موت المرزبان ووصيته
خُيل إلى جهان أن قلبها يتحفز للذهاب في أثر ضرغام، فتماسكت واسترجعت رشدها وفكرت فيما هي فيه من أسباب القلق والاضطراب لمرض أبيها فإنه إذا مات تصبح يتيمة ليس لها إلا أخوها، وهو لا يُؤمن جانبه ولا يُعول عليه. وذكرت خلوة أبيها بالموبذ والأفشين فخفق قلبها خوفًا من تلك الخلوة وقامت في ذهنها هواجس كثيرة ومخاوف شتى؛ لما تعلمه من مطامع الموبذان ودسائسهم ولا سيما بعد أن تحولت الكهانة إلى مرتزق لهم ومورد للأموال.
والعقائد إذا تقادم عهدها وتولاها أهل المطامع دبَّ إليها الفساد وأصبحت شرًّا على الناس من الكفر. وعلى ذلك لم تكن جهان شديدة الأخذ بأسباب دينها. وإنما كانت على الزردشتية مذهب أبيها على غير تفهُّم أو نقد؛ لأنها وُلدت فيها فشبَّت عليها كما شبَّت على سائر عاداتها وأخلاقها. وهذا شأن السواد الأعظم من العامة فإنهم يدينون بما يألفونه من صغرهم، وإذا كبروا وتثقفوا ودلَّهم العلم على مظنة للنقد فيه اغتفروها في جانب ما غُرِس في قلوبهم وعقولهم من مبادئه، فأصبح الدين كالجنس يغضب له المرء وينصره غيرة وحمية كما ينصر عرضه ويذب عن حياضه.
وكانت تنظر إلى الموبذان وأمثاله مستخفة بما يقولونه ويزعمونه، فلم تكن تحذرهم لاعتقادهم أنهم يعجزون في كل شيء عدا اكتناز الأموال. فلم يكن اختلاء الموبذ بأبيها ليهمها لو لم يكن الأفشين معه وهي تكرهه بلا سبب ظاهر. وتخافه لأنه ملك ذو أعوان وجند. على أن أباها كان يجلُّه ويعول عليه.
ووقع بصرها عفوًا على بساط في الغرفة رأت عليه من الرسوم المزركشة صورة أسد رابض عيناه كأنهما شرارتان فتذكرت حبيبها لأن اسمه من أسماء الأسد. فلما ذكرته ذهبت مخاوفها لعلمها بأنه ما دام بقربها فلا خوف عليها.
بقيت جهان مستغرقة في هواجسها، حتى سمعت وقع أقدام أدركت أنها لخيزران القهرمانة فخفق قلبها توقعًا لخبر تسمعه، فلما دنت منها قالت: «إن سيدي المرزبان يدعوك إليه. تجلدي يا جهان وكوني كما أعهدك.»
فأوجست خيفة من تحذيرها ولم تسألها عن السبب اعتمادًا على قدرتها في تحمل الصدمات، وأكبرت أن تبدي جزعًا فمشت مسرعة، وذكرت أنها سترى الموبذ والأفشين عند أبيها فانقبضت نفسها وظلَّت سائرة حتى وصلت إلى باب الغرفة فوسع لها الحاجب فدخلت وعيناها إلى سرير والدها. فرأته مستلقيًا وعيناه شاخصتان إلى الباب وقد غشيهما الدمع وتكسرت أهدابهما من البكاء. وحالما وقع بصره عليها ابتسم ابتسامة لا حياة فيها، ولولا بريق تينك العينين وما يتحلى فيهما من الحنو والمحبة لظننته ميتًا. فتمالكت ودنت من السرير، فلما رآها أحس بنشاط جديد فبسط ذراعيه وفتح فاه ليكلمها فامتنع عليه النطق فاكتفت بحركات شفتيه وترامت على صدره، ولولا ثبات جأشها لأُغمي عليها؛ لأنها تحققت في تلك اللحظة أنها لا تلبث أن تصير يتيمة وحيدة.
فأمسكت بذراعي أبيها المحتضر ونظرت في وجهه نظرة الاستعطاف كأنها تتوسل إليه ألا يتركها، فسبقتها العبرات وبكت وهي تمسك أنفاسها لئلا يسمع شهيقها وأطرفت لئلا تظهر دموعها.
