الفصل الثالث عشر
-
نص اتفاق الدول الأربع.
-
الفصل الملحق.
-
إنذار محمد علي بترك البلاد السورية.
-
موقف محمد.
-
علي وغضبه.
-
ضرب بيروت والسواحل السورية.
-
انتهاء إمارة الأمير بشير.
***
- المادة الأولى: اتفقت عظمة السلطان مع أصحاب جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا
وإمبراطور النمسا وملك هنغاريا وبوهيميا وملك بروسيا وقيصر روسيا، على شروط
التسوية التي تُريد عظمتُه مَنْحَها لمحمد علي، وهي مذكورة في الفصل الخاص
الملحق بهذا.
ويتعهد أصحاب الجلالة بأن يعملوا مُتَّحِدين، وبأن يُوَحِّدوا مجهوداتهم لإكراه محمد علي على أن يتبع هذه التسوية، ويحتفظ كل فريق بأن يعاون على بلوغ هذا الغرض تَبَعًا للوسائل التي يستطيع استخدامها في هذا السبيل.
- المادة الثانية: إذا أبى باشا مصر أن يسلم بهذه التسوية التي تُبلغ إليه من لدن السلطان
بمعاونة أصحاب الجلالة، فإن هؤلاء يتعهدون بأن يتخذوا — بناء على طلب
السلطان — الوسائل المتفق عليها بينهم، حتى تنفذ التسوية. وقبل ذلك يدعو
السلطان حلفاءه لمعاونته على قطع المواصلات البحرية بين مصر وسوريا، وإلى
منع إرسال الجنود الجديدة والسلاح والذخائر ومعدات الحرب من كل نوع.
ويَتعهد أصحاب الجلالة بأن يُصدروا أوامرَهم اللازمة إلى قواتهم البحرية في البحر المتوسط، ويعدون فوق ما تقدم بأن قواد أساطيلهم يُقَدِّمون — طبقًا للوسائل المتوفرة لديهم للمحالفة — كلَّ تأييد وكل معاونة بإمكانهم، وكذلك لرعايا السلطان الذين يُعربون عن إخلاصهم.
- المادة الثالثة: إذا رفض محمد علي الخضوع لشروط التسوية المذكورة ووجه قواته البحرية
والبرية إلى إستامبول، فإن المتعاقدين يُلَبُّون دعوة السلطان التي يوجهها
إلى سفرائهم في الآستانة، فيتذرعون بالوسائل التي يتفقون عليها للدفاع عن
عرشه، وجعل البوسفور والدردنيل وعاصمة السلطنة بمنجاة من كل عدوان.
ومن المتفَق عليه أن القوات التي تعين للقيام بمهمة في مكان معين تظل قائمة بمهمتها إلى أن يستغني السلطان عنها، وعندما يرى السلطان أن وجودها لم يعد لازمًا تنسحب تلك القوات راجعة إلى البحر الأسود أو البحر الأبيض.
- المادة الرابعة: ومن المعلوم حتمًا أن التعاون المذكور في البند السابق والذي يرمي إلى
وضع البوسفور والدردنيل والعاصمة التركية مُوَقَّتًا تحت رعاية الدول
المتعاقدة ضد كل عدوان من محمد علي، لا يعد إلا وسيلة استثنائية مُتَّبعة
بناء على طلب السلطان والغرضُ منها الدفاع عنه في الحالة المعينة. والمتفق
عليه أن هذه الوسيلة لا تخالف في شيءٍ القاعدةَ القديمة المتبعة في السلطنة
العثمانية، وهي التي منعت في كل وقت المراكب الحربية للدول الأجنبية من
دخول البوسفور والدردنيل.
ويعلن السلطان من جهته أنه مُصَمِّم — فيما عدا الحالة المُنَوَّه عنها — كلَّ التصميم على أن يحتفظ كل الاحتفاظ بالقاعدة القديمة المقررة في سلطنته، وأنه ما دام الباب العالي في سلام لا يسمح لأي مركب حربي بالمرور بالبوسفور والدردنيل، ويتعهد أصحاب الجلالة المتعاقدون على احترام ذلك.
