اجتماع المحبين
تركنا ضرغامًا في انتظار جهان بغرفتها وأهل القصر لا يرون بأسًا من اجتماعهما، لما يعلمونه من منزلة ضرغام عند مولاهم، ولأن جهان لا تحتجب عن الرجال، جلس ضرغام على كرسي في بعض جوانب الغرفة ينتظر حبيبته وهو على مثل الجمر وقد أهمه ما شاهده من مرض أبيها وتشاءم من ذلك، ولكن شوقه لجهان وشدة رغبته في مقابلتها أنسياه كل شاغل.
ثم سمع صوتها بجانب باب الغرفة تكلم «المهتر» وتوصيه بما أمر به أبوها، فخفق قلبه، ثم دخلت فلما أقبلت عليه خف للقائها وكلاهما يبتسم وقلبه يضحك، وقد نسيا الدنيا ومصائبها كأنهما انتقلا من عالم الشقاء إلى عالم السعادة والهناء.
وإذا عجز الفلاسفة تمثيل الفردوس، فإن أقرب مَثَل لحال المقيمين به، وحال حبيبين تصافيا وصفا لهما الزمان وخلا الجو، فاجتمعا وطفقا يتشاكيان لا يزعجهما رقيب، ولا يخامر قلبيهما شكٌّ أو غيرة. تلك هي الجنة لولا ما ينتابها من القصر، أو يعرض لأصحابها من طوارق الحدثان.
فلما رأت جهان حبيبها واقفًا لاستقبالها هشَّت له ومدَّت يدها لمصافحته، فمدَّ يده وقبض على كفها وقلبه يضحك وعيناه تبرقان. وإذا كان، وهو الشجاع الباسل الذي لا يهاب مواقف القتال، قد ارتعد واضطرب. فكيف يكون شأنها وهي مهما تبلغ من رباطة الجأش والتعقل لا تخرج عن طبيعة المرأة الحساسة!
وبدأ ضرغام الكلام فقال: «لقد أطلت الغيبة عليك يا سيدتي.»
فنزعت يدها من يده ونظرت في عينيه نظرة المحب العاتب وقالت: «لا تقل سيدتي بل …» وتشاغلت عن إتمام الكلام بالقعود وهي تدعوه إليه، فقعد كلٌّ منهما على كرسي، وأدرك هو مرادها فقال: «كيف لا أدعوك سيدتي وأنت جهان عروس فرغانة وبنت المرزبان، وأنا ضرغام اليتيم ابن آفتاب الأرملة المسكينة؟!»
فقطعت كلامه قائلة: «بل أنت سيدي ومولاي. ليس لأنك رئيس حرس الملك أو قائد جند الخليفة، ولكن لأنك شهم نبيل باسل. بل إن هذا أيضًا لا يزيدك رفعة في عيني. إني أشعر بشيء آخر يعجزني التعبير عنه؛ أشعر بسلطة لك عليَّ، إذا لم تسعفني بالتعبير عنها كنت حزينة بائسة!» قالت ذلك وتوردت وجنتاها وغلب الحياء عليها، فعلم أنها تعني الحب وأن الحياء يمنعها من التصريح فقال: «إن العامل الذي تحسبين ضرغامًا المسكين أصبح به سيدًا قد جعل الأميرة جهان معبودة فأنا عبدها الخاضع المطيع.»
فقالت: «قلت لك إني عاجزة عن أداء ما في خاطري أو بيان أسبابه، وإنما أعلم أن منزلتك عندي لا تعلوها منزلة أحد على وجه هذه البسيطة. ويهمني الآن ألا نضيع الوقت سدى؛ إذ أخشى أن يأتي الموبذ فيدعوني أبي إليه.»
ولما ذكرت أباها تذكرت حاله فتنهدت ثم استدركت فقالت: «إن وقتنا ثمين يا حبيبي. نعم يا حبيبي! سامحني إذا دعوتك بهذا اللقب قبل أن تدعوني أنت به. آه من سلطان الحب!»
فقال وقد هاجت أشجانه: «لا يحق لأحد أن يبدأ بهذا التصريح سواك، وقد فعلت حتى يكون لك فضل المتقدم. وهل أجسر أنا أن أدعوك به قبل أن أسمعه من فيك؟ فأحمد الله على ذلك. وحق لي الآن أن أسميك حبيبتي … آه ما أشهى هذا اللفظ في فمي، وما أخفه على قلبي! لطالما كررته في خلواتي، وكم تمنيت أن أسمعه من فيك. وقد سمعته. فهل في العالم رجل أسعد مني؟!»
