فتح عمورية
أعدَّ المعتصم جنده للقتال، وجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد ومعه ٣٢٨ رجلًا هم أهل العدالة فأشهدهم على ما وقفه من الضياع، جاعلًا ثلثه لله، وثلثه لولده، وثلثه لمواليه. ثم تجهَّز إلى عمورية بالسلاح والعدد والآلات وحياض الماء والروايا وغير ذلك، وجرَّد جيشًا عظيمًا بلغ تسعمائة ألف مقاتل. عليه من القواد الأفشين وأشناس وغيرهما. وخرج المعتصم نفسه على دابته وخلفه حقيبة فيها زاد تشبهًا بالمجاهدين في صدر الإسلام.
وفرَّق جنوده في جهات مختلفة من بلاد الروم حتى الْتقوا قرب أنقرة وعزموا على المسير إلى عمورية. فأمر المعتصم بتعبئة الجند فجعله ثلاثة معسكرات أحدهما في الميسرة وعليه أشناس التركي، والثاني في الوسط وفيه المعتصم نفسه، والآخر في الميمنة وقائده الأفشين. وجعل بين كل معسكر ومعسكر فرسخين. وأمر بأن يكون كل معسكر ميمنة وميسرة، وبأن يحرقوا ما يصادفهم من القرى ويخربوها ويأخذوا من فيها. ثم ترجع كل طائفة إلى موضعها فيما بين أنقرة وعمورية وبينهما سبع مراحل. ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية وكان أوَّل من أتاها أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين. فداروا حولها وقسمها المعتصم بين القواد وجعل لكل واحد منهم أبراجًا منها على قدر أصحابه.
وكان ضرغام في معسكر المعتصم، والمعتصم يقربه ويكرمه، وكان في حاشيته أيضًا الحارث السمرقندي وقد أخذ الحسد منه مأخذًا عظيمًا لما شاهده من منزلة ضرغام عند الخليفة، وضرغام لا يكترث وإنما همُّه أن يُوفق إلى إنقاذ جهان، وكذلك كان وردان يتوق إلى لقاء هيلانة.
وحينما حطَّا رحالهما هناك، صعدا إلى رابية أطلَّا منها على عمورية فرأياها مدينة كثيرة الأبنية واسعة الأرجاء حولها سور عالٍ عليه الأبراج الضخمة وله الأبواب المتينة، ورأيا بين الأبنية قصرًا تخفق عليه الرايات، فعلم ضرغام أنه قصر البطريق وأن جهان فيه، فتنهد ونظر إلى وردان فرآه مطرقًا فسأله: «أليس هذا قصر البطريق؟» قال: «بلى، هذا هو بعينه.»
قال: «إذا صحَّ قول حماد فإن جهان وهيلانة محبوستان فيه، وأرى المدينة حصينة، ولكنها لا تمتنع علينا بإذن الله. هل أعددت الراية المزدوجة التي أوصانا حماد بها؟»
قال: «نعم أعددتها ولكن كيف السبيل إلى نشرها ونحن في معسكر المعتصم تحت رايته.»
قال: «ننشرها في مكان منعزل عسى حماد أن يكون في انتظار رؤيتها كما ذكر في كتابه.»
قال: «غدًا أقف لها على هذه الرابية نحو ساعة لنرى ما يكون.» وعاد إلى المعسكر.
وفي اليوم التالي عقد المعتصم مجلسًا حضره القواد ورجال خاصته وفيهم الصاحب والحارث السمرقندي، وأخذوا في وضع خطة القتال. ولما أذن المؤذن لصلاة الظهر تفرقوا ودخل الخليفة فسطاطه وأشار إلى الصاحب أن يأتيه صباح الغد، فرجع إلى فسطاطه فرأى وردان في انتظاره وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا فسأله عن الراية فقال: «وضعتها على الرابية.»
