ضرغام وجهان
وبكرت جهان في صباح اليوم فالْتفَّت بمطرفها وذهبت إلى أبيها فرأته جالسًا في سريره وهو أحسن حالًا منه بالأمس، ففرحت وسألته عن حاله فقال: «شكرًا لأورمزد، لقد نمت ليلتي مرتاحًا، وأشعر اليوم بنشاط. ألم يبلغك قدوم الأفشين إلى فرغانة؟ لقد كنت على موعد من مجيئه في هذا العيد.»
فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وقالت: «لا أعلم يا سيدي، ولعله جاء ولم يأتِ إلينا بعد.»
فقال: «من لي بمن يبحث عنه؟»
فقالت: «إذا أمرت أن نبعث في طلبه فعلنا، ولكنه لو أتى فرغانة لجاءنا بلا دعوة.»
قال: «صدقت، وهل ذهب أخوك ليدعو الموبذ اليوم؟»
قالت: «خرج من الفجر للبحث عنه، وقد ساءه البارحة أنك لم تكن راضيًا عنه.»
فقال: «ننتظر رجوعه. اسقني شربة ماء من يدك.»
فأسرعت مسرورة فأتته بكأس ماء وقدمته إليه فشربه. ثم دخل الحاجب يقول: «إن ضيفًا قادمًا من العراق يستأذن على مولاي المرزبان.»
فصاح المرزبان: «هذا هو الأفشين.» وأظهر ارتياحه لمجيئه ولم يسأل عمن هو قبل الإذن على جاري العادة فقال: «ليدخل.» وأسفت جهان لوجودها هناك، ولو استطاعت أن تشق الحائط وتخرج منه لفعلت، ولكنها تجلدت إكرامًا لأبيها فوقفت وقد انقبضت نفسها فتماسكت لئلا يبدو ذلك عليها.
فأزاح الحاجب الستر فدخل القادم، فلما أطلَّ أجفلت جهان وبدت الدهشة في وجهها وانقلب انقباضها إلى انبساط، وتحوَّل امتقاع لونها إلى تورد؛ لأن القادم لم يكن الأفشين وإنما ضرغام. فلما رآه المرزبان ابتسم له ورحَّب به وصاح: «ضرغام؟ أهلًا بولدنا ضرغام. ظننتك صديقنا الأفشين. أقادم أنت من العراق؟» قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «وهل أتى الأفشين معك؟» قال: «لم يأتِ معي ولكنني علمت يوم خروجي من العراق أنه عازم على المجيء إلى أشروسنة، وأظنه أتى.»
وكان ضرغام شابًّا في حوالي الثلاثين من العمر قد كمَّله الله خَلقًا وخُلقًا؛ ربْع القامة، ممتلئ الجسم، عريض المنكبين، واسع الجبهة كبير العارضين كث اللحية، تلوح البسالة والهمة في عينيه، وتتجلَّى المروءة وصدق اللهجة حول شفتيه. وعلى رأسه قلنسوة قرمزية حولها عمامة سوداء، وقد لبس قباء سماويَّ اللون تمنطق عليه بمنطقة علَّق عليها سيفًا قبضته مذهبة، وتحت القباء سراويل من الخز الأرجواني وفوق القباء حبة سوداء، وقامته قامة الأبطال؛ إذا وقف حسبته جبلًا راسخًا.
وكان قد دخل على المرزبان غير مقدِّر أن يلقى جهان هناك، فلم تكن دهشته أقل من دهشتها.
أما هي فلما وقع بصرها عليه لم تعد تعلم كيف تخفي عواطفها، فإذا استطاعت إخفاء خفقان قلبها وارتعاش أعضائها فكيف تستطيع إخفاء ما ظهر من التورد في وجنتيها أو الإشراق في عينيها. وقد نسيت مرض أبيها وأصبح همها أن تلاحظ ما يبدو منه نحو حبيبها من ترحاب أو انعطاف، فلما رأته يرحب به فَرِحَت وكانت بجانب الصنم فأسندت ظهرها إلى العضادة وتشاغلت بمسح ما على الصنم من الغبار مخافة أن يبدو ارتعاشها، ولم تغطِّ وجهها؛ لأن نساء تلك البلاد لم يكنَّ يعرفن الحجاب يومئذ ولا سيما جهان فقد كانت تستنكف من تغطية وجهها وتعد الحجاب جبنًا وضعفًا.
