الفصل الرابع عشر
-
موقف فرنسا.
-
الأسطول الإنكليزي يدك حصون عكا.
-
خسارة المصريين.
-
اتفاق نابييه ومحمد علي.
-
انسحاب الجيش المصري.
***
يصور لنا الوزير الفرنساوي الشهير فرسينه الحالة بعد ضرب بيروت والسواحل السورية في كتابه «المسألة المصرية» بقوله: إن الحالة تطورت بسرعة فوق سرعة تبادل الآراء بين فرنسا وإنكلترا؛ فالأسطول الإنكليزي — جريًا على عادته بالمباغتة — ضرب بيروت في ١١ سبتمبر وأنزل فيها الجنود التركية المعَدة للعمل في سوريا. والسلطان نفذ بكل شدة أحكام الفصل الملحق بعهد الدول الأربع، فأسقط في ١٤ سبتمبر من الحكم محمد علي، وولى عزت محمد باشا خلفًا له. ووصلت هذه الأخبار إلى باريس في ٢ أكتوبر، فأحدثت تأثيرًا كبيرًا. فاجتمع مجلس الوزراء اجتماعًا فوق العادة، ووكل إلى المسيو غيزو في ٨ أكتوبر أن يقدم مذكرة إلى اللورد بالمرستون بعبارات موزونة ولكنها حازمة. وختام هذه المذكرة يُشعر بأن في القضية سببًا للعداء، وذلك بقولهم: «وإنا مستعدون لأنْ نشترك بكل تسوية مقبولة يكون أساسها بقاء السلطان وبقاء محمد علي. وفرنسا تكتفي بأن تعلن الآن بأنها لا تستطيع أن ترضى من جانبها بتنفيذ حكم خلع محمد علي الصادر من إستامبول.»
ولما وصلت هذه المذكرة إلى لندن، شعرت حكومتها بأنها أغرقت في التطرف، فأرسل اللورد بالمرستون في ١٥ أكتوبر إلى اللورد بونسوبي سفير إنكلترا في الآستانة «بأن من المستحسَن أن يُوصِي سفراءُ الدول الأربع المتحالفة عظمةَ السلطان بكل إلحاح، بأنه إذا أظهر محمد علي في الحال خضوعه لعظمته وتعهد بأن يعيد الأسطول التركي وبأن يسحب جنوده من سوريا كلها وأدنه وكريد ومن المدينتين المقدستين، فإن السلطان من جانبه لا يكتفي بإعادة محمد علي واليًا على مصر، ولكنه يمنحه الولاية بالتوارث في بيته.»
ولكن هذه الترضية لم يجدها الرأي العام الفرنساوي كافية؛ لما كان عليه من الهياج والسخط لمحمد علي، ولأنه كان بعد ميثاق الدول الأربع في ١١ يوليو متألبًا على فرنسا، وذلك هو السبب الذي دعا حكومة الملك فيليب لأن تعد معدات الحرب والقتال، فزادت سفنها الحربية واستعدت لحمل السلاح مرتبتين من مراتب الجيش المستحفظ، وطلبت فتح اعتماد ﺑ ١٠٨ ملايين فرنك على أن يطلب من مجلس النواب الموافقة عليه عند اجتماعه.
ولكن الحكومة الفرنساوية مع إرضائها الرأي العام بالتذرع بهذه الوسائل استدعت الأسطول من مياه الشرق؛ لأنه هناك «مادة قابلة للالتهاب»، وحشدت هذا الأسطول في طولون ليكون على قدم الاستعداد للسفر إلى الإسكندرية إذا ما هاجم الحلفاء تلك المدينة. ولكن هذا العمل الذي يجمع بين حسن السياسة وحسن الخطة الحربية وُصِفَ بأنه «الفرار» من وجه الإنكليز كما وصف بأنه «ترك» سوريا، وبين هذه الآراء المتناقضة أو بين اختلاط الحابل بالنابل، دعي مجلس النواب للاجتماع في ٢٨ أكتوبر. ويقول المسيو غيزو: ظهرت وقتئذ وتجلت الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الفرنساوية منذ ظهور المسألة المصرية؛ لأنا لم نجد في ظرف من الظروف أو في حالة من الحالات موقفًا معينًا، وكنا دائمًا موزعين بين العاطفة والعقل، فنحن جعلنا مسألة محمد علي مسألتنا دون أن نُبين لذلك حدودًا تكون ضمنها وداخلها حمايتنا. وتملكتنا الذكرى فنسينا الضرورات القائمة. وبين تلك الهالة الرائعة من المجد الذي كنا نضفره لمحمد علي، لم ننظر نظرة صادقة إلى مقدريه على مخالفة إدارة أوروبا. ففي إبان المفاوضات صَمَّمْنا على أن نعطي له الترضية كاملة تامة، ولم ننظر إلى ما كان ممكنًا أن يكون لو رُفضت هذه الترضية، وتناسينا أن المزاحمين العديدين لا يسمحون بأن يكون لنا التفوق في مصر وسوريا، وأن نتحكم بمصير الشطر الأكبر من أملاك السلطنة التركية. وما رفضت إنكلترا أن تقبله من روسيا لم يكن بالإمكان أن تقبله وترضاه من فرنسا، فلما انقضى عهد الأحلام بات من اللازم النظر إلى الحقائق وجهًا لوجه واتخاذ موقف نهائي، فإما إلى الحرب وإما إلى التقهقر، وكلا الموقفين صعب عسير.