فقال: «كيف تركتها وما لي أراك متجهمًا؟»
قال: «تركتها لأمر أهمَّ منها.»
قال: «وما ذلك؟»
قال: «رأيت سامان اللعين في معسكر الأفشين مقربًا منه ملحوظ المنزلة، فلم أستطع الصبر على رؤيته وحدَّثتني نفسي أن أبطش به.»
قال: «لا تفعل، إننا في موقف يقتضينا جمع الكلمة. فإذا رفعت يدك على سامان أغضبت الأفشين فتوقظ الفتنة في الجيش، فاترك سامان إلى وقت آخر، وامضِ إلى الرابية وراقب الأسوار وامكث هناك ليلًا.»
فمضى وردان لشأنه، وما خلا ضرغام إلى نفسه حتى أخذ يفكر في حاله؛ متنقلًا بخياله من جهان إلى أمِّه إلى حماد إلى الأفشين، حتى أخذه النعاس فنام واستيقظ على صوت وردان يناديه، ففتح عينيه فإذا هو في المساء وقد أظلمت الدنيا فظنَّ أن وردان جاء يبشره بلقاء حماد فقال: «هل أتى حماد؟» قال: «كلا.»
قال: «وكيف عدت وتركت الراية؟!»
قال: «تركتها لأمر لم أستطع كتمانه إلى الغد، ولا بد من أن تعلمه قبل أن تذهب في الصباح إلى المعتصم.»
قال: «وما هو؟ قُلْهُ بكلمتين وإلا فدعني أرافقك إلى الرابية أساهرك وتقصُّه عليَّ هناك.»
قال: «ليس حديثي طويلًا لكنك إذا صحبتني إلى الرابية كان هذا أجدى.»
فنهض ضرغام ولبس ثيابًا لا تميزه عن سواه من الجند وخرج مع وردان، وكانت الرابية واقعة بين معسكر المعتصم وبين معسكر أشناس، فمرَّا بكثير من الفساطيط بين مضيء ومظلم، فقال ضرغام: «أراك تسير بي في غير الطريق المستقيم.»
فقال: «أريد أن أريك شيئًا طريفًا. هل تعرف هذا الفسطاط إلى يسارنا؟»
قال: «أعرفه، هو فسطاط العباس بن المأمون. ما لنا وله؟»
قال: «اكتشفت سرًّا لو عرفه المعتصم لقلب المعسكر رأسًا على عقب!» قال: «ما هو؟»
قال: «لما عدت من عندك هذا النهار، مررت من هنا فرأيت الحارث السمرقندي خارجًا من هذا الفسطاط وقد خفَّ العباس لوداعه وبالغ في إكرامه، فقلت في نفسي: «لأمر ما هذا الإكرام؟» وأنا أعلم أن السمرقندي ناقم على المعتصم لأخذه ياقوتة منه، ولِما رآه من تقديمه إياك. ولا يخفى عليك ما في نفس العباس بن المأمون على المعتصم؛ لأنه أخذ الخلافة منه، وكان بعض القواد يريدونها له، ولكنه جبن عن طلبة البيعة فنالها المعتصم. وقد سمعت وأنا في سامرا أن الحارث السمرقندي كان من الساعين في خلع المعتصم ومبايعة العباس، لكنهم تهيبوا الإقدام على هذا الأمر خوفًا من الجند، فلما رأيت الحارث خارجًا من فسطاط العباس اليوم حدثتني نفسي بأمر ذي بال بينهما.»
وكان وردان يقصُّ حديثه همسًا حتى وصلا إلى الخيمة المنصوبة على الرابية والليل مظلم، فرأى ضرغام رجلًا نائمًا عند باب الخيمة وله شخير كخوار الثور وشمَّ رائحة الخمر فقال: «من هذا؟ كأني أشم رائحة الخمر!»
