دمعة وعهد
أي داود …
ظننتُني وأنا أبكيك حولًا كاملًا أنَّ الدمع قد يُطفي شيئًا من حَر قلبي، ولكن الظن خاب، وما كان من نار الحزن إلا أن زادت سعيرًا، والدمع يا أخي يجلب الدمع!
ها هو العام يمضي ونحن نعيش بدونك.
نتلمسك في البيت صباحًا فإذا البيت كئيب يَندبك، ونترقبك في العش ليلًا فإذا بالعش خالٍ إلا من الزغاليل، تصيء بعد فَقْد عميدها، وتميل إلى بعضها ليصعد كل منها مع الآخر زفرةً تتصاعد وتعلو ثم تعلو إلى أن تبلغ السماء حيث أنت، ولكنها بعد ذلك تضمحل وتَخفتْ وتتبدد في اللانهاية وأنت ساكن ساكت، وما عَوَّدْتَنا من قبلُ صمتًا وإعراضًا!
أخي داود!
ما غيَّبك الجدثُ ولا القبر طَوَاك، بل أنت ماثل أمام العين، وستظل ماثلًا ما دام في العين نور وفي القلب خفقة.
وما أزال ولن أزال أترسَّم خطاك مُتخذًا طريقي طريقَك ومقتفيًا في الباقي من حياتي أثَرَك إلى أن يجمعني الله بك.
ما نسيتُ قط يا أخي عندما كنت أخلو إليك في البيت أو في الطريق أو المكتب أو أي مكان آخر ما كنتَ تُطلعني عليه مما يَجول في صدرك من شتى الموضوعات والرغبات، وتحدثني عما ترتاح إليه نفسُك في مختلف مناحي الحياة وما يضيمها ويزيد في متاعبها.
وإنْ أنسَ لا أنسى رغبتَك في أن يكون تاريخ «البطل الفاتح إبراهيم» مجموعًا في سِفر واحد بعد أن كنتَ قد نشرته فصولًا في الأهرام.
وها أنا الآن — وقد رَبَّيْتني كما ربيتني — أبَرُّ بوعدي لك بتنفيذ رغبتك، وأجمَعُ — على قصوري — هذا التاريخَ المجيد، فأجعله خير إكليل أضعه على قبرك في مثل هذا اليوم الذي شاءت العناية أن تختطفك فيه منا، ويا ليت الناموس الطبيعي كان قد لها عن تدوينه في حياتنا وفي سني العمر.
نعم ها أنا أُسجل بنشر هذا التاريخ حُبَّك لمصر وتفانيك في خدمتها، فلعلي بذلك أكون قد قمت بشيء من واجبي نحوك وواجبك نحو وطنيك: لبنان ومصر خاصة والشرق عامة.
فتقبَّلْ يا أخي داود، مع الدمع الذي أذرفه على قبرك، ما قد فعلتُ تنفيذًا لرغبتك، وارقد بسلام يا شقيقي الحبيب.
وإلى الملتقى.