محاكمة الأفشين
كان الأفشين قد أمر بإخراج السبايا من المعسكر في صباح ذلك اليوم، وقد حسَّن له ذلك سامان، وهو الذي دلَّه على مقرِّ جهان في قصر البطريق وأشار عليه بسبيها، وكان يتتبع خطاها منذ كان في البذ فعرف بخروجها إلى بلاد الروم ونزولها عمورية، وكان يفعل ذلك طمعًا بما وعده به الأفشين من أمر الوصية. فلما فُتحت عمورية ذهب إلى أخته وأظهر لها أنه جاء لنجدتها وأن الأفشين جرَّد هذه الحملة لإنقاذها وأخذ يحسن لها الرضاء به وهي لا تجيبه فحملها رجال الأفشين إلى معسكره على فرسها قبل وصول ضرغام إلى القصر ومعها هيلانة، وكانت تعزية كبيرة لها وقد تحابتا وتآلفتا وكل منهما تحسب نفسها شريدة لا نصير لها. فلما صارتا في معسكر الأفشين شقَّ على جهان أسرها وحدَّثتها نفسها أن تطلب مقابلة المعتصم وتستجير به من الأفشين، فأتاها أخوها وحبَّب إليها السكوت، وذكر لها أنه سيأخذها إلى سامرا فتكون هناك كما تشاء. فلما ذكر سامرا تذكرت ضرغامًا وفي نفسها بقية أمل بوجوده أو معرفة حقيقة حاله من أمه إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، فوافقته واشترطت أن تكون هيلانة معها فقبل. وكان غرض سامان أن يفرَّ بجهان قبل أن يعلم بها ضرغام، فلما رأى وردان في الصباح يبحث عنها أسرع إلى الأفشين وأشار عليه بأن يسرع بإرسالهما رأسًا إلى أشروسنة للاحتفاظ بهما هناك ففعل، ثم أسرع سامان وأعدَّ الأحمال وحامية تحرسهم في الطريق ورحل خلسة. ولما جاء رسول الخليفة بطلب جهان كان قد مضى على خروجهم بضع ساعات وهم على ظهور الخيل.
أما ضرغام فأصبح لا يدري ما يفعل وقد أدهشه غياب وردان وحماد، وخاف أن يكونا قد أُصيبا بسوء، وظنَّ أن الأفشين أوقعهما في تهلكة.
وبقي الجند في عمورية عدة أيام قضوا بعضها في بيع الغنائم والأسرى، وكانت كثيرة، ربح تجار اليهود منها ربحًا جزيلًا. وقضوا أيامًا بعد ذلك في هدم المدينة وإحراقها، وقتلوا من أهلها جمعًا كبيرًا وسلَّم ناطس نفسه.
فلما فرغوا من ذلك أمر المعتصم بالرجوع إلى سامرا، وضرغام في قلق لا مزيد عليه، ورجع مع الراجعين وهو يرجو أن يرى طلبته في سامرا. واتفق له أثناء الرجوع أنه رأى في عرض الأفق فرسانًا لم يقع نظره على خيولهم حتى اختلج قلبه؛ لأنه رأى بينها جوادًا عرف أنه جواد وردان، فهمز جواده لملاقاة الركب ولما اقترب منهم عرف اثنين هما وردان وحماد فصاح: «وردان؟»
فقال: «لبيك يا مولاي.» وفي صوته رنة السرور والظفر.
فقال: «أين كنتما فقد قلقت عليكما؟»
قال وردان: «كنا في سامرا.» قال: «لماذا؟»
قال وهو يضحك: «أوصلنا العروسين إليها ورجعنا.» قال ضرغام «أي عروسين؟»
قال: «جهان وهيلانة.»
قال: «كيف ذلك؟! قُلْ، قل حالًا.»