قال: «هذا ناقل السر إليَّ، وهو من عبيد الحارث عرفته في سامرا فاحتلت في دعوته إليَّ وسقيته خمرًا حتى سكر وقصَّ عليَّ الحديث الغريب الذي سأقصه عليك، فهل تدخل الخيمة أم أتم الحديث خارجها؟ إني والحق يُقال لا أرى لحراسة الراية في هذه الظلمة فائدة؛ لأن الظلام يحول دون رؤيتها على عشر أذرع فكيف من عمورية؟»
قال: «صدقت ليس القصد أن يراها حماد من هناك ليلًا، ولكنه قد يراها ساعة الغروب ويحتال في الخروج بعد قليل فلا يراها أو ربما وقع بصره عليها في صباح الغد فيأتي وأنت لا تزال عندها. اقصص علينا ما سمعته من العبد.»
فمشى وردان إلى صخرة على بضع أذرع من الرابية وضرغام يتبعه، فجلسا وأخذ يقصُّ عليه فقال: «أخبرني العبد أن سيده الحارث اتفق مع العباس على أن يكون رسوله إلى القواد في هذا المعسكر، وبعضهم تحت قيادة الأفشين وبعضهم من رجال أشناس وآخرون من جند المعتصم؛ ليأخذ البيعة له منهم، فأخذ يدور بالمعسكرات الثلاثة حتى بايعه نفرٌ من القواد وفيهم جماعة من خاصة المعتصم، وقال لكل من بايعه: «إذا أظهرنا من أمرنا فليثب كل منكم على الأمير الذي هو معه ويقتله»؛ فوكَّل من بايعه من خاصة المعتصم أن يثبوا في الأجل المضروب على المعتصم ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة الأفشين أن يثبوا على الأفشين ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة أشناس أن يقتلوه. وهكذا.»
وكان ضرغام يسمع كلام وردان مطرقًا يهزُّ رأسه استغرابًا ويقول: «قبَّحهم الله من خونة مارقين.»
فقال وردان: «إني أرى العباس أعقلهم جميعًا فقد فهمت من محدثي أنه لم يوافقهم على تنفيذ المكيدة الآن خوفًا من تضييع الفتح، فأحببت أن أطلعك على ما سمعته وأنت ذاهب غدًا إلى الخليفة فتنقله إليه إذا شئت.»
قال: «كلا يا وردان. لا ينبغي أن يعلم الخليفة ذلك وإلا فإننا نجرُّ على المسلمين ما نتحاشاه من الفتنة، ولكننا نكتمه إلى حينه، ولا سيما أنهم أجَّلوا تنفيذه. ويكفي أن نسهر على حياة أمير المؤمنين.»
فأُعجب وردان بأريحية ضرغام وقال: «بُورك فيك يا بطل. هذا هو الرأي الصواب.»
قال ضرغام: «ولكنك أخطأت؛ إذ بقيت العبد هنا فإذا صحا عرف المكان وربما وشى بك، والأحسن ألا يعرفه، فانقله الآن وهو بين السكر والنوم وأنا أمكث هنا حتى تعود.»
قال: «أصبت.» ونهض وأخذ في إيقاظ العبد وهو لا يصحوا فجعل يوقفه أو يقوده أو يجرُّه حتى بَعُد به عن فسطاطه واقترب من فسطاط العباس فألقاه هناك ورجع، وكان الليل قد انتصف ونام من في المعسكر.
فلما عاد إلى ضرغام قال له هذا: «أنا ذاهب إلى خيمتي فامكث هنا حتى الصباح.» قال: «سمعًا وطاعة.»
اتجه ضرغام نحو فسطاطه وهو غارق في تفكيره، وقبل أن يصل إليه سمع لغطًا بينه وبين السور، فالْتفت فرأى جماعة من حراس المعسكر يقودون رجلًا أمسكوا بخناقه وهو يقول: «خذوني إلى الصاحب.»
