ضرغام وجهان
أدارت جهان رأس جوادها نحو النهر ومضت وعيناها شائعتان في الأفق لعلها ترى حبيبها قادمًا، وبجانبها خيزران على جوادها. وكانت الشمس قد تكبَّدت السماء، ونسيت جهان لفرط انشغالها أنها لم تذق طعامًا في ذلك اليوم. وقد يغلب الحب على صاحبه حتى ينسيه وجوده.
وظلَّ الجوادان يسيران بهما في أرض بعضها مزروع وفيه الأجراء الذين يعرفون عروس فرغانة، كما يعرفون جوادها وخادمها. فكانوا يقفون لها احترامًا ويبتسمون إعجابًا، وهي لا تبتسم لتبلبل بالها. وبينما هي غارقة في تفكيرها صهل فرسها وفرس خيزران فانتبهت ونظرت أمامها فرأت على مقربة منها مزرعة فيها خيام كروية السقف على شكل خيام التركمان — وهم يبنونها مستديرة وسقفها قبة — ورأت بين الخيام بضعة جياد وغلامين يحلبان فرسين على عادة أهل بادية تركستان إذ يغتذون بألبان الخيل كما يتغذى بدو العرب بألبان الإبل.
فلما رأتهم جهان أرادت أن تسلك طريقًا آخر لا يمر بهم توفيرًا للوقت. ولكن خيزران حوَّلت شكيمة جوادها نحوهم وأشارت إليها أن تتبعها قائلة: «أرى يا مولاتي أن نسأل هؤلاء القوم عن ضرغام لعلهم رأوه مارًّا فيغنينا ذلك عن تكبد المشقة في الوصول إلى النهر؟»
فاستحسنت جهان رأيها وحوَّلت إليهم شكيمة جوادها أيضًا. فلما رآهما أحد الغلامين فنهض وقد علم من قيافة جهان أنها أميرة كبيرة وأسرع إلى أبيه في إحدى الخيام يدعوه إلى استقبال الأضياف. فجاء الرجل وهو فلاح شيخ يتوكأ على عكازه، وما وقع بصره على جهان حتى عرفها. فأمر أولاده بأن يعاونوها على الترجل مبالغة في الحفاوة بها، ولكنها لم تشأ النزول وأثنت على الرجل. ثم الْتفتت إلى خيزران كأنها تحرضها على السؤال، فقالت لها هذه: «انزلي يا سيدتي للاستراحة هنيهة ثم نركب.» فأطاعتها مرغمة واستلم فيروز زمام الجوادين وابتعد بهما عن المكان لئلا يشوشا الموقف بالصهيل مع بقية الخيل.
ولما ترجلتا خاطبهما الشيخ بلطف وسذاجة قائلًا: «ألا تشرفنا بنت المرزبان بجلوسها لحظة في هذا البيت الحقير؟» فخجلت وجلست على جلد افترشوه لها ولرفيقتها. وقبل أن تهم خيزران بالسؤال جاء الغلام يحمل قدحًا من الخشب فيه سائل عرفت أنه لبن الأفراس فاعتذرت بأنها لا تشعر بالجوع. فقال الشيخ يخاطب غلامه: «قدم لها قدحًا من القومز، وهو لبن الخيل يخمرونه ويقدمونه شرابًا للزائرين كما يقدم العرب السويق وكما يقدم أهل هذا الزمان الليمونادة أو الشاي. ونظر إلى جهان وقال: «هذا القومز لا يستدعي جوعًا فإنه كالماء ويزيل التعب.»
فلم تستطع جهان رده فتناولته، فاغتنمت خيزران تلك الفترة وخاطبت الشيخ قائلة: «ألم يمر بكم أضياف غيرنا في هذا اليوم؟»
قال: «كلا يا سيدتي؛ ولذلك سررت بقدومكم، وقد تشرفت بمرور مولاتنا جهان فإذا فاتنا الأضياف فهي خير من ألف ضيف.»
فقالت: «وهل يمر بكم المسافرون دائمًا؟»
قال: «نعم يا سيدتي؛ لأن القادم من أشروسنة أو خوكند أو بخارى قاصدًا إلى المشرق لا بد له من أن يمرَّ بنا بعد اجتيازه النهر. ثم يذهب إلى فرغانة أو إلى غيرها. وكثيرًا ما تمرُّ بنا قوافل التجار قادمة من الهند أو التبت أو الصين قاصدة إلى بلاد الروم، أو راجعة منها إلى بلادهم.»
