الفصل السادس
-
آخر المعارك في أرض سوريا.
-
الزحف على قونيه وفتحها.
-
على أبواب إستامبول.
-
تحرك السياسة الأوروبية.
-
تدخل أوروبا وفرضها الصلح.
-
اتفاق كوتاهيه.
***
كانت معركةُ مضيق بيلان بين حلب وأنطاكية في ٢٩ يوليو أشدَّ المعارك وآخرَها في أرض سوريا. وبعد انتهائها سلَّمت أنطاكية والإسكندرونة، ووصلت حامية اللاذقية فسلمت، وقد تركها قائدها عليش باشا لاجئًا إلى إحدى الجزر بأمواله. وقد عرفنا أن إبراهيم باشا غنم في ما غنم في الإسكندرونة حمولة ١٧ مركبًا كانت ترافق الأسطول العثماني بقيادة قبطان باشا وتحمل المؤن والذخائر إلى جيش السر عسكر حسين باشا.
على أن عباس باشا ظل يطارد العساكر التركية المنهزمة ومعه الفرسان العرب، فلما وصل إلى بياس انتصر على حاميتها وأسرَ منها ١٩٠٠ رجل.
ثم تقدم جيش إبراهيم باشا نحو أدنه؛ لأنها كانت مرمى أنظار محمد علي لشدة حاجته إلى الخشب لبناء المراكب، فاحتل إبراهيم باشا طرسوس، ودخل أدنه ذاتها في ٣١ يوليو ١٨٣٢، وهناك تلقى إبراهيم الأمر من والده بالوقوف؛ لأنه بلغ الغاية التي كان يرمي إليها من الزحف؛ أي الوصول إلى آخر حدود البلاد العربية وأول بلاد الأناضول؛ أي جبال طوروس.
ثم ظل إبراهيم من ٣٠ يوليو إلى ٢١ ديسمبر في موقف الدفاع؛ لأن محمد علي — كما قلنا — كان يريد جس نبض الدول؛ ليعرف هل بإمكانه الاعتماد عليها لتنيله سوريا، ويظل تابعًا للسلطان على نحو ما كان قد اقترح على فرنسا وإنكلترا بعد دخول جيشه مدينة حلب، وكما كان قد كتب إلى قائد الأسطول التركي ولم يتلقَّ جوابًا.
أما السر عسكر حسين باشا الذي كان موضع ثقة مولاه السلطان، فأغدق عليه إنعاماته، وجعله قائدًا عامًّا لجيشه ولقَّبه بالمشير الأكرم، وولاه مصر وكريد وبلاد الحبشة؛ فقد كان عند نشوب معركة بيلان واثقًا بالنصر جالسًا جلسة الملوك في خيمته يتلقى مظاهر الإجلال والإكرام، ولكنه لم تمضِ ساعتان على نشوب القتال حتى بات طريدًا شريدًا بين المضايق والآكام، فلم يَقِفوا له على أثر، ولا سُمِعَ عنه أي خبر، ولكنه شاع عنه الكثير مما لم يثبت منه شيء، فقال فريق إنه استأجر مركبًا يونانيًّا ففرَّ بأمواله وأموال الجيش إلى إحدى الجزر، وقيل إنه لجأ إلى قرية صغيرة في بورصة، وقال آخرون إن رجاله فَتَكوا به وأخفَوْا أثره.
والظاهر أن الباب العالي صدَّق الرواية الأولى، فكلَّف إحدى السفن الإنكليزية أن تبحث عنه في الجزر وتستعيد منه الأموال، ولكنه ظهر في النهاية أن الرجل أُصيب بالرمد الصديدي وفَقَدَ نظرَه في إحدى مزارع ولاية بورصة.
كانت عين محمد علي متجهة إلى إنكلترا وحدها؛ لمعرفته أن فرنسا تؤيده في أن يكون والي سوريا، وأن الروسية تُظهر العداوة له حتى اقترحت إرسال جيش روسي لقتاله، وأن النمسا تخدم سياسة الباب العالي.
أما إنكلترا، فإنها لزمت الصمت التام؛ لأن سياستين قويتين كانتا تشدان أطراف الخطة التي يجب عليها اتباعها؛ فالخطة الأولى هي أن تدع محمد علي يؤسس الدولة العربية الفتية القوية؛ لتكون حاجزًا في وجه التيار السلافي الذي قضى على الدول، بأن تصون تركيا من الضياع لِصَدِّ ذلك التيار، ولكن تركيا ظهرت يومئذ بمظهر الشيخوخة والعجز.
والخطة الثانية هي الاحتفاظ بتركيا وتقويتها؛ لتظل ذلك الحاجز، وهدم الإمبراطورية المصرية النابتة؛ لأنها إذا عاشت تمتلك آسيا وأفريقيا، وبذلك تقوم حاجزًا قويًّا على طريق الهند الذي كانت قد زحزحت عنه نابليون في سنة ١٧٩٨، وجاء محمد علي النابغة الأمي — كما يسمونه — ليتم خطة نابليون.