فلما سمع صوته أجفل؛ لأنه صوت حماد، فأسرع إلى فسطاطه ولبث في انتظار وصولهم، وبعد قليل دخل أحدهم وقال: «أخذنا جاسوسًا دخل المعسكر من جهة المدينة وزعم أنه قادم إليك.» قال: «أدخلوه.»
فدخل فتبينه فإذا هو حماد بعينه فقال: «دعوه.» فتركوه ورجعوا. فلما خلا إليه حيَّاه ورحَّب به وأجلسه بجانبه وسأله عن جهان فقال: «لا تزال عند البطريق.»
قال: «ألم تنقل خبرنا إليها؟»
قال: «كلا. لم أستطع الظهور قط، ولما رأيت جندكم بالأمس تطلعت إلى الأعلام فلم أرَ الراية المزدوجة إلا هذا المساء، ولم أستطع الخروج إلا الآن بحيلة شيطانية فتهت عنها، ولما أخذني الحراس طلبت إليهم أن يحملوني إليك كما ترى.»
قال: «أهلًا وسهلًا. فجهان لا تزال في قصر ناطس؟»
قال: «نعم وهيلانة معها، والرجل شديد الحرص عليهما، ولا تغضب، فإنك ظافر بما تريد عن قريب.»
قال: «وكيف ذلك؟ إني أرى الأسوار منيعة وسيطول الحصار على ما أرى.»
قال: «سأجعله قصرًا بإذن الله.»
قال: «هل تعرف مدخلًا سهلًا؟»
فضحك وقال: «نعم، أعرف مدخلًا يسهل الفتح، هل أدلك عليه الآن؟»
قال: «إني مبكر غدًا إلى الخليفة، وسأطلعه على ما عندك من أخبار العدو ونجعل ذلك ذريعة لرضائه عنك فيغفر لك ما مضى.» قال: «حسنًا.»
فقال ضرغام: «أظنك في حاجة إلى الراحة. هذا فراشٌ نَمْ عليه وأنا أنام هنا ونذهب في الصباح معًا.»
وأصبحا في الغد وقصدا إلى فسطاط المعتصم فاستأذن ضرغام عليه فدخل واستبقى حمادًا خارجًا، فرحَّب به الخليفة وقرَّبه ولحظ ضرغام في وجه المعتصم تجهمًا، فتهيَّب وسكت فقال المعتصم: «أتدري لماذا دعوتك يا صاحب؟»
قال: «ليس لي علم الغيب يا مولاي.»
فتنهَّد المعتصم وقال: «كنت وأنا في سامرا أستأنس بالقاضي أحمد وأطلعه على سري، أما الآن فأراني في حاجة إلى مشاورتك بعد أن خبرت صدق نيتك.»
قال: «إني عبدٌ مخلص لمولاي.»
قال: «أتذكر أن شكوت إليك ارتيابي في الأفشين؟» قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «كنت أستعظم ما رأيته من جشعه، ولكنني أصبحت الآن لا أعد طمعه شيئًا مذكورًا بجانب ما أراه في هذا المعسكر من الدسائس، هل عرفت شيئًا من ذلك؟»
قال: «لم أفهم مراد مولاي.» وقد فهمه لكنه تغابى.
قال: «بلغني أن قومًا أجمعوا على نقل البيعة إلى العباس بن المأمون أخي ويريدون قتلي.» قال ذلك وعيناه تقدحان شررًا من الغيظ.
فرأى ضرغام من الحكمة أن يخفف عنه فقال: «لا أعرف شيئًا من ذلك وإن كنت لا أستبعده؛ لأن الخلافة ما برحت من عهد الراشدين مطمح أنظار الطامعين، وهبْ أن بعضهم تحدثه نفسه بذلك، فإنه صائر إلى الفشل المحقق، وإنما نحن الآن أحوج إلى جمع كلمتنا لنتمكن من أعدائنا المحدقين بنا. فهل أدلُّ مولاي على ما يُذهِب عنه الغضب؟»
فانبسطت أسرَّة المعتصم وقال: «ما وراءك؟»
قال: «أتيت أمير المؤمنين برجل خرج إلينا في مساء الأمس من عمورية، وهو يعرف مداخلها ومخارجها. هل أدخله على مولاي؟» قال: «يدخل.»