فنظرت إلى جهان وكلَّمتها بالفارسية — وأكرة تلك البلاد يتكلمون الشاغطائية أي التركية القديمة — وقالت لها: «ألا ترين أن نمكث هنا ريثما يمر ضرغام إذا كان لا بد من مروره؟ أليس ذلك أفضل من أن نقصده هناك وقد نسير إليه من طريق ويأتي هو من طريق آخر فلا نلتقي؟»
فلم تجب ولكن ظهر على ملامح وجهها أنها رضيت. فقالت لخيزران: «ائذني للرجل في أن يقدِّم لنا شيئًا نأكله.»
فقالت: «وكيف نطلب الطعام بعد أن رفضناه؟»
قالت: «أنا أطلبه بأسلوب معقول. والْتفتت إلى الرجل وقالت بلغته: «ألا تبيعون خيلًا للذبح؟»
قال: «كلا يا سيدتي؛ لأننا نربي الأفراس للبن ولا نذبحها إلا متى عجزت وقلَّ لبنها.»
قالت: «وإذا أردتم مُهرًا للذبح كيف تفعلون؟»
قال: «نترصد قطيعًا من الخيل مارًّا من هنا فنشتري منه ما شئنا.»
ثم أشار بيده إلى الشرق وقال: «وقد مضت عليَّ برهة وأنا أنظر إلى هذه الجهة فأرى في الأفق البعيد غبارًا كثيفًا محلقًا في الجو، وأتوقع دنوه فلعله غبار قطيع من الخيل قادم إلينا فأبتاع منه فرسًا أو فرسين للذبح. وإذا شاءت مولاتنا المكث هنيهة أخرى وتنازلت بأن تتناول الطعام عندنا ذبحت لها فرسًا سمينًا.»
فاستحسنت جهان أريحية الرجل وخفة روحه وابتسمت له، ففهم أنها رضيت فأمر أحد أبنائه بملاقاة القطيع وتعجيله، فأسرع الغلام يعدو واشتغل الشيخ بإعداد المائدة ثم أتى ببطيخة وضعها بين يدي جهان وقال: «وهذه بطيخة من بطيخ بخارى المشهور بحلاوته سنذبحها لمولاتنا في جملة الذبائح!»
فاستغربت جهان وجود هذا البطيخ عنده وهو مما يتفاخر باقتنائه الكبراء. ولم يفت الرجل ما جال في خاطرها فاستدرك قائلًا: «أهداني هذه البطيخة شاب مغرم جاء ليطلب إليَّ إحدى بناتي فأتى بهذه البطيخة في جملة الهدايا.»
فلما سمعت جهان ذِكر الغرام تذكرت لوعتها، فتنهَّدت وأومأت إلى الشيخ أن يحتفظ بالهدية وقالت: «احفظ الهدية لصاحبتها.»
وأراد الشيخ أن يجيبها فسمع صوتًا يناديه فالْتفت فرأى ابنه راجعًا يعدو وهو يلهث من التعب ويقول: «إن رعاة القطيع لا يبيعون من قطيعهم شيئًا.»
ونظرت جهان إلى جهة الغبار المتصاعد من قطيع الخيل القادم، فرأت في مقدمته فارسًا على جواد مسرج، ووراءه عشرات من الخيول عارية تتزاحم وتتراكض، وعلى بعضها رعاة من بدو الكرج الذين يعيشون في براري تركستان على رعاية الخيل والماشية. ورأت الفارس الأول لابسًا لباس الجند وبيده راية على رمح لم تنتبه للاسم الذي طُرز عليها ولو قرأته لارتعدت فرائصها.
أما الشيخ فأسرع إلى الفارس واستوقفه وقال: «ألا تبيعوننا فرسًا من هذه الأفراس؟»
فأجاب الفارس بأنفة وعجرفة: «كلا.»
قال: «أنا في حاجة إلى ذبيحة فنعطيكم الثمن الذي تريدونه.»
فأدار رأسه يمنة ويسرة إشارة إلى الرفض. ولكن الشيخ عاد فسأله: «ولماذا لا تبيعون؟»
فقال: «لأن هذا القطيع لأناس لا يبيعونه.»
فقال: «ومن هؤلاء؟ أليسوا تجارًا؟»
أجاب: «كلا». ثم أومأ إلى الراية وقال: «أظنك لا تعرف القراءة ولو عرفتها لكفيتنا مئونة السؤال والجواب».
فلما سمعت جهان قوله نظرت إلى الراية فقرأت فيها: «الأفشين حيدر بن كاوس» بأحرف عربية. فتغيَّر لونها ونظرت إلى خيزران فرأتها في مثل بغتتها. أما الشيخ فأجاب الفارس قائلًا: «صدقت إني لا أعرف القراءة. لمن هذه الراية؟»
قال: «هي للأفشين حيدر بن كاوس قائد جند الخليفة المعتصم وصاحب مملكة أشروسنة.»