فأطرقت وهو لا يحول نظره عنها وكأنه يهم بأن يضمها بجفنيه تهيبًا من أن يضمها بذراعيه، فلما رآها مطرقة وقد بدا الاهتمام في محياها اختلج قلبه في صدره وتوهم أنها ستخطف من بين يديه فقال: «ما بالك مطرقة يا حبيبتي؟»
فرفعت بصرها إليه وابتسمت وقد فهمت ما خالج خاطره وقالت: «لا تذهب بك المخاوف بعيدًا. إني لم أسمك بهذا الاسم وأنا أخاف أحدًا أو أخشى بأسًا، ولا سيما بعد أن آنست من أبي ما آنسته من الارتياح إليك والتعلق بك، ولولا مرضه. آه لولا مرضه …!» وسكتت.
فقال: «أرجو أن يُشفى قريبًا.» وسكت وعيناه تتفرسان في عينيها، وكل منهما يقرأ فِكْر صاحبه، ولعلها قرأت أكثر مما قرأ هو فقالت: «ضرغام، لا ينبغي أن يغلب الضعف على جهان حتى تخفي إحساسها عن حبيبها وتحمله على الشك في شيء من أمرها. لقد تعاشرنا أعوامًا وعرف كلٌّ منا صاحبه حتى امتزجت روحانا فما في الأرض قوة تستطيع التفريق بيننا، وأراني غير قادرة على الاستقلال بفكري أو حياتي عنك. فأنا أشعر بأنك مني وأنا منك. فإذا فكَّرت في شيء رأيت فكري يمرُّ على تذكارات أنت قوامها، وإذا تخيلت أمرًا كان خيالك نصب عيني يحول بيني وبينه، ولا ترتسم في عقلي صورة إلا وفيها شيء من صورتك. فهل بعد ذلك يستطيع البشر أن يفصلوا بيننا؟ وإذا استطاعوا التفريق بين هذين الثوبين الباليين فإنهم أعجز من أن يفصلوا بين روحينا وفكرينا. ولكننا مقبلون على أمر عظيم. فإذا تجاوزناه …» وسكتت وحوَّلت وجهها عنه خشية أن يبدو له ما يتردد في مآقيها.
أما هو فأسكره تعبيرها ومرآها، على أنه لم يفهم مرادها فقال: «وما الذي يخيفك؟ لا أعهدك تخافين، ولك من تعقلك وثبات جأشك حصن حصين. وهذه روحي بين يديك فارمي بها من تشائين.»
قالت: «سلمت روحك يا ضرغام. إني لا أخاف شيئًا؛ إذ ليس في الأرض قوة تستطيع أن تبعدني عنك. وكنت أحاذر أن أجد من أبي تغيرًا أو فتورًا، فذهب حذري اليوم. ولكنه مريض، فعساه أن يُشفى قريبًا.»
قال: «يُشفى بإذن الله. وهل تخافين شيئًا آخر؟»
قالت: «أتوقع أمورًا كثيرة تخيف غيري، ولكنني لا أخافها لأني أعدها أعراضًا وأنت الجوهر، فإذا كنت لي فقد ملكت الدنيا وما فيها — اعذرني على هذا التصريح وخاطبني بمثله فإني لا أحب التكتم والتردد!»
فقال بلهفة وعزم ثابت: «تريدين أن أصرح بأني أحبك، أو بأني أترك الدنيا لأجلك؟ إن هذا لا حاجة لي إلى ذكره، والظمآن لا يُطلب منه الاعتراف بحاجته إلى الماء، والتعس لا يُسأل هل يتمنى السعادة. وأنا بغيرك ظمآن بلا ماء، وجسم بلا روح، وأنت سعادتي وحياتي وأنت كل شيء!»
فأبرقت عيناها وسُري عنها وقالت: «هذا كل ما أبغيه. إني أسمع صوت سامان في الدار، وربما دخل علينا فيقطع حديثنا، فنحن على العهد وعند إبلال أبي سأفاتحه في هذا الشأن ثم أخبرك بما يكون.» قالت ذلك وتحفزت للوقوف، فإذا بخيزران قد دخلت وفي وجهها انقباض ولهفة، فنهضت جهان لملاقاتها فابتدرتها خيزران قائلة: «إن سامان داخل على مولاي المرزبان.»
قالت: «وهل أتى الموبذ معه؟» قالت: «كلا».