فنهض ضرغام ونادى حمادًا فدخل ووقف وألقى التحية، فلما رآه الخليفة عرفه، فعبس ولكنه أشار إليه بالجلوس، فجلس جاثيًا فنظر المعتصم إلى ضرغام وقال: «كأني أرى حمادًا العربي بين يدي؟»
قال: «نعم، هو عبد أمير المؤمنين، وقد يكون سبق منه ذنب فعفو مولانا أوسع.»
قال: «ما الذي جاءنا به؟»
فقال حماد: «قُضي عليَّ أن أدخل هذه المدينة منذ بضعة أسابيع فعرفت حصونها ومعاقلها، لما رأيت جند أمير المؤمنين بالأمس بذلك جهدي ففررت وأتيت.»
قال: «وماذا تستطيعه في خدمتنا؟»
قال: «أدلُّ أمير المؤمنين على عورات البلد فيسهل عليه فتحها؛ إن لهذه المدينة سورًا منيعًا، وحدث أن سيلًا جرف جزءًا منه، فكتب الملك إلى عامله ليعيد بناءه فتوانى فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يأتي عمورية ويرى السور خرابًا فبنى وجهه حجرًا وعمل الشرف على جسر من خشب وإذا شاء مولاي دللته عليه من هنا.»
فنهض الخليفة وقال: «أرنيه.»
فدلَّه على مكانه من بعيد، فلما رآه أثنى عليه وقال: «إذا صدقت فيما تقول فلك الجزاء الحسن.»
فقال ضرغام: «أنا أضمن صدقه يا مولاي، فهل يأمر أمير المؤمنين بتعجيل الجزاء.»
قال: «نعجله إكرامًا لك، ما جزاؤه؟»
قال: «إنه لا يطلب مالًا وإنما تأذن له بجاريتك ياقوتة فيتزوجها.»
فقال: «ياقوتة زوجتك؟!»
فوجم ضرغام ثم قال: «نعم ياقوتة التي أمر أمير المؤمنين أن تكون زوجة لي فجرؤت على حلم مولاي ولم أتزوجها لعلمي أنها مخطوبة لصديقي هذا، فحفظتها عندي أمانة له، فإذا شاء أمير المؤمنين أن يغمرنا بنعمه عفا عنَّا وأذن أن تكون ياقوتة زوجة لحماد بعد رجوعنا من القتال ظافرين بإذن الله.»
فأُعجب الخليفة بأريحية ضرغام وكرم أخلاقه وابتسم له وقال: «قد عفونا عنكما. وأحب أن يكون حماد من خاصتي وسأغدق عليه النعم.»
فشكر كلاهما فضله عليهما فقال: «هلمَّ بنا إلى العمل.» وأمر أن يُنقل فسطاطه أمام السور المتخرب ونصب المجانيق عليه فتخرب فجعل الروم بدلها أعوادًا كل عود بجانب الآخر فكان المنجنيق يكسر الخشب فجعلوا عليه البرازخ، فلما ألحَّت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور وألح المعتصم بالحصار وكان حول السور خندق عميق لا يمكن تجاوزه ولولاه لأُخذت المدينة. فأشار ضرغام على الخليفة أن يطمه بجلود الغنم المملوءة ترابًا ففعل، وعمل دبابات كبيرة تسع الواحدة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور فدحرجوا واحدة منها فلما صارت في نصف الخندق تعلَّقت بتلك الجلود فما تخلَّص مَنْ فيها إلا بعد جهد، وعمل سلالم ومنجنيقات.