قال: «رأيتك تصانع الأفشين ولا تخاطبه إلا على يد الخليفة، ورأيته يخادعك ويبغي الفرار بهما إلى حيث لا تعلم. والعمر لا يتسع للتفتيش عليهما مرة ثانية. فخطر لي أن أعمد إلى القوة على غير علمك لئلا تشير عليَّ بأن أتجنب أسباب الشقاق. وكنت قد علمت أن الأفشين يحاول الفرار بهما وقد أمر سامان بذلك، فاتفقت مع حماد على أن نأخذهما بالقوة ونأخذه معهما، وقد فعلنا وأصلنا العروسين إلى بيت الصاحب في سامرا، وزججنا سامان في السجن حتى نعود.»
ففرح ضرغام في قلبه ولكنه قال: «ألم يكن الأولى أن نبقي على عهد الأفشين، فقد وعدني بين يدي الخليفة أن يعقد لي على جهان حالما نرجع إلى سامرا.»
قال: «وهل صدَّقت أنه ينوي إرسالها إلى سامرا؟»
فالْتفت إلى حماد وقال: «وأنت أيها الصديق أرجو أن تكون قد سعدت برؤية ياقوتة، ولكن لماذا رجعت؟»
قال: «رجعت لأكون في معيتك وأتمَّ خدمتي لك.»
وكانت الحملة سائرة فرقًا وضرغام في فرقة المعتصم ليكون قريبًا منه. ولما أمسى المساء حُطَّت الأحمال ونزل الناس للراحة والرقاد.
وقصَّ وردان على ضرغام حديث مكايد جديدة يكيدها القوم للمعتصم من قبيل ما كان أطلعه عليه وأن حياة الخليفة في خطر ولا بد من إبلاغ الخليفة الأمر.
فقال حماد: «أنا أنقل الخبر إلى الخليفة وإنما أطلب من ضرغام أن يدخلني عليه في خلوة.»
قال: «قم بنا الآن.» وكان الوقت عشاء، فلما وصلا إلى فسطاط الخليفة استأذن ضرغام في خلوة فأذن له، فدخل ومعه حماد فقال الخليفة: «ما وراءك يا صاحب؟»
قال: «عند صديقي حماد عبد أمير المؤمنين مخبآت مهمة. إذا أذن له كشفها.»
قال: «قل واحذر الانحراف عن الصواب.»
فقصَّ عليه تواطؤ القواد على قتلة ومبايعة العباس، وسمِّى المتآمرين، وفيهم الشاه ابن إسماعيل الخراساني، والحارث السمرقندي، وعجيف بن عبسه، وغيرهم، فاهتمَّ المعتصم بالأمر واستقدم المتهمين واستجوبهم فاعترفوا، فقتلهم على أساليب مختلفة لا محل لذكرها. واحتفظ بالعباس حتى وصلوا إلى سامرا فساء اللعين وأخذ أولاد المأمون فحبسهم في داره حتى ماتوا، وعدَّ المعتصم هذه الخدمة جميلًا لضرغام وحماد معًا وأنعم عليهما.
أما الأفشين فبلغه من بعض رجاله ما صنعه وردان وحماد. فصبر حتى وصل سامرا فيشكوهما ويشكو ضرغامًا إلى الخليفة.
ولما دنت الحملة من سامرا أخذ قلب ضرغام في الخفقان لعلمه أنه سيلقى جهان بعد طول فراق.
•••
كانت جهان بعد أن خطفها وردان وحماد قد عادت إليها آمالها. وكانت لما رأتهما هاجمين بمن معهما من الرجال لاختطافهما قد استعاذت بالله من توالي الإحن عليها وأرادت الدفاع، ثم سمعت صوت وردان وسمعته أيضًا هيلانة زوجته فانحازتا إليه، ولا تسل عن حال هيلانة لما سمعت صوت زوجها وهي تحسبه بين الأموات؛ فترامت عليه وتبادلا آيات الشوق والحب. فأمر الذين معه بالقبض على سامان قبل أن يفرَّ، فقبضوا عليه وشدوا وثاقه، وتقدَّم وردان إلى جهان فلما رأته قالت: «وردان؟» قال: «نعم يا سيدتي أبشري بالسلامة واللقاء.»