•••
- الأول: يَعِدُ عظمة السلطان بأن يمنح محمد علي وسلالته المباشرة من بعده إدارة باشاوية مصر، ويعد بأن يمنح محمد علي مدة حياته باشاوية عكا وقومندانية قلعة عكا مع إدارة الجزء الثاني من سوريا الذي يحدد فيما بعد، على شرط أن يقبل محمد علي هذه المنح بعد عشرة أيام من تبليغها إليه في الإسكندرية على يد مندوب من لدن السلطان، وفي الوقت ذاته يُسَلِّم محمد علي إلى هذا المندوب التعليمات اللازمة لقواد القوات البحرية والبرية؛ لينسحبوا في الحال من بلاد العرب والمدن المقدسة، ومن جزيرة كريد وأدنه، ومن الأجزاء الأخرى من أملاك السلطنة الخارجة عن حدود مصر وحدود باشاوية عكا كما عيناها.
- المادة الثانية: إذا لم يقبل محمد علي هذه التسوية في مدى عشرة أيام، يسحب السلطان إدارة باشاوية عكا، ولكن السلطان يظل راضيًا بمنح محمد علي وسلالته المباشرة حكم مصر بالتوارث، على شرط أن تقبل هذه المنحة في مدى عشرة أيام أخرى تالية للعشرة الأيام الأولى؛ أي في مدى عشرين يومًا تبتدئ من اليوم الأول الذي يتلقى فيه البلاغ، وعلى شرط أن يسلم محمد علي مندوب السلطان الأوامر اللازمة لقواد بحريته وبريته بأن ينسحبوا إلى حدود الولاية المصرية.
- المادة الثالثة: إن الإتاوة السنوية التي يدفعها محمد علي للسلطان تُحْسَب على حسب الأملاك التي يُعطى إدارتها، إما على حساب المنحة الأولى وإما على حساب الثانية.
- المادة الرابعة: فليكن مفهومًا فوق ما تقدم أنه سواء كان في الحالة الأولى أو في
الحالة الثانية، فإن محمد علي يسلم قبل انقضاء العشرة الأيام أو
العشرين يومًا الأسطول التركي وعساكره وسلاحه للمندوب الذي يعين
لاستلامه، ويشهد قومندانو أساطيل الحلفاء هذا التسليم.
وليكن مفهومًا أن محمد علي لا يستطيع بحال من الأحوال أن يدخل في الحساب أو يخصم من الإتاوة التي يدفعها للسلطان النفقات التي أنفقها على الأسطول العثماني مدة إقامته في الموانئ المصرية.
- المادة الخامسة: أن جميع المعاهدات والقوانين في السلطنة العثمانية تنفذ في مصر
وباشاوية عكا المشار إليها آنفًا.
ولكن السلطان يرضى — على شرط دفع الإتاوات — بأن يحصل محمد علي وخلفاؤه باسم السلطان وكمندوب معه في الأملاك التي يتولى إدارتها، الضرائبَ والرسوم المقررة شرعًا، ومن هذه الضرائب والرسوم يدفعون النفقات الملكية والعسكرية في تلك الأملاك.
- المادة السادسة: القوات البحرية والبرية التي ينظمها باشا مصر وعكا تُعَدُّ شطرًا من قوات السلطنة وتعتبر دائمًا كأنها معدة لخدمة الدولة.
- المادة السابعة: إذا لم يقبل محمد علي في مدى عشرة أيام أو عشرين يومًا — كما جاء في المادة الثانية — المنحَ المعروضة عليه، فإن السلطان يكون حرًّا بسحب هذه المنح وباتباع الخطة التي توحي بها مصالِحُه طبقًا للنصائح التي يسديها إليه حلفاؤه. ا.ﻫ.
وبعد الاتفاق على ذلك كله أَبْرم الحلفاء بينهم اتفاقًا آخر بتَنَزُّهِهم جميعًا عن كل ربح أو مغنم.
