الفصل الرابع
-
آخر معركة في الأراضي السورية وارتداد الترك إلى الأناضول.
***
دخل إبراهيم باشا مدينة حلب في ١٥ يوليو، ونظم فيها الحامية، واحتل القلعة، وأرسل طلائع جيشه إلى جهة الفرات ليقف على أحوال العراق وأعالي الأناضول، حتى يكون آمنًا من تلك الجهات على مؤخرة جيشه. وكان قد عيَّن متسلمًا لحمص وآخر لحماه من أعيان دمشق، وأعاد الأمير بشيرًا إلى لبنان، ولم يبقَ أمامه لإتمام فتح سوريا سوى القضاء على جيش السر عسكر حسين باشا الذي قلنا إن السلطان محمودًا أصدر أمرًا بتعيينه واليًا على مصر وكريد وبلاد الحبشة وملحقاتها، والرجل كان واليًا على أدرنه، وكان مشهورًا بقوته البدنية، فما وصل هذا السر عسكر إلى أنطاكية حتى كان إبراهيم باشا قد قضى على جيش الباشاوات الثمانية في حمص، فلم يمكن السر عسكر من الانضمام إلى جيش الباشاوات. والتقى السر عسكر بفلول الجيش المكسور في جسر الشغور، ولم يساعده أعيان حلب على دخول تلك المدينة، فاتجه إلى بيلان.
وبيلان وادٍ بين جبلين عاليين، يطلقون عليه اسم البوغاز، وفيه تمرُّ القوافل بين حلب والإسكندرونة، وهو مشهور في التاريخ بمناعته، وقد كان ممرَّ جميع الجيوش المقبلة من الغرب إلى الشرق، فأخذ حسين باشا يُحصنه بمدافعه وجنوده. وقد قالوا إن سلاحَ جيشه كان ١٦٠ مدفعًا، وعددَ ذلك الجيش ستون ألفًا؛ منهم ٤٥ ألف جندي نظامي، فأسرع إبراهيم لمقاتلته قبل أن يسترد جيش السر عسكر قوته وقبل أن يستريح ويُتمَّ معاقله في جنبات ذلك الوادي.
وإذا كانت للقيادة أهميتها، والقائد من الجيش كالرأس من الجسم، فاسمع كلمة كلوت بك في حسين باشا سر عسكر جيش السلطان محمود، قال: «ألبس السلطان محمود قائده العام كسوة القيادة العليا، وهي المعطف القصير ذو البنيقة المزركشة بأسلاك الذهب، وأهدى إليه سيفًا مرصَّعًا بالألماس وجَوادَيْن عربيين مُطهمين، وقلَّده رتبة المُشيرية. فمن هو هذا القائد العام الذي فاز بمثل هذه الزلفى من الحضرة السلطانية واقترن نجمُه بالسعد إلى هذا الحد؟
هو مبيد الانكشارية، كان في أول عهده حمَّالًا، ثم جاسوسًا، ثم رئيس قلعة، ثم مهيجًا، ثم جلادًا ثم باشا الباشاوات. كان سيفًا ماضيًا فيما مضى، ولكنه الآن سيف لا يخرج من قرابه، وكان الفريق محمد باشا معتوق حسين باشا قائد الطليعة.»
•••
القشرة الثامنة لجيش سوريا
في ٢ ربيع الأول/٢٩ يوليو في نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل، زحفت قوتُنا من جسر مراد باشا، وفي الساعة الثامنة قبل الظهر وصلتْ إلى المضيق المسمَّى بوغاز بيلان، وفي الساعة الخامسة أُنبئنا أن المشير حسين باشا ومحمد باشا — الذي كان واليًا على حلب — وآخرين سواهم قد عسكروا وراء المضيق مع بقية جيوشهم النظامية والمتطوعة، وأنهم نصبوا المدافع على الروابي والآكام، وأنهم نصبوا بعض البطاريات على القنن العالية.
ولما ثبتت للقائد العام إبراهيم باشا صحةُ هذه الأخبار، أمَرَ اللواء حسن بك أن يتقدم بالآلاي الثالث عشر من المشاة، والآلاي الثامن من الفرسان، مع خمسة مدافع في الطريق الواقع على الميمنة، وسار القائد العام على المسيرة ومعه الآلاي ١٨ والفرقة ٨ البيادة وآلاي الحرس و١٢ مدفعًا.
أما الآلايات الأخرى من الفرسان فأوقفت في الجهات الأخرى من المضيق. ولما رأى العدو تقدُّم قواتنا أخَذَ يُطلق مدافعه من الآكام المشرفة على طريقي الجيش، ولكن مدافعنا صبت عليهم النارَ الحامية، فأسكتت بعد ساعة مدافعهم، إلا مدفعًا واحدًا ظل يُطلق نيرانه. وبينما كانت مدافعنا تصب نارها على ميسرة العدو، صدر الأمر إلى الآلاي الثامن بالتقدم. ولم يمضِ إلا القليل حتى وصل هؤلاء الأبطال إلى الأعالي التي تُشرف على مواقف العدو في الميسرة، ومن هناك ضربوه بشدة عظيمة، حتى اضطر إلى الفرار تاركًا مدافعه ومهماته وذخائره، فارًّا عندما أذنت الشمس بالمغيب مُتجهًا نحو أدنه.
أما عسكرنا، فإنه صرف ليلته في محل المعركة. وفي اليوم التالي؛ أي ٣٠ يوليو، وُجِّهت فرساننا منذ الفجر لاقتفاء أثر العدو، وذهب باقي الجيش إلى بيلان، وهناك التحق عارف بك أميرالاي الفرقة العاشرة من جيش العدو بجيشنا، فعيَّنه القائد العام أميرالايًا للآلاي العشرين من المشاة.