أما هو فلم يفته ما خامر قلبها من الحزن والخوف، وأراد تعزيتها فعصاه النطق ولم يزد على أن حرك شفتيه وحوَّل نظره وأشار بيده إلى الأفشين والموبذ. فالتفتت فرأت الأفشين جالسًا وفي يده لفافة من الورق فلما رآها تنظر إليه بعد إشارة أبيها أراها اللفافة وابتسم لها كأنه يعزيها. وكان الموبذ واقفًا بجانب التمثال يصلي ويتضرع فالْتفت إليها وهو يظهر الأسف والحزن. ففهمت جهان خلاصة ما تمَّ في تلك الخلوة وهو ما كانت تخشاه وتحذر الوقوع فيه. وأعادت النظر إلى المريض وصاحت: «كيف أنت؟ إنك في خير.»
فأراد أن يجيبها ويطمئنها والحشرجة تمنعه من الكلام، فجلست بجانبه وأمسكت يده فوجدتها تندى بعرق بارد، فكادت تصيح وتولول لأنها تحققت أنه في آخر ساعات الدنيا، وتجلدت لكنها لم تستطع إمساك دموعها فأطرقت والدمع يتساقط على خديها وقد زادهما احتباس العواطف توردًا وزاد عينيها بريقًا. وأما المريض فإن سرعة تنفسه وخرير صدره ودنو أجله لم تفقده شيئًا من رشده ولا أنسته ابنته الحبيبة، وجاهد كي يطلق لسانه بكلمة يقولها ولكنه غلب على أمره. فلما تحقق عجزه عن الكلام أشار إليها أن تخرج لعله ينام. فوقفت ترتعد مترددة لا تدري أتطيعه فتخرج أن تبقى بين يديه.
ثم رأته قد ازدادت حشرجة صدره وأخذ يدير رأسه ويلتفت كأنه يحاول النهوض ولا يقوى عليه، وأخيرًا حدق نظره في جهان فتطلعت في عينيه فرأت ماءهما قد جفَّ وذهب منهما بصيص الحياة وكأنه همَّ بأن يبسط يديه نحوها فلم ترتفعا إلا قليلًا، ثم شهق وأرخى يديه وسكن صدره وهمد جسده وأظلمت عيناه وتراخت أجفانه وبرز أنفه ووجنتاه، واصفر اصفرار الموت ونفش شعر لحيته ورأسه حتى أصبح منظره مروعًا مفزعًا، فصاحت جهان: «وا أبتاه!» وحلَّت شعرها ولطمت وجهها وسمع أهل القصر صوتها، وبلغ الخبر إلى القهرمانة فركضت وأخذت بيد جهان وراحت تخفف عنها وتعزيها.
ولما قُضي الأمر أخذ أهل القصر في إعداد المأتم كما هي عادة المجوس، فغسلوا الجثة وألبسوها ثوبًا أبيض ووضعوها على دكة في غرفة كبيرة أخلوها من الأثاث، وجلس الأخصاء حولها. والموبذ يصلي ويدعو وهم يؤمنون ويستغفرون. وبعد هنيهة جاء سامان وكان غائبًا عن البيت وأخذ يندب أباه والناس يخففون عنه، وأما جهان فبعد أن استسلمت للجزع ساعة الوفاة رجعت إلى نفسها فغلب عليها التعقل وإعمال الفكر. وكانت تفكر في ضرغام مصدر تعزيتها الوحيد فأخذت تتلفت لعلها تجده قادمًا فتتعزى برؤيه ومخاطبته.
ثم أشار إليها الموبذ أن تتبعه إلى غرفة أخرى، ومشى فتبعته مطأطئة الرأس، وتبعها سامان فلما خلا الموبذ إليهما قال: «لا ينبغي أن تبالغا في الحزن على أخينا الراحل، فإن أورمزد معه لأنه كان رجلًا تقيًا محسنًا، وسنوقد النيران على اسمه ثلاثة أيام ونجعل وقودها الند والصندل. ولا يخفى عليكما أن روح أبيكما لم تفارق هذا المكان بعد ولا تفارقه إلا بعد ثلاثة أيام فلا تحزناها بالبكاء والنوح. وقد أوصى بتفريق الحسنات والمبرات وهو لا ريب عندي من أهل النعيم. ولذلك فإن روحه بعد أن تقضي ثلاث ليال حول الجثة تصعد إلى الأماكن المباركة فتلاقي ضميره على هيئة حورية تقص عليه حسناته وتقوده إلى النور الأبدي. كما أننا سنوالي الصلاة على روحه طول السنة فلا تجزعا. على أني أبلغكما وصيته عن دفنه.»