•••
أما قوات الحلفاء في سواحل سوريا، فلم يبقَ أمامها في تلك السواحل سوى حصن عكا فقط، فأصدرت إنكلترا أوامرها إلى الأميرال روبرت ستونفورد في أواخر أكتوبر بمهاجمة هذا الحصن، فجمع القوات البرية البحرية لهذا الغرض، وتقدم عمر بك قائد قوة صيدَا إلى رأس الناقورة بألفي مقاتل، وذهب سليم بك بثلاثة آلاف مقاتل بحرًا من بيروت، ما عدا توابير الشغالة والهندسة. وفي ٢ نوفمبر اجتمعت القوات البرية والبحرية حول ذلك الحصن، وكان أسطول القتال مؤلفًا من إحدى وعشرين سفينة حربية، ولم تكن حامية عكا تزيد على خمسة آلاف.
وفي الساعة الثامنة بعد ظهر ٣ نوفمبر وَجهت السفن الحربية مدافعها إلى تلك المدينة، وظلت النيران تصب من فوهات ٤٧٠ مدفعًا، حتى خيم الظلام والحامية تدافع دفاعًا مجيدًا، وكانت المنطقة التي تنصب عليها نيران المدافع لا تزيد على ١٥٠٠ قدم عرضًا، ولا على ٣٣٠٠ قدم طولًا. ورووا أن مركبًا واحدًا من مراكب الإنكليز أحرق في إلقاء القذائف النارية على عكا ١٦٠ برميلًا من البارود.
وكان من الذين تولوا تحصين عكا بأمر محمد علي أحدُ المهندسين الطليان. فقبل أن يبدأ الأسطول بضرب الحصن لجأ هذا المهندس إلى الأسطول الإنكليزي وسلَّمه خريطة الحصن، فكان الأسطول يضرب نيرانه إلى المكان الحيوي منه، إلى أن تمكن من إصابة مخازن الذخيرة، وكانت مخازن كبيرة جدًّا فانفجرت انفجارًا ارتجت له الأرض في تلك البلاد، وسُمع دَوِيُّه إلى أقصى جهات سوريا وفلسطين، وهلك بذلك الانفجار ١٥٠٠ جندي من الحامية، ودمرت الحصون والأبنية، ولم يبقَ أمام الحامية إلا الخروج؛ لأن المدينة تحولت إلى قطعة من جهنم، حتى قال أحد الشعراء:
وانجلت هذه المعركة عن ألفي قتيل وجريح من الحامية المصرية في تلك المدينة، وعن ثلاثة آلاف أسير. وبين الأسرى رئيس المهندسين يوسف أغا، وهو رجل بولوني كان اسمه الأصلي الكولونيل سولتز، وبعد الاستيلاء على هذا الحصن أقام الأميرال الإنكليزي فيها حامية تركية عددها ثلاثة آلاف رجل، وحامية صغيرة أوروبية عددها ٢٥٠ رجلًا، وأبقى في مائها سفينتين حربيتين، وأخذوا بالتحصين والامتناع فيها؛ لأنهم كانوا يخافون هجوم إبراهيم على السواحل في فصل الشتاء لاستخلاصها من أيديهم عندما تصبح الأساطيل عاجزة عن القتال وعن مقاومته.
وبعد الاستيلاء على عكا اتجه أسطول الحلفاء إلى يافا واستلمها بلا قتال.
ولتخوف الإنكليز من حلول فصل الشتاء قبل إنهاء المسألة، أرسلوا الأميرال نابييه إلى مياه الإسكندرية بأسطول كبير ليضغط على محمد علي، فوصل هذا الأسطول في ٢١ نوفمبر يقود ست سفن كبيرة. وفي يوم ٢٢ وَجَّه رسالة إلى بوغوص بك وكيل خارجية محمد علي يقول فيها: «إن إسكندرية ليست أمنع من عكا، وإن الفرصة سانحة لمحمد علي أن يؤلف إمارته وحكم الوراثة في أسرته.» فرد عليه بوغوص بأن تَبِعَة الحرب في سواحل سوريا لا تقع على محمد علي، بل هي تقع على الحلفاء الذين أرسلوا إليه بلاغهم باسم السلطان. فرد عليه بأنه خاضع للسلطان، وبأنه يسلم بأن يكون حكم مصر له ولسلالته من بعده كما عرضوا عليه، ولكنه التمس في الوقت ذاته من السلطان أن يمنحه حكم سوريا مدى حياته، وأن يضيف إلى منحته الأولى المنحة الثانية؛ لاعتقاده بأن سوريا إذا ظلت تحت إدارته تُدِرُّ الخير والبركة على السلطنة. فبدلًا من الرد على هذا الطلب، قابلوه بحكم الخلع من الحكم وبالعدوان في كل جهة، فغنم نابييه فرصة هذا الجواب لفتح باب المفاوضة بالصلح والاتفاق مع محمد علي؛ لأنه وجد في لهجة الجواب ميلًا صحيحًا إلى الاتفاق. وقد كان الأميرال نابييه من الإنكليز المعجبين بمحمد علي والمعترفين بحسن إدارته، فوضع نُصب عينيه الوصول إلى الاتفاق معه، معتمدًا — في مؤازرته — على جماعة كبيرة من الإنكليز كانوا يقولون باكتساب صداقة مصر المستقلة، بدلًا من إعادة مصر لحكم الباب العالي، وبدلًا من جَعْلِها مستعمرة إنكليزية تكون عبئًا على عاتق إنكلترا، فضلًا عن أن مصر تخرج بهذه الطريقة من يد فرنسا وترتمي في حضن إنكلترا.