تانك هما الخطتان اللتان كانتا تقضيان على إنكلترا بالسكوت إلى أن تعرف الجهة التي تتجه إليها.
تقول لي في كتابك إنك تريد أن «تمسك المعدن وهو حامٍ»، وإنك تريد أن يُخطب باسمي في جميع المساجد والمعابد.
فاعلم يا ولدي أنَّا لم نصل إلى مركزنا الذي نشغله الآن إلا بقوة الوداعة وخفض الجانب، فإنه يكفيني أن أحمل اسم «محمد علي» خالصًا من كل رتبة وزينة، فهو أكبر لي من جميع ألقاب السلطنة والملك؛ لأن هذا الاسم وحده هو الذي خوَّلني الشرف الذي يجللني الآن، فكيف أستطيع يا ولدي أن أتركه إلى سواه؟! لا يا ولدي، إني أحفظ اسمي «محمد علي»، وأنت يا ابني تحفظ اسمك «إبراهيم»، وكفى، وعليك رحمة الله وبركاته.
ولمَّا عرفتْ فرنسا بخطة إبراهيم أبلغت المسيو ميمو قنصلها لدى محمد علي بأن يبلغه: أن الحملة الجديدة بعد نجاح الأولى نجاحًا باهرًا تُفضي إلى توزيع نطاق العمل الذي اختطته مصر لنفسها عند تجريد حملة سوريا، وتكون نتيجة ذلك جعل مصير تركيا في كِفة الأقدار، وهذا ما لا يخلو من الخطر عليك.
وأبلغت الباب العالي في الوقت ذاته أن إصراره على القتال لا يوصله إلى نتيجة؛ لضعف قوته دون قوة محمد علي التي تتزايد بحرًا وبرًّا.
هذا البلاغ أبلغته فرنسا لمحمد علي، ولكن عين إبراهيم كانت على الترك بعد احتلاله أطنه ومعابر جبال طوروس؛ لأنهم أخذوا بتحصين «تشفت خان، وأولو قشلاق»، ويبدون النشاط في كل جهة؛ حتى إن الباب العالي رفض وساطة فرنسا بحجة أنه لا يستطيع المصالحة مع والٍ اعتبره بالأمس ثائرًا وعاصيًا، وأصدر فتوى بكفره.
ذلك كان الرد الرسمي، مع أنه أرسل إلى محمد علي أكثر من مرة يُمنِّيه بالصلح والرضا ويطلب منه الحضور للآستانة، فيلمَحُ محمد علي في ذلك الخديعة ونَصْب الشِّراك.
فقد ذهبتْ إلى الآستانة زهرة هانم أرملة الأمير إسماعيل، ثالث أولاد محمد علي، لزيارة والدها عارف أفندي قاضي عسكر الأناضول، فقالوا إنها رسول محمد علي للتقرب من السلطان ورجال الدولة بواسطة والدها. وقد توصلت الأميرة إلى معرفة الحقيقة؛ وهي أن السلطان لا يريد الصلح، وأنه لا يستمع نصيحة أحد فيه لاعتماده على روسيا وإنكلترا مع كل أعماله في هذا السبيل، يريد منها المماطلة والتسويف ليؤلف قوته الجديدة. وأرسل محمد علي السفينة الحربية «النيل» لتعود عليها إلى مصر، فأتحفها السلطان بالهدايا النفيسة، وتبرع بالمال لرجال السفينة، وأرسل معها أحمد فوزي باشا أحد أميرالاية البحر، فلما وصلت السفينة إلى الإسكندرية تغافل محمد علي عن وصول فوزي باشا، ولكنه أمر كاتم سره حبيب أفندي بإكرامه. وظل فوزي باشا في الإسكندرية إلى أن تلقى أمرًا من السلطان بالسفر إلى القاهرة ومكالمة محمد علي بالصلح. وجمع السلطان ديوانه وأبلغهم ذلك، فكان جواب أحدهم برتو باشا أن ذهاب فوزي باشا إلى مصر لمقابلة محمد علي كذهاب الحمل إلى الذئب الكبير المعمر في وكره ليعوده ويتمنى له الصحة، فهل تكون للحَمَل من أمنية إلا السلامة من مخالبه؟
ثم اتفقت كلمتهم على إرسال صارم أفندي، فلما استدعى فوزي باشا إلى الآستانة أرسل إلى محمد علي يقول: «إياك وخفض الجناح لمن يُرسَل إليك، واحفظ عليك نفسك.»