وكانت جهان تسمع مطرقة وتتلقى دموعها بمنديلها، فلما قال ذلك رفعت بصرها إليه وفي عينيها ملامح الاستفهام فقال: «لقد أوصى بأن ندفنه في برج السكوت.»
فلما قال ذلك بانت الدهشة على وجه الفتاة وأخيها وقالت: «كيف ذلك؟! إنما يُدفن في برج السكوت عامة الناس والفقراء، ومثل أبي يُدفن في حجرة خاصة.»
قال: «نعم ولكنه أوصى بدفنه هناك، وأسرَّ إليَّ السبب الذي بعثه على ذلك ولا أقدر أن أبوح به.»
فاكتفت بقوله وسكتت، أما سامان فلم يسكت وقال: «كيف ندفن أبانا المرزبان في برج السكوت وأنت تعلم أنه مدفن العامة، توضع فيه الأجساد على أحجار تعرضها للهواء وتذهب طعامًا للنسور والكواسر فلا يبقى منها إلا العظام ثم تُطرح هذه في البئر العميقة وسط البرج فتختلط بعظام الطغام والمجرمين و…»
فاستغرب الموبذ اعتراضه ولم يُعِرْه الْتفاتًا وإنما قال له: «هذه وصية الفقيد بحضور مولانا الأفشين وقد دوَّنها في وصيته التي ستُتلى عليكم بعد بضعة أيام.» قال ذلك وتوجه إلى قيِّم القصر فأوصاه بما ينبغي إعداده للدفن.
وقضى القوم بضعة أيام في المأتم وتوابعه من مراسم وتعازٍ وإحسانات وصلوات. وطال انتظار جهان رجوع ضرغام، وشُغلت لإبطائه وزادها هذا حزنًا على حزنها، وغم عليها أن المهمة التي ذهب فيها قد تستغرق أسابيع، والمحب كثير القلق سريع التخوف. ولكنها آنست من أخيها سامان تقربًا وتلطفًا لم تعهدهما فيه قبلًا، فلم يعد يفارقها لحظة، وكلما رآها تتضجر خفَّف عنها. ولم يكن غافلًا عن تعلقها بضرغام وإن لم يفاتحها في شأنه من قبل، فأخذ يكثر من ذكره وبالغ في الثناء عليه، مع أنه كثيرًا ما كان يحسن لها غيره ولا سيما بابك الخرمي. وكان سامان لا يعرف الحب ولا يشعر بجواذب المحبين ولكنه لذكائه ودهائه لم يكن يخفى عليه أمرهم وأوجه الضعف فيهم.
ورغم قوة فراسة جهان وسوء ظنها بأخيها، كانت تلتذ بحديثه، وسرها أنه يحب حبيبها ويُعجب بمناقبه وبسالته، فاستأنست به وأخذت تتناسى ما كانت تعهده من نقائصه أو تخافه من مطامعه.
ذلك هو سلطان الحب، يعمي ويصم فمهما أُوتي صاحبه من الحكمة والتعقل فإنه يفقدهما إذا وقع في شراكه، وقد يبقى حكيمًا في كلِّ شيء، وقد يُعد من كبار أهل الدهاء والسياسة أو من كبار العلماء أو الشعراء أو الفلاسفة، ولكنه إزاء الحب يكون كالطفل يُقاد بخيط، وقد يغلب عليه الوهم في بعض الأحوال حتى يصدق المستحيل ويعتقد الخرافات إذا كان في ذلك ما يسهل عليه أمنية أو يطمئن له قلبًا.
ومن هنا نرى الأب الحنون مهما يبلغ من إثارة الخرافات إذا مرض ابنه وفشلت في علاجه حِيَل الأطباء قادته رغبته في شفائه إلى تصديق ما يصف الدجالون!
•••
بقي الموبذ والأفشين يترددان على قصر المرزبان أثناء المأتم قيامًا بواجب العزاء، وسامان في شوق إلى معرفة وصية أبيه. فلما انتهى المأتم جاء الموبذ وطلب الاختلاء بجهان وأخيها، فلما اختلوا أخرج من جيبه أسطوانة من فضة فتحها وأخرج منها درجًا ملفوفًا وقال: «هذه هي وصية أبيكما التي عهد بها إلى مولانا الأفشين بحضوري.» والْتفت إلى جهان وقال: «والحق يُقال أن أباك قد أحسن الاختيار بإلقاء مقاليد الوصية إلى صديقه الأفشين.»