على هذه القاعدة بدأ الأميرال نابييه مفاوضاته مع محمد علي، وعلى هذه القاعدة توصل إلى الاتفاق المعروف باتفاق ٢٧ نوفمبر دون استشارة رئيسه الذي كان يقاوم ذلك كل المقاومة، واتفاق ٢٧ نوفمبر هو الذي يجعل حكم مصر والسودان وراثيًّا في بيت محمد علي.
•••
بعد استيلاء الحلفاء على سواحل سوريا بمعاونة الثوار في لبنان، وبعد تنازل الأمير بشير عن الحكم وانضمام خلفه إلى الحلفاء، ظل ماثلًا أمام عيونهم شبح الفشل: (١) من قوة إبراهيم التي حشدها كلها بين لبنان ودمشق، وهي لا تقل عن ٥٠ ألفًا. (٢) مذكرة فرنسا إلى الحلفاء في ٨ أكتوبر بأنها تعتبر حرمانَ محمد علي من ثمرة انتصاراته والإقدامَ على تنفيذ قرار السلطان بعزله مدعاةً للحرب. (٣) قُرب فصل الشتاء واضطرار الأساطيل إلى الانسحاب من مياه سوريا ومصر. (٤) ظهور الانقسام في دول الحلفاء مخافةَ أن تقع الحرب في أوروبا ويقع حملها على النمسا وبروسيا وحدهما، خدمة لمآرب إنكلترا التى تريد الاستيلاء على مصر. (٥) اشتداد ميل الرأي العام في أوروبا كلها نحو محمد علي وإبراهيم، واستنكار معاملتهما بذلك الظلم الصارخ. لذلك كان مشروع فرنسا وتنفيذه هو وحده المنقذ من ذلك الموقف المحفوف بالخطر، وهذا المشروع هو الذي يبقي على السلطان وحكمه، بالرغم من انهيار ملكه، لحفظ التوازن في أوروبا، ويبقي على محمد علي وحكمه بمصر في سلالته؛ لأنه اكتسب ذلك بباعِه وذراعه، ولأن حكمه حكم إصلاح وتقدم ورُقِي على أحدث الأساليب ومبادئ الحضارة.
أما محمد علي، فقد كان يقضي عليه بقبول ما ارتأته فرنسا وترك سوريا: (١) خروج حليفه هناك الأمير بشير من الميدان وظهور الأمير بشير قاسم الذي ولته الدول بمظهر العداء. (٢) حرمان جيشه من السواحل كلها حتى تعذرت المواصلات مع ابنه إبراهيم. (٣) قلة الأموال حتى تأخرت رواتب الجنود أكثر من سنة ولم يجد في فرنسا من يمد إليه يد المساعدة. (٤) تعب الجيش والأمة من حروب لا تنتهي منذ ثماني سنين. (٥) اعتبار الدول الأربع — المتحالفة مع تركيا خامستهم — أن كرامتها جميعًا معلقة على تنفيذ الإنذار الذي أَوْحَتْهُ إلى السلطان.
فهذه العوامل كلها حملت الإنكليز وحلفاءهم على أن يُرحبوا فرحين باتفاق ٢٧ نوفمبر؛ أي اتفاق نابيير، ومحمد علي، بأن محمد علي يرضى بأن يخرج من المعمعة مكتفيًا بحكم مصر في سلالته بعده. وحملت محمد علي على أن يرضى بذلك الحل الذي كان يرفضه ويأباه.
ولكن اتفاق نابيير ومحمد علي كان غامضًا مبهمًا، وخلاصته «أن الدول الأربع المتحالفة تبذل كل مجهودها لدى السلطان ليمنح محمد علي وذريته بعده حكم مصر بالوراثة، وأن محمد علي يبادر بطلب العفو من السلطان، ويعلن استعداده لإرجاع الأسطول العثماني وسحب جنوده من سوريا والبلاد العربية، وأنه يفوض مستقبله للمراحم السلطانية.»
وقد عرفنا أن السلطان استصدر فتوى العلماء بخلع محمد علي من الحكم في ١٥ أكتوبر، وأعلن تعيين عزت محمد باشا خلفًا له في حكم مصر وسوريا، وذلك بموافقة الحلفاء بعد انقضاء مهلة العشرين يومًا التي أُعطيت له.
فإصرار محمد علي «على أن لا يعيد بغير السيف ما أخذه بالسيف»، هو الإعلان الذي انتصر وفاز؛ لأنه ألغى وأبطل الحكم الذي صدر بخلعه وعزله، كما أن موافقة الحكومة الإنكليزية على اتفاق نابيير قضى على عناد سفيرها في الآستانة اللورد بونسوبي الذي حاول مرارًا وتكرارًا إنكار ذلك الاتفاق، وحمل السلطان على رفضه جريًا على سياسة بالمرستون وزير الخارجية.
إنه حضر إلى ميناء الإسكندرية جناب الأميرال نابيير قائد السفن الحربية الإنكليزية بالبحر الأبيض، وعرض لنا اتفاق دول أوروبا بإجابة طِلبة مصر لنا بطريق التوارث، وبذلك صار حسم مادة سفك دماء المسلمين، وصدر الأمر للسر عسكر وكافة القواد بترك الشام والإذن بحضورهم لمصر بالجيوش التي يبلغ عددها ٧٠ ألفًا.
