الفصل الثاني
-
فتح عكا بعد حصار ستة أشهر.
-
قرار الباب العالي بخلع محمد علي باشا.
-
تعيين حسين باشا.
-
حاكمًا على مصر.
-
الجيش المصري في سوريا.
***
في ٢٧ مايو بدأ هجوم المصريين عند الفجر على قلعة عكا من ثلاث جهات، وظل هذا الهجوم متواليًا حتى الظهر ثم أُوقف خوفًا من الألغام؛ لأن أرض المدينة كانت ملغمة كما أنبأ الأسرى. وكان إبراهيم مصلِتًا سيفه في مقدمة جيشه، فبعد الكر والفر والتقدم والتقهقر توصل إبراهيم بآلايه لاحتلال أحد خانات المدينة وامتنع فيه، وأخذت جنوده وما تلقته تلك الجنود من الإمداد تتسرب إلى جوف المدينة من جهاتها الأربع، وظهر العجز والملل على الحامية، وظهر الضجر والسآمة والقنوط على السكان، فأرسلوا إلى عبد الله باشا بأن أوان التسليم قد حل، وأرسلوا إلى عبد الله باشا وفدًا يطلبون منه العفو، فأجابهم إبراهيم باشا أنه لا يمس أحدًا بسوء إذا ألقى عبدُ الله باشا والحامية والأهالي سلاحهم في الحال. وخشي عبد الله باشا أن تفتك الحامية والأهالي به إذا حاول الفرار، فمكث في داره حتى صباح اليوم التالي إلى أن أرسل إبراهيم باشا حرسًا يحرسه في مجيئه إليه، فربط عبد الله باشا وربط الكخيا منديلًا في عنقه دلالةً على الاستسلام والخضوع.
ولما دخل عبد الله باشا على إبراهيم انحنى إلى الأرض، فتناوله إبراهيم باشا في الحال بكلتا يديه وقال له: «أنا وأنت متساويان؛ فذنبك إليَّ لا يُغتفر ولكنك تجرَّأت على محمد علي وهو أكبر حلمًا!» فرد عبد الله باشا بقوله: «هذا حكم القدر.» وجامل إبراهيم خصمه كثيرًا حتى أزال وحشته، وبعد تناول العشاء معه هَمَّ عبد الله باشا بالانصراف إلى غرفة النوم التي أُعدت له في منزل إبراهيم، فقال إبراهيم: «إنك يا عبد الله باشا ستنام الليلة مرتاحًا.» فأجابه عبد الله: «كراحتي في كل ليلة مضت.» ثم التفت إلى إبراهيم وقال له: «لا تعاملني يا باشا معاملة الحريم؛ فإن دفاعي يبرهن لك على الضد، وكل أخطائي أني اعتمدت على الباب العالي الذي لا يزيد شرفه في نظري على شرف المومس، ولو أني عرفت ذلك لاتخذت الحيطة ولَمَا كنت اليوم ملقًى بين يديك.»
وأحصى ما ألقته المدافع على عكا من القنابل الكروية والأسطوانية، فإذا هو ٥٠ ألف قنبلة كبيرة و١٨٠ ألف قنبلة من القنابل الصغيرة. ولما سلَّم عبد الله وأقبل الناس على إبراهيم باشا يهنئونه قال في جمع عظيم: «إني سأذهب في فتوحاتي إلى حيث تنتهي البلاد التي يتكلم أهلها العربية.» لذلك كان يلقب جيشه بالجيش العربي.
أما عبد الله باشا، فإنه من الولاة الأشداء الممتازين، طمع في سنة ١٨٢٢ بأن يضم دمشق إلى البلاد التي يتولى أمرها، فاتفق الولاة على مقاتلته خوفًا من امتداد سلطانه، واضطر أن يرجع إلى عكا للدفاع عنها؛ لأن أعداءه حصروها، وكان يخشى أن يحصرها الباب العالي بحرًا، فوسَّط محمد علي باشا لدى الباب العالي فنال ما طلب على شرط أن يدفع ٦٠ ألف كيس — الكيس ٥٠٠ قرش — فأقرضه محمد علي قسمًا من هذا المال، ولكنه لم يشأ دفع القرض وجعل عكا ملجأ للفارين من مصر.
