نسب ضرغام
بقي سامان في السجن لا يكترث له أحد إلا وردان، فقد كان يتردد عليه من حين إلى آخر ويسأله عن حاله تهكمًا وتشفيًا. وكان ضرغام في شاغل عنه حتى إذا فرغوا من أمر الأفشين أحبَّ أن يطلق سراح سامان كرمًا وفضلًا فقال وردان: «إذا أطلقته فكأنك سجنتني مكانه، ويهمني أن أسأله عن أشياء وأسمع جوابه عنها؛ لأني رأيت منه أمورًا لا تصدر عن البشر.»
فقال: «نسأل جهان عن رأيها في ذلك.»
قال: «افعل.»
فذهب إلى جهان وسألها فقالت: «لا أدري. وليتك لم تسألني عنه؛ لأني أحب أن أنساه.»
قال: «هو في السجن الآن فما الذي تريدين أن نفعل به؟»
فأطرقت حينًا ثم قالت: «أحبُّ أن تطلق سراحه. ولكنني في شوق إلى سرٍّ لا يزال مكتومًا عني. أريد أن أعرف سبب غضب أبي عليه.»
فتذكر سرًّا آخر قد طال اشتياقه إلى معرفته وهو حقيقةُ نسبِه، فعزم أن يسأل أمه عنه بعد الفراغ من سرِّ سامان.
وأمر باستقدام سامان من السجن إلى منزله في جلسة كان فيها هو وأمه وجهان وياقوتة وحماد ووردان وهيلانة.
ودخل سامان دخول غريب تنبحه الكلاب، ووقف وقوف مجرم يخاف العقاب، وقد شُوِّهت خِلقته كأنما طُبعت على صحيفتها نقائصه. وكان رثَّ السربال زاده الهزال ذلًّا، حتى إذا توسط الدار وقف محني العنق يجول ببصره في الجالسين فلما رأى ياقوتة دُهش وأخذته البغتة. فالْتفت إلى جهان وأجهش فسبقته إلى البكاء وقد عزَّ عليها أن تراه واقفًا هذا الموقف رغم ما ارتكبه معها من السيئات. ولم يبقَ أحد من الحاضرين إلا رقَّ له، إلا وردان فإنه لم يأخذه به شفقة وكان هو أول المتكلمين فقال: «لا تخف يا سامان لم نَدْعُكْ لنحاكمك على جريمة من جرائمك فإنها لا تفتقر إلى محاكمة ولا نعرف عقابًا يفي بها، ولكنني رأيت في سيرتك ما أدهشني من تقلبك في الإيذاء؛ فبينما أنت ناقم على الأفشين لأنه حرمك من الميراث إذا بك تستعين عليه بالصاحب ثم تستعين على هذا بذاك ثم بذاك على هذا. وأغرب شيء أنك غدرت بأختك هذه وهي كالملائكة خَلقًا وخُلقًا وأغريت بها أفسق أهل الأرض وهي مخطوبة وقد وثقت بك واتكلت عليك في الفرار إلى خطيبها. فرضيت أن تؤخذ غدرًا وتُحمل قسرًا على ذاك اللعين زعيم أهل الفحشاء. ولم تكن لتنال على عملك جزاء أفضل مما قد تناله لو جئت بها إلى سامرا. ومع ذلك لم تنل من بابك غير الخزي، وبعد أن كنت نصيره خنته وبحت بأسرار حصونه إلى عدوه، وواطأت الأفشين على أختك وعلى خطيبها. إني عرفت في الناس أشرارًا كثيرين يرتكبون أفظع مما ارتكبته في سبيل غرض يعرفونه ويعرفه الناس فما عرفنا لك غرضا.»