ووصل صارم أفندي بحاشية كبيرة، فأكرم محمد علي وفادَتَه. وكان يتردد على محمد علي ليقنعه أولًا بالذهاب إلى الآستانة، ثم عرض عليه ولاية عكا وطرابلس، فأجابه محمد علي أنه يطلب بقاء ما فتحه من بلاد الشام في ولايته وولاية ذريته على أن يدفع الإتاوة لجلالة السلطان.
ولما عاد صارم أفندي إلى الآستانة تلقى محمد علي أن السلطان يوليه مصر وعكا وطرابلس، ويولي إبراهيم ولاية الحرمين الشريفين، فأدرك محمد علي أن المراد التفريق بينه وبين ابنه كما أرادوا يوم أنعم السلطان على إبراهيم برتبة فوق رتبة والده مثل هذا التفريق. ولكن الخدعتين لم تجوزا على محمد علي ولا على إبراهيم، وكان جواب محمد علي أنه ينتظر مندوبًا من لدن السلطان ليرسل لمناقشة سامي بك وبوغوص يوسف سكرتيره، فلم يتلقَّ جوابًا.
•••
لما احتل إبراهيم باشا أدنه، أبقى معه من جيشه فيها ١٢ ألفًا من المشاة والفرسان، وأرسل قواته لضبط معابر جبال طوروس. وما كان وقوفه في أدنه إلا إطاعة لأمر والده الذي أراد أن ينهي الخصام والقتال مع السلطان، على أن تكون سوريا في ولايته، وعلى أن تكون الولاية متوارثة في بيته مقابل إتاوة يدفعها في كل سنة لتركيا.
على أن إبراهيم لم يُضِع الوقت سدى؛ فقد انصرف إلى إصلاح أمور جيشه وتعزيز ذلك الجيش، وكتب المسيو ميمو قنصل فرنسا في الإسكندرية إلى حكومته في ٢٤ سبتمبر يقول: «إن الأسباب التي دعت إبراهيم إلى الوقوف في أدنه وإلى عدم متابعة نجاحه هو انتظار الجواب من والده على بعض المسائل، وأن والده ينتظر الجواب على مساعيه لإنهاء القتال. ولكن هذا القائد الذي لا مثيل لنشاطه وحزمه يستخدم مدة إقامته في ذلك الإقليم لاستخراج خيرات غاباته الكثيفة؛ لأن في أحراج أدنه من الأخشاب الصالحة لبناء المراكب ما لا يوجد في سواها، ودار الصناعة في الإسكندرية بحاجة شديدة إلى ذلك. وقد أرسل عدد كبير من عمال دار الصناعة لاختيار الأخشاب الصالحة، وجمع إبراهيم سكان ذلك الإقليم لقطع الأشجار التي يرى عمال دار الصناعة قطعها، ولفتح الطرقات في أنحاء ذلك الإقليم ونقل الخشب، وينتظر أن تصل إلى الإسكندرية بين ساعة وأخرى مشحونات كبيرة.
وأما تعزيز الجيش، فهو موضوع اهتمامه، فإذا استؤنف القتال كان جيشه ١٢٠ ألفًا، حتى قال لي محمد علي منذ بضعة أيام إنه ينوي أن يجعل جيشه ٢٥ آلايًا من المشاه بدلًا من ٢٠ آلايًا، و١٥ آلايًا من الفرسان بدلًا من عشرة، ولا يدخل في هذا الحساب فرسان العرب المصريين ولا رجال البدو السوريين، وقد أدمج إبراهيم في جيشه من الأسرى الترك أربعة آلاف أسير.»
ظل محمد علي ينتظر رد الباب العالي على كتابه الذي كلَّف قبطان باشا بإيصاله، فوصل هذا الرد في ٢٤ سبتمبر بإمضاء خسرو باشا إلى قبطان باشا عدو محمد علي؛ لأنه أسقطه من ولاية مصر. ولم يحمل هذا الرد أحد ضباط الأسطول التركي، بل باخرة مالطية. وهذا الرد من خسرو باشا إلى قبطان باشا يُفهم منه أن الباب العالي يرضى ضم الشام إلى ولاية مصر على الشروط التي عرضها محمد علي، ولكنه يود أن يعرف الضمانات التي يقدمها محمد علي على حسن نيته وعلى تنفيذ عهوده. فرد محمد علي أن وعده أكبر ضمانة وأن كلمته كافية، وكرر قوله إنه يود وضع حدٍّ للقتال وسفك الدماء، وإنه لَيأسف كل الأسف أن يُكرهه الباب العالي على أن يذهب إلى ما وراء الحد الذي وضعه نصب عينيه.