إن العوارض تعرض للعالم منذ بدء الخليقة إلى اليوم، والحروب تتقد بين الأمم لأسباب وعوامل لا تدركها العقول، دون أن يظهر من وراء ذلك أمارات السلم والسلام واستتباب الراحة. وظل روح العدوان ساريًا حتى الآن، ولكنه حضر إلى ميناء الإسكندرية قائد السفن الحربية الإنكليزية بالبحر الأبيض الأميرال نابيير، وعرض علينا وقوع الاتفاق بين دول أوروبا على إحالة حكم مصر بطريق التوارث إلى ولي النعم محمد علي باشا، وبذلك صار حَسْمُ مادة سفك دماء المسلمين الأمرَ الذي ترتاح إليه النفوس. وبناء على ما تقدم أعطيت الأوامر لدولة سر عسكر الجيش المصري ولكافة القواد بترك ولاية الشام وأدنه والرجوع بالجيوش إلى مصر، وصار نشر ذلك إعلانًا للسرور.
وأصدر محمد علي بعد ذلك أمرًا بإعداد منزل لنزول الأميرال نابييه، وأن يكون في ضيافته مع تعيين مهمندار له.
إن الدولة تطلب من عظمة السلطان أن يظهر بمظهر السماحة نحو محمد علي، لا لإبطال قرار خلعه من الحكم فقط، بل بالوعد فوق ذلك بأن يكون خلفاؤه في الحكم من سلالته من الذكور على التوالي كلما خلا منصب الحكم بوفاة الحاكم.
والدول الأربع التي تبذل نصيحتها للباب العالي بأن يمنح محمد علي هذه المنحة لا تبدي رأيًا جديدًا، بل هي تذكِّر فقط عظمة السلطان بالنيات التي أعرب عنها من تلقاء نفسه عند بدء الأزمة الشرقية، وهي النيات التي كانت أساسًا لاتفاق ١٥ يونيو سنة ١٨٤٠.
وفوق ما تقدم، أن الدول الأربع ببذلها النصيحة للباب العالي وبتكرارها النصيحة بهذه المذكرة، تعتقد بأنها لا تنصحه بأن يعمل ما يخالف حقوق السيادة أو سلطة السلطان الشرعية، ولا اتخاذ وسائل مخالفة لواجبات باشا مصر كتابع لعظمة السلطان يدعوه عظمته لأنْ يحكم باسمه إحدى ولايات السلطنة. وهذه الحقيقة ليست مُثْبَتة فقط بالمواد ٣ و٥ و٦ من الفصل المفرد الملحق باتفاق ١٥ يوليو، بل هي مثبتة أيضًا بتعليمات الدول إلى سفرائهم في إستامبول عقيب مباحثات ١٥ أكتوبر. وفي الواقع أنه منصوص في الميثاق المشار إليه أن جميع المعاهدات وجميع قوانين السلطنة العثمانية الحاضرة والمستقبلة تنفذ في باشاوية مصر كما تنفذ في الولايات العثمانية الأخرى.
وهذا الشرط الذي تعتبره الدول الأربع لازمًا لا مندوحة عنه، هو في نظرهم الصلة الوثيقة التي تربط مصر بتركيا وتُبقيها شطرًا منها غير منفصل عنها. وفي الفقرة السادسة من الميثاق ذاته أن القوات البرية والبحرية التي تؤلفها مصر والتى تكون شطرًا من قوات السلطنة، يجب أن تُحسب مُعدة للخدمة العامة. ا.ﻫ.
فهذه المذكرة التي جعلت مسألة مصر دولية، اضطرت الباب العالي أن يصدر في ١٣ فبراير فرمانًا يبسط المبادئ الواردة في هذه المذكرة ويؤيدها.
أما إبراهيم باشا، فإنه رأى بعد سفر الأمير بشير من لبنان وحلول أمير آخر محله، وقد جمع أربعة آلاف رجل لمقاتلة جيشه وقطع مواصلاته، أمر قواده بالانسحاب من أنحاء لبنان إلى زحلة والرياق، فاجتمع من ذلك الجيش نحو ١٥ ألفًا، وأرسل المرضى والعاجزين عن القتال إلى دمشق، ووقف الأمير بشير قاسم ورجاله في حمانا إلى أن يرسل الحلفاء إليه النجدات والسلاح، مخافة أن ينقلب جيش إبراهيم باشا لسحقه وتبديد شمل رجاله. ولكن جيش إبراهيم لم يكن يرغب ذلك بعدما انتهى من قتال الثوار في كسروان والمتن والقاطع، وأحرق في مروره بكسروان بقعاتا وميروبا ووطا الجوز وحراجل وفاريا وفيترون، وأحرق في المتن عين علق وبيت شباب. ولم يتعرض لقرية بكفيا؛ لأن الشيخ حردان الجميل وفياض علوان من مشائخ بكفيا قصدَا إليه وهو في المروج، فعرضَا عليه خضوع أهل بلدتهم، فأمر بالعفو عن بكفيا.
وتدل جميع الظواهر على أن انكفافَ إبراهيم باشا عن لبنان وعدمَ تَعَرُّضه للحلفاء في السواحل وتركهم وشأنهم، كان يقصد منه تدبير الجلاء عن سوريا؛ لأنه قبل وصول والده إلى الاتفاق مع الأميرال نابيير وقبل وصول أمر والده إليه بالجلاء جَمَعَ جيشه في دمشق، وأَخَذَ يَعُدُّ الأهبة لذلك دون أن يتعرض لفشل الانكسار أو لقطع مواصلاته. ونقص جيش إبراهيم في لبنان وسواحله عشرة آلاف مقاتل، وظل الجيش وهو ينسحب من شمالي سوريا إلى دمشق حافظًا على نظامه كل المحافظة، ونظم إبراهيم في كل بلدة أخلاها وجهةً أجلى عنها جيشه وعماله، وجعل الحكم بيد أحد أبنائها، ولم يتعرض الجيش إلا للمعرة؛ لأن أهلها أبوا أن يعطوه حاجته. وكذلك حمص؛ لأن أسواقها أُقْفِلت في وجه الجيش، وأبى أهل المدينة أن يقدموا للجيش حاجته. ولما شكا الأهالي إلى قائد الجيش أنزل العقاب الشديد بالجنود الذين ارتكبوا النهب.