فهزَّت رأسها وحرقت أسنانها ثم قالت لها وهي تشير إلى ضرغام: «هل رأيت ضرغامًا؟»
قالت وقد علاها الخجل: «لم أَرَه يا سيدتي. اعذريني لدخولي بهذه اللهفة فقد شُغلت بأمر سامان لعلمي أن أباك يستاء من دخوله عليه وقد أوصى بألا يدخل عليه أحد.» وتحوَّلت إلى ضرغام فحيَّته باحترام وهمَّت بتقبيل يده.
فردَّ التحية وابتسم لها، وكان يستأنس بها لعلمه بحبها لجهان، وقال: «ما لي أراكم تخافون دخول سامان على أبيه؟!»
قالت جهان: «لأن أبي تكدَّر منه أمس لإهماله المجيء بالموبذ إليه.»
قالت ذلك وخرجت وهي تقول: «سأذهب إلى أبي ثم أعود.»
لبث ضرغام في مكانه وسارت جهان حتى أتت غرفة أبيها، فرأت سامان واقفًا بالباب والحاجب يحول بينه وبين الدخول وهو يجادله مغضبًا، فقالت: «ما بالك يا أخي؟»
قال: «إن هذا الرجل يمنعني من الدخول على أبي.»
قالت: «لا تغضب فإن أبانا في فراشه، وقد صرفني وأدخل المهتر ليكلمه في بعض الشئون. هل رأيت الموبذ؟»
قال: «لا. لم أجده.»
قالت: «ألا تعلم أن رجوعك وحدك يغضب أبانا؟»
وبينما هما في ذلك سمعا المرزبان ينادي من الداخل: «لا تدخلوا عليَّ سامان، ادخلي يا جهان.»
فالْتفتت إلى أخيها وقالت له هامسة: «اذهب يا أخي إلى الإيوان، ولا تكدر أبانا، وسأعود إليك حالًا.» فأطاع وانصرف. ودخلت هي فوجدت القيِّم جاثيًا بين يدي أبيها وأمامه أوراق ودفاتر وقلم ودواة، ورأت أباها جالسًا في السرير وقد تغيَّر وجهه وبدا الجد في عينيه، فلما دخلت رفع بصره إليها وابتسم، فبشَّت له ودنت منه فقبلت يده وقالت: «وكيف أنت الآن يا أبتاه؟ عسى أن تكون بخير!»
فضمَّها إليه وقبَّلها وأطال معانقتها، وأحست بدمعة حارة سقطت على عنقها فارتجفت ونظرت في وجهه فرأت الدمع في عينيه، فأثر منظره فيها، وكأنه خاف أن تنزعج فقال وهو يتكلف الابتسام: «إنني في خير. لا تخافي. سأعمل كل شيء في سبيل راحتك، اجلسي.» وأشار إلى القيِّم فخرج وأغلق الباب، فأعادت نظرها إلى ما بين يدي أبيها من الأوراق والدفاتر ولم تستحسن أن تسأله عنها.
أما هو فتثاءب وأشار إليها أن تساعده على التوسد فأعانته، فاستلقى واتكأ على الوسادة وقال: «علمت أن أخاك سامان عاد هذه المرة أيضًا وحده، فإنه لا يرى في مجيء الموبذ نفعًا له.»
فقالت: «لقد أرسل ضرغام خادمه ليأتي بالموبذ، ولا يلبث أن يجيء، فاطمئن.»
وقد ذكرت ضرغامًا عمدًا لترى ما يبدو من أبيها، فقال: «إن ضرغامًا جل كريم النفس، وقد سررت بلقائه وهو جدير لأن يكون أخًا لك لا سامان الشرير.»
فسرها ثناؤه على حبيبها، وهمَّت بأن تفاتحه في شأنه وإذا بالحاجب دخل يقول: «الموبذ بالباب ومعه الأفشين.»
فلما سمع اسم الأفشين أشرق وجهه وبغت وقال: «والأفشين أيضًا؟!»
قال: «نعم يا سيدي.»
أما جهان فلما سمعت اسم الأفشين انقلب سرورها كآبة، ووقفت كأنها تحاول الفرار من رؤية ذلك الرجل، ولكنها تجلدت ولبثت تنتظر أمر أبيها فقال لها: «لا بأس من بقائك هنا إذا شئت، ولك الخيار.»
قالت: «أتأذن لي في الخروج؟»
قال: «اخرجي واطمئني.» فخرجت من باب سري في ناحية من الغرفة، والْتفت المرزبان إلى الحاجب وقال: «يدخل الموبذ والأفشين.»
فدخل الموبذ والأفشين وراءه، وتوجه الموبذ أولًا إلى الصنم فوقف أمامه وانحنى متمتمًا، وفعل الأفشين فعله.