وفي ١٤ أغسطس وصل رفعت بك مندوب السلطان إلى الإسكندرية ليبلغ محمد علي قرار السلطان والدول، فكانت أول كلمة نطق بها عند سماع البلاغ: «إن ما أخذتُه بالسيف لا أسلمه بغير السيف.» وفي اليوم التالي قابله قناصل الدول المتحالفة وبلغوه قرار الدول رسميًّا واستمهلوه عشرة أيام، فطلب منهم أن يبلغوه ذلك كتابة ففعلوا، وأبلغوه فوق ما تقدم أن فرنسا لا تستطيع مساعدته، وأن الدول مصممة على تنفيذ قرارها وإن أفضى ذلك إلى حرب أوروبية. فأجابهم: إن ما بيدي هو حقي ولا أتنازل عنه حتى آخر رمق من حياتي.
وفي ٢٤ أغسطس — وهو آخر الموعد الذي أعطي له — عاد مندوب السلطان ومعه قناصل الدول الأربع، فأبلغوه أنه لم يبقَ له حق في ولاية باشاوية عكا؛ لأنه لم يقبلها في الأيام العشرة الأولى، وأن الدول لا تسمح له إلا بولاية مصر كما جاء في قرارها وعهدها. فاحتدم محمد علي غضبًا وطردهم من حضرته، وقال لهم: كيف أسمح لكم بأن تقيموا في بلادي وأنتم وكلاء أعدائي؟! فانصرفوا وقد أعطوه مهلة عشرة أيام أخرى لإعطاء جوابه، فإن لم يفعل تكون الدول المتحالفة غير مسئولة عن النتائج.
وفي ٩ سبتمبر وصل الأميرال ستويفورد القائد العام لقوات الحلفاء إلى بيروت، وكانت قوات الحلفاء هناك عشرين سفينة إنكليزية وثلاث سفن نمساوية وثلاث سفن عثمانية، بقيادة القبطان الإنكليزي ووكر، المعروف في تركيا باسم ياور باشا. وكانت قواتهم البرية ٣٣٠٠ تركي و١٥٠٠ إنكليزي و١٠٠ نمساوي، وهي جميعًا بقيادة الجنرال سميث.
وكانت القوات المصرية في سوريا ٨٠ ألفًا، منها ١٥ ألفًا في سواحل بيروت وثلاثة آلاف في سواحل صيدَا و٥ آلاف في طرابلس وعشرة آلاف في بعلبك والخمسون ألفًا في جهات حدود الأناضول وسواها من أنحاء سوريا.
•••
قابل الرأي العام في مصر إنذار الدول لمحمد علي بالسخط، فازداد إقبال الشبان على التطوع بالحرس الوطني، واندفع شيوخ الدين يُقَبِّحون عمل أوروبا. وطربت إستامبول لهذا النبأ، وغضب الرأي العام الفرنساوي والنمساوي، وانشق الرأي العام الإنكليزي؛ لأن تُجارهم جنوا الربح من وراء إدارة محمد علي في مصر وسوريا وبلاد العرب، ورأى فريق آخر أن العمل الذي أقدم عليه بالمرستون عمل ظالم، ولكن رجال الاستعمار كان يهولهم شبح الإمبراطورية المصرية قائمة على أقوى القواعد وأمتن الأسس الحديثة. فإدارة ثماني سنين في سوريا وأدنه ضاعفت حاصلاتها ومتاجرها أربعة أضعاف، وإدارة البلاد العربية ٢٥ عامًا وطدت الأمن وبثت روح التعمير في اليمن وسواها حتى سواحل الخليج الفارسي، وإدارة جزيرة كريد نظمت شئونها ووطدت الأمن وزادت حاصلاتها. وكان الاقتصاديون، حتى القناصل، يصيحون من كل جانب بأن إعادة هذه البلاد إلى تركيا مآله إعادتها إلى الدمار. وإذا كان هناك أخطاء في إدارة إبراهيم ومحمد علي، فهو واقع على الموظفين الذين كانت تدفعهم المطامع لارتكاب الظلم الذي جعل الثورة اللبنانية تكأة للدول الأربع المتحالفة يتكئون عليها لإنجاح مقاصدهم؛ لأن اللبنانين الذين كانوا خاضعين لأمرائهم والذين أمدوا جيش إبراهيم بقوة كبيرة، كانوا يأبون الخضوع لغير أمرائهم ودَفْع الضرائب لسواهم.