ولم يكن أحد في تركستان يجهل هذا الاسم؛ لأن الأفشين كان ملكًا على أشروسنة قبل دخوله في خدمة المعتصم. فبغت الشيخ وتهيَّب وقال: «إن مولانا الأفشين مقيم ببغداد على ما نعلم.»
قال: «كان في بغداد ولكنه جاء إلى أشروسنة منذ أيام وبعثنا نبتاع الماشية لرجاله.»
فقال: «وأنتم ذاهبون الآن بهذا القطيع إلى أشروسنة؟»
قال: «كان مولانا الأفشين في أشروسنة، ولكنه قادم إلى فرغانة يقضي عيد النيروز فيها، ورجاله معسكرون خارجها على ضفاف الشاش، وهذه الخيول لهم. فهل تحتاج إلى زيادة إيضاح؟» قال ذلك وساق جواده وتبعه الرعاة بالخيول.
فلم يعد الشيخ يجرؤ على السؤال، وخجل من جهان؛ لأنه عجز عن القيام بضيافتها. وأخذ يهيئ عبارة يعتذر بها إليها فإذا بها وقفت وأشارت إلى خادمها أن يأتي بالجوادين وأسرعت إلى الشيخ وقالت: «إني شاكرة حسن صنيعك يا عماه وقد طرأ عليَّ ما يدعو إلى الإسراع برجوعي، وعسى أن أتمكن من زيارتك في فرصة أخرى.»
فأكبر الشيخ ذلك التلطف وهمَّ بتقبيل يد ابنة المرزبان شكرًا على تلطفها وتنازلها، فاجتذبت يدها منه وأشارت إلى القهرمانة فدفعت إليه بضعة دنانير وقالت له: «أعطِ هذه الدوانق إلى الغلام يشتري بها قوسًا ونشابًا يلهو بهما.» فشكر الشيخ لهما، وودعتاه وركبتا جواديهما فانطلقا بهما وخلفهما فيروز.
وبعد هنيهة الْتفتت جهان إلى خيزران وقالت بعد تنهد يدل على غيظ تكتمه: «والآن ماذا تقولين؟ هذا الأفشين أتى فرغانة ولا شك أنه نازل عندنا لزيارة أبي.»
قالت: «وما الذي يهمك من زيارته؟ و…»
فقطعت كلامها قائلة: «لا يهمني شيء من أمره ولا أكترث له، ولا جنده يخيفني، ولكنني أكره مجالسته و…» وبلعت ريقها، وتشاغلت عن إتمام الحديث بإصلاح عصابتها على رأسها.
ففهمت خيزران تخوفها ولكنها تجاهلت وقالت: «إن جهان العاقلة الحكيمة لا يُخشى عليها من أحد ألا تزالين عازمة على المسير إلى النهر.»
فنظرت إليها جهان شزرًا وابتسمت كأنها تستغرب سؤالها ولسان حالها يقول: «وكيف لا؟!»
وساقتا الجوادين وهما تنظران إلى قطيع الخيل حتى توارى وطريقه غير طريقهما، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل وأثر الجوع في خيزران. أما جهان فشغلها تلهفها للُقيا حبيبها عن كل عاطفة، وقضت معظم الطريق ساكتة وهواجسها تتعاظم وتتلاطم، وكلما تصورت لقاءها حبيبها اختلج قلبها ورأت أنها ارتكبت شططًا ما كانت لتأتيه لولا غلبة الحب على إرادتها. وكثيرًا ما يغلب الحب الإرادة ويكون الفوز له عليها، وقد تفوز الإرادة ولكن إلى أجل قريب، وإذا طالت غلبتها كان الحب ضعيفًا سريع الزوال. وقد يكون المحب كبير العقل مدبرًا حكيمًا ويرتكب في سبيل الحب أمورًا لا يأتيها غير أهل الطيش. وليس استغراب الناس عمله أكثر من استغرابه هو عمل نفسه؛ لأنه يأتي تلك الأمور وعقله مشرف على عمله ينتقده ويقبحه ولا يرى له سلطانًا على رده؛ وذلك لأن للعاقل الحكيم قلبًا فُطر على الحب الشديد، فإذا هو خالف هوى قلبه تألم ألمًا لا طاقة له باحتماله وقد يُجن أو يُصعق، وكم من عاشقٍ ذهب ضحية النزاع بين العقل والقلب؛ فالعاقل إذا أحب انتشبت بين إرادته وعواطفه حرب لها اضطرام، فإذا كان كبير النفس قوي الجنان جارى عواطفه اعتمادًا على عزة نفسه وقوة جنانه فلا يخاف أن يُغلب على أمره.