هذا ما عهد به المرزبان طهماز في فرغانة، في آخر يوم من أيام حياته، إلى الملك الأفشين حيدر بن كاروس صاحب أشروسنة وقائد جند المعتصم، بحضور الموبذ صاحب بيت كارشان شاه وبمعونة أورمزد العظيم، في اليوم العاشر من شهر خرداد ماه من السنة … للإسكندر.
يعهد المرزبان طهماز إلى الأفشين حيدر بن كاروس ملك أشروسنة وقائد جند المعتصم بأن يكون وصيًّا على أهله من بعده يتصرف فيما خلفه من مال وعقار، فيما يعود على الورثة بالخير، بمقتضى هذه الوصية. ولم يخلِّف المرزبان طهماز من الورثة الشرعيين غير ولدين، هما الفتى سامان، والفتاة جهان، وقد أوصى بما يملكه جميعه لابنته جهان وحدها فهي الوريثة للقصر بما فيه والضياع وما فيها من ماشية ودواب ومنشآت، ولها كل ما خلفه من جارية ورفيق وأثاث ومصنوعات وآنية ونقد. يكون ذلك كله ملكًا لها بشرط إشراف صديقنا الأفشين عليه وتدبيره بما يلهمه أورمزد إليه من أسباب النفع لها.
أما ولدنا سامان فإنه محروم من هذا الميراث كله، لا يصير إليه منه مال ولا عقار إلا ما يكفي لمعيشته على ما يقدره الوصي. وأما سبب حرماني إياه فلم أشأ أن أدونه في هذه الوصية. ولكن لكيلا يبقى مجهولًا ويذهب معي إلى القبر قصصته على الوصي بحضور الموبذ. على أن يبقى مكتومًا عندهما إلى حين الحاجة.
هذه وصيتي كُتبت أمامي، وقد صدَّرتها وختمتها بتوقيعي، وشهد فيها الموبذ. ومن أخلَّ بحرف منها كان ملعونًا خمسين لعنة. وقد فعلت كل ذلك باختياري وأنا في سلامة العقل.
وأوصيت أيضًا أن أُدفن بعد موتي في برج السكوت في ضاحية فرغانة، وتُترك جثتي طعامًا للكواسر.
وأورمزد يتولى القيام بهذه الوصية ويعين صديقي الأفشين على العمل بها.
وكان الموبذ يقرأ وسامان وجهان صامتان، حتى بلغ إلى حرمان سامان من الإرث فتغيَّر وجه الشاب وامتقع لونه، ولكنه تجلد وكظم حتى فرغ الموبذ من تلاوة الوصية فقال له: «كيف حرمني أبي من حقي وأنا ابنه الوحيد؟! هذا لا يكون أبدًا. أنا وارث اسم أبي ولقبه وأما العقار فلي ولأختي جهان!»
فقال الموبذ: «قد قرأت عليكما الوصية ولا سبيل إلى غير ما فيها. والرأي في كل حال رأي الأفشين، وقد فرغت من رسالتي فائذنا لي في الانصراف، وسيأتي الأفشين فيتولى العمل بالوصية، والدولة تساعده على تنفيذها بالقوة، فأنصح لك يا ولدي بأن تصبر على ما فاتك من إرث والدك.» قال ذلك وخرج مسرعًا وخرج سامان يشيعه إلى سلم الإيوان. فلما ودَّعه ونزل الحديقة وقف سامان ينظر إليه ويحرق أسنانه ويقول في نفسه: «هذا ما كنت أخافه من مجيئك يا موبذ النحس، كم أرسلني أبي لطلبك وأنا أماطل وأحتال لتأخير حضورك خوفًا من مثل هذه الوصية؛ لأني كنت أشعر بما في نفس أبي عليَّ. نعم أنا أعرف سبب غضبه وما كنت أظنه عرفه، ولكن ذلك لا يحرمني من حقي في الميراث. صدقت يا موبذ إن الأمر بيد الأفشين اللعين وهذا أطمع من نملة. ولعله سعى في الوصاية ليستولي على التركة ويحرمنا منها جميعًا. آه لو كانت جهان تطاوعني لكنا نكيد له كيدًا عظيمًا، ولكنها شديدة التمسك بما يسمونه شرف النفس والأريحية على أني سأكيد لهم جميعًا.» وكان يناجي نفسه بهذه الخواطر وهو ينظر إلى الموبذ الذي غادر الحديقة وركب فرسه وسار في سبيله، ثم رجع سامان إلى أخته. وكانت قد شق عليها أن يكون الأفشين وصيًّا عليها، ولكنها رأت ألا مفرَّ من ذلك. كما شق عليها حرمان أخيها من الإرث، فقالت له: «طب نفسًا يا أخي، إنك لن تلاقي ضيمًا وأنا على قيد الحياة. فأنت أخي وأنا أعوضك عما فاتك من الميراث.»