فصاحت: «اللقاء … ضرغام … ضرغام … أين هو؟!»
قال: «في سلامة وخير، وسيأتي بعد أيام قليلة. وأنا ذاهب بك إلى منزله في سامرا تمكثين مع أمه حتى يصل.»
فظنَّت نفسها في حلم وتفرست ثانية في وردان وقالت: «وردان. أضرغام حيٌّ؟» وتذكرت أن سامان أول من أنبأها بموته فالْتفتت إليه وقد شُدَّ وثاقه إلى ظهر الفرس فرأته ينظر إليها بذلة واستعطاف إذ سمع ما دار بينها وبين وردان، فحوَّلت وجهها عنه ورأت صديقتها هيلانة ملتصقة بوردان يكادان أن يطيرا فرحًا فقالت لها: «هل تعرفين وردان قبل الآن؟»
فقالت هيلانة: «هذا زوجي يا مولاتي!»
قالت: «زوجك البطريق الذي قصصت عليَّ خبره؟!»
قالت: «نعم، هو هو … الحمد لله على لقائه، ولك الهناء ببلوغك مقرِّ خطيبك.»
وسألت جهان: «أين ضرغام؟» فقال وردان: «إنه في عمورية وإنهم سينتظرونه في سامرا.» ومشوا نحو سامرا وكلٌّ فرحٌ بما لديه. وقضوا مسافة الطريق يتحدثون بما مرَّ بهم من الغرائب. وقصَّ وردان على جهان ما حظي به ضرغام عند المعتصم وكيف سمَّاه الصاحب وأسباب ذلك، وأخبرها خبر حماد وخطيبته ياقوتة وما بينهما من الشبه العجيب.
ولما وصلوا إلى سامرا بعث وردان بسامان إلى صاحب السجن، وقال له: «إن الصاحب يأمر بسجن هذا الجاسوس.» وبعث كذلك إلى آفتاب ينبئها بقدوم جهان فكان لالتقائهما دهشة يندر مثلها، وآفتاب لا تمل لمس جهان وضمها وتقبيلها. أما ياقوتة فكان فرحها بحماد عظيمًا، وكانت عالمة ببقائه حيًّا ولكنها دُهشت لما رأت جهان فظنت أنها ترى نفسها بمرآة لشدة المشابهة بينهما ولم تكن جهان أقل اندهاشًا منها. فلما أتمَّ وردان مهمته عزم على الرجوع إلى عمورية فرجع حماد معه.
ومكث أهل الجوسق على مثل الجمر في انتظار ضرغام.
وبعد بضعة عشر يومًا جاءت البشائر برجوع المعتصم وجنده ظافرًا، فزُيِّنت سامرا واصطفت المواكب والجنود ورُفعت الأعلام وضُربت الطبول وضجت المدينة فرحًا، وخرج النساء والرجال للفرجة، واشتغل الناس بهذا الاحتفال عن كل شيء.
أما جهان فإنها لم تكن تسمع صوتًا ولا ترى شبحًا وإنما كانت عيناها شائعتين نحو باب الجوسق لعلها تشاهد ضرغامًا داخلًا في موكب الخليفة فلما دخل الخليفة لم ترَ أحدًا.
وفيما هي في لهفتها سمعت سعالًا في الدار فارتعدت فرائصها؛ لأنه كان سعال ضرغام، فأرادت أن تجري للقائه فلم تسعفها قدماه واحمرَّ وجهها ثم علاه الاصفرار ولكنها تجلدت وتمالكت واستعادت رباطة جأشها ومشت. وكان ضرغام قد دخل الغرفة فرأى جهان تمشي مشية الجلال والوقار وعيناها تتكلمان كأنهما خطيب على منبر يدعو الناس إلى التعبد أو إلى التفاني في الحب. فانحنى مسلمًا وبوده أن يكون سلامه معانقة لولا العادة التي تحول دونه. ثم وقف ومدَّ يده إليها فمدت يدها وابتسما ابتسامة أغنت عن حديث طويل ثم قال: «مرحبًا بعروس فرغانة. لقد أطلْتِ علينا الغياب وطال بنا الطريق، مع أن طريق المحبين قصير على ما يقولون!»