والذي زاد في حرج الموقف خطأ السياسة الفرنساوية قبل اتفاق كوتاهيه وبعده، حتى ميثاق الدول الأربع في ١٥ يوليو دون اشتراك فرنسا، فقد كانت تحض محمد علي على القتال وتعده بلسان مندوبها الجديد «والوسكي» بالمساعدة. ولكن هذه المساعدة ظهرت بأن يطلب محمد علي حماية فرنسا، وبأن يقف موقف الدفاع، وبأن يواري سفنه الحربية، فلا يجعلها عرضة لنيران الأسطول الإنكليزي. وكان رأي إبراهيم باشا أن يحتفظ والده بصداقة فرنسا حتى يوازن القوة الأخرى التي تؤيد إستامبول، وكان محمد علي يكرر أثناء ذلك أوامره إلى إبراهيم بأن يلزم مكانه ولا يتجاوز جبال طوروس. أما بالمرستون روح المحالفة الأوروبية، فإنه كان يهدد فرنسا إذا هي أقدمت على مساعدة محمد علي بالقوة والمال، بأن يستولي على أساطيلها ومستعمراتها، وبأن يطلق يد النمسا وبروسيا في حدودها. وأراد ليوبولد ملك بلجيكا التوسط بين فرنسا وإنكلترا، فلم يفلح. وفي ١٧ سبتمبر أرسل تيرس إلى غيزو سفير فرنسا في لندن أن محمد علي سمع نصح فرنسا وتنازل عن كثير من مطالبه، فهو يترك للسلطان كريد والمدينتين المقدستين، ويكتفي بحكم الوراثة في مصر وبحكم سوريا مدى حياته. ولكن بالمرستون أخذ يماطل ويعد القبول باقتراح تيرس مذلة للدول الأربع، وكان في الوقت ذاته يحث على القتال والضرب.
•••
وبينما الأسطول الإنكليزي واقف في بيروت، وصلت إحدى السفن من مصر، فأمر الأميرال نابييه بتفتيش ما فيها، فوجدوا كتابًا من بوغوص بك وكيل خارجية محمد علي إلى سليمان باشا، يؤكد له فيه أن فرنسا ستساعد محمد علي بالجنود، وأنها ستستدعي قنصلها مورا من بيروت؛ لأنه كان يساعد الثوار اللبنانيين، وأن قناصل الدول المتحالفة تنوي أن تذيع في سوريا ترجمة العهد المبرم بين الدول الأربع تشديدًا لعزم الثوار مع إرسال الجنود والذخائر وإبلاغ الأمير بشير إزالة حكم محمد علي، وأن محمد علي أبى الرضوخ لإنذار الدول … إلخ.
كل هذا وأمثاله دعا الإنكليز إلى التعجيل بما كانوا يضمرونه، فقرر الأميرال روبرت ستوفورد القائد العام لقوات الحلفاء في سوريا بأن يبدأ بالأعمال الحربية بالنزول في جونيه؛ ليتصل باللبنانيين ويوزع عليهم الأسلحة ويقطع الاتصال بين الحاميتين المصريتين في بيروت وطرابلس. وفي ١٠ سبتمبر قام الأسطول الإنكليزي بمظاهرة أمام بيروت، ثم لم تلبث السفن أن اتجهت إلى جونيه وأنزلت الجنود هناك. وكان الأمير بشير قد أرسل حفيديه إلى هناك، وحرَّم على الأهالي الاتصال بالإفرنج، وهدد مَن فعل منهم بالقتل، فوقع أمر الأمير بشير في يد أحد الدعاة الإنكليز، فأرسله إلى الأمير، وأخذ الأهالي يَفِدون على جونيه لاستلام السلاح، وهو السلاح المحفوظ عندهم حتى الآن. وهم يطلقون على البندقية المصرية اسم البرهومية نسبة إلى إبراهيم، وعلى البنادق الإنكليزية «إنكليزية»، والنمساوية نمساوية، والمجرية «مجرية»، وهي أفضل البنادق في نظرهم. وكان عثمان باشا يحتل كسروان بثمانية آلاف مقاتل، فلم يتعرض للأساطيل التي أنزلت الجنود إلى البر ومعها سليم باشا قائد السفن التركية، فاحتلوا ميناء جونيه. وأرسل الأميرال الإنكليزي مركبين إلى نهر الكلب لهدم الطريق حتى لا يمر بها جيش إبراهيم باشا. وذهب ريتشردوود الإنكليزي