِرْ بنا إلى السوق لننتقي خروفًا نشتريه.»
وكان الموكب قد جاوز الرجلين حتى خرج من المدينة إلى الأرباض، ومنها إلى البساتين، فوقف عند مضرب لبعض أتباع المرزبان تعوَّدوا استقبال هذا الموكب فخفُّوا لملاقاته. فلما وقفت المركبة ترجَّل السائق ووقف بجانب الجوادين ليمنعهما من السير أثناء نزول الخاتون، وتقدَّم أحد الخصيان للأخذ بيدها، وكانت قد قربته للطفه وخِفَّة ظلِّه واسمه «مرجان». فوقف بجانب المركبة لا يتجرأ على إزاحة الستارة. فطال وقوفه دون أن تفتح أو تطل الخاتون، ولكنه سمع حديثًا داخل الستارة فتاق إلى معرفته، ولكن ردَّه التهيُّب عن الإصغاء لسماعه. وكان رجال الموكب والأُجرَاء في المزرعة واقفين ينتظرون ترجُّل جهان. فلما أبطأت قلقوا. وكان جوادها الأدهم أشد قلقًا منهم. فأخذ يفحص الأرض بقوائمه وسائسه لا يقوى على زجره. ثم صهل كأنه ينادي صاحبته أو يستعجلها، فإذا بستارة المركبة قد أُزيحت ونزلت منها امرأة كهلة في الخمسين من عمرها عليها سمات الرزانة، وقد زادها الانقباض فتنة، وكانت ترتدي ثوبًا يغطي كل جسمها، وعلى رأسها وعنقها خمار أحمر لا يظهر غير وجهها. فعرف الواقفون أنها القهرمانة خيزران مربِّية جهان ووصيفتها ومستودَع أسرارها.
وبعد أن ترجلت القهرمانة مدَّت يدها لاستقبال سيدتها، فنزلت «جهان» حتى وقفت بجانب المركبة والأبصار شاخصة إليها للتمتع بجمالها الجاذب النادر. وكانت قد لبست ذلك اليوم ثوب الصيد، وهو يتألف من السراويل والقباء أو الدراعة، وتزمَّلت بما يشبه العباءة من الحرير المزركش، ولفَّت رأسها بعمامة أشبه بالعصابة تغطي الجبين إلى الحاجبين، وأرسلت منها ذؤابتين خلف العنق اتقاءَ حرِّ الشمس. وأدارت العباءة حول العنق حتى لا يبدو منها غير بعض وجهها.
وكانت طويلة القامة جليلة الطلعة، في وجهها هيبة وصحة وجمال، وعيناها كبيرتان فيهما نور وذكاء وجاذبية لا يعبَّر عنها بغير السحر؛ ولذلك يشعر من يبادلها النظر أو الحديث بسلطانها على قلبه وعقله فلا يقوى على التبسط معها في الحديث، ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها في أمر كأنها ملكت عليه إرادته فيصبح آلة بيدها. وكان الناس ينتظرون خروجها من منزلها للصيد أو النزهة فيقفون في الطرق ليشاهدوا محياها فكانت تبتسم للناظرين فتزيدهم تعلقًا بها.
أما في ذلك اليوم فخاب فَأْلُهم؛ لأنهم رأوا في وجهها قلقًا وفي عينيها دمعتين تحاول إخفاءهما بالابتسام.
ولو أنك نظرت إلى جهان في بيتها وقد أزاحت اللثام حتى ظهر عنقها وأرخت شعرها، لرأيت قوة الجنان ورباطة الجأش ظاهرتين حول فمها وفي ذقنها، وتجلَّت لك قوتها في اندماج عنقها. وقد تعجب لأول وهلة من اختلاف ملامحها عن ملامح الفارسيين وأبوها منهم. فإذا علمت أن أمَّها جركسية زال تعجبك وعلمت أنها ورثت تلك الملامح عن أمها، كما ورثت عنها كثيرًا من سجايا الجراكسة كالقوة والشجاعة والأنفة وتعوُّد ركوب الخيل والسباق بها والخروج للصيد. على أنها أخذت عن أبيها ذكاء الفرس وتعقلهم ودِقة إحساسهم؛ فكانت لهذا وذاك نادرة عصرها جمالًا وجلالًا، وشغف بها الفرغانيون وسموها «عروس فرغانة».