ولا تسل عن سرور ضرغام بتك المصادفة. وساعده في إخفاء عواطفه السلام على المرزبان فأكب على يديه يقبلهما. فأمر بوسادة جلس عليها وجلست جهان على وسادة أخرى، وأخذ المرزبان يسأله عن حاله فقال ضرغام: «قد أسرعت في الزيارة لأكون أول من يهنئك بهذا المهرجان المبارك، ولم أكن أعلم أنك متوعك فأرجو أن تكون أحسن حالًا.»
فقال المرزبان: «أصبحت مرتاحًا اليوم وقد سررت برؤيتك وأنت تعلم حبي لك.»
فانحنى ضرغام شاكرًا، وسره عطفه عليه، ولكن سروره لم يكن شيئًا يذكر بالقياس إلى سرور جهان، فكانت تسمع كلمات أبيها وقلبها يرقص فرحًا فأجابه ضرغام: «إني أشكر لسيدي المرزبان الْتفاته إلى ضيفه، وقد تأكدت فضله عليَّ من قبل وأنا غرس نعمته.»
فخجل المرزبان من ذلك الإطراء وسأله: «أقادم أنت توًّا من العراق؟»
قال: «نعم يا سيدي، وقد وصلت إلى فرغانة مساء أمس.»
قال: «وكيف فارقت القوم هناك؟»
قال: «فارقتهم في شغل شاغل بالمشكلات، وكل واحد يخاف صاحبه ويحذره، ويستعين عليه بجند من غير جنسه. وإنما السبق اليوم للجند التركي.»
فقال: «علمت أن الخليفة الجديد المعتصم بالله استعان في تأييد خلافته بأخواله الأتراك فأعانوه، وفي جملتهم الأفشين ملك أشروسنة وأنت.»
فسرت أن قرن المرزبان اسمه باسم الأفشين فقال: «إن الأفشين عون كبير للخلافة وأما أنا فلا أستحق الذكر.»
فقطع المرزبان كلامه قائلًا: «إن مستقبلًا مجيدًا ينتظرك لما أعلمه من بسالتك وعلو همتك. إنك لنعم القائد البطل ولا شك أنك تقدمت في جند الخليفة.»
قال: «نعم أصبحت بفضل مولاي رئيسًا للحرس.»
قال: «رئيس حرس الخليفة؟!»
قال: «نعم يا سيدي.»
فبان السرور على وجه المرزبان والْتفت إلى جهان كأنه يشركها في إعجابه بذلك التقدم السريع، فرأى جهان شاخصة إلى ضرغام تسمع حديثه وتكاد تلتقفه ببصرها. ولو أدنى المرزبان أذنيه من صدرها لسمع خفقان قلبها. فالْتفتت إليه وابتسمت ثم سكتت وعيناها تتكلمان كلامًا لم يفهمه وإن فهمه ضرغام.
وعاد المرزبان إلى الكلام عن الجند فقال: «إذن في العراق الآن جند كبير من الأتراك.»
قال: «إنهم يزيدون على عشرين ألفًا، وفي جملتهم أبناء ملوك فرغانة الأخاشيد وغيرهم.»
فقال: «أظنه رغب في تجنيدهم لأن أمه منهم.»
قال: «لا يخلو أن يكون ذلك بعض السبب، ولكن السبب الأكبر أن دولة المسلمين هذه عربية الأصل كما تعلم، ولما نهض المسلمون للفتح كان الجند كلهم عربًا ففتحوا الأمصار وأسَّسوا الدولة وظلَّ معظم الجنود عربًا في أيام بني أمية. ثم قام الفرس بنصرة العباسيين وشاركوهم في تأسيس دولتهم، فاشتدَّ ساعد الفرس وضعف أمر العرب. وما زال الفرس يتوقون إلى أيام المأمون الخليفة السابق، فأصبحوا أهل الدولة وفي أيديهم الحل والعقد. ولا يخفى عليك أنهم ما زالوا من أول الإسلام يعملون على رد السلطة إلى الأكاسرة.»