وكان ضرغام يلح على الخليفة أن يأذن للجند بالهجوم يريد سرعة الوصول إلى جهان والخليفة ضنين به. فلم يأذن له ولكنه أمرَ بالحرب، فكان أول من هجم أشناس بأصحابه. وكان المحل ضيقًا فلم يمكنهم من الحرب فيه، فأمدَّهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور فجمع بعضها إلى بعض فوق الثلمة. وفي اليوم الثاني أمر المعتصم أن يهجم الأفشين وأصحابه وأجادوا الحرب. وفي اليوم الثالث هجم هو ورجاله وفيهم المغاربة والأتراك وهجم ضرغام وعمل أعمالًا تعجز عنها الأبطال ووردان إلى جانبه وكان قد علم بأمر حماد. وجعل ضرغام وجهته قصر البطريق.
وظلَّت الوقعة إلى الليل واحتدم سعيرها. وكان البطارقة قد اقتسموا أبراج السور فاختصموا وجاء بعضهم في الصباح وألقوا سلاحهم نكاية في الآخرين وساروا أمامهم إلى المدينة، ففشل الروم ودخلها المسلمون دخول الفاتحين وأمعنوا فيها نهبًا وقتلًا وسلبًا.
•••
قصد ضرغام إلى قصر البطريق يطلب حبيبته ومعه وردان وحماد، ولم يصل إلى القصر إلا بعد التعب المضني لشدة ازدحام الأسواق بمن دخلها من المسلمين للنهب والسلب والسبي، ولما دخلوا القصر وجدوا أبوابه مفتحة ولم يبقَ فيه شيء من المال أو النساء، فطافوا غرفه يبحثون فيها فلم يقفوا لجهان ولا هيلانة على أثر، فارتاب ضرغام في قول حماد وأدرك هذا ارتيابه فأقسم له على صدق قوله وقال: «يلوح لي أن بعض الجند دخلوا القصر ونهبوه وأخذوا أهله.»
فوقف ضرغام ووردان وقد سقط في أيديهما فقال وردان: «نبحث عنهما بين السبايا بعد انتهاء المعركة.»
أمر الخليفة بعد أن تمَّ النصر للمسلمين بوقف القتال وجمع الغنائم في ساحة المدينة لتُباع، فأخذ الناس يتزايدون فلا يُنادى على السبي الواحد أكثر من ثلاثة أصوات الْتماسًا للسرعة فكانوا يبيعون الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة لكثرته، والمعتصم يستعجلهم، وأمر بهدم المدينة فهدموها وأحرقوها.
أما وردان فإنه طاف بين السبايا أثناء البيع فلم يقف لامرأته ولا لجهان على خبر، فانقبضت نفسه وعزم على الرجوع إلى ضرغام لينظرا في الأمر. فمرَّ في طريقه على معسكر الأفشين فرأى فرس جهان الأدهم في جملة الغنائم وتحقَّق ذلك لما رأى سامان واقفًا إلى جانبه فتميز غيظًا لكرهه سامان وأمسك عن الفتك به إكرامًا لضرغام لعلمه أنه لا يريد ذلك. ثم أسرع إلى ضرغام وأخبره بما رأى فجاء ضرغام فرأى أدهم جهان وكان سامان قد ذهب. وما كاد ضرغام ينظر إلى وجه الأدهم ويرى صورة الأسد في جبهته حتى ثبت لديه أنه جواد جهان وغلب على اعتقاده أن جهان وهيلانة في جملة السبي الذي أخذه الأفشين، وهمَّ بأن يدخل عليه لساعته ليطلب منه جهان وهيلانة ثم تراجع خوفًا من إفساد نظام الجند وهو حريص على جمع كلمته، واعتزم أن يوسط الخليفة لإنقاذ جهان وهيلانة من يد الأفشين.