وفي ٣٠ مايو سافر عبد الله باشا والكخيا إلى مصر على سفينة حربية مصرية، فوصلت بهما إلى الإسكندرية في ٢ يونيو، وعند وصولهما أطلقت المدافع، فأرسل محمد علي قواصًا إلى عبد الله باشا ليبلغه أن محمد علي في انتظاره في الديوان.
فلما دخل مرَّ بين صَفَّين من القواصة بقيادة أحد الضباط، ودخل الديوان فإذا بمحمد علي واقف ينتظره، فانحنى أمامه طالبًا العفو والغفران، فصافحه محمد علي وطَمَّنه ثم جلس وأجلسه إلى جانبه، وأمر بأن تقدم له القهوة والشبق. وكان الجمهور حاشدًا لرؤية عبد الله باشا، فأمر محمد علي ذلك الجمهور بالانصراف، واختلى بأسيره ثم صرفه إلى دار الضيافة التي مكث فيها إلى أن أطلق سراحه وسافر إلى الآستانة في أوائل شهر يناير.
ولما وصل البريد بخبر فتح عكا أمر محمد علي باشا بأن تُطلق المدافع من جميع القلاع والحصون بالمدن والبنادر ثلاث دفعات في اليوم مدة ثلاثة أيام؛ إعلانًا للفرح والسرور ولإعلان البشرى في أنحاء البلاد.
ثم صدر العفو عن المسجونين والمنفيين ما عدا القاتل وقاطع الطريق إجابة لإبراهيم باشا، وكان السجن والمنفى في مدينة رشيد.
وأمر محمد علي باشا بعمل وسام مكتوب عليه اسم «محمد علي» بحجر البرلنتي لإرساله إلى إبراهيم باشا تذكارًا لانتصاره.
وبلغت خسارة المصريين ١٤٢٩ جريحًا و٥١٢ قتيلًا.
تعلمون أن في بيت المقدس كثيرًا من الديارات والكنائس والآثار الدينية التي تَحج إليها في كل عام طوائفُ النصرانية واليهود، وقد شكا إلينا هؤلاء مما يلاقونه منكم من العنت والقسوة والغلظة عليهم والتحقير لدينهم، فضلًا عما أنتم فارِضوه عليهم من التكاليف والمغارم الفادحة، غير ناظرين إلا إلى إرضاء أنفسكم والعمل بهواكم، على أن هذه الغايات الدنيئة والأفعال الرديئة لا ترضاها النفوس الأبِيَّة، ولا يصح السكوت عليها؛ ولذلك أنهاكم وأحذركم من عاقبة التعرض لأولئك القوم، وأسألكم أن تُفسحوا لجماعة القسيسين والرهبان والشمامسة أهل ذلك البيت المقدس من جميع المذاهب قبطًا كانوا أو رومًا أو أرمنًا في دينهم ودنياهم، ولا تمنعوهم من إقامة شعائر دينهم، ولا تأخذوا ممن يذهبون زائرين لبحر الشريعة شيئًا من الكلف والمغارم، ولا تضيقوا على زائري كنيسة القيامة، ولا تلزموا الصغار بدفع المال؛ فإن أطعتم أحسنتم لأنفسكم، وإن خالفتم أسأتم إليها، والسلام عليكم ورحمة الله.