فتنهد المرزبان تنهدًا عميقًا أدرك منه ضرغام أنه يتحسر على ضياع دولة الفرس، فتجاهل ومضى في حديثه فقال: «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم، خاف الفرس ولا سيما أنهم قتلوا أخاه الأمين وسلموا الدولة إلى أخيه وابن أختهم المأمون تمهيدًا لردها إلى الفرس بعد موته؛ فلم يرَ المعتصم خيرًا من أن يستعين بقوم أشداء لم تذلهم الحضارة فعمد إلى تجنيد الأتراك.»
فقال: «وهل يقيم هؤلاء ببغداد؟»
قال: «كانوا يقيمون بها إلى عهدٍ غير بعيد، ولكن البغداديين ضاقوا بهم لأنهم كانوا يؤذون العوام في الشوارع، وربما قتلوا بعضهم في الأسواق، فابتنى لهم المعتصم مدينة سماها «سر من رأى» أو «سامرا» واختط فيها الخطط واقتطع فيها القطائع. وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار. ثم شِيدت بها القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه وتسامع الناس أن دار الملك قد انتقلت إلى هناك؛ فقصدوها وجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس؛ فاتسع عمرانها.»
فأُعجب المرزبان بهذا التدبير فقال: «إذن هي مدينة كبيرة؟ وهل بقي الأتراك على دينهم أم غيَّروه؟»
قال: «لا يخفى على مولاي أن معظمهم يدين بالزرادشتية ولكنهم أصبحوا اليوم مسلمين. ومن أغرب الوسائل التي تذرَّع بها الخليفة لإبقاء الجند قويًّا كما هو الآن أنه أبعده عن أهل البلاد ومنع رجاله أن يتزوجوا منهم. ورأى أن يزوجهم ببنات تركيات ابتاعهن من تركستان. وقد أرسل وفدًا لابتياع هؤلاء الجواري فاغتنمت أنا الفرصة واستأذنت في مرافقة هذا الوفد فأتيت إلى فرغانة لهذا السبب.»
فقال المرزبان: «لقد سرَّني قدومك يا ولداه وفرحت برؤيتك، وكأن أورمزد قد هيأ ذلك حتى أراك قبل …» قال ذلك وتغيرت سحنته وبان الانقباض في وجهه لكنه تشاغل بالسعال ومسح شاربيه وعينيه حتى لا يظهر بكاءه. فاختلست جهان أثناء ذلك نظرة إلى ضرغام بادلها مثلها. وقد فرحت بتودد أبيها إليه ولكنها تأثرت من يأس أبيها. وهي أرغب في بقائه بعد ما عاينته من رضاه على حبيبها، ووثقت بأنه لا يمانع في زواجها منه، وعزمت على ذكر ذلك له في أول فرصة.
أما المرزبان فأراد أن يشغل ضرغامًا عما بدا منه فقال: «وكيف حال أمك المسكينة؟»
قال: «هي في خير والحمد لله، ولا تفتر لحظة عن ذكر مولاي وأفضاله علينا، وتذكر مولاتنا جهان؛ لأنها شديدة التعلق بها.»
فرأت جهان سبيلًا لمخاطبته فقالت: «مسكينة آفتاب! إني أحبها محبة الابنة لوالدتها، ولم ألقَ امرأة أطيب قلبًا منها، وقد كنت كثيرة الاستئناس بها.»
وهب المرزبان بغتة كأن شيئًا نبهه فقال: «أين سامان؟ هل أتى الموبذ؟ ادعوه لي حالًا. إن سامان لا يُعوَّل عليه.» قال ذلك وهزَّ رأسه هزة كلها معانٍ.
فنهض ضرغام وقال: «أنا ذاهب لاستدعائه فإني أعرفه وأعرف مكانه.»
فقال المرزبان: «لا تكلف نفسك الذهاب وفي قصرنا عشرات من الخدم والخصيان … ولو لم يتصدَّ سامان للذهاب بنفسه لكان لنا غنًى عنه بواحد منهم.»
فقال: «قد أحسن سامان بتطوعه لتنفيذ أمر أبيه بنفسه. وإذا أذن مولاي أن أتولى أنا ذلك فعلت.»
فقطع المرزبان حديثه قائلًا: «كلا لا تذهب أنت.»