ولما احتشد الجيش كله في دمشق، هطل مطر شديد مدرار دام بضعة أيام، فاضطر الجيش أن يدخل المدينة، وأن يحتل الخانات والقهوات والدكاكين والجوامع ما عدا الجامع الأموي وجامع السنانية، ووضع يده على المطاحن والأفران ليعد الزاد اللازم له في الرحيل. وأمر إبراهيم باشا بجمع الأموال المتأخرة من دمشق وقراها، حتى يتمكن من الإنفاق على جيشه إبان رحيله. وانفصل عن الجيش أكثر اللبنانيين والسوريين الذين كانوا يحاربون في صفوفه وعادوا إلى أهلهم وقرباهم. وشعر إبراهيم باشا ببعض الحركات العدائية في دمشق بتحريض الترك، فنَكَّل بالمُحرضين. واعترض بعضُ العربان والدروز في سعسع قوافلَ المؤن والذخائر، فأدَّبَهم تأديبًا شديدًا.
•••
في ٢٧ نوفمبر ١٨٤١ وُضع الاتفاق بين الأميرال نابيير ومحمد علي، على أن يُعيد محمد علي الأسطول التركي، وعلى أن يدع سوريا ويكتفي بحكم الوراثة بأولاده الذكور. ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ إلا في شهر يناير، وبعد محاولات ومماطلة من الباب العالي ووزارة خارجية إنكلترا وسفيرها في الآستانة؛ لأن الوزير بالمرستون والسفير بونسوبي كانا يطلبان هدم حكم محمد علي، فلم يصدر محمد علي الأمرَ إلى إبراهيم بغير حشد جيشه في دمشق، فجمعه هناك، وأوحى عمال الإنكليز والترك إلى الأمير بشير قاسم اللبناني خليفة الأمير بشير عمر حليف محمد علي، بأن يهاجم جيش إبراهيم باشا، فطلب منهم المدد، فلم يمدوه، فتقدم مع الثوار إلى جهة دمشق. وذهب الزعيم الثائر أبو سمرا غانم إلى جهة المجدل للغرض ذاته، وأرسل الأمير أسعد شهاب إلى قرية خربة ريحا لقطع طريق إبراهيم باشا في وادي التيم في حالة جلائه الذي كان منتظرًا. وسافر الأمير بشير برجاله إلى بلاد صفد ثم إلى يافا للغرض ذاته؛ لأن الأميرال سترانفورد تلقى الأوامر بأن يظل على مواصلة أعماله العسكرية ضد إبراهيم وجيشه، فأمر جاكوموس الذي كان يقود جنود الحلفاء بأن يجعل نُصب عينه تجريد جيش إبراهيم من سلاحه؛ لذلك وضع قوة من اللبنانيين في وادي التيم وصفد ويافا على طريق إبراهيم إذا سار هو بجيشه من دمشق على طريق القنيطرة، ووضع قوة أخرى في القدس وثالثة على طريق بئر سبع بقيادة القائد التركي حسن باشا؛ لأن قيادة الحلفاء كانت تعتقد أنه ليس أمام جيش إبراهيم باشا طريق آخر غير فلسطين.
مثل هذه التدبيرات اتُّخِذت قبل أن يَرِد جواب الباب العالي على اتفاق نابيير ومحمد علي. ولمَّا وصل الرد ظهر أن السلطان لا يمنح محمد علي الحكم المتوارث في مصر، فظهر أن سفير إنكلترا كان يُدَبِّر ذلك الجواب، وكان يتوقع القتال. ولكن الدول الأخرى لم تكن على هذا الرأي، فأمرت الدولُ الأربع سفراءها بتقديم المذكرة التي ذكرناها في الفصل السابق، فأمر السلطان بإجابة مَطالب الدول، فانتدب الأميرال نابيير ليشهد تسليم الأسطول التركي في الإسكندرية، وأرسل محمد علي رسوله إلى إبراهيم باشا ومعه أحد الضباط الإنكليز ليسحب جيشه من دمشق، مع تبليغ قواد الحلفاء تسهيل أمر الجلاء والسماح للنساء والأطفال والجرحى والمرضى بأن يعودوا إلى مصر بحرًا.
ولمَّا تلقى إبراهيم أمْرَ والده في ٩ سبتمبر، عَقَد مجلسًا في مدينة دمشق من أعيان المدينة ليختاروا الحاكم الذي يُسَلِّمه مدينتهم، فاختاروا حسن بك الكحالة، ثم خطب فيهم حاثًّا على حفظ النظام والأمان، وألا يمسوا النصارى واليهود بسوء، فإذا هم لم يَرْعَوْا أوامره يَرْتَد إليهم بقوة من جيشه ويُحلُّ بهم أشدَّ العقاب.
وعرف إبراهيم ما يُضمرونه له في طريقه رغم الاتفاق، فوَضَع خُطة الرجوع لجيشه.
وفي ٢٩ ديسمبر أصْدَر الأمرَ إلى جيشه المؤلَّف من ٥٥ ألف جندي ومعهم ١٥٠ مدفعًا بالجلاء، وكان يتبع ذلك الجيش نحو سبعة آلاف نفس من العائلات والاتباع.