فلما نزلت من المركبة ورأت الناس وقوفًا لانتظارها وهم شاخصون بأبصارهم إليها، حيَّتهم على عجل خوفًا من ظهور اضطرابها وهي حريصة على كتمان ما بها؛ ثم الْتفتت إلى القهرمانة وقالت بصوتٍ موسيقي جميل: «أين الجواد يا أماه؟» وكانت تناديها بذلك تلطفًا وتحببًا؛ لأنها ربَّتها من صِغَرها وكانت ضنينة بها شفيقة عليها؛ ولذلك كانت جهان تستودعها أسرارها وتكشف لها عن مكنونات قلبها. ولم تبطئ في الخروج من المركبة إلا لاشتغالها بالتحدث إليها في شيء أهمَّها.
فأشارت القهرمانة إلى السائس، فأتى بالجواد يختال تيهًا كأنه يرقص، فلما دنا من جهان نظرت إليه وابتسمت ثم داعبت جبينه بأناملها، وكان على جبينه شعرات بيضاء تمثل أسدًا رابضًا فسمَّته لذلك «شير» وهو اسم الأسد بالفارسية. فلما شعر الجواد بأناملها استأنس وأخذ يضرب الأرض برجله. ثمَّ الْتفتت القهرمانة إلى الواقفين وقالت: «إن مولاتنا ذاهبة إلى الصيد فامكثوا مع المركبة هنا لإعداد الطعام، وليَتْبَعنا منكم رجلان يحسنان الركض حتى إذا وقع لنا صيدٌ أتيا به.» ثُمَّ امتطت جهان جوادها الأدهم بأسرع من البرق، وقدم «فيروز» السائس للقهرمانة خيزران جوادها، وأعانها على الركوب، فركبت وأشارت إلى السائس أن يتقهقر ويمشي مع الرجلين الآخرين وأحدهما مرجان، وساقت جوادها إلى جانب جواد سيدتها وسارتا متلازمتين، وقد تنكبت جهان القوس وأما جعبة النبال فكانت معلقة بالقربوس، والْتمست عرض البر والجوادان يسيران معًا على مهل، والأرض سهلة وأكثرها مزروع، وتبدو في أقصاها الجبال المحيطة بالمدينة.
كانت جهان قد تعوَّدت الذهاب في الشعاب والأودية مع الفهَّادين وأصحاب الكلاب لاصطياد الغزلان أو حمر الوحوش أو الوعول. ولكنها في هذا اليوم لم تصطحب أحدًا من أولئك؛ لرغبتها في الانفراد، وإنما اتخذت الصيد حيلة للخروج.
فلما أمعنتا في الخلاء الْتفتت القهرمانة إلى جهان لفتة حنوٍّ وانعطاف وقالت: «والآن يا سيدتي ألا تكشفين لي عن سبب انقباضك، وأنت تعلمين أني مستودع أسرارك وأسرار أمك من قبلك؟»
فتنهدت جهان وقالت: «دعيني يا أماه من هذا الحديث، إنما جئت لأروِّح عن النفس بالصيد.»
فضحكت القهرمانة وقالت: «وهل تريدين مني أن أصدق أنك خرجت للصيد وأنا التي اخترعت هذه الحيلة لنخرج معًا؟ أم تحسبين سرَّك خافيًا عليَّ؟!»
فأرادت مغالطتها فقالت: «أتستغربين انقباضي وأنت ترين أبي مريضًا بالنقرس منذ أعوام. وقد سمعت طبيبه يصرح بضعف الأمل في شفائه؟! إنني إذا أُصيب أبي بسوء أصبح وحيدة لا أهل لي هنا، ولست أعرف أهل أبي في بلاد فارس ولا أهل أمي في بلاد القوقاز، ولا أدري مع ذلك كيف …!» وغصَّت بريقها.
فقالت القهرمانة: «إن مرض سيدي المرزبان لم يحدث بغتة، وقد كنت تخافين على حياته من قبل ولم يبدُ عليك مثل هذا الانقباض … وإنما سببه سرٌّ أنت شديدة الحرص على كتمانه، ولكنني أعرفه!»
فالْتفتت إليها جهان مستغربة وتفرَّست في عينيها ووجهها كأنها تحاول أن تقرأ ضميرها، فتأثَّرت القهرمانة من نظرها وبما تلألأ في عينيها وهي تغالب عواطفها وقالت: «نعم إن سرك غير خافٍ عليَّ، وإن كنتِ تحاولين إخفاءه حياء. وأرى هذا الحياء يبدو على وجهك الآن.»