فقال: «أتأذن لي في أن أبعث إليه بخادمي بل رفيقي وردان. فإني لم أكل إليه أمرًا إلا أنفذه ولو ركب إليه رءوس الأسنة.» قال ذلك وخرج فنادى: «وردان». فأتاه رجل في نحو الأربعين من العمر خفيف العضل خفيف اللحية، يظهر من بروز أنفه وبقية ملامحه أنه أرمني. وكان قد دخل في خدمة ضرغام بسامرا منذ عهد قريب وسرعان ما اكتسب ثقته بما أبداه من علوِّ همته ونشاطه، فكان ضرغام يعامله معاملة الرفيق فلما وقف بين يديه وعليه عمامة مستديرة وسراويل قصيرة وفروة من جلد الغنم قال له ضرغام: «هل عرفت بيت النار الذي مررنا به مساء أمس وعليه الأنوار والرايات؟» قال: «نعم.»
قال: «اذهب إلى هناك واسأل عن الموبذ، وقل له: «إن المرزبان يريدك في هذه الساعة.» وارجع به معك.» فأشار مطيعًا وخرج.
أما جهان فأصبحت متشوقة لتحادث ضرغامًا وتشاكيه الغرام، وكانت تشعر بأن رأسها مملوء بالأخبار التي يلذ لها كشفها له، على عادة المحب إذا فارق حبيبه فإنه لا يمل الكلام مهما يكن موضوعه أو مرماه، فلا عجب إذا اشتاقت جهان لمجالسة ضرغام بعد ذلك الفراق الطويل.
وكان هو في مثل شوقها ولهفتها. ولكنه كان في حيرة لا يدري كيف يتسنى لهما ذلك. فإذا بالمرزبان ينادي جهان قائلًا: «مري «المهتر» — قيِّم الدار — أن يُنزِل حبيبنا ضرغام في القصر، ويعد له ما يحتاج إليه، ومتى فرغ من ذلك يجيء إليَّ فإني أريد أن أختلي به حينًا حتى يأتي الموبذ.»
فخرجت لتنفيذ ما أمر به أبوها. وسبقها ضرغام إلى قاعة خاصة تعوَّد أن يراها جالسة فيها.
•••
حينما خرج وردان من قصر المرزبان رأى الناس يتزاحمون ببابه بأفراسهم وهداياهم وعليهم أثواب العيد وهم ينتظرون الإذن في الدخول، فلما رأوه خارجًا جعلوا يتساءلون عن سبب عجلته وسأله بعضهم عن حال المرزبان فلم يجبهم وظلَّ سائرًا حتى جاوز القصر، فمضى في الطريق وقد تزاحمت فيها الأقدام وتصادمت المناكب والناس في شغل شاغل من أمر العيد، وهم يحملون الفاكهة والحلوى، ويتبادلون التهنئة. فلم يكترث لشيء من هذا، ومشى حتى أطلَّ على بيت النار. والأعلام تخفق على سوره وحوله مقاصير تُعد بالعشرات، يقيم بها السَّدَنة والخدم والقوام، وقد تزاحم الناس ببابه الذي زُيِّن بالريحان. فتظاهر وردان بأنه واحد من عبَّاد النار وقد جاء لأداء فريضة الزيارة. ودخل إلى صحن المعبد فرآه مفروشًا بالديباج والحرير، تحيط به أروقة مستديرة قد عُلِّقت فيها الستائر المطرزة وبعضها مرصعة بالحجارة الكريمة.
واتصل من الصحن بباحة المعبد حيث يقيمون الصلاة، فإذا هي بقعة مربعة يقوم وسطها بناء معقود في وسطه فجوة بمثابة الباب يُصعد إليها بخمس درجات. وحول الباحة أحواض ملتصقة بالجدران أوقدوا فيها النيران وأحرقوا البخور فتصاعد دخانها في الفضاء، وعلى زوايا القبة أجران تصاعد دخانها كما تصاعد من مئات أمثالها فوق السور. وفي بعض جوانب الباحة إلى اليسار وعاء مستدير مملوء بالنفط يتصاعد اللهب من فوهة فيه، وقد اصطف الناس حوله بين جلوس ووقوف وهم يتعبدون أو يصلون.