وكان سامان يسمع قول وردان وهو يصطنع الإطراق وعيناه لا تتحولان عن ياقوتة وإن كان ذلك لم يظهر عليه لحَوَلِه. فلما أتمَّ وردان كلامه أجابه سامان قائلًا: «تسألني عن أسبابٍ لستُ أعلم بها منك. ارتكبت فظائع لم يعرف الناس عنها إلا طرفًا منها، ولو سُئِلت عن أسبابها، أو عن سبب إحداها، لم أستطع جوابًا، وإنما أعرف أني كنت أرتكب الخطأ ثم أبادر إلى إصلاحه بخطأ أفظع منه، فكانت أعمالي سلسلة هفوات والعبرة بالهفوة الأولى.» قال ذلك وتغيَّر وجهه وغصَّ بريقه وتململ فابتدره وردان قائلًا: «ما هي تلك الهفوة؟»
فحوَّل بصره إلى ياقوتة وأطال النظر إليها وعيناه ترتعشان، ثم انتقلت الرعشة إلى أطرافه حتى اصطكَّت ركبتاه وكاد يسقط، فلحظ ضرغام ذلك فقال له: «أجلس يا سامان وتكلم.» وقد استغربوا تغيَّره وتحديقه في ياقوتة حتى تولَّاها الخجل وحوَّلت بصرها عنه. فجلس سامان جاثيًا وجعل رأسه بين كفيه وأخذ في البكاء بصوتٍ عالٍ يتخلله شهيق كثير حتى كاد يختنق، فأنكر القوم بكاءه لأول وهلة وظنوه يحتال، فصبروا عليه حتى فرغ من بكائه وهم ينظرون بعضهم إلى بعض. وإذا به ينهض بغتة وترامى عند قدمي ياقوتة وأجهش في البكاء فدهش القوم ولا سيما حماد ووثب إليه ليرجعه عن امرأته فلم يطعه فقال له: «ماذا اعتراك يا سامان؟ يسألونك عن جريمتك الأولى فلماذا لا تجيب؟»
فصرخ قائلًا وهو يشير إلى ياقوتة: «هنا غلطتي الأولى. هذه هي!» وعاد إلى البكاء، فازداد الحاضرون دهشة وظنُّوه جُنَّ، ولا سيما جهان فقالت: «قل يا سامان فقد حيَّرتنا. ما خطبك؟ وما لك وياقوتة بك؟»
قال: «هذه هي غلطتي نفسها. وما هي ياقوتة وإنما هي شهرزاد.»
فلما قال ذلك صاحت آفتاب أم ضرغام: «شهرزاد؟! نعم هي شهرزاد.» وكانت جالسة بالقرب منها فضمَّتها إلى صدرها وقالت: «قد تنسمت ريحك منذ لمستك للمرة الأولى.» ثم صاحت: «جهان حبيبتي ألا تعرفين شهرزاد؟»
فبغتت جهان وأعملت فكرتها وقالت: «لا أعرف فتاة بهذا الاسم إلا أختًا لي ماتت طفلة قبل أن أُولد.»
فقالت آفتاب: «هذه هي أختك لم تمت بل كانت قد فُقدت. وإنما قالوا ذلك تلطفًا وتسترًا، ولم يكن يعرف هذا السر إلا أنا وأبوك وسامان هذا. وكن ضياعها على يده، فإنه كان قد خرج بشهرزاد إلى البساتين وهي طفلة لا تكاد تستطيع المشي. فلما عاد سأله أبوك عنها فبكا وزعم أن فرسًا من أفراس النخاسين اختطفها منه — لأن في تركستان جماعة يربون الخيل على النخاسة ويعوِّدونها خطف الأطفال بأسنانها فيلتقط الفرس الطفل بأسنانه ويطير به إلى منزل صاحبه — ولم يصدق والدك ما قاله سامان وغضب عليه من ذلك الحين وأشاعوا أنها ماتت!»