فضحكت وقالت: «طال الطريق لوعورته وكثرة عقباته. ولكن ماء السكر كلما زدته غليانًا زادك حلاوة.»
قال: «لكني خشيت أن يجفَّ ماؤه فيحترق.»
قالت: «أوشك أن يحترق لو لم أرطبه بدموعي!» قال ذلك وأبرقت عيناها وتلألأت فيهما دمعتان ونظرت إليه نظرة وقعت كالسهم في قلبه فقال لها وقد أخذ الهيام منه مأخذًا عظيمًا: «أبمثل هذه الدموع كنت تنفين الاحتراق؟»
قالت: «نعم، ولكن شتان بين دموع الفرح، وأشكر الله على كل حال.»
وكانت يدها لا تزال في يده، فضغط عليها وقادها إلى مقعدها هناك وهو يحدق في عينيها ويقول: «أراك تشكرين الله وعهدي بك تشكرين أورمزد، فمتى حدث التغيير؟»
فقالت وهي تمشي معه حتى جلسا متحاذيين وقد نسيا الوجود: «حدث يوم تبدلت حالي وشغل فؤادي فأصبحت لا أملك شعوري ولا أرى هذا الوجود إلا كما يشاء ضرغام. ولا آسف إلا على زمن غلب فيه اليأس على قلبي، يوم بعثت أخي سامان وغيره للبحث عن ضرغام في سامرا فعادوا وقالوا: «غير موجود»، وزاد بعضهم أنه ليس على الأرض. تبًّا لتلك الساعة كم أحدثت وكم غيَّرت. ولكني نسيت كل ذلك الآن، لا أعلم إلا أني أسعد اليوم مما كنت بقربك في فرغانة. كنت يومئذ سعيدة عن جهل لأني لم أجرب الشقاء، وكنت أتلذذ بقربك مندفعة بتيار الحب وأنا لا أعرف اللقاء، وأما اليوم فقد عرفت أن السعادة يزيد مقدارها كلما زاد الشقاء في سبيل الحصول عليها. لو عرفت ذلك يوم اجتماعنا في فرغانة لفضلَّت أن أجاهد في سبيل حبك قبل الوصول إلى قربك.» قالت ذلك وقد غلب عليها الهيام ونسيت رباطة جأشها وكبر نفسها وهو ينظر إليها شغل بمعاني وجهها وسحر عينيها عن تفهم كلامها، ففرغت من حديثها وهو لا يزال يرنو إليها كأنها لا تزال تخاطبه.
ثم انتبه لنفسه وخجل من سهوه ونسي ما كانا فيه فقال: «كم أحب أن أسمع ما قاسيته أثناء هذه الغيبة وقد سمعت بعضه ولكني ألتذ أن أسمعه من فيك. ولا ريب عندي أنك تحبين الاطلاع على خبري والحديثان طويلان سنتبادلهما في فرصة أخرى. ولو بقيتُ بجانبك الدهر كله لا أرتوي من النظر إليك يا جنتي وحياتي، وصدقت، إن الحب تزداد لذته كلما زاد التعب في سبيله، ولم أكن أحسب حبنا يقبل الزيادة وحاشا أن يقبلها، ولكنه يزداد بالتعب حلاوة وصفاء.»
فوقفت وهي تقول: «صدقت، إن تلذذنا باللقاء لا نهاية له، فينبغي أن ننظر إلى الآخرين. هل رأيت أمك؟» قال: «لم أرها بعد.»
قالت: «هنيئًا لك هذه الأم الحنون، وكم هي في شوق إلى لمسك وشمك.»