ورأى رجلًا واقفًا على الدرج ظنَّه الموبذ، فهمَّ بالذهاب إليه فاعترضه رجل على رأسه قلنسوة مستطيلة هرمية الشكل عرف من منظره أنه أحد السدنة، فقال له وردان: «أريد مولانا الموبذ. أليس هذا هو؟» وأشار إلى الرجل الواقف على الدرج.
فقال السادن: «كلا، إن الموبذ مشغول الآن.»
قال: «وأين هو؟»
قال: «ما لك وله؟! إذا شئت الصلاة أو البركة فهذه هي النار في الأجران.»
قال: «بل أنا أريد الموبذ.»
فحوَّل الرجل وجهه عنه وقال: «إنك لن تظفر برؤيته إلا بعد الصلاة.»
فاستمهله قائلًا: «لا تغضب يا سيدي فإني غريب وقد أتيت من خوكند بالأمس وعهدي بكم تكرمون الغرباء.»
فخجل السادن ووقف له وقال: «ألم تأتِ للصلاة أو الاقتباس؟ أمامك النار المقدسة فاقبس منها ما شئت.» قال: «بل أنا أريد الموبذ.»
فتقدم السادن وأدنى فاه من أذنه وهمس قائلًا: «إن الموبذ في خلوة مع بعض الكبراء في هذه الحجرة التي إلى اليمين، فانتظر خروجه أو افعل ما شئت.»
فمدَّ وردان يده إلى جيبه وأخرج دنانير دفعها إليه وهو يبتسم وقال: «ألا تأذن لي أن أدنو من الحجرة أصلِّي بجانبها استئناسًا بمولانا الموبذ.»
فتناول السادن الدنانير وقال: «افعل ولكن احذر أن يشعر بك أحد.»
فقال: «طبعًا.» وهرول إلى الحجرة معتزمًا أن يحتال للدخول على الموبذ ويبلغه أمر المرزبان. فلما دنا من الباب رأى الموبذ ومعه رجلان بلباس فاخر. عرف أن أحدهما «الأفشين» ثم ما كاد يعرف الآخر حتى اضطرب دهشة إذ عرف فيه رجلًا في نفسه منه أمر عظيم، وهو أصبهنذ (نائب) بابك الخرمي.
وأخذ يسائل نفسه عما جاء به من أردبيل في أرمينيا، وبينها وبين فرغانة سفر طويل؟ فلما لم يجد جوابًا شافيًا وقف في مكانه متظاهرًا بالصلاة والدعاء، وأخذ يفكر في سبب هذه الخلوة في بيت نار المجوس بين «الأفشين» قائد جند المسلمين، ونائب بابك الخرمي المجوسي ألد أعداء المسلمين!
وبعد هنيهة تحوَّل إلى فرجة تؤدي إلى ممرٍّ وراء الحجرة به نافذة تشرف على ما في داخلها بحيث يرى الجلوس فيها وهم لا يرونه. فتربص وأخذ يتفرس فيهم فرآهم جالسين على بساط من الديباج؛ الموبذ بقلنسوته وقبائه الأرجواني، والأفشين بعمامته حول القلنسوة. والأصبهبذ بالقلنسوة بلا عمامة. وكان عهده بالأفشين يلبس الجبة السوداء شعار العباسيين، وطالما رآه يصلي بمسجد سامرا. فعجب لارتدائه القباء الأرجواني الذي يلبسه كبار المجوس في العيد. ولوجوده مع المصلين في بيت النار. على أنه لم يستغرب مجوسية الأصبهبذ؛ لعلمه بأنه لم يعتنق الإسلام.
وأصاخ بسمعه إلى ما يقولون فسمع الموبذ يقول: «سنفوز بعون أورمزد، ولكن علينا أن نصبر.»
قال الأصبهبذ: «إننا صابرون، ولن يطول اصطبارنا بشرط.» وسكت فجأة. فقال الأفشين: «لا بأس من الصبر وإن طال، ولكن ما كان ينبغي لصاحبك أن يغيِّر رأيه فيَّ.»
فقال الأصبهبذ: «إنه لم يغير رأيه فيك، ولكنه رآك أصلت التقرب من أولئك اليهود الذين يسمون أنفسهم مسلمين أو عربًا. وقد أرسلني للاجتماع بك في هذا العيد لأذكرك بعهدك بين يدي الموبذ.»