وسأل عن الخليفة فعلم أنه في دار العامة وقد تقاطر القواد والخاصة لتهنئته بالنصر، فمكث حتى خلا المجلس من الناس ومضى معظم النهار فاستأذن فأذن له، فرحَّب به الخليفة وأدناه منه وهشَّ له متلطفًا، فدعا ضرغام له وهنأه. ولحظ الخليفة انقباضًا في وجهه فقال: «كأني أرى الصاحب مغضبًا؟»
قال: «لا يغضب العبد بين يدي مولاه ولكنني قلق.»
قال: «وما الذي أقلقك يا صاحبي؟» قال: «أقلقني أن الأفشين تعدَّى عليَّ.»
قال: «بماذا؟ وعهدي بك حكيم لا تدع مجالًا لاختلاف.»
قال: «ليس الخلاف على منصب أو مغنم ولكن ساقت الأقدار فتاة خطبتها إلى عمورية، فوقعت سبية في يد الأفشين وهو يعلم أمرها فأخذها لنفسه.»
فاستغرب المعتصم كيف يكون له خطيبة في عمورية فقال: «زدني إيضاحًا.»
قال: «يذكر مولاي، زاده الله نصرًا، أنه أكرمني في سامرا بياقوتة وأمرني أن أتزوجها فخالفت أمره ولم أفعل، كما ذكرت له بالأمس، ولم يسألني أمير المؤمنين ساعتئذ عن السبب، وهو أني كنت علقت بفتاة أخرى من فرغانة خطبتها وتعاهدنا على الزواج يوم ندبتني للذهاب إلى فرغانة لجلب الجواري. وتُوفي أبوها أثناء ذلك وأتاني أمر الخليفة أن أرجع فرجعت إلى سامرا وأجَّلت الزواج. وحدثت بعد ذلك أحداث يطول شرحها آلت إلى خطف الفتاة حتى وصلت إلى عمورية. وكانت سجينة في قصر ناطس بطريقها.
فلما فتحنا المدينة طلبتها في القصر فلم أجدها. وبعد البحث علمت أنها عند الأفشين، وحدثتني نفسي أن أدخل عليه وأطالبه بها فخفت أن نختصم وتتفرق كلمة الجند ونحن أحوج إلى الاتحاد. فرجعت إلى مولاي أعرض عليه أمري ليرى رأيه.»
فأطرق المعتصم لحظة ثم قال: «هذا أمر يسير، فلا أظن الأفشين يمسك عليك خطيبتك، والسبايا كثيرات وقد بِيعت الواحدة بدراهم معدودة.» وصفق فجاء أحد الغلمان فأمره أن يستقدم الأفشين.
وبعد قليل جاء الأفشين فدخل وسلَّم فلما رأى ضرغامًا هناك أدرك سبب الدعوة ولكنه تجاهل وسكت، فقال له الخليفة: «دعوتك لأمر يهم الصاحب وأنت تعلم منزلته عندي.»
فابتسم الأفشين وقال: «إن الصاحب عزيز عليَّ وهو لا يجهل ذلك.» قال المعتصم: «إن بين السبايا اللائي وقعن في حوزتك فتاة يريدها منك.»
قال: «السبايا كثيرات وقد ابتعن بأثمان بخسة، وعندي منهم عشرات فإذا طلب خمسًا أعطيته عشرًا.»
فأدرك ضرغام تمويهه فقال: «أعني سبية معينة أنت تعرفها.»
قال: «أيهن؟» قال: «أعني جهان بنت المرزبان.»
فأظهر دهشته وقال: «وهل هي بين السبايا؟»
قال: «أظنها بينهن ومعها امرأة رومية اسمها هيلانة.»
فالْتفت إلى الخليفة وقال: «إذا كانت جهان بين السبايا فإني أسأل أمير المؤمنين أن يعفيني من إعطائها.»
فقال المعتصم: «الصاحب يقول إنها خطيبته وهو صادق.»