وكانت جهان كبيرة العقل قوية الإرادة، ولكنها كانت كذلك كبيرة القلب شديدة العواطف، ألوفة شديدة التعلق بما تألفه. فكيف بها وهي تحب الأليف وقد عاشرته أعوامًا عدة حتى تمكن حبه من قلبها؟! وكانت قوية الجنان ثابتة الرأي في حبه وزادها تعلقًا به تخوفها من الأفشين ونفورها من رؤيته، فلم ترَ بأسًا من السعي لملاقاة حبيبها خصوصًا أنها ذاهبة بحجة الصيد.
•••
سارت جهان وخيزران حينًا وهما تنظران إلى الأفق والجوادان يدلانهما على الطريق المؤدي إلى ضفة النهر، حتى أطلَّتا على الماء عن بعد ورأتا الشاطئ فلم تجدا عليه خيامًا ولا رأتا جندًا ماشيًا ولا راكبًا. فأوقفت جهان جوادها والْتفتت إلى القهرمانة وقالت: «هل ترين أحدًا هناك؟»
قالت: «كلا يا سيدتي ولكننا على مقربة من الشاطئ. فهلمَّ بنا إليه لعلنا نرى فيه أثرًا يفيدنا.»
فاستأنفتا السير وخلفهما فيروز، حتى بلغتا الشاطئ بقرب كوخ تحت شجرة. فرأتا آثار أناس كانوا هناك وانصرفوا من برهة وجيزة. ومن بين هذه الآثار بقية نار لا تزال موقدة. وبقايا طعام وفاكهة وعظام. ثم إذا بصاحب الكوخ قد خرج للقائهما ورحَّب بهما ظانًّا أنهما نازلتان عنده. وكانت خيزران قد دعت فيروز وأمرته أن يسأل أهل الكوخ عن القوم الذين كانوا هناك، فتقدم وحيَّا الرجل وسأله فقال: «هم جند من المسلمين عبروا النهر عند الفجر وأقاموا هنا إلى الظهر فتغدوا وانصرفوا.»
قال: «وهل عرفت وجهة مسيرهم؟»
قال: «أظنهم يقصدون فرغانة ولعلهم يريدون قضاء النيروز فيها.»
فلما سمعت جهان قوله رجَّحت أن القوم ضرغام ورجاله، وندمت على مجيئها لاعتقادها أن ضرغامًا إذا أتى فرغانة يذهب توًّا إلى دار أبيها، فرأت أن ترجع إليها لتدركه، وأشارت إلى خيزران أن تحول عنان جوادها وتتبعها قبل أن يدركهما الظلام وهما على بعد ميلين من المدينة. ففعلت وحثَّتا الجوادين عائدتين إلى المكان الذي ينتظرهما الركب فيه بباب المدينة.
وكان مَنْ في الموكب قد قلقوا لغياب جهان، وأرسلوا بعضهم للبحث عنها في الجهة التي ذهبت للصيد فيها، فعاد هؤلاء دون أن يجدوها. فازداد القلق عليها. فلما رأوها مقبلة عرفوها من بعيد بقيافتها ولون فرسها. ثم رحَّبوا بها وجاءوها بالطعام المهيأ لها، فأشارت عليها خيزران أن تتناول شيئًا منه فأطاعتها وتناولت بعض اللحم والقومز والفاكهة على عجل. ولحظت أثناء ذلك أن خادمًا يكلم القهرمانة همسًا وأن هذه تغيَّر وجهها. فأدركت أن هناك أمرًا ذا بال. ونادت القهرمانة ونظرت في عينيها مستفهمة فقالت خيزران: «إن مولاي سامان جاء إلى هنا وسأل عنك، ثم رجع لتوه.»
فقالت: «وماذا قال؟»
قالت: «لم يقل شيئًا.» وتشاغلت بازدراد لقمة كانت تمضغها وكادت تغص بها.
فتفرست جهان في وجه الخادم الذي كان يخاطب خيزران وقالت: «أظنه جاء في شأن أبي. هل عليه بأس؟»
فلم تستغرب خيزران سرعة انتباهها؛ لأنها كثيرًا ما كانت تقرأ أفكار المتكلمين بالتفرس في عيونهم. فأجابتها بقولها: «لا بأس على مولاي بفضل «أورمزد» — إله الخير عند المجوس — لكنه استبطأ عودتك ويريد أن يراك فنحن في يوم النيروز.»
فنهضت جهان وأشارت إلى الخدم أن يعدوا المركبة للعودة وقالت: «لم يبعث أبي إليَّ إلا وهو يشكو من اشتداد المرض عليه. هيا بنا.»
وكانوا قد أعدوا المركبة فركبتاها معًا، وسار الموكب إلى القصر وهي تتوقع أن تجد ضرغامًا هناك.