فأطرق ولوى عنقه تذللًا ومسكنة، ثم رفع بصره والدمع في عينيه وقال: «لم يسؤني حرماني من الإرث بقدر ما ساءني سببه، فأي ذنب ارتكبته حتى أُعامَل هذه المعاملة؟!»
قالت: «لا أعلم السبب ولا يعلمه إلا الأفشين، وسيسافر إلى بغداد ونبقى نحن والمال بين أيدينا نتصرف فيه كما نشاء.»
فشكر لها عطفها عليه، وكظم ما في نفسه، وشقَّ عليه أن يطلع الأفشين والموبذ على سبب حرمانه فسكت، وجلس يفكر في تدبير المكائد ونصب الحبائل، وخاف أن تنتبه أخته لما في ذهنه فشغلها بذكر ضرغام فقال: «لقد أبطأ علينا البطل ضرغام، ولا بد لتغيبه من سبب قهري.»
قالت: «يلوح لي أنه بعيد عن فرغانة، فلو كان بها أو قريبًا منها لما فاته خبر المصيبة التي حلَّت بنا، ولعله يعود قريبًا.»
فقال: «لو كان هنا لخفَّت المصيبة علينا؛ إني أستأنس بطلعته، لقد سموه ضرغامًا وهو اسم على مسمى. وكم فيه من خصال تندر في سواه!»
فوقع ذلك الإطراء في نفس جهان وقوع الماء على الظمآن. ومع علمها أن أخاها يمدحه مجاملة لها، أسرع لسماع الحديث عمن تحب، وأخذت تغالط نفسها في أن أخاها يحبه، وأنها كانت مخطئة في زعمها الأول!
وبينما هما في الحديث أتت القهرمانة تنبئ سيدتها بمجيء ضرغام، فخفق قلبها ونسيت حزنها. ولكنها بكت إذ تذكرت إعجاب أبيها به وما كانت تتوقعه من السعادة لو بقي حيًّا. ثم تجلدت وابتسمت له عندما رأته، فحياها وأخذ في تعزيتها، ثم تحوَّل نحو سامان وعزاه فقال سامان: «إن لنا في بقائك تعزية كبرى.»
ومشت جهان إلى غرفتها فتبعها ضرغام بلباس السفر فدعته إلى الجلوس وقالت: «لقد كانت مصيبتنا مضاعفة لغيابك يا ضرغام.»
قال: «كنت في مكان بعيد اضطررت للذهاب إليه تعجيلًا للفراغ من المهمة التي جئت لإنجازها، ولكن …» وسكت، فسألته: «وماذا جرى؟»
قال: «جاءني أمر الخليفة يستعجلني بالرجوع.»
فأطرقت ثم قالت: «إن سفرك يسوءني كثيرًا ولكنني …»
فقطع كلامها قائلًا: «سأبقى في فرغانة؛ لأن فيها قلبي وعقلي وكل جوارحي.» وانتبه إلى أن سامان يسمعه فأجفل وخجل. فقالت له: «لا تخجل، إن أخي عالم بما بيننا، وأراه يحبك كثيرًا ويعجب ببسالتك ومناقبك، وليس ما يمنعنا من العلانية، أما بقاؤك هنا فهو أمنية حياتي، ولكنني أرى أن تلبي طلب الخليفة؛ لأنه أكرمك ورفع منزلتك وقد يكون في حاجة إلى حسامك أو رأيك. وهل لم يرسل الخليفة في طلب الأفشين أيضًا؟»
قال: «لم يبلغني شيء عن دعوته، ولكنني أظنه يطلبه قريبًا؛ لأن الأمر حرب والأفشين كبير القواد. ولكن كيف أسافر وأنت في هذا الحزن وكيف أطمئن وأنت …!»