وخرجت معه إلى الدار وفيها أمه فشعرت بها، فقبَّل ضرغام يدها وهمَّت هي به ضمًّا وتقبيلًا. وكانت ياقوتة واقفة هناك فقالت جهان لضرغام: «ألم تكن تستأنس برؤية ياقوتة أثناء غيابي؟»
قال: «ربما استأنست حينًا وغصصت بريقي أحيانًا، وإن هذا الشبه بينكما دلَّني عليك، وسأقص عليك خبره.»
قضوا في أمثال هذه الأحاديث ساعات. وأُعِدَّ الطعام فجلسوا إليه فقالت آفتاب لابنها: «قد آن يا ضرغام أن تعقد قرانك.»
فقالت: «صدقت يا أماه، غدًا إن شاء الله.»
وفيما هم في ذلك جاء أحد غلمان القصر يدعو ضرغامًا إلى مقابلة الخليفة، فلبس قلنسوته وسواده وخرج، فلما دنا من دار العامة رأى بالباب جماعة من الغلمان الأشروسنية فعلم أن الأفشين هناك، ثم دخل فرأى الخليفة جالسًا على سريره في صدر الإيوان والأفشين على كرسي بين يديه، ورأى وردان وحمادًا واقفين بجانب القاعة. فسلَّم، فأشار إليه المعتصم بأن يجلس فتباطأ وقال: «يأذن لي أمير المؤمنين بكلمة قبل أن أجلس؟» قال: «قل.»
قال وهو يشير إلى وردان: «أقدِّم لأمير المؤمنين البطريق وردان أحد كبار بطارقة أرمينيا، وقد أبلى في جيشنا بلاءً حسنًا في البذ وعمورية.»
فاستغرب المعتصم والأفشين كلامه وقال الخليفة: «أليس هذا خادمك وردان؟»
قال: «كنت أظنه خادمًا وأنا لا أعرف أصله، فلما بلوته عرفت فيه الرجل الكريم، وقد كانت له عندي أيادٍ بيضاء عادت بالنفع على جند المسلمين، فإذا أمر أمير المؤمنين بجلوسه فعل وهو صاحب الأمر.»
فقال: «ولكنه في مجلس القضاء وقد دعوتك لتؤدي الشهادة.»
قال: «أفعل ذلك طوعًا لأمير المؤمنين.» وجلس وأصغى.
فقال المعتصم: «يقول قائد جندنا الأفشين إن وردان وحمادًا اعتديا على رجاله واختطفا منهم امرأتين من سبيه بعد أن كنا قد أرجأنا النظر في ذلك حتى رجوعنا إلى سامرا.»
قال ضرغام: «نعم فعلا يا أمير المؤمنين، وإذا رأى مولاي في هذا ذنبًا فأنا صاحبه؛ لأنهما فعلاه لأجلي وعليَّ تبعته، ومهما يكن من أمر فإن حماد هذا (وأشار إليه) قد شمله عفو أمير المؤمنين وقد جاء سامرا لينال ما وعده به مولانا فلا يؤخذ بجريرة سواه.»
فحكَّ المعتصم جبينه كأنه يسترجع إلى ذهنه شيئًا نسيه وقال: «صدقت، إن حمادًا ذو فضل وسابقة وسنوليه ما هو أهل له فيخرج الآن إذا شاء.»
فسلَّم حماد وخرج، وبقي وردان وضرغام والأفشين، فقال الخليفة: «إنك قلت عن وردان ما هو أهله، ولكنه خالف أمرًا أصدرناه بشأن السبيتين، فقد قلنا ونحن في عمورية أن يُترك أمرهما حتى رجوعنا إلى سامرا، فكان ينبغي أن يراعي هذا الأمر. فليؤتَ بالسبيتين الآن إلى هنا.»
فقال ضرغام: «إن السبيتين هما خطيبتي وزوجته (وأشار إلى وردان). أما خطيبتي فقد سبق أمر الخليفة أن تكون زوجتي وهي في منزلي، وأما امرأة البطريق فهي عندي أيضًا ولا أظن الأفشين يهمه أمرهما.»
