الفصل الخامس عشر
كان ربعة القامة، قوي العضلات، واسع الصدر، عريض المنكبين، واسع العينين البراقتين رماديتي اللون، مستطيل الوجه، طروب، إذا ضحك اهتزت أعضاء جسمه جميعًا، حتى يُخيل إلى الناظر أن كل عضو من أعضائه يضحك، وإذا هو غضب تحول بركانًا. جمع البسالة والجود، وما أضاع في ساعة الشدة رباطة جأشه، وكل ما اشتد الأمر عليه ازداد حلمًا وسكونًا، وما رآه أحدٌ بعد النصر تأخذُه نشوة الفخر، بل يتملكه التفكير الطويل لِمَا يلي ذلك ولِمَا يمكن أن يليه. كان يحب الزرع والنبات والشجر والغابات إلى حد الغرام، فأكثر من ذلك في سوريا ومصر، وكان يكرر كلمة المملوك مراد بك «إذا طلبت في مصر الذهب فانكش وجه أرضها»، وكان يتكلم التركية والعربية والفارسية، ولكنه كان فخورًا بعربيته ومصريته. نقل إلى التركية تاريخ نابليون بعنوان «دفيني أسرار حكامي أوروبا»؛ أي كنز أسرار حكام أوروبا، وكان واسع الاطلاع في تاريخ أمم الشرق.
ولَّاه والده إدارة بعض المديريات وهو في السادسة عشرة من عمره، فاكتسب خبرة واسعة في الشئون الإدارية والأحكام. وكان إبراهيم — على مجده وعزته — كأصغر الناس في حضرة والده، فإذا أقبل عليه لثمَ يده، ولا يأخذ في المجلس مكانه إلا إذا أمره، ولا يُدَخِّن في حضرته إلا إذا أباح له التدخين. وكان محمد علي يقابل ذلك بمثله، فالألقاب التركية التي كان يُلَقَّب بها إبراهيم — كأمير الحرمين الشريفين — كانت تجعل له المقام الأول بين أمراء الدولة العثمانية، فيُقدم عليهم جميعًا. والمفروض على هؤلاء، إذا أقبل عليهم أمير الحرمين الشريفين، أن ينهضوا إجلالًا له. فكان محمد علي، إذا أقبل ولدُه إبراهيم عليه، انتظر دخوله واقفًا تعظيمًا لرتبته وأذن له بالسير معه في الحفلات والتشريفات الرسمية سائرًا قبالته على صف معتدل. وكان إبراهيم عماد الملك وقوام الأريكة وذراع محمد علي اليمنى ورأسَه المفكر.
•••
أرسله والده مع أخيه الأكبر إلى أوروبا في سنة ١٨٤٦ لانحراف صحته، فلما وصل خبر رحلته إلى الملوك والأمراء وَجَّهُوا إليه الدعوة، وتلقى دعوة الملكة فكتوريا لزيارة إنكلترا وهو في توسكانا في طريقه إلى فرنسا، وكان استقباله في توسكانا حافلًا جدًّا، ولما وصل إلى باريس كانت الحفاوة به فوق حَدِّ الوصف، فعرض ثلاثين ألف جندي في ميدان شان دي مارس، وقالوا في وصف ذلك العرض: إن فرنسا لم تشهد مثله بعد نابليون الأول. وشهد العرض مع رجال الدولة ثمانيةٌ من أمراء البيت المالك وستٌّ من الأميرات، فكان يوم ٢١ مايو سنة ١٨٤٦ يومًا مشهودًا في عاصمة فرنسا.
وزار إبراهيم بعد ذلك لندن عاصمة الإنكليز إجابةً لدعوة الملكة فكتوريا، فكانت الحفاوة به كبيرة، وكانت الجماهير تتزاحم على طريقه لرؤية بطل نصيبين. وعُرض أمامه هناك قِسم من الأسطول والجيش، وطاف بعضَ بلاد اسكتلندا. ولما عزم على العودة إلى مصر بعد سفر والده إلى إستامبول، جَعَل طريقه على بلاد البرتغال، حيث زار الملك والملكة، ولقي كل حفاوة وإكرام، وأهدى إليه الملك وسام البرج والسيف، ومن هناك عاد إلى مصر.
وكان سليمان باشا الفرنساوي يرافق إبراهيم باشا في رحلته إلى أوروبا، وسليمان باشا أو الكولونيل سيف هو صاحب الكلمة المشهورة: «أحببت في حياتي ثلاثة رجال، وجعلت حبي لهم فوق كل حب: والدي، ونابليون، ومحمد علي. وقد مات الاثنان الأولان، فانحصر حبي بمحمد علي.» وكان محمد علي يقول: «سليمان ولد من أولادي، لا يخرج من مصر إلا إذا خرج منها محمد علي.»
وقد كان لإبراهيم ثلاثة أولاد: أحمد بك؛ وُلِد سنة ١٨٢٥، وإسماعيل بك (الخديوي إسماعيل)؛ وُلِد في سنة ١٨٢٨، ومصطفى بك؛ وُلِد في سنة ١٨٣٢. وكان له ولد رابع توفي طفلًا وهو في حِجر إحدى الجواري السود برَفْصة جارية بيضاء كانت قد وَجَّهَتْها إلى الجارية السوداء التي تحمل الطفل الذي وُلِدَ بعد حرب الوهابيين، فحزن عليه إبراهيم حزنًا شديدًا.
أما إخوة إبراهيم، فهم: سعيد باشا قومندان الأسطول المصري؛ وُلد في سنة ١٨٢٢، وحسين بك؛ وُلِد في سنة ١٨٢٥، وحليم؛ في سنة ١٨٢٦، وعلي؛ وُلِد في ١٨٢٩، وإسكندر؛ ولد في ١٨٣١، ومحمد علي؛ ولد ١٨٣٣.
وفي سنة ١٨٤٨ اشتد المرض والذهول على محمد علي، فذهب للسياحة في أوروبا، وتولى إبراهيم أمْرَ الحكم بموافقة الباب العالي، ولكنه توفي في شهر نوفمبر سنة ١٨٤٨، فتولى الأمر عباس بن طوسون بن محمد علي، وتوفي محمد علي في شهر أغسطس ١٨٤٩ وهو في الثانية والثمانين من عمره. وبحكمة محمد علي وبسالة إبراهيم وذكائه، وَصَلَتْ مصر إلى حكم نفسها وحكم السودان، وانتهى عصر الحروب والمعارك الذي بدأ في سنة ١٧٩٨ بنزول الحملة الفرنساوية في مصر، وتَجَدَّد في سنة ١٨٠٧ بنزول الحملة الإنكليزية ثم بالحروب مع تركيا. ولولا تألُّب أوروبا على مصر لَكانت مصر الإمبراطورية العظيمة الشان. ويقول المسيو فرنسينيه: إذا كانت مصر لا تُهدِّد بعد اتفاق ١٨٤١ توازُن أوروبا، ومن أجل هذا التوازن حُكِمَ عليها ذلك الحكم القاسي بأن يعتبر الغالب مغلوبًا والمغلوب غالبًا كما قال رئيس وزارة إنكلترا في مجلس نوابهم، ولكن مصر لا تزال ولن تزال من مشاغل الأمم والشعوب.
ذلك هو البطل الفاتح إبراهيم الذي قاد جيش مصر من نصر إلى نصر، ورفع عَلَمَها عاليًا في كل مكان من كريد إلى البلقان ومن السودان إلى اليمن ونجد والحجاز وسوريا والأناضول.