وكانت آفتاب تتكلم والجميع سكوت كأن على رءوسهم الطير. فلما فرغت أكبَّت جهان على ياقوتة وضمَّتها وطفقت تقبلها وياقوتة أشد فرحًا من الجميع؛ لأنها كانت تحسب نفسها جارية فإذا هي بنت المرزبان. فقبَّلت أختها والدهشة لا تزال سائدة والكل يقولون: «لم تكن هذه المشابهة بين الأختين عن عبث.» وأخذوا يتساءلون وهم يحسبون أنفسهم في حلم فقالت جهان: «يا سامان. قل كيف أُخذت شهرزاد منك؟»
فأجابها وهو يمسح دموعه: «انتبهت لوجودي وأنا في نحو العاشرة من العمر، وأختك هذه في نحو الرابعة، ورأيت أبوينا يحبانها كثيرًا ويدللانها ويهملانني فدبَّ الحسد في قلبي فصِرت أظهر الكره لأختي وهما يزيدانني حسدًا بتمييزها عني بالهدايا والنقود. وكنت إذا طلبت نقودًا من أبي لم يعطني وأنا أرى النقود مع أختي أو حاضنتها، وسمعت ذات يوم أناسًا يطوفون البلاد يشترون الأطفال فغافلت الحاضنة وأخذت شهرزاد إلى البساتين فرأيتهم مارِّين فبعتها لهم بدينارين وعدت وساروا هم في طريقهم. ولما سُئلت عنها قلت إنها خُطفت مني فلم يصدق أبي. وعرف بعد ذلك أني بعتها وبعث من يفتش ويبحث بلا فائدة. فكرهني من ذلك الحين وهدَّدني بالحرمان من ماله، فصرت أرى كل الناس أعدائي، وتوهَّمت أن كل حركة يأتونها إنما يريدون بها نكايتي أو أذيتي، فأصبحت ولا همَّ لي إلا كسب المال لأستعين به عليهم. وأول سعي بذلته في هذا السبيل أني حاولت منع أبي من كتابة الوصية ففشلت، فأردت إصلاح هذا الفشل فوقعت في فشل آخر. وهكذا كما تعلمون. ولم أدرك هذه الحقيقة إلا وأنا في السجن منذ يومين.» قال ذلك وتنفَّس الصعداء، ثم عاد إلى إتمام الحديث وقد زاد وجهه امتقاعًا وبدت الرعدة في أطرافه والاضطراب في عينيه وقال: «وقد تأخذكم الشفقة عليَّ بعد ما بسطته لكم، فاعلموا أني لا ألتمس عفوكم؛ لأن من كانت حياته سلسلة فظائع لا يجوز أن تنتهي بغير القتل.» قال ذلك واستلَّ من جيبه خنجرًا طعن به صدره فسقط يتخبط بدمه.
فضجَّ الحضور وابتعد النساء عن هذا المنظر. وقد أسفوا على موت سامان بعد أن أيقنوا أنه تاب، فترحموا عليه وأمروا بدفنه وكانت جهان أكثرهم حزنًا عليه.
أصبحت روابط القرابة والنسب الجديدة بين جهان وياقوتة حديث الناس، واقتسما ميراث أبيهما، وأصبح حماد وضرغام نسيبين وقد نالا حظوة في عيني المعتصم وتمَّ لهما ما يريدان. على أن ضرغامًا بقي في خاطره شيء يحب الاطلاع عليه فخلا إلى أمه يومًا وقال لها: «ألم يئن الوقت لكشف حقيقة نسبي؟ ما الذي تنتظرينه بعد الذي رأيته من نِعَم المولى عليَّ؟!»
قالت: «لا أنتظر شيئًا ولكنك مع ذلك لم تنل ما أنت أهل له.»
فقال: «تعنين أن أبي كان أعزَّ جانبًا وأرفع مقامًا مني؟»
قالت: «نعم.»
قال: «فهو إذن من كبار القواد أو الوزراء، وإذا صحَّ ذلك فلا يعقل أن يكون خبره مكتومًا عن الناس.»
قالت: «إنه فوق ما ذكرت.»
فبهت ثم قال: «لم يبقَ إلا أن يكون من أشراف قريش أو بني هاشم أو بني أبي طالب.»
قالت: «إنه أخصُّ من ذلك كثيرًا.»
فأطرق وفكَّر فيما تعنيه أمه فلم يبقَ إلا أن يكون أبوه الخليفة وهمَّ بأن يسألها عن ذلك فخجل وأمسك وظلَّ ساكتًا وهي تنتظر سؤاله فلما استبطأته قالت: «لماذا لا تتم أسئلتك يا ضرغام؟»
قال: «يخجلني أن أقول ما في خاطري.»
قالت: «لا تخجل أن تسأل إذا كان أبوك خليفة، فإنه كذلك!»