فقال الأفشين وقد بدا الغضب في عينيه: «يهمني أولًا أن يُراعَى أمر أمير المؤمنين في الاثنتين. وأما جهان التي تقول إنها خطيبتك فلها شأن خاص؛ لأني ولي أمرها بوصية أبيها.»
فعند ذلك تقدم وردان واستأذن في الكلام. ووجَّه خطابه إلى الخليفة وقال: «هل ثبت لأمير المؤمنين أنه وصي؟»
فانتبه المعتصم لهذا الاعتراض والْتفت إلى الأفشين وقال: «أين كتاب الوصية؟»
فقال الأفشين: «هو عندي، وهل أنا كاذب؟»
فقال المعتصم: «الشرع يقضي بالاطلاع عليه قبل إصدار الحكم، وهل يهمك كتمانه؟»
فظهرت الحيرة في وجه الأفشين فعمد إلى المغالطة، وتغاضب وقال: «إذا كان الأفشين الملك والقائد يكذب في مثل هذا ويصدق العلج فعلى الدنيا السلام!»
فقال وردان «إني لا أنكر وصايته، ولكنني أرى أن يطلع عليها أمير المؤمنين على نصها ليعرف من هو صاحب أشروسنة.»
فاستشاط الأفشين غضبًا وكأنه نسي موقفه فقال: «إن الأفشين قائد جند المسلمين لا يُخاطب بمثل هذا الكلام في حضرة أمير المؤمنين، وهبْ أن الوصية ضاعت أو سُرقت أو احترقت فهل يؤخذ ضياعها حجة عليَّ فأُعد كاذبًا؟! والرجل يقول إنه لا ينكر الوصاية فما الفائدة من نَصِّها؟»
فقال وردان: «لا تغضب أيها القائد، إننا في موقف القضاء بحضرة أمير المؤمنين، والقضاء يطلب إليك أن تتلو نصَّ الوصية.»
فازداد الأفشين غيظًا وقال: «قد ضاعت الوصية ولا أذكر نصها.»
قال وردان: «أنا أذكره، هل أتلو بعضها على مسامع أمير المؤمنين؟»
قال المعتصم: «اتلُ ما شئت.»
فقال: «يكفي أمير المؤمنين أن الوصية مصدرة باسم أورمزد معبود المجوس من دون الله، تعالى، وقد شهد فيها الموبذ كاهن المجوس بدل القاضي الشرعي، أليس كذلك يا قائد جند المسلمين؟»
فهاج غضب الأفشين وأدرك أن الرجل ينوي إذلاله وفضح أمره، وقدم على ما فرط من تعنته ولكنه تجلَّد وقال: «وأين هو وجه الطعن فيها؟ إن الموصي مجوسي فكتبها على ما يقتضيه دينه وعادات بلاده. كأنك تريد بذلك اتهامي بالمجوسية. إنها لوقاحة كبرى!»
فوجَّه وردان كلامه إلى المعتصم وقال: «هل يأذن أمير المؤمنين أن أقول ما أعرفه؟»
قال: «إنك في موقف الدفاع عن نفسه، قل ما بدا لك.»
فقال للأفشين: «لا أتهمك بالمجوسية اتهامًا. ولكنني أقول إنك مجوسي تسجد لأورمزد حتى الآن. وأقول فوق ذلك إنك تتظاهر بالدفاع عن الإسلام وأنت إنما تفعل ذلك طمعًا في المال. ولو استطعتَ سحق دولة المسلمين لسحقتها، وهذا بيت النار في فرغانة شاهد على ذلك.»
فلما قال وردان ذلك رأى الخليفة التهمة أوسع من أن يقضي فيها في تلك الجلسة فأحبَّ إرجاء نظرها فقال: «إن هذه التهمة خارجة عن موضوع هذا المجلس فإنما نبحث الآن في اختطاف السبيتين.»
فقال ضرغام: «قلت لأمير المؤمنين إن الذنب في ذلك ذنبي أنا؛ لأن إحداهما خطيبتي وهي في منزلى الآن.»