فصعد الدم إلى وجنتي جهان فتوردتا وأشرق وجهها وأبرقت عيناها بريقًا ينم عما يجيش في قلبها من لواعج الحب. واعتراف العينين حجة صادقة مهما يبالغ صاحبهما في الإنكار. فإذا قالت العين قولًا وقال اللسان آخر فالصادق هي لا هو، خصوصًا من يكون مثل جهان في رقة الإحساس وقوة العاطفة؛ فقد كانت كبيرة القلب وكبيرة العقل معًا، ولكن الضعف النسائي غلب عليها في تلك اللحظة فأطرقت، فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تعجبي يا سيدتي لاطلاعي على السر، ولست أنا وحدي المطلعة عليه فإنه متداول بين أهل القصر لا يجهله أحد غير أبيك، ولولا تهيب أهل القصر لنقلوه إليه ولكنهم لا يستطيعون ذلك إلا على يدي وأنا لم أفعل.»
فبغتت جهان وقالت وهي تتشاغل بإصلاح عرف جوادها: «وأخي سامان؟ هل يعلمه أيضًا؟!»
فابتسمت ابتسامة تشفُّ عن تألمها من ذكر ذلك الاسم وقالت: «سامان؟! إن سامان لا تخفى عليه خافية يا سيدتي وقد قلت لك ذلك مرارًا.»
فأدركت جهان أنها تريد انتقاد إخلاص أخيها. فقطعت كلامها قائلة: «إني أتوسم في أخي سامان شيئًا لا يرتاح إليه قلبي ولا أدري ما هو، ولكنني لا أحب العيب فيه فهو أخي الوحيد، وأرى منه انعطافًا إليَّ، وإن كان بعضه لا يروق لي، على أني لا أحبذ انشغاله بالأسرار حتى ليخيل إليَّ أنه جعبة خفايا وغوامض. وكثيرًا ما يغيب عن البيت يومًا فنبحث عنه في فرغانة بحثًا دقيقًا فلا نقف له على خبر، ثم يرجع ونسأله عن غيابه فلا يجيب أو يجيب جوابًا مبهمًا. وقد أخبرنا بعضهم أنه كثير الاختلاء بالموبذ كاهن بيت النار في المدينة. ولا يخفى ما هو عليه هذا الكاهن من الدهاء والمكر.»
فقالت خيزران: «أظن هذا الموبذ يؤيد طائفة الخرمية الجمعية السرية التي يتزعمها «بابك الخرمي» صاحب الحول والطول، والذي أصبح خليفة المسلمين يخافه، ولا يبعد أن يكون أخوك سامان أحد أعضاء هذه الجمعية، ولا بأس بذلك فالخرمية يعملون على إعادة السلطة للفرس ومحاربة المسلمين.»
قالت: «لا أنكر ما في أخي سامان من مواضع الضعف، ولكنه أخي. وعلى كل حال ما لنا وله الآن؟»
فأطرقت القهرمانة وهي تُعجب لحسن ظنِّ الفتاة بأخيها، رغم ما يظهر من قبيح أعماله وما تعتقده هي من سوء قصده، ولكنها أعرضت عن ذكره.
ورجعت إلى ما كانا فيه فقالت: «والآن ألا تبوحين لي بما شغلك؟»
فأعظمت جهان أن يغلب عليها الضعف إلى هذا الحد أمام مربيتها، فتحرَّكت فيها الأنفة وقالت: «لا تستضعفيني يا أماه فقد تكونين واهمة، وإلا فاذكري لي سبب كدري إن كنت تعلمين.»
فقالت: «إن ضرغام هو السبب!»
فلما سمعت جهان ذلك خفق قلبها وعاد الدم إلى وجنتيها وأبرقت عيناها فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تنكري يا حبيبتي فعيناك تشهدان بأنك تحبين ضرغامًا!»
فسكتت جهان منتظرة أن تسمع من خيزران استحسانًا أو استهجانًا لذلك الحب، فقالت القهرمانة: «إن ضرغامًا شاب جميل وشجاع باسل، لا مثيل له في فرغانة ولا في غيرها من بلاد فارس.»
فقالت: «فهمت أنه شجاع وجميل ثم ماذا؟»
فهمَّت خيزران بأن تصرح برأيها ولكنها خافت على جهان فأطرقت وسكتت. فقالت لها جهان بصوت هادئ وجأش رابط: «صرحي يا أماه ولا تخشي شيئًا.»
فقالت: «ليس في العالم أحسن من ضرغام لولا نسبه؛ فليس في فرغانة من يعرف أصله ونسبه حتى هو لا يعرف من أبوه.»