وبعد ستة أيام من خروج إبراهيم باشا من دمشق، وصل إليها الجنرال جوكوموس، وأعلن إعادة حكم السلطان وتَوْلِيَة أحمد أغا اليوسف. وسار مع الثوار يناوش مؤخرة الجيش، وانضم إليهم نحو ٧٠٠ من المتطوعين بجيش إبراهيم، فذهبوا مع رفاقهم للانضمام إلى جيش الأمير بشير قاسم الشهابي في طبريا، وهدم الجنرال جوكوموس جسر بنات يعقوب حتى يُعَرْقِل سير الجيش المصري.
وفي المزيريب ارتاح الجيش ثلاثة أيام، وكان البَرْد شديدًا، فقَسَّم إبراهيم جيشه خمسة أقسام؛ أحدهما بقيادة سليم باشا، والثاني بقيادة أحمد باشا الدرامه لي، والثالث بقيادة أحمد باشا المنيكلي، والرابع بقيادة سليمان باشا الفرنساوي، والخامس بقيادته هو ذاته. وعين للقسم الأول طريق شرق الأردن إلى غزة والعريش، وللثاني طريق الحج ومعان فالعقبة، ومنها إلى النخل والسويس. أما هو — وكان قسمه مؤلفًا من الحرس وفرسان الهنادي والباشبوزق — فجعل وجهته غزة ليركب منها البحر إلى مصر. وتمكن إبراهيم — بحُسْنِ خُطته ودقة نظام جيشه ونشاط ضباطه — مِن أن يَلْعب بقواد الحلفاء الذين كانوا يتربصون له في الطريق، وأن ينفلت من بين أيديهم، حتى قالوا في وَصْفِ ارتداده ورجوعه سالمًا إنه رَبِح أكبر معركة سِلْمية بالارتداد؛ لأن الجنرال جاكوموس جَمَع على طريقه كلَّ ما يمكن جَمْعُه من القوات بما فيها قوات الثوار — وهي أشد خطرًا على الجيش المرتد من الجيش النظامي — ووقف بها في جهة جنين وجسر المجامع، وقطع الطرقات الأخرى. ولكن إبراهيم باشا كان يتظاهر بالزحف في فلسطين، ثم يسير بعيدًا شرقي نهر الأردن والبحر الميت. على أن جيشه تحمَّل من أجل ذلك متاعب كبيرة جدًّا لا يتحملها جيش آخر؛ لأنه كان يسير في الصحراء القليلة الماء والزاد، حتى اضطر الجيش إلى أكْلِ لحم الخيول والمواشي، وأن يعيش أيامًا على عشب البرية، وكانوا قبل وصولهم إلى السواحل كغزة والعقبة يُكافحون الجوع والعطش ولصوص البدو. وفي ٢٥ يناير وصل القسم الأول من جيش إبراهيم باشا إلى غزة.
أما جيش سليمان باشا، فإنه سار على طريق الحج، وكان يحسب أنهم يرسلون إليه من مصر بطريق صحراء السويس الزاد والماء، ولكن هذا الأمل خاب، غير أنه وفِّق للعثور على الآبار، ونجا وأوصل المدافع المائة والخمسين بخيولها سليمة إلى مصر.
ووصل إبراهيم باشا إلى غزة في ٣١ يناير، وأرسل إلى والده ليوافيه بحاجات الجيش، فأرسل إليه ما طلب. وبلغ عدد الجيش الذي وصل إلى مصر ٤١ ألفًا، منهم ٣٠ ألفًا عن طريق غزة والباقي عن طريق العقبة والسويس، وكان آخر جندي غادر غزة في ١٩ فبراير سنة ١٨٤١.
أما اللبنانيون الذين كانوا في مصر، فإن محمد علي اتفق مع الأميرال نابييه في ٢٧ نوفمبر على إعادتهم إلى وطنهم، كما اتفق معه على إعادة الذين كانوا قد نفاهم إلى سنار في سنة ١٨٤٠.
ومما يُذْكَر عن هؤلاء المَنْفِيِّين وعددُهم ٥٧ أميرًا وشيخًا وعينًا، أنه لمَّا أبْعَدَهم محمد علي إلى سنار، سَلَّمَ قايد المَرْكَب الذي يركبونه كتابًا إلى حاكم تلك الجهة، فتشاوروا فيما بينهم — وهم في الطريق — لمعرفة ما في ذلك الكتاب؛ فإن كان شرًّا فَتَكوا بجنود المركب ونجَوْا بأنفسهم في البرية، وإن كان خيرًا واصَلُوا السير. فلما أخذوا الكتاب واطَّلعوا عليه، وجدوا أن محمد علي يوصي بهم خيرًا، وبأن يعامَلوا معاملة حسنة، فأعادوا الكِتاب إلى حامله، وصرفوا مدة نَفْيِهم مُعَزَّزين مُكَرَّمين، فلما عاد جيش إبراهيم إلى مصر أرسل الأميرال نابييه ولده إلى محمد علي يطلب أولئك المنفيين، فأعادهم محمد علي من السودان، وفي إبان عودتهم توفي منهم في صعيد مصر الأمير يوسف سليمان شهاب.
أما الجنود السوريون في جيش محمد علي، فكان المتفق عليه بين الأميرال تشارلس نابييه وبوغوص بك وكيل خارجية محمد علي أنهم يرجعون إلى بلادهم حال وصول جيش إبراهيم إلى مصر، فبعد مفاوضات طويلة بين القنصل الإنكليزي ومحمد علي، أمَرَ محمد علي بإعادتهم، ووصل القسم الأول إلى بيروت في شهر سبتمبر سنة ١٨٤٣، ووصل القسم الثاني بعد شهرين، وكان عددهم جميعًا نحو عشرة آلاف.