تقرير إبراهيم باشا
نشرت الوقائع المصرية في ١١ محرم سنة ١٢٤٨ ملخص التقرير الوارد من إبراهيم باشا عن معارك عكا وفتحها، قال فيه «إنه كَلَّفَ أحمدَ بك أمير اللواء ومعه مختار أغا البكباشي من الآلاي الثاني، بالهجوم على الباب بطرف القلعة، وأن يذهب إسماعيل بك أميرالاي اللواء الثاني ومعه الأورطة الثانية إلى باب البرج الذي يصير عليه الهجوم، وأن يذهب إلى الزاوية اللواء عمر بك ومعه الأورطة الثالثة، وإلى برج الكريم عسكر الأورطة الأولى، وأن يكونوا مستعدين لتسلُّق الأسوار ومعهم السلالم، فيبدأ الهجوم بعد مرور تسع ساعات وربع من الليل بمجرد سماع إطلاق ثلاث قنابل. وجعلنا أحمد يَكَن باشا مأمورًا على محل الهجوم، وتوجهت إلى طابية المدافع خلف عسكر المحاربين على رأس الزاوية ووقفت الأورطة الرابعة مع يكن باشا قبالة البرج ووراءها الأمداد؛ لأن في البرج مستودع عبد الله باشا. وكان التصميم أن نرسل عسكرًا إلى الوكالة الواقعة على البحر، ولكن قبل الهجوم بليلة واحدة قرر الذين فَرُّوا من القلعة أنَّ تحت تلك الوكالة أربعة ألغام، فعَدَلْنا عن إرسال القوة.»
وبعد أن وصف الهجوم قال: «إن الكلام لا يتسع لوصف الشجاعة الفائقة التي أبداها الجنود، وإذا أخذنا بالأصول الحربية حَكَمْنا بأن استِبْسالَهم كان فوق ما يمكن تقديره، ولكن الأورطة التي تسلقت برج الكريم كانت خسارتها كبيرة لجهل قائدها؛ لأنه لم يَدَعْهم يهجمون على جميع أنحاء المكان عند إعطاء الإشارة. والهاجمون على الزاوية تسلقوا السور بكل سرعة، وعند وصولهم إلى الخندق أطلقوا البنادق ثم صعدوا منه إلى الجهات الأخرى، ولَحِق بهم بقية العسكر حتى برج الخزينة الذي انقطع سوره. ولما وصلوا إلى باب البرج استَلَّ عبد الله باشا سيفه وهجم على عسكرنا فردُّوه إلى طرف الخندق. ولما رأينا هذا الارتداد هَجَمت القوة التي معي على طابية المدافع، ثم ارتدوا ثلاثين أو أربعين خطوة، فسَلَلْتُ سيفي أنا وأحمد بك أميرالاي الفرسان ومشيت نحوهم لِنَردهم إلى الأمام، ولكنهم كانوا يمشون تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال، وحينئذ أمرتُ أحد الجاويشية بأن يأخذ العَلَم من حامله، فأبى البيرقدار تسليم العَلَم، فتقدم جاويش آخر لأخذه منه، فامتنع عن تسليمه، ثم تقدم وفي دقيقة واحدة فَعَل عسكرنا العجب، وتوارى عسكر العدو وأخذوا يتراشقون بالحجارة، ولم يستطع العدو أن يرجع إلى مكانه الأول، وقَلَّ الذين نجوا منه، وحينئذ رفع عسكرنا بيرقهم وهجموا على البرج الصغير، وصعد الأنفار بسرعة وأخذوا يقاتلون دون ضباطهم، فشَتَّتوا العدو وارْتَمَتْ بقاياه في الخندق. ولحماية الرجال أمرتُ ببناء متراس، واستلَّ ثلاثة من الجاويشية سيوفَهم، ثم رأيتهم يرمون الرصاص أمامي وسيوفهم مُكسَّرة، وفي الساعة الحادية عشرة وقف إطلاق الرصاص، وأرسلتُ ضابطًا إلى الباب فوجده مفتوحًا، فوقف لضبط الوكالة وحَصْرِها. وأمرتُ بجَمْع الجرحى من الفرسان؛ إذ رأيتهم مُرتمين في الأرض مُستلِّين سيوفهم عند صعودهم القلعة، وبعد ذلك حضر أناس لطلب الأمن والأمان.»