قالت جهان وهي تتشاغل بإصلاح القوس على كتفيها: «وماذا يقول الناس عنه؟»
قالت: «يقولون إنه مثال الشجاعة وكرم الخلق، عدا جماله وعلو همته وكِبَر نفسه. لكنهم يتساءلون عن نسبه، وأنا أذكر أمه عندما أتت إلى فرغانة تحمله، وكانت في إبان شبابها جميلة الطلعة، وقد خطبها غير واحد من أهل فرغانة فأبت أن تتزوج وانصرفت إلى تربية ابنها، فقد كانت على فقرها شديدة العناية به، ثم سمع سيدي المرزبان بخبرها فدعاها إليه وسألها ما خطبها فتكتمت في بادئ الأمر، ثم ذكرت أنها أُخذت طفلة من حضن أمها في بادية الترك ونشأت في منزل أحد النخاسين بالعراق حتى انتهت إلى رجل من أهل تلك البلاد فأعتقها وتزوجها، ثم تُوفي قبل أن تضع حملها، فلما وضعته أحبَّت الانقطاع إلى تربيته. وقد شك سيدي المرزبان في قولها وأحَبَّ أن يجربها فعرض عليها أن يزوجها من أحد رجاله فأبت واعتذرت؛ فازداد شكًّا في حديثها، وأنزلها بجانب قصره وأمر لها بما تحتاج إليه من أسباب المعيشة، وكانت تحسن الخياطة وتعمل مع خدم القصر حتى أُصيبت بالرمد وكفَّ بصرها فكفَّت عن العمل وظلَّت في بيت أبيك كما تعلمين. ولما شبَّ ضرغام تعلَّم ركوب الخيل والرمي بالنشاب وظهرت فيه سجايا نبيلة؛ فجعله مولاي المرزبان في جملة أعوانه. وكان يحبه ويجلُّ مناقبه حتى بعث الخليفة المعتصم منذ بضعة أعوام إلى هذه البلاد ليجند الرجال من الأتراك والفراغنة والأشروسنيين، فتطوَّع ضرغام لخدمته. وكنت قد لحظت ما بينكما من الحب المتبادل الذي تحاولين الآن إخفاءه، ولكنني عجبت لذهابه وغيابه كأنه رأى نفسه أقصر باعًا من أن ينالك للتباعد بينكما في المقام والنسب!»
وكانت القهرمانة تتكلم وجهان مصغية تسمع كلامها بشوق ولهفة. ثم أجابتها قائلة: «إنه تطوَّع للعمل في خدمة المعتصم لعلمه أن الرجال إنما تظهر مواهبهم في مثل هذا الوقت. وكان قد تغلَّب عليه الوهم الذي أراه متغلبًا عليك؛ فرغم أنه لا يستحقني، وأنا أراه يفضلني بدرجات، فالمرء لا يُقدَّر بمزارعه ومنازله وإنما بمواهبه ومناقبه، وأنت تشهدين والناس كلهم يشهدون بأنه لا يُبارى في مواهبه ومناقبه. ولا ريب عندي أنه سيبلغ أرقى مراتب الجند، فقد سمعنا بأناس من رقيق البلاد ابتاعهم الخليفة وربَّاهم وجنَّدهم فبلغ بعضهم وبلغوا مراتب القواد. فكيف بضرغام وهو كما تعرفينه وأعرفه!» وكانت تقول ذلك ولسانها يكاد يتلعثم لخفقان قلبها وثورة عواطفها.
فأدركت القهرمانة مما سمعت أنها عالقة بضرغام، وهي تعرف ثباتها على رأيها فلم ترَ أن تعارضها لكنها قالت: «لا شكَّ عندي أن ضرغامًا سينال مرتبة عليا في جند المعتصم، ولكن عروس فرغانة أرقى من أن ينالها القواد؛ فإن الملوك يخطبون رضاها.» قالت ذلك جادة تعني ما تقول لا على سبيل الإطراء والمجاملة. ولكيلا تترك لجهان وقتًا للتفكير والجواب أظهرت أنها تعبت من الركوب والْتفتت إلى ما حولها فوجدت أنها على مقربة من تلٍّ يشرف على أودية كانت تأتيها جهان للصيد، فقالت لها: «ألا ترين أن نترجل للاستراحة هنا قليلًا ثم نعود إلى الركوب إذا شئت؛ لأني لا أصبر صبرك على هذه المشقة؟»
فأجابت جهان بالقبول. وترجَّلَتا فسارع السائس إلى الجوادين فانتحى بهما ناحية، وافترش لنا ذنبها على صخرة مبسطة فوق التل قعدتا عليها واشتغل هو بعلف الجوادين. ثم أشارت جهان إلى الخادمين بأن يتوغَّلا في الأودية يستطلعان حال الصيد هناك.