•••
خرج جيش إبراهيم من سوريا عائدًا إلى مصر بعدما أقام فيها من ٣١ أكتوبر ١٨٣١ إلى ٢٠ فبراير ١٨٤٢، فاكتسح الجيش التركي في أربع معارك كبيرة، ولو شاء وشاءت أقدار السياسة لدَخَل إستامبول، ولو شاء وشاءت السياسة لجَعَل هذا الحكم المصري من حدود النمسا إلى حدود إيران فبحر الهند في آسيا، ومن مصر إلى الجزائر ومنها إلى زنجبار فالمحيط الهادي في أفريقيا. ولكنه غادر مصر ولاية يولي الباب العالي عليها مَنْ شاء، وعاد إليها وحُكْم مصر مُقرر بين الدول لمحمد علي ولذُرِّيته بعده إلى ما شاء الله.
زالت حكومة محمد علي من سوريا بانسحاب جنوده منها، أما تأثيرها فلم يزل مع ذلك الانسحاب؛ لأنها أحدَثَتْ في نظام الأحكام انقلابًا عظيمًا، فأدخلت أنظمة جديدة على الإدارة والقضاء والمالية والجندية، وكان لذلك تأثيرات جمة في حياة البلاد الاجتماعية والأدبية والاقتصادية والإدارية والسياسية، منها ما كان بعيد المدى، فاتصل تأثيره بوقتنا الأخير.
فمن التغييرات الاجتماعية التي نشأت عن حكم محمد علي: إطلاقُ الحرية الدينية، ونَشْرُ الروح الديموقراطية بالضرب على أيدي الزعماء والمتغلبين ونَزْع السلطة من أيديهم، وإنشاء العلاقة ما بين الشعب وحكامه مباشرة، وتأليف مجالس مشورة تُمَثِّل الشعب بعض التمثيل، ومع حق النظر في الشئون المحلية بعد أن كان النظر في جميع الشئون منوطًا بحكام مُستبَدِّين.
وقد كان لوجود إبراهيم باشا في سوريا تأثيرٌ في بساطة المظهر بعد أن كان كبار البلاد يباهون بالملابس الفاخرة والمظاهر الخلابة وكثرة الأتباع، وكانوا يقلدون في ذلك الحكام العثمانيين. أما إبراهيم باشا، فكان مَيَّالًا بفطرته إلى بساطة المظهر والتخشن في المعيشة، ولعل حياته الجندية زادته استمساكًا بذلك.
ويَرْوُون أنه لما جاء إبراهيم باشا بجيشه إلى لبنان وحلَّ بدير القمر، أقام في منزل صغير، وذَهَب ذات ليلة لزيارة الأمير بشير زيارة غير رسمية، فلم يستصحب أحدًا من حاشيته، بل كان معه أحدُ خَدَمِه، فقضى السهرة عند الأمير. وكان الأمير قبل ذلك لا يعهد في الوزراء سوى مظاهر الأُبهة والترفُّع عن الناس، فلا تتحرك ركابهم من مكان إلى مكان إلا وهم مُرْتَدون الملابس الفاخرة مَحُوطون بالجند والعظماء. وكان الأمير نفسه ومَنْ دونه من الزعماء يجرون على الخطة ذاتها. أما بعد أن تَلَقَّى هذه الزيارة الودية من إبراهيم باشا، فلم يسعه إلا أن يحذو حذوه. وبما أن إبراهيم باشا — وهو ابن عزيز مصر ورأس الحكومة السورية وقائد الجيش العام — قد زاره ومعه خادم واحد، فحِفْظًا للنسبة بين المقامين رَدَّ الأمير بشير الزيارة لإبراهيم باشا وحده وليس معه أحد.
وفي عهد إبراهيم باشا طرح الأمير بشير وأولاده العمائم واستبدلوا منها الطربوش المغربي اقتداءً بمحمد علي وإبراهيم ورجالهما، فتَبِعهم في ذلك كبار البلاد وسواهم.
وقبل دخول إبراهيم باشا سوريا لم يكن مُباحًا للمسيحيين أن يَلْبَسوا العمائم البيضاء أو الخضراء أو الحمراء، وكانت محظورة عليهم أمورٌ أخرى كثيرة. وكانت تَوْلِيةُ النصارى أعمالَ الحكم نادرة جدًّا، فأزالت حكومةُ محمد علي هذه الفوارقَ، وأباحت للمسيحيين كلَّ ما يُباح للمسلمين من لباس، وركوب الخيل، ومن الحقوق الأخرى الاجتماعية والوطنية، وقلدت الكثيرين من المسيحيين الوطنيين والإفرنج الوظائف في الجيش والدولة، ومَنَحَتْهم الرُّتب والألقاب. ويَرْوُون عن حَنَّا بك بحري الذي كان يتولى منصبًا عاليًا في حكومة سوريا، أن زملاءه المسلمين ما كانوا يُعاملونه بالإكرام الذي يستحقه منصبه، وكان محمد علي قد منحه رتبة ميرميران، فشكا إلى إبراهيم الذي دَخَل مرةً مجلسًا ضَمَّ كبارَ القوم وبينهم حَنَّا بحري بك، فنَهَضوا واقفين، فقال إبراهيم باشا: «يا بك تَفَضَّلْ»، ولم يذكر اسمه، فتقدم موظَّفٌ آخر اسمه حافظ، فقال له إبراهيم: أنا أريد «بحري بك»، فلما دنا منه قرَّب مجلسه وأجلسه وأمر الآخرين بالجلوس، فبعد هذا الحادث صاروا يعاملون بحري بك بالإجلال.