فضحك الأفشين وقال: «ربما ظن صاحبك أنني غافل عما تعاهدنا عليه هنا منذ بضع سنين ومعنا المازيار صاحب طبرستان. ولكن هذا هو الموبذ يشهد بأني أقمت بعهدي.»
فأشار الموبذ برأسه أن «نعم». واستطرد الأفشين قائلًا: «إن هذه النار تشهد على عهدنا، فقل لأخي بابك بأنني لا أدخر وسيلة في جمع المال وإرساله، ولا أخطو خطوة في حرب أو سلم لدى المعتصم إلا اقتضيت عليها مالًا أرسله إلى خزينتنا بأشروسنة. وأما المازيار فإنه كذلك مقيم على العهد، ولم يحضر معنا هذا العام لأسباب خاصة. وقد كتب إليَّ يحثني على الثبات، ويعد بأن يكون هو وطبرستان كلها معنا متى تحركنا. ولا شك أنه أشد غيرة منا على التخلص من هذه الدولة وإرجاع دولة الفرس.»
فقال الأصبهبذ: «ذلك عهد مولاي بك، ولكنه رآك أطلت الرضوخ لحكم اليهود كأنك أصبحت واحدًا منهم حتى تصديت لحربنا غير مرة.»
فقهقه الأفشين وهزَّ رأسه قائلًا: «ألمثلي يُقال هذا؟ وهل يخفى قصدي على أخي بابك؟ ألا يعلم أني إذا خرجت لحربه فإنما أفعل ذلك إخفاء لغرضي! إنني لن أدع فرصة تسنح دون أن أنتهزها لنقوم جميعًا قومة رجل واحد فننال أمنية قصر عن نيلها أبو مسلم الخراساني وجعفر البرمكي والفضل بن سهل! إن هؤلاء أفسدوا أمرهم بالعجلة، أما نحن فسنفوز بالتؤدة.»
فالْتفت الموبذ إلى الأصبهبذ وقال: «صدق الملك. فإنه رجل حنكه الدهر، فأبلغ ولدنا بابك أن ينتظر. وليثق بأن أورمزد في عوننا. فقد رأيت فيما يرى النائم أن الفوز قد دنا أجله.»
وكان وردان يسمع الحديث وقد أخذته الدهشة، وكيف لا وقد تبيَّن أن قائد جند الخليفة مجوسي يمالئ أعداء المسلمين على الإيقاع بالدولة عند سنوح الفرصة. على أنه اغتبط بأنه حصل على سلاح ماضٍ يستعمله عند الحاجة. ثم رأى الموبذ يتحفز للنهوض، فنهض الأفشين ورفيقه وتلثما تخفيًا. فغادر مكمنه، ثم وقف في صحن الهيكل ليلتقي بالموبذ عند خروجه.
وكان الناس في شغل شاغل بعبادتهم، فأومأ إليهم السادن أن الموبذ خارج، فتهيئوا للتبرك بطلعته، ووقف وردان بينهم يقلد حركاتهم، ثم ظهر الموبذ يخطر بثوب يبهر البصر بألوانه وتطريزه، وفي عنقه عقد من الجوهر، وفي شماله صولجان قبضته مذهبة، وفي يمينه عصا يضرب بها الأرض مختالًا، والناس يطأطئون رءوسهم إجلالًا وتعظيمًا له.
فلما اقترب من وردان، سارع هذا إليه وأكبَّ على يده يقبلها وقال: «إن مولانا المرزبان يدعوك إليه الساعة لأمر ذي بال.»
فقال: «هل اشتد المرض عليه؟»
قال: «لا أدري، ولكنه ألحَّ عليَّ أن أرجو منك أن تزوره الآن، وأمرني ألا أعود إلا بك.» قال: «انتظرني خارجًا لأذهب معك.»
فخرج وردان محاذرًا أن يراه الأفشين لئلا يدرك أنه اطلع على شيء من سره. ولما صار بالباب رأى مركبة شدَّ إليها فرسان عليهما العدة المذهبة فعلم أنها معدة للأفشين. ثم خرج الموبذ فركبها والأفشين إلى جانبه وهو ملثم، وأشار إلى وردان فركب أحد الفرسين، ومضوا إلى قصر المرزبان.