فقطع سامان كلامه قائلًا: «لا بأس عليها؛ لأن أبانا عهد إلى مولانا الأفشين بتولي شئونها.» وارتجفت شفتاه من الغضب والحقد. فالْتفتت جهان إليه وقد شقَّ عليها أن يفشي ذلك لضرغام فيقلقه. وهذا شأن المرأة العاقلة فإنها تكتم متاعبها عن رجلها ولا تظهر له إلا ما يسره، ما لم تضطر إلى غير ذلك.
وعجب ضرغام مما سمعه عن وصاية الأفشين، ونظر إلى جهان مستفهمًا فقالت: «إن الأفشين صديق لأبي، وكان يثق فيه كثيرًا، فأراد أن يكرمني ويهيئ لي أسباب الراحة بعد موته فأوصاه بي بعهد كتبه له وأشهد الموبذ عليه. وما في ذلك شيء غريب.»
فأطرق وأعمل فكرته، فرأى أن الأفشين معه في العراق، فوصايته خير من وصاية رجل من أهل فرغانة لا سبيل له إليه. فمال إلى السفر وأحب أن يسمع رأيها في سفرها معه، فنظر إليها وعيناه تسبقانه إلى الكلام وهي لا تحول نظرها عنه فقال: «إذا كان الأمر كذلك فقد يبقى الأفشين هنا أيامًا ليدبر ما عُهد فيه إليه، وفي هذا ما يطمئنك في بعدنا.»
فأدركت غرضه وقالت: «لا يطول بقائي هنا إلا ريثما تنقضي عدة الحداد، ثم أسافر إلى بغداد؛ فإني لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد بعد وفاة أبي، وقد أصبحت رغم ما ألقاه من مؤانسة الفرغانيين ومحبتهم أشعر بأني غريبة بينهم، ولا سيما بعد أن تسافر.»
وكان سامان يسمع ما يدور بينهما ولا يشعر؛ لأن قلب الأجرود مغلق لا نافذة فيه ولا سبيل للحب إليه، ولكنه رأى من الحكمة أن يجاريهما فلما سمع كلام أخته قال: «إن جهان ولا شك مشتاقة إلى رؤية والدتك في بغداد، فهي صديقتها وكانت تحبها وتأنس بها.»
فالْتفتت جهان إلى أخيها لفتة تأنيب وقالت: «أنا لا أحب غير الصراحة، لكأنك تظنني أخشى التصريح بحبي ضرغامًا، على أني لا أرى في الحب عارًا، ولو مد أورمزد في أجل أبي عامًا آخر لانتهى الأمر على ما تمنيناه. فماذا ترى أنت؟»
فقال سامان: «لا أرى بأسًا بحبك ضرغامًا؛ إنه أهل لذلك، ولو لم تسبقيني إلى حبه لسبقتك أنا إليه. لولا أنه لا يرضى بهذا البدل!»
فراقها مزاح أخيها، على ما في قلبه من الغيظ منذ سمع الوصية. ولكنها كانت تعرف فيه الكظم والدهاء والحقد. فلما سمعت مزاحه نظرت إليه شذرًا في غير غضب، ثم وجَّهت كلامها إلى ضرغام قائلة: «إن سفرك يسوءني، ولكنه واجب، ولا يمضي إلا القليل حتى ألحق بك.» فقطع سامان كلامها قائلًا: «وأنا أكون في خدمتها حتى أصل بها إليك، أو إلى والدتك.»
فأتمَّت كلامها قائلة: «ولا تظن شيئًا من حطام الدنيا يحول بيني وبينك وقد أكتب إليك قبل سفري.» قالت ذلك وهي تشعر بما يهددها من التعب ولكنها كانت كثيرة التعويل على نفسها كبيرة الثقة بتدبيرها. أما ضرغام فكان يخشى أن تمنعه من السفر وهو راغب فيه تحقيقًا لآماله، فلما رآها تدعوه إليه زهد فيه وآثر البقاء، فسكت وهو لا يعلم بماذا يجيب، فأدركت تردده فقالت: «إن بقاءك معي أكبر أسباب سعادتي، ولكن القائد الباسل ليس من شأنه إلا أن يلبي الدعوة، فما بالك وهي موجهة إليه من الخليفة مالك رقاب الناس؟!»
وقال له سامان: «كن مطمئنًّا فإني في خدمتها حتى تصل إليك سالمة.»