ساوت حكومة محمد علي بين الرعايا على مختلف الأديان والمذاهب، ولم يكن قبلها يُساوَى بين المسلم والذمي، وسوَّتْ بينهم بالضرائب والحقوق، ولكنها كانت تكلِّف النصارى دَفْعَ الخَراج مقابل تجنيد المسلمين.
وكان التضييق على المسيحيين الإفرنج شديدًا، فلا يستطيع واحدٌ منهم التجولَ في البلاد إذا لم يكن مُرْتديًا بالملابس الوطنية أو يحرسه الجند، حتى إن إنكلترا عَيَّنت المستر فلرين قنصلًا لها في دمشق في سنة ١٨٢٩، فلم يستطيع دخول دمشق وأقام في بيروت إلى أن احتل إبراهيم البلاد.
وقيام حكومة محمد علي في سوريا مَهَّد السبيل لنهضة علمية أدبية؛ لأن تنظيماتها تَطَلَّبَت اختيار المُتَنوِّرين لإدارة الأحكام والقيام بالأعمال القضائية والمالية والإدارية والكتابية، وسهلت قدوم الإفرنج من مرسلين وتجار وسواهم، فأنشَئُوا المدارس.
وأحْدَثَ إرسالُ طائفة من الشبان لدَرْسِ الطب في مصر واستخدامُ السوريين في حكومة محمد علي، صلةً أدبية دائمة بين الأمتين.
أدخلتْ حكومة محمد علي رُوحًا علمية في البلاد، فأنشأت محجرًا صحيًّا في بيروت والتلقيح ضد الجُدري، واعْتنت بالصحة، وحفرت المصارف في المدن لصَرْف المياه الزائدة والأوساخ، واستخدمت المهندسين لإنشاء الطرقات وسواها. ونشَّطت حكومة محمد علي الزراعة وغرس البساتين والكرمة والزيتون والتوت وتربية دود الحرير، وحفرت المناجم كمنجم الفحم في قرنايل وآخر في بزبدين ومنجم الحديد في مرجنا، ثم زراعة قصب السكر والنيلة والبن، ونشطت التجارة بتأمين طرق المواصلات.
ومن حَسَنات حكومة محمد علي إدخالُ مبادئ النظام في الحكم، وتوزيع السلطات الإدارية والقضائية، واختصاص كل هيئة منهما، وإزالة الحكم المطلق، وتعيين العدد الكبير من أبناء البلاد في المناصب، فمُرِّنوا على طرق الحكم الجديدة وتأليف مجالس المشورة في المدن، فألفوا الشورى، ومد رواق المساواة. وكان حكم محمد علي أساسًا «لخط كلخانة» الذي أصدره السلطان عبد المجيد بالمساواة بين رعاياه.
كذلك العمل على إقرار الأمن في نصابه، فقبل حكومة محمد علي كان حَبْل الأمن مُضْطربًا والأشقياءُ يَعِيثون فسادًا والقبائل تغزو الحضر، وكانت مكامن اللصوص على جميع الطرقات، حتى إن المسافرين كانوا يضطرون أن يسيروا جماعات وهم شاكو السلاح للدفاع عن أنفسهم وأموالهم، فألقت على عاتق رؤساء القبائل والعساكر وشيوخ البلاد تَبِعة ما يَقع في دوائر نفوذهم.
تلك بعض آثار حملة إبراهيم وحُكْم محمد علي في سوريا، والشرُّ الوحيد الذي وقع في لبنان من آثارها تأصُّلُ العدوان بين الدروز والموارنة؛ لأن الموارنة كانوا عونًا لإبراهيم باشا ضد الدروز، فكانت العداوة الطائفية التي أفضتْ إلى المذابح وإلى انتهاء عهد الإمارة في سنة ١٨٦٠ و١٨٦٣ والاستعاضة عن الإمارة المتوارثة في الأمراء الشهابيين بتعيين مُتَصَرِّف نصراني للبنان، تُقر الدول الست الكبرى تعيينه، ويَنْتَخب الأهالي مجلس إدارة إلى جانبه ليُقرر الميزانية والنفقات.
ولم يَنْسَ محمد علي وإبراهيم الأمير بشير حليفهما الذي سافر إلى مالطة مع أسرته، وبعد ٢١ يومًا من وصوله عَيَّنَتْ له حكومة تلك الجزيرة قَصْرًا فَخْمًا على بُعد ثلاثة أميال من المدينة. وقبل أن يخرج من المَحْجَر الصحي، وقبل أن يستقر به المقام، أرسل إليه محمد علي كتابًا مع رسول رومي يقول له فيه: أنا باقٍ على محبتك، وسأجعل مصلحتي كمصلحتك شفقةً على شيخوختك وحفظًا لوُدِّك. وكانت المراقبة شديدة على الأمير، فأرسل إلى الرسول الرومي كاتم سره بطرس كرامة، فأعطاه صورة الكتاب. ولما سأله عنه والي الجزيرة أطْلَعه عليه، ولم يستطع أن يُسلم الرسول ردَّه على ذلك الكتاب إلى محمد علي.
وبعد إبرام الاتفاق بين الباب العالي ومحمد علي أرسل السلطان عبد المجيد فرمانًا إلى الأمير بشير يُخبره فيه بالإقامة في إحدى جهات السلطنة ما عدا سوريا، وأرسل إليه الصدر الأعظم رءوف باشا كتابًا رقيقًا، فاختار الإقامة في إستامبول حيث ظل إلى آخر حياته.