خلاصة تقرير يَكَن باشا
بعد وصول عبد الله باشا والي عكا إلى الإسكندرية ونزوله في ضيافة محمد علي بدار الضيافة، وصل أتباعُه — وهم جمهور كبير — فأمر محمد علي بإكرامهم وبإنزالهم في ضيافة حكومته المصرية.
وكانت خزانة عبد الله باشا قد وصلت على السفينة التي ركبها من حيفا إلى الإسكندرية، فأمر محمد علي بألا تُمس وبألا تُدخَل دارًا من دوره، وأن تُرْسَل مُقْفَلة إلى عبد الله باشا، وكان في تلك الخزانة حُلِيُّه وجواهرُه، والحلي والجواهر هي كنوز العظماء في ذاك الحين.
وكان بيد عبد الله باشا وَصْلٌ على أحد اليونان؛ قسطنطين أنجلو من مدينة صور، بمبلغ مائتي ألف فرنك لِيقدم له به المؤن والذخائر، فأرسله إلى محمد علي باشا باعتبار أنه ملك الدولة الفاتحة، فأمر بأن تُدفع له قيمته. أما برج الخزانة — الذي أشرنا إليه — فإنهم وجدوا فيه نصف مليون قرش تُركت أيضًا لعبد الله باشا.
•••
قبل أن يَفتح إبراهيم باشا عكا أعدَّ للنصر معداتِه، لا بتأليف جيش ضخم على أحدث الطرق الحربية والأنظمة العسكرية، ولا بإنشاء أسطول قوي؛ بل بمحالفة زعماء سوريا وأمير لبنان، فعاهدَهُ مشايخ نابلس على المال والروح، وجَمَع الأمير بشير الثاني ٣٥ ألف رجل ضبطوا أنحاء البلاد وانصرفوا لجَمْع المؤن. وكانت الفتن قائمة يومئذ في الأناضول وألبانيا والبلقان فاتَّهم بها الباب العالي محمد علي. ولما لم يَلْقَ رُسل السلطان إلى محمد علي — كصارم أفندي ونجيب أفندي — ما يشفي غلة الباب العالي، توسَّط قنصل إنكلترا في بيروت لدى إبراهيم باشا، ولكن بلا جدوى. ولما كان ٢٣ أبريل ١٨٣٢ أمر السلطان محمود بعقد المجلس الشرعي؛ لأنه لم يبقَ أمامه سوى السلاح الديني الذي أجاب عليه محمد علي في جمع من قناصل الدول بقوله: «هل يسمح السلطان لنفسه أن يحاربني باسم الدين، وأنا أحق منه بمَهْبِط الدين والوحي؛ لأني أنقذتُ الحرمين الشريفين وأعدْتُ للدين سلطانه، وأنا الآن أحكم مكة المكرمة والمدينة المنورة؟»
ج: قد فُرضت له الطاعة والوقوف عند حد أوامره جهد الاستطاعة.
ج: يُجرَّد من سائر رتبه ووظائفه، ولا يُعهد إليه بأمر من أمور المسلمين، ثم يحل به القصاص ويُلقى لوحوش البرية أو إلى طيور الفلا، وهذا جزاؤه في الدنيا، وفي الآخرة الخزي والنار الآكلة.
ج: لا جناح على الخليفة ولا تثريب؛ فإنه قام بما فرضه الشرع الشريف وجاءت به أحكام الدين الحنيف.
حيث ثبت خروج محمد علي وولده إبراهيم عن طاعة سلطانهما فحق العقاب عليهما كما حق على سائر من حذا حذوهما بشق عصا طاعة أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، وبذلك قضى الشرع الشريف.
أولًا: تجريد محمد علي وولده إبراهيم من جميع الرتب والمناصب الديوانية وألقاب الشرف الممنوحة لهما من لدن أمير المؤمنين، ثم بقصاصهما مع سائر من شاركهما في هذا العصيان والخروج عن طاعة السلطان.