المستشرق وأكبر دعاة الثورة إلى غزير ومعه ٥٠٠ جندي، ففر من وجهه الأمير عبد الله الشهابي، وفي اليوم الثاني سلم هذا الأمير وهو ابن أخي الأمير بشير، فعدوا تسليمه أمرًا كبيرًا. وكان إبراهيم باشا إبان ذلك يطارد الثوار في جبال كسروان والمتن ويحرق قُراهم، ولكن عساكر الحلفاء كانت تثبت أقدامها في السواحل. وفي ١١ سبتمبر أرسل قائدا الأسطولين الإنكليزي والنمساوي إلى سليمان باشا أن يسلمهما بيروت، فلم يُجب، فأخذت مراكبهما بإطلاق القنابل على المدينة والأبراج، فاحتج سليمان باشا عليهما احتجاجًا شديدًا؛ لأن قنابلهما أصابت النساء والأطفال والمستشفى، وكان عليهما أن يطلبا تسليم المدينة قبل ضربها من إبراهيم باشا أو محمد علي باشا. أما هو فمأمورٌ بالدفاع عنها فقط، ثم أمر جيشه بالارتداد إلى الحازمية في ضواحي بيروت.
وفي ١٢ و١٣ سبتمبر هاجم أسطول الحلفاء قلعة جبيل وحاول إنزال الجنود، فرَدَّتْهُم الحامية، ولكن الثوار اللبنانيين دخلوا القلعة ليلًا، فانسحبت منها الحامية، وفي الصباح سلَّمَها اللبنانيون لعساكر الحلفاء. ومن جبيل تقدم الحلفاء إلى البترون، وكان السلطان قد ولى عزت باشا ولاية سوريا، بعدما أفتى مشايخ إستامبول بخلع محمد علي من الحكم والولاية كلها، فنزل في جونيه وأرسل إلى أبو سمرا عَلَم من زعماء الثوار ليحضر إليه من جنوب لبنان ويتسلم منه السلاح، فوصل ومعه ٥٠٠ نفر، فسلمه خمسة آلاف بندقية، فتوجه بها إلى بلاد جبيل والبترون، حيث اجتمع عليه نحو أربعة آلاف رجل زحف بهم على الأمير مجيد الشهابي في جهة اليمونة في أعالي لبنان، فارتد الأمير إلى الجيش المصري في عيناتا وأبو سمرا يتعقبه، إلى أن اشتبك بمعركة مع الجيش. وفي الليل دهمه الجنود المصريون، فارتد إلى جهة بشرى، حيث جمع الرجال واستأنف القتال مع الجيش، فكسره وأكرهه على الارتداد إلى بعلبك. وكان المستر ريتشردوود قد وصل مع الثوار إلى جهة الدامور وصيدا، فاستولى الحلفاء عليهما بمعاونتهم.
ولما كانت صيدَا مركز الحاكم وفيها حامية قوية، وجهوا إليها ثمانية مراكب حربية ضربتها ضربًا شديدًا وقاتلت حاميتها قتال المستميت، إلى أن قتل قائدها حسن بك وعدد كبير من رجالها، وبلغت خسائر الهاجمين نحو أربعة آلاف. فلما وصل خبر سقوطها إلى إبراهيم باشا كبر عليه الأمر، وأرسل إلى الأمير بشير ليوافيه إلى بعلبك، حيث عُقد مجلس من الأمير وشريف باشا وبحري بك، وكان رأي الأمير بشير أن يُرجع السلاح إلى اللبنانين، فلم يقر إبراهيم باشا هذا الرأي، فظهر على الأمير بشير الوهن والضعف. وذهب ابن عمه الأمير بشير قاسم إلى معسكر الحلفاء في جونيه، وانضم إليهم، فأرسله قواد الحلفاء لقيادة الثوار الذين يقاتلون عثمان باشا في ميروبا، وأرسلوا إلى الأمير بشير ينذرونه ويعدونه بولاية لبنان بالوراثة في ذريته إذا هو سلم قبل مرور ثمانية أيام. فأجاب بعدم التسليم، معتذرًا بأن أولاده وأحفاده في عسكر إبراهيم باشا. ولما انقضت الأيام الثمانية ولوا الأمير بشير قاسم على جبل لبنان، فسار هذا الأمير لقتال عثمان باشا، وكان قد صدر إلى هذا أمر إبراهيم باشا بالانسحاب من جبل كسروان إلى بعلبك، فسار الأمير بشير قاسم في أثر عثمان باشا وأخذ من جيشه ثلاثمائة أسير.