فأشار المرزبان إليهما فجلسا، ثم رحَّب بهما ووجه كلامه إلى الأفشين قائلًا: «لقد أبطأت عليَّ حتى اشتد شوقي إليك.»
فقال وهو يحك ذقنه وقد شاب معظمها لأنه كان في نحو سن المرزبان: «كان قد طرأ عليَّ ما عاقني فلم أصل إلى فرغانة إلا اليوم. كيف أنت؟»
قال: «كما تراني. وقد جئت في إبان الحاجة إليك.» ثم الْتفت إلى الموبذ وقال: «أرسلت في طلبك غير مرة فلم تأتِ.»
قال: «لم يأتني أحد قبل الآن.»
قال: «أرسلت إليك بني سامان أمس واليوم فلم يجدك في كارشان شاه.»
فاستغرب الموبذ كلامه وقال: «إني لم أفارق المعبد منذ ثلاثة أيام لمناسبة العيد وتقاطر الناس إلى فرغانة للتبرك وإيفاء النذور. وكيف تدعوني ولا أجيب؟! وكيف يسأل عني في المعبد ولا أعلم. لا شك أن ولدنا سامان لم يسأل عني أو لعله سأل غير العارفين.»
فحرق المرزبان أسنانه غيظًا وقال: «بل هو لم يسأل عنك. ولا أدري غرضه من ذلك أو لعلي أدري ولا أقول، ولقد آن وقت الجزاء وهذا أخي الأفشين شاهد.» ثم صفق فدخل الحاجب فقال له: «لا تأذن لأحد علينا وأغلق الباب.»
كانت جهان قد غادرت الغرفة منفعلة مضطربة لمفاجأتها بقدوم الأفشين، ولما لاحظته من اهتمام أبيها بإعداد الورق والدواة والقلم. فسارت توًّا إلى ضرغام فرأته واقفًا بالإيوان وحده، فأنستها رؤيته هواجسها، وسُري عنها. أما هو فتقدم نحوها وسألها عن أبيها، فقالت: «إنه أحسن حالًا من الصباح وقد ذكر أنه كان يتمنى أن تكون لي في مكان أخي سامان. فليته علم أنك خير منه مكانًا.» قالت ذلك ونظرت إليه نظرة أغنته عن شرح كثير.
فقال لها وعيناه تضحكان: «أشكرك على حسن ظنك يا جهان. وكيف تركت أباك الآن؟»
فتنهدت وقالت: «ألم تعلم بمجيء الأفشين والموبذ؟»
قال: «هل جاء الأفشين أيضًا. إني لم أرَ وردان بعد.»
قالت: «أتيا معًا … هذا الذي كنت أتخوفه! ولكن لا بأس ما دام أبي أحسن حالًا.»
قال: «وأين هما؟» قالت: «هما عنده في خلوة وقد خيرني بين البقاء معهم وبين الخروج ففضلت الخروج للتخلص من رؤيتهما ولكي أشاهد حبيبي ضرغامًا.»
قال: «لعل خلوتهم ستطول. فهل تأذنين لي بالانصراف برهة ثم أعود؟»
قالت: «إلى أين تتركني؟»
قال: «إذا شئت بقيت، ولكنني لن أطيل الغياب.»
قالت: «اذهب في حراسة أورمزد ولا تبطئ.»
فلما سمعها تذكر أورمزد قال: «لقد أذكرتني شيئًا لا بأس من سؤالك عنه فهل أقول؟»
فحدَّقت في عينيه فقرأت فكره وقالت: «أظنك ستسألني عن أورمزد وأنت تدين لغيره أليس كذلك؟»
فدهش لفراستها وقال: «نعم هذا سؤالي.»
قالت: «إني أدين بما تدين به لأني لا أحب فراقك في الدنيا ولا في الآخرة.»
ففرح لتعلقها به وقال: «ولي سؤال آخر!» قالت: «قل ما بدا لك.»
قال: «أنت تعلمين غرام والدتي بالإقامة بالعراق لسرٍّ لا أعلمه.»
فقطعت كلامه وقالت: «إني أكون حيث تشاء أنت، فإن الدنيا كلها حيث تقيم، ولا يهمني شيء مما لنا في فرغانة أو غيرها.»
فقال: «قد نلتُ الآن ما أتمناه وقبضت على السعادة بيدي. فهل تأذنين في ذهابي لأرى رجال الوفد الذين صحبتهم فأتخلص منهم ثم آتي الليلة؟»
قالت: «اذهب في حراسة الله.» فودَّعها وخرج بعد أن أرسل من يستقدم وردان.