فأجفل وقال: «أبي خليفة؟ كيف يمكن ذلك. إن المعتصم يضارعني سنًّا فلا يمكن أن يكون هو المراد، وكذلك المأمون والأمين.»
قالت: «إن هؤلاء إخوتك.»
فقال وقد أخذته الدهشة: «فأنا إذن ابن الرشيد؟!»
قالت: «نعم يا بني، وهذه أول مرة نطقت بهذه الحقيقة بعد مرور الأعوام الطويلة.»
قال: «أليس في الدنيا أحد سواك يعرفها؟»
قالت: «كلا.»
قال: «وما معنى كتمانها كل هذا الزمن والناس يفاخرون بالانتماء إلى أتباع الخلفاء فكيف بالخلفاء أنفسهم؟!»
قالت: «لذلك سبب معقول هو أني كنت من جواري الرشيد في قصره ببغداد وكان يحبني، حتى كانت الليلة التي فتك فيها بأخته العباسة وبجعفر البرمكي وابنيهما الحسن والحسين. وقد بالغ في التكتم حتى قتل كل من استخدمه لذلك الغرض، فلم يكن أحد من أهل القصر يجسر على الخروج من حجرته مع أنهم مطلعون على كل شيء من بعيد، إلا أنا فقد حدثتني نفسي لصغر سني يومئذ أن أخرج لأرى وأسمع، فوقفت موقفًا ظننت نفسي مختبئة فيه لا يراني أحد، فسمعت حديث الرشيد، رحمه الله، مع زوجته زبيدة بشأن أخته وأشياء أخرى. وفيما أنا في ذلك رأيت زبيدة نفسها مقبلة نحوي وهي تقول: «يا هارون، إن جواريك يسمعن حديثنا!» فوقع الرعب في قلبي وأيقنت أني مقتولة لا محالة فلم تعد ركبتاي تحملانني من الرعشة ثم سمعت الرشيد يرعد بصوته من الغضب ويقول: «من هذا؟» وأمر مسرورًا فحملني إليه، فلما رآني أظهر الأسف عليَّ؛ لأن قتلي لا مناص منه. فلما رأى دموعي رفق بي، ولكنه كان شديدًا فأطرق لحظة ثم قال: «يا حبيبة — وهذا اسمي عنده — قد سعيت إلى حتفك بظلفك».»
«فتراميت عند قدميه وبكيت وغسلت رجليه بدموعي، وكنت يومئذ حاملًا فقلت: «أشفق على صباي، بل أشفق على هذا الجنين».»
«فوجم وتراجع ثم قال: «أعفو عن حياتك. ولكنني لا أقدر أن أراك ولا أسمع اسمك.» ونادى مسرورًا فأتى فأمره أن يجهزني بالمال ويدبر نقلي إلى البلد الذي أختاره، فاخترت فرغانة؛ لأني كنت أعرفها من قبل.»
«وصرفني فخرجت مع مسرور في الليل الدامس إلى خارج بغداد وقد أعدَّ لي الأحمال وأوصى المكاري بي ودفع إليَّ مالًا وجواهر تكفيني أعوامًا وودَّعني. فقضيت في الطريق مدة طويلة ولدتك في أثنائها. وأخيرًا وصلت إلى فرغانة وعرفت المرزبان وعائلته، وطلبني أناس للزواج فأبيت وانقطعت لتربيتك وأنا كاتمة سرك، وأنت تطلب المجيء إلى العراق، وأنا أخالفك، ولما مات الرشيد، وماتت زبيدة هان عليَّ المجيء ورضيت بسفرك إلى العراق.»
فلما فرغت آفتاب من كلامها قال لها ضرغام: «فأنا إذن أخو المعتصم؟»
قالت: «نعم إنك أخوه، فإذا علم هو بذلك زادك تقريبًا.»
فهزَّ رأسه هزة الإنكار وقال: «كلا، إن هذا السر يجب أن يبقى مكتومًا بيننا لئلا يطلع عليه المعتصم فتتحول محبته إلى حذر وكيد. يكفيني أني عرفت حقيقة نسبي. ولا أرى فائدة من كشفه؛ لأن الناس لا يصدقوننا. ونحمد الله أننا نلنا من النعم والرتب فوق ما كنا نتمناه.»