فقطع الخليفة كلامه وقال: «نحن لا نعترض على زواجك بها وإنما نؤاخذ وردان على اختطافها.»
فقال وردان: «إنما اختطفتها لعلمي أن مولانا الأفشين أمر بإرسالها إلى بلده أشروسنة لتُضاف إلى خزائن الأموال التي يرسلها إلى هناك كل سنة من أموال المسلمين ليستعين بها على إسقاط دولتهم عند الحاجة!»
فنظر المعتصم إلى الأفشين فرأى لحيته ترقص في صدره، ولو جسَّ يده لرآها باردة كالثلج ترتعش فقال له: «إن هذه التهم كبيرة. وأراك لا تدفعها.»
فقال الأفشين: «كلها مفتريات كاذبة. وموعدنا غدًا فيظهر الحق من الباطل.»
فقال وردان: «لا بأس من التأجيل إلى الغد أو بعده، ولكن من يضمن لمجلس القضاء أن المتهم يبقى في سامرا إلى الغد؟»
فقال المعتصم: «يبقى هنا في الجوسق.» وأشار على صاحب حرسه أن يأخذ سلاح الأفشين وسواده، ويتولى حراسته. فنهض الأفشين وقد سقط في يده ولكنه ما زال يكابر ويغالط ويمشي مرحًا وهو يتوعد ويتهدد.
وبعد خروج الأفشين أشار المعتصم فخرج وردان واستبقى الصاحب، فلما خلا إليه، تنهَّد وقال: «تبًّا لهؤلاء المجوس، إنهم يشاركوننا في ملكنا ويخدعوننا في أمرنا. ولكن الله أعاننا على الانتفاع بسيوفهم وردِّ كيدهم في نحورهم. ماذا رأيت يا صاحب؟»
قال: «إن أمير المؤمنين يعرف ما انطوى عليه هؤلاء القوم، وكم شكا منهم ومن مكرِهم السيئ.»
قال: «إن ما أشار إليه صاحبك وردان لم يخفَ علينا، فإن كتب عاملنا في خراسان كانت تأتينا وفيها الشكوى من كثرة الأموال التي يرسلها الأفشين إلى بلده ونحن صابرون. وقد رُفعت إلينا الكتب من كثيرين يتهمونه بالمجوسية وعبادة الأصنام وبالتواطؤ مع المازيار صاحب طبرستان وبابك على حربنا. وقد علم بذلك القاضي أحمد ووزيرنا محمد بن عبد الملك الزيات وغيرهما. وقد بعثنا نستقدم المازيار صاحب طبرستان الذي تواطأ معه على الغدر بنا. والمرزبان أحد ملوك السعد، وموبذًا مجوسيًّا، واثنين من المسلمين كان الأفشين قد عذَّبهما لأنهما بنيا مسجدًا في أشروسنة. وسأعقد مجلسًا يحضره هؤلاء نفتضح به ما استتر ونجزي كل فاعل بما فعل. أما أنت فلك عروسك تهنأ بها. ولا بأس على وردان فهو حرٌّ، وسنجعله من خاصتنا. وعلى الباغي تدور الدوائر.» فدعا له وخرج.
عقد المعتصم في اليوم التالي مجلسًا حضره كلٌّ من القاضي أحمد بن دؤاد، والوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وغيرهما من الأعيان. ودعا الصاحب ووردان فحضرا. ثم أمر بالأفشين فأُخرج من محبسه وجيء به إلى المجلس، وتولَّى ابن الزيات اتهامه بعد أن أحضر الشهود المشار إليهم. فجيء أولًا بالرجلين المضرورين، وكُشف عن ظهريهما وهما عاريان من اللحم وقال للأفشين: «أتعرف هذين؟»
قال: «نعم هذا مؤذِّنٌ وهذا إمامٌ بنيا مسجدًا بأشروسنة، فضربت كل واحد منهما ألف سوط؛ لأن بيني وبين ملك السعد عهدًا بأن أترك كل قوم على دينهم. فوثب هذان على بيت نارٍ في أشروسنة كان فيه أصنام فأخرجاها وجعلا مكانها مسجدًا فضربتهما.»