قال: «نعم، ولكن هذه الفتاة بمنزلة ابنتي، وقد أقامني أبوها وصيًّا عليها، ولا أظن الصاحب ينكر ذلك.»
فنظر المعتصم إلى ضرغام فرآه قد امتقع لونه وبان الغضب في وجهه. ولما شعر ضرغام بأن الخليفة ينظر إليه أمسك نفسه عن الغضب وقال: «سمعت بالوصية ولكن خطبتنا حدثت قبل كتابها.»
قال الأفشين: «لو صحَّ ذلك لذكرها صاحب الوصية في وصيته وهو لم يفعل فأنا أعد الفتاة غير مخطوبة ولا يجوز أن تخطبها إلا بأمري تنفيذًا لوصية أبيها.» قال ذلك والْتفت إلى المعتصم كأنه يستشيره فاحتار الخليفة؛ لأنه يحب أن ينال ضرغام طلبه ولا يحب أن يرى شقاقًا في جيشه فقال: «هب أن أبا الفتاة لم يعلم بالخطبة أو لم يعترف بها وأنت ولي أمر الفتاة الآن فنحن نخطبها منك.»
فأفحم الأفشين ووقع في مأزق بين أن يغضب الخليفة وبين ذهاب جهان من يده، فأطرق لحظة ثم قال: «إن أمر مولاي نافذ لا مرد له. وليكن بعد رجوعنا إلى سامرا إن شاء الله.»
فالْتفت المعتصم إلى ضرغام ولسان حاله يقول: «هذا هو الرأي الصواب.»
فعلم ضرغام أن الأفشين يماطل. وأنه ينوي ما يقول فقال محتدًّا: «إذا كان الأفشين قَبِل طلب أمير المؤمنين فليعقد الخطبة هنا.»
فابتسم الأفشين وأذعن وقال: «إذا أمر أمير المؤمنين فلا اعتراض. ولكني لا أدري أين السبايا الآن وأظنهن حُملن إلى سامرا.» ففرح ضرغام لاعتقاده بأن جهان في المعسكر بعد أن رأى جوادها فيه. فقال: «إذا لم تكن الفتاة هنا أجَّلنا الخطبة إلى يوم عقدها في سامرا، فليأمر أمير المؤمنين بأن يأتوا بها إليه.»
فنادى الغلامَ وأمره أن يذهب إلى معسكر الأفشين ويأتي بالفتاة السبية جهان. فاستمهله ضرغام وقال: «إن اسمها جلنار فهي معروفة بذلك في هذه الديار.»
خرج الغلام ومكث ضرغام كأنه على نار وقد هاجت شجونه وخفق قلبه تطلعًا لرؤية حبيبته بعد الفراق الطويل، وتخيَّل كم تكون دهشتها لما يقع نظرها عليه بغتة وهي تحسبه في عالم الأموات. وقضى في ذلك دقائق حسبها ساعات حتى عاد الرسول وقال: «إن السبايا أُرسلن إلى سامرا هذا الصباح.»
فوقع الخبر وقوع الصاعقة على رأس ضرغام، فسكت وقد عزم في سرِّه أن يكلف وردان بتدقيق البحث عن جهان فإذا كانت لا تزال في المعسكر أخذها عنوة.
فلما أذن المعتصم لهما بالانصراف، ذهب توًّا إلى فسطاطه ليرى وردان فلم يجده فسأل العبيد عنه فقالوا إنهم لم يروه منذ الصباح ولا يعرفون مكانه. فخرج للبحث عنه في فسطاطه فلم يجده ولم يجد حمادًا، وكان يتوقع أن يراهما معًا، فقلق وهو في أشد الحاجة إلى وردان. فخرج بنفسه لتفقد جواد جهان حيثما كان في الصباح فلم يجده فأيقن أن الأفشين صدق وأنه لا يجرؤ على الكذب على الخليفة، فرجع إلى فسطاطه وكظم ما في نفسه.