صدر ذلك الحكم، فحمله إلى محمد علي قومندان إحدى السفن الإنكليزية، فلم يعبأ به وأخذ مشايخ العلم في مصر وسواها يهزءون بالفتوى والحكم.
من سلطان الدولة العلية العثمانية وولي نعمة المملكة العظمى الشاهانية إلى فخر الأمراء المعظمين وقدوة أعيان دولتنا المفخمين حسين باشا … إلخ.
الموجَّه إليه من لدن مكارمنا المشهورة ولاية ديار مصر والحبشة وجزيرة كريد وما يتعلق بها.
لا يخفى على مَن تهمه أخبار دولتنا العلية وما هي عليه مملكتنا العثمانية الشاهانية، أن محمد علي باشا والي الديار المصرية سابقًا، بعد أن كان فردًا من أفراد الرعية، لا يُعرف له حسب ولا نسب، قد تدرَّج إلى أوج المعالي، وما زال حتى تولى حكومة الديار المصرية من قِبل بابنا العالي، فنظرنا إليه بما جُبلنا عليه من كرم الطباع، وعاملناه بالرفق والتودد والإخضاع، وكنا نظن أنه يقف عند حد الشكران ولا يخالف لنا كلمة ولا يغلب على طبعه النكران، وأن يقابل نعمتنا بالصدق، ولكنه أطاع هواه وداخله الغرور والكبرياء … وجاهر بمعاداة حكومتنا، ولم يقف عند حدٍّ من إثارة الفتن وتعميم القلاقل والإحن. وقد أقلق راحة أهالي ألبانيا والرومللي الشرقي بشن الغارة على بلادهم، وكثيرًا ما ألحَّ على مصطفى باشا بواسطة جلال بك وفاوللي مصطفى بالخروج عن طاعتنا سرًّا، وطالما مَنَّاهُ بالمال والرجال، على أنه لم تخفَ عنا خافية، وكثيرًا ما دس إلى عبد الله باشا والي عكا المخلص في طاعتنا فوقعت بينهما الحرب. وجاء إبراهيم بن محمد علي في عسكر جرار إلى يافا، ففتحها والي طرابلس ودمشق فاستولى عليهما والي عكا فحاصرها فلم نعجل بمؤاخذته. وقد حم القضاء فلم يبقَ من باعث على التهاون والإغفاء، ومع ذلك نعفو عمن يأتي إلى بابنا؛ سواء كان هو وولده أو أرباب المناصب والعساكر.
وقد أصدرنا فرماننا هذا بتوجيه ولاية مصر وكريد وبلاد الحبشة وما يتبعهما إليك، ورسمنا منا بنزعها من أيدي أولئك المارقين، فعليك أن تسير بالعسكر المنصور إلى حلب ثم تنحدر إلى ديار مصر، فتنزع تلك البلاد من أيديهم. واذكر شفقتي ولا تنسَ عفوي عمن يتوب ويرجع إلى طاعة الله ورسوله وطاعة خليفته.
وكتب قنصل النمسا إلى دولته «أنه باتت أمام محمد علي بعد فتح عكا خطتان؛ الأولى: أن يستولي على سوريا كلها؛ أي ولايات عكا ودمشق وطرابلس وحلب، وأن يقف في حلب باعتبارها آخر حدود سوريا. والثانية: التقدم في الأناضول بإثارة ولاتها وإيصال الاضطراب والقلق إلى الآستانة. والثانية واسعة النطاق شديدة الخطر؛ لأنها قد تفضي بتدخل الدول، وهذا ما يخشاه؛ ولذلك يفضِّل الخطة الأولى.»
وإلى الثانية كان يميل إبراهيم، ولم يختلف الأب والابن على الغرض والغاية ولكنهما اختلفا على الوسيلة. ومما قاله هذا القنصل: «إن مذكرة واحدة أو إنذارًا واحدًا من إنكلترا تعيد محمد علي أدراجه.»