قال ابن الزيات: «ما كتاب عندك حليته بالذهب والجوهر وفيه الكفر؟»
قال: «هو كتابٌ ورثته عن أبي، فيه من آداب العجم وكفرهم، فكنت آخذ الأدب وأترك الكفر، ووجدته مُحَلَّى فأبقيته، وما أظن هذا يُخرج من الإسلام.»
ثم تقدَّم الموبذ وقال وهو يشير إلى الأفشين: «إن هذا يأكل لحم المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنها أرطب من المذبوحة. وقال لي يومًا: «قد دخلت لهؤلاء القوم — المسلمين — في كل شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل غير أني إلى هذه الغاية لم أختتن».» فاعترض الأفشين على كلام الموبذ بأنه غير ثقة. فردَّ ابن الزيات عليه. ثم تقدم ابن الزيات وقال مخاطبًا الأفشين: «كيف يكتب أهل بلدك إليه؟» قال: «لا أقول.»
قال: «ألا يكتبون إليك بلغتهم ما معناه إنك إله الآلهة؟» قال: «بلى.»
فقال ابن الزيات: «إن المسلمين لا يطيقون هذا فما أبقيت لفرعون؟»
قال: «هذه كانت عادتهم لأبي وجدي ولي أيضًا قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد طاعتهم.»
ثم تقدم المازيار: فقال ابن الزيات للأفشين: «هل كاتبت هذا؟» قال: «لا.»
قال المازيار: «كتب أخوه لأخي باسمه أنه لم ينصر هذا الدين غير بابك، ولكن بابك قتل نفسه، وجهدت أن أصرف عنه الموت فأبى إلا أن أوقعه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة فإن وُجِّهت إليك لم يبقَ أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب أطرح له كسرة وأضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك ما هي إلا ساعة حتى تنفذ سهامهم ثم تجول الخيول عليهم فتأتي على آخرهم ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم.»
فقال الأفشين: «إنه يدعي أن أخي كتب إلى أخيه. فما ذنبي أنا؟»
فتقدَّم وردان عند ذلك وقال: «تزعم أن أخاك كتب ولا تبعة عليك، فما قولك فيمن رآك رأي العين في بيت النار بفرغانة ومعك المازيار هذا ونائب عن بابك. وقد تواطأتم على محقِ دولة المسلمين وتعهَّدتَ أن تجمع المال الكافي لذلك العمل.»
فأعرض الأفشين بوجهه عنه وقال: «هذا خصم يكذب تأييدًا لخصومته.»
قال: «وإن أتيتك بالموبذ نفسه الذي شهد على كتاب الوصية وسمعته يقول مثل قولي؟»
فقال المعتصم: «سنرسل في طلبه.»
فقال وردان: «وإذا بعث أمير المؤمنين الآن من يدخل بيت الأفشين في سامرا وجد أحد التماثيل المجوسية.»
فقال ابن الزيات: «قد أتينا بها بالأمس.» وأمر غلامًا أحضرها وإذا هي تمثال من خشب عليه حلية كثيرة الجوهر وفي أذنه حجران مشبكان عليها ذهب وأصنام أخرى وكتاب من كتب المجوس وغيره. فارتجَّ على الأفشين وسكت، فأمر المعتصم بإرجاعه إلى الحبس وأن يُقطع عنه الطعام والشراب فقطعوهما حتى مات سنة ٢٢٦ﻫ.
وخلا ضرغام بالمعتصم بعد أيام وقصَّ عليه حقيقة وصاية الأفشين على جهان فأمر بإلغائها وردَّ المال إلى صاحبته. وبعث إلى فرغانة فأمر بهدم بيت النار كارشان شاه، وأمر أن يكون حماد ووردان من خاصته وأن يقيما في قصرين داخل الجوسق مثل ضرغام، وأمر بعقد كتاب ضرغام على جهان، وأعطاهم عطاءات شتى.