وكان الحلفاء قد عزموا على مهاجمة جيش سليمان باشا من البر والبحر، فأدرك سليمان باشا الخطر، فأجلى عن بيروت في ليل ٩ أكتوبر، وسار جنود الحلفاء إلى مقاتلة إبراهيم باشا في بحر صاف ومعه ثلاثة آلاف مقاتل، فردهم على أعقابهم. فطلب الأميرال نابييه من الأمير بشير قاسم الأمير الجديد على لبنان بأمر الحلفاء أن يَقْدُم برجاله إلى مؤخرة إبراهيم باشا ليهاجمه هو من الأمام. فزحف الأمير برجاله، وحال دون وصول فرقتين مددًا لإبراهيم باشا. وكانت معركة بحر صاف معركة شديدة، أسَرَ فيها الحلفاء من جيش إبراهيم ٧٠٠ أسير بمعاونة الأمراء اللبنانيين، وارتد إبراهيم باشا إلى البقاع. وفي ١١ أكتوبر سلمت الحامية المصرية الباقية في بيروت.
ولما رأى الأمير بشير ما حل بالجيش المصري وعدم قبول رأيه وتعيين ابن عمه أميرًا على لبنان مكانه وقد انفض عنه اللبنانيون وانضموا إلى الحلفاء، قال لبحري بك: «قم واذهب إلى إبراهيم باشا، وقل له: لم تبقَ أقل فائدة، فالبلاد صارت الآن كلها صوتًا واحدًا.» وفي ١١ أكتوبر غادر الأمير بشير مقرَّه في بتدين، بعد أن استدعى أحفاده من محافظة البلاد وابنه من جيش إبراهيم باشا، ونهض إلى صيدا ومعه أولاده الثلاثة وزوجه وحفيده الأمير سعد، وأبلغ خالد باشا متسلم صيدا أنه أتى إليه مستسلمًا، فأمر خالد باشا أن تصطف العساكر بموسيقاها لاستقباله، وأن تؤدى له التحية. وقابله بالإجلال والاحترام، وطلب منه قواد الحلفاء في صيدا أن يتوجه إلى بيروت، وأعدوا سفينة بخارية لركوبه، فركبها إلى بيروت مع ابنه الأمير أمين وحفيده الأمير محمود. ولما وصل إلى بيروت أبلغه عزت باشا الذي عين واليًا على سوريا أن يختار لنفسه محل الإقامة ما عدا مصر وفرنسا وسوريا، فاختار جزيرة مالطة، فوافق قواد الحلفاء على طلبه ووعدوه بتأمين أحفاده وأولاده. وفي ١٦ أكتوبر ركب الأمير بشير — الذي كان يعرف بالأمير بشير عمر الثاني — الباخرة الإنكليزية من صيدا ومعه زوجه وأولاده وزوجة ولده الأمير قاسم وحفدته الخمسة أولاد الأمير خليل وحفيده الأمير رشيد وسكرتيره بطرس كرامة ونحو سبعين رجلًا من أتباعه وخدمه، وأقلعت بهم الباخرة إلى مالطة، وهكذا انتهت إمارته بعد حكم طويل المدى كثير الحوادث والأطوار.
وبعد تسليم الأمير بشير انسحبت الحاميات المصرية من طرابلس واللاذقية وأدنه بدون قتال، ولم يبقَ من مدن السواحل في أيدي المصريين سوى عكا.