إنه بالنظر إلى استحسان ولدنا سر عسكر باشا صَدَر أمرنا إلى قوله لي محمد شريف باشا الكتخدا حكمدارًا مستقلًّا لإيالة عربستان الشاسعة الملحقة بالحكومة المصرية، وموافقة ما رآه ابننا المشار إليه، نرى حضوره إليه على وجه السرعة بمفرده لتوجيهه للجهة المذكورة بحرًا، ثم إرسال أمتعته برًّا.
وورد على محمد علي من أنحاء سوريا أن الأهالي ينضمون إلى جيش إبراهيم ويقدمون طاعتهم لحكومة مصر ليخلصوا من حكومة الباب العالي الجائرة المخربة إلى حكومة مصلحة معمرة، وأن عرب السردية وعنزة عرضوا تقديم جِمالهم للحملة، وأهالي دمشق ينتظرون دخول إبراهيم مدينتهم، وأهالي حلب ينتظرون وصوله بفارغ الصبر.
•••
أما جيش محمد علي في سوريا فقد قُسم إلى ثلاثة أقسام، كل واحدٍ منها كان مؤلفًا من ١٣ إلى ١٤ ألف مقاتل؛ فالأول في طرابلس تحت إمرة الأمير خليل ابن الأمير بشير ومصطفى بربر عامل الأمير بشير على تلك المدينة، والثاني تحت إمرة عباس باشا في زحلة وبعلبك ومعه سليمان باشا الفرنساوي والأمير أمين ابن الأمير بشير، والثالث جيش عكا مع إبراهيم باشا.
وقد رأى الباب العالي أن يستعين بالدعوة الدينية، فاستدعى من بورصة إلى الآستانة أحد الأشراف المنفيين، وقابله مقابلة فخمة، وعيَّنه أميرًا لمكة بدلًا من أميرها المخلص لمحمد علي. ووَكَل الباب العالي إلى سفينتين نمساويتين الوقوف على أخبار الأسطول المصري، فلما وصلت إحدى السفينتين إلى الإسكندرية قال محمد علي لرُبانها إنه مستعد لإبلاغهم جميع الأخبار حتى يدرك الباب العالي أنه لا أمل له بالفوز.
وأرسل الباب العالي — بعد أن أصدر المجلس التشريعي فتواه — إلى الدول بألا تسمح لرعاياها بالاتصال بالمواني المصرية، فأرسل وزير خارجية فرنسا ردَّه بأن هذا الذي يطلبه الباب العالي مخالفٌ للقوانين البحرية، وذلك ما أخذت به الدول. ومضمون تلك القوانين هو: «أن حصار الشواطئ والسواحل يجب أن يكون تامًّا، وأن يحذر المركب في حالة الحصار التام من دخول الميناء، فإذا خالف حق عليه العقاب.» وأما أن تقطع الدول اتصالها بالمواني المصرية بمجرد التنبيه، فذلك ما لا يقول به أحد ولا تقبله الدول.
وكان الأسطول المصري قد ضبط مركبين روسيين ومركبين نمساويين تحمل المؤن والذخائر للأتراك في سواحل سوريا، فاحتجَّت هاتان الدولتان، وانتهى الأمر بالاتفاق على أن تصادر الحكومة المصرية المؤن والزخائر وأن تدفع أجرة المراكب فقط، وهكذا قطع الأسطول المصري المدد بحرًا عن الجيش التركي في سوريا.
أما إبراهيم باشا، فإنه بعد دخول عكا أمَرَ بترميم جدرانها وأسوارها وقلاعها، ونصب المدافع فيها لأنه عزم على جعلها مركزًا لجيشه في بلاد الشام.
وكان علماء الأزهر قد وضعوا ردًّا شرعيًّا محكمًا على فتوى المجلس التشريعي في الآستانة، فأذيع ردهم في جميع الأقطار.
ولما حدَّث القناصل محمد علي في ذلك أجاب أن علماء الأزهر أحفظ للدين وأعرف بأحكام القرآن الكريم من جميع علماء الإسلام، فأنا لم أطلب منهم شيئًا، ولكن ما فعلوه إنما هم فعلوه دفاعًا عن حرمة الدين من أن تُنتهك. أما الرد من جانبي فيحمله ابني إبراهيم إلى قواد السلطان.
وعند شروق الشمس وصل الأمير بشير ومعه نحو ٥٠٠٠ من الفرسان والمشاة، وتقابَل مع أفندينا، وذهب مع رجاله إلى المدينة من طريق وذهب أفندينا إليها من طريق آخر. وبينما هو في الطريق حضر كبارهم لاستقباله، وفي الساعة الرابعة أعد لكل فريق من جيشه المنصور مكانًا خاصًّا به في المدينة، ونَظَم شهاب الدين هذين البيتين في تاريخ فتح دمشق:
ولما كان بعض الدروز والمتاولة قد نهضوا لارتكاب الشغب في لبنان والبقاع وحوران بتحريض القواد الترك، أمَرَ إبراهيم باشا بنزع سلاحهم وبتوزيع ١٣ ألف بندقية على اللبنانيين لمطاردة المشاغبين.
صدر أمر السر عسكر إبراهيم باشا في ١٥ صفر إلى الأشخاص المذكورة أسماؤهم فيما بعد، وهم من أشهَر عائلات دمشق الشام وأكابرها وأعيانها وشيوخها؛ ليكونوا أعضاء المجلس المخصوص، وهم: محمد حافظ بك العظم، وسليم أفندي كيلاني، ومحمد أفندي عجلان، ومحمد نسيب أفندي حمزة، وعلي أغا كاتب الترجمان، وصالح أغا المهايتي، وعلي أغا كاتب الخزانة، وعبد القادر أغا كيلاهلي، وأحمد أفندي البكري، وأحمد أفندي المالكي، ومحمد راغب أفندي حسني، وأحمد أفندي أنسي، وإبراهيم بك المسودن، والحاج نعمان أغا باشجي، والشيخ سعيد، والحاج إبراهيم بستولي من التجار، وصباحي أغا الحكيم، ومحمد أغا الكبير، ومحيي الدين أغا خير، وعبد القادر أغا خطاب من أغوات الاختيارية، والخواجه روفائيل الصراف، والخواجة ميخائيل كحيل، وجميعهم ٢٢ ذاتًا.
فليكن معلومًا أنه عملًا بالحديث القائل: كل راع مسئول عن رعيته. وجب علينا النظر في أمور الرعية وأحوالها بما فيه الراحة والرفاهية من كل الوجوه، الأمر الذي لا يحصل إلا بنشر بساط العدل والإحسان عليهم وفصل الأحكام فيها بالحق. قد استحسنا تشكيل مجلس مخصوص من خواص العقلاء وأصحاب الرأي من الأعيان والأكابر والتجار للنظر في القضايا والمشورة فيها؛ ولذلك قد اخترناكم من عموم أهل دمشق الشام، وأذنَّاكم بسماع الدعاوى وبتحويل الشرعية منها على الشرع الشريف.
أما ما يتعلق بسياسة الأمور الأخرى، فيكون الفصل برأيكم وبعد التشاور وتداول الآراء بين أرباب المجلس جهرًا، واتفاق الآراء يحكم بما تتفق عليه الآراء، وبعد الحكم يُقدَّم تقرير بذلك إلى مجلسنا للتنفيذ، ويكون ذلك بلا ميل ولا غرض في النفس ولا شهوة خاطر، ولا انحراف إلى كبير أو صديق أو وجيه. وكل من أخفى رأيه لعلة أو لعدم نَقْد كلام مَن هو أعظم منه مِن أرباب المجلس، فيكون قد خالف أمرَنا وأوقع نفسه تحت طائلة الملامة.
صدر أمرنا هذا ليكون حجة عليكم، فاغتنموا ثواب الرعية وجزاء الخدمة الدينية الجليلة، والحذار الحذار من الخلاف.
وبعد احتلال دمشق أسرع إبراهيم باشا بجيوشه لمقابلة قوات الباشوات الترك في حمص.