وفي أثناء وقوف القتال الذي كان شبه «هدنة»، كانت الصحف التركية التي تُنشر بلغات أوروبية تُذيع أسوأ الأنباء عن جيش إبراهيم وعن حكومة مصر، فكانت أقوال هذه الصحف تترجَم لمحمد علي فيَرُد عليها بالتركية، ولكنه رأى ذلك غير كافٍ، فأتى ببعض المحررين الفرنساويين من باريس وأنشأ لهم جريدة بالفرنساوية للقيام بهذه المهمة.
وبعد وصول كتاب خسرو باشا استدعى محمد علي قنصل فرنسا وقال له: «نحن لم نتجاوز أدنه عملًا بنصيحتكم، ونحن نبقى فيها إلى أن نعرف رد الباب العالي، إلا إذا حكمتْ علينا الظروف، وللظروف أحيانًا أحكام لا تُرد، فنحن نريد السلام، فإذا أرادوا الحرب فإني أُنهيها كما عرفتُ أن أبتديها.»
أما إستامبول، فإنها كانت تماطل وتسوِّف حتى يحل فصل الشتاء وتستطيع تأليف جيش كبير جديد. ولكن إبراهيم كان ينتفض لفروغ صبره، فأرسل إلى والده يقول له: «إنه ليس هناك لقطع الأخشاب ورءوف باشا يجمع الآن بقايا الجيش التركي في قونيه!» فاستأذنه بأن يزحف على قونيه ببعض الآلايات ليفرق بقية ذلك الجيش، وحدَّث محمد علي القناصل بذلك وقال لهم: «أما الآن فإنه لا يفعل أكثر من ذلك، وهذا الجيش يعود بعد قضاء مهمته إلى أدنه، فإذا لم تقبل الوساطة، وإذا ظل الباب العالي على المطل والتسويف، فإنه لا توجد قوة تمنع ابني المتقد حمية من الوصول إلى أشقودرة، فإذا لم يستطع الوقوف هناك لقلة المؤن في بلاد خَرَّبَها الظلم والجور، فلا أستطيع أنا أن أقول ماذا تكون النتيجة.»
جاءني اليوم الأرمني كاساس أرتين مدير دار الضرب، وهي الدار التي توزع الأرباح الكبيرة على الباب العالي وعلى السراي، وهو رجل مقرب وذو يد في شئون الدولة، وله نفوذ كبير.
فقال لي إن السلطان قال له منذ بضعة أيام إن إبراهيم باشا يريد إبرام الصلح معه، ولكنه يشترط لإبرام الصلح قَطْعَ أربعة رءوس: رأس السر عسكر خسرو باشا، ورأس مصطفى باشا، ورأس المفتي الذي أصدر الفتوى ضد والده، ورأس كاساس أرتين لأنه منع تداول النقود التي ضُربت في مصر. وهو لا يَعجَب من ذلك لشدة إخلاصه للسلطان، ولكنه عندما سمع هذا الكلام من السلطان ذاته طار النوم من عيونه وأرسل إلى المسيو إليون صديقه وسبب نعمته يوسطه لديَّ لِأحوِّلَ نقمة محمد علي عنه. وإنه لا يهمه المال، فإذا أنا شئت إرسال رسول إلى محمد علي، فإنه يُحمله إليه الهدايا. فأظهرت له استغرابي من ذلك ولم أصدقه، فعاد إليه روعُه وشكرني.
وهذه صورة مما يجري هنا من ضروب الاختراع وطرق الجواسيس وإفساد الجو بين محمد علي والسلطان.
ولما كان الباب العالي يريد الاستناد إلى إحدى الدول لمقاومة محمد علي — وهو يخشى روسيا ويخشى إن هو حالفها أن يُلقي بنفسه في فم الأسد — عرض السلطان وعرض ريس أفندي — الصدر الأعظم — على سترافورد كاننج سفير إنكلترا في ١٢ أغسطس وهو مسافر إلى لندن، إبرامَ محالفة دفاعية بين إنكلترا والباب العالي، وغرض الباب العالي من هذه المحالفة المساعدة الأدبية والمادية ضد محمد علي. ووصل ماوروياني سفير تركيا في فينا إلى لندن في ٣ نوفمبر، فجدد هذا العرض وزاد عليه أن الباب العالي يتحمل جميع النفقات ويخول إنكلترا جميع الامتيازات التجارية التي تريدها، فأجابت إنكلترا أنها لا تستطيع الرد العاجل على هذه الاقتراحات. وفي ١٣ ديسمبر وصل إلى لندن نامق بك السكرتير الخاص لجلالة السلطان وهو يحمل مقترحات جلالته، فردت إنكلترا أنها لا تستطيع الاندفاع في عمل عسكري، وأنها تفضل الانتظار.
•••
بعد انتظار ثلاثة أشهر بلا عمل ولا حركة في ميدان القتال وبدون نتيجة من الوجهة السياسية، صمَّم محمد علي على ترك ولده إبراهيم يزحف على قونيه؛