ومما يقوله عارف بك أن فرقته كانت مؤلفة عند قيامه من قونيه من ٢٢٦٨ رجلًا، فصار عددها من جرَّاء المرض والفرار والموت في صباح أمس ١٨٨٨ رجلًا.
وبعد فرار عليش باشا من اللاذقية جاء ٦٠ فارسًا و٦٠٠ رجل من الإسكندرونة مستسلمين للقائد العام، فترك لهم حرية البقاء أو العودة إلى بلادهم، وأمر بأن يُعطوا حاجتهم في السفر. والذي رواه هؤلاء أن عليش باشا أرسل حريمه إلى قبرص وركب باخرة إلى الإسكندرونة لينضم إلى إبراهيم باشا ومعه ستة مدافع.
أما فرساننا، فإنهم ظلوا يعملون بسيوفهم في مؤخرة الباشاوات حتى أدنه، وعادوا ومعهم ١٩٠٠ أسير.
وفي أول أغسطس قدَّم أهل أنطاكية خضوعهم وطاعتهم، فعُين خليل بك متسلمًا لإقليم بيلان، أما باشا حلب فإنه مرَّ بعينتاب تاركًا مهماته التي غنمناها، وقد بلغنا أنه الآن بملاطيه ومعه بضعة أنفار.
وخسارة العدو في بيلان ٣٩ مدفعًا غنمناها.
وفي ٢ أغسطس تلقى القائد العام من أيوب بك من قبيلة مللي كتاب الخضوع، فأثبته القائد العام في وظيفته في أورفة.
افتخار الأماجد الكرام، ذوي الاحترام، الحاج أحمد بك. غب السلام التام بمزيد العز والإكرام نبدي إليكم: إنه نهار الأحد الواقع في ١٢ ربيع أول سنة ١٢٤٨ قد لاقت حلول ركابنا بالعساكر المنصورة إلى مرحلة خان قراموط لأجل ضرب عساكر المحتشدين في بوغاز بيلان.
وفي الساعة الستة باليوم المذكور قد تحرك ركابنا من مرحلة الخان المذكور بالعساكر المنصورة وآلة الحرب المهولة، حيث إن البوغاز المرقوم المتحصنين فيه بالقرب من المنزلة التي تحول ركابنا بها.
وفي الساعة التاسعة قد كانت المصادمة في عساكر الدشمان وابتداء ضرب الأطواب عليهم.
وبخصوص تحصينهم بعمل الطوابي وعسر الطرقات هذا جميعه ما أفادهم شيءٌ سوى أنه في مسافة ساعتين زمان الذي تبقى منهم بعد الذين قتلوا وانمسكوا باليد ما بين مجروح وقتيل، قد فروا هاربين وللنجاة طالبين مهزومين إلى ناحية أدنه عن طريق إسكندرونة، وتركوا أطوابهم وموجوداتهم، فعند ذلك حالًا صدر أمرنا بتوجيه خيَّالة العساكر المنصورة الجهادية والعرب لأجل اتباع أثرهم ومسكهم جميعًا، بحيث إنه لا ينفذ منهم أحد. وبحوله تعالى لا بد من حصول المراد وتدمير الجميع، فبناء على ذلك أصدرنا إليكم مرسومنا هذا لكي بوصوله تعلنوا البشائر إلى جميع المقاطعات، لكي يكونوا جميعًا حائزين على السرور والفرح على النصرة العظيمة والمنة الجسيمة؛ ليكونوا دائمًا مداومين بالدعوات الخيرية بدوام بقاء هذه الدولة السعيدة بوجود دولة أفندينا ولي النعم والدنا عزيز مصر المعظم.
فبناء على ذلك أصدرنا لكم مرسومنا هذا؛ اعلموه واعتمدوه غاية الاعتماد.
يا صاحب السعادة
أمام أقدامكم نُقدم خضوعنا، والفرح الذي دخل على قلوبنا بوجودكم لَهو فرح عظيم يُنسينا جميع الآلام التي أصابت مدينتنا مدة وجود جنود الأعداء فيها، فهؤلاء الجنود لم يبقوا على شيء. فمنازلنا وأموالنا ومواشينا وغِلالنا نُهبت، ولجأنا إلى الجبال وقايةً لحياتنا، ومن هذه الجبال رفعنا الدعوات لنصر جيوشكم ولنجاح مقاصدكم في إنقاذ بلادنا.
فاسمحوا لنا أن نتقدم إليكم بأشخاصنا لنكرر لكم تأكيد عواطف محبتنا، وعرفان الجميل الذي نضمره لكم من زمن بعيد.
يا صاحب السعادة
منذ عشرين سنة ونحن نود الانخراط في سلك خدمة عزيز مصر، ولم نَتوانَ عن رفع الدعوات لنجاح بيتكم الكريم، حتى أسعدنا الحظ بأن وصل إلينا خبرُ وصولكم إلى هذه البلاد التعسة وتخليصها من أيدي غاصبها.
ولقد فعلنا كل ما كان بإمكاننا فعلُه لتنفيذ الأوامر التي شرفتمونا بها، وإذا كنا قد عجزنا عن المجيء قبل الآن لنقدم لسعادتكم الخضوع الواجب، فلأنه قبض علينا الظالمون، ووضعونا تحت أنظارهم؛ لذلك أخرنا إلى اليوم هذا العمل المفرح الذي كنا بانتظاره. ا.ﻫ.