ولم يكن ضرغام ممن يتخلفون عن أداء الواجب، ولكنه ظنَّ أن في سفره وحده ما يسوء جهان؛ لأنها لا تستطيع مصاحبته قبل انتهاء أيام الحداد، فلما رآها ترغبه في السفر سُري عنه فقال: «إذا كان هذا ما تريدين فأنا طوع أمرك، وغدًا أسافر إن شاء الله.»
وأحس سامان بثقل وجوده في تلك الساعة، فنهض بحجة أن لديه أمورًا خاصة لا بد من ذهابه لإنجازها ثم يعود، فقالت له جهان: «لا تطل غيابك كعادتك فقد تغيرت الأحوال الآن وأصبح وجودك في القصر ضروريًّا.»
فأشار مطيعًا وخرج مسرعًا يتعثر بأذيال قبائه. أما ضرغام فلما رأى نفسه في خلوة مع جهان شعر كأنه في عالم غير هذا العالم، ونسي السفر والحرب والرتب والألقاب، وتمنى لو تتحول تلك الساعة إلى دهر أو تمتد إلى الأبد، لا يلتمس معها طعامًا ولا شرابًا ولا ثراء، كأنه تجرد عن المادة ورأى في تقارب روحيهما معنًى لا يشوبه شيء مما يفتقر إليه البدن أو تجر إليه الشهوات. والحب تجاذب بين الأرواح لا يفسده أو يضعفه غير الجسد بشهواته وميوله؛ ولذلك لا يبرح قويًّا ما دام عذريًا. فمن رغب في بقاء الحب فلينزهه عن شهوة الجسد. فإذا بادل المحب حبيبته حبًّا بحب أتته السعادة صاغرة وأنبأ الملأ الذين عجزوا عن تمثيل النعيم أنه استمتاع الأرواح بالحب الطاهر المنزه عن أغراض الجسد — وقد يعد الناس هذا الحب خيالًا شعريًّا، ولكن ما أدرانا أن هذا الخيال لا يكون حقيقة في وقت من الأوقات.
ولا خلاف على كل حال في أن اجتماع الحبيبين بعد فراق طويل، مثل اجتماع جهان وضرغام، يمثِّل السعادة الحقيقية. ولعل جهان كانت أشد شعورًا بتلك السعادة بعد ما نال الحزن من قلبها بموت أبيها. والنفس الحزينة أحوج إلى التعزية وأشد شعورًا بها من سواها.
فأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وما حديثهما إلا التشاكي، وقد نسيا موقعهما وطال حديثهما، ولو لم تدخل عليهما القهرمانة خيزران لبقيا في غفلة عن الوجود وأهله.
وكانت خيزران لا تترك جهان برهة طويلة وحدها لئلا تستسلم للأحزان، وكانت تحسبها وحدها بعد خروج سامان فأتت تفتقدها، فلما رأت ضرغامًا عندها خجلت وتراجعت، فنادتها جهان فدخلت وقد أذهلها ما رأته في ذينك المحبين من ظواهر الهيام كتورد الوجنتين وبريق العينين وشخوص كل منهما إلى رفيقه ببصره وسمعه، فأيقظهما دخولها ونقلهما من عالم الأرواح إلى عالم الأجساد. فحيَّت ضرغامًا وسألت جهان عن حالها وعما تحتاج إليه. فقالت هذه: «لا أحتاج إلى شيء. ولكن كيف رأيت ضرغامًا يا خيزران؟»
فأجفلت القهرمانة لأنها لم تكن تتوقع سماع هذا السؤال وقالت: «تسألينني عن رجل وقع منك هذا الموقع وأنت أعلم مني بأقدار الناس. فمن أين لمثلي أن تبدي رأيًا، وغاية جهدي أن أتوسل إلى أورمزد ليمنحكما ما تتمنيان!»
ثم سألتهما عن سامان فقالت: «خرج من القصر على أن يعود على عجل، فعسى أن يصدق.»
ووقفت فوقف ضرغام وقال: «أتأذنين لي في الانصراف؟» فقالت: «يعز عليَّ سفرك، ولكن …» ثم تجلدت وقالت: «سر محروسًا وكن مطمئنًّا فإني لا ألبث أن ألحق بك فقد كرهت الإقامة بهذه البلاد.»
فودَّعها وخرج، وكان وردان في انتظاره مع بعض أهل القصر فأمره بإعداد ما يقتضيه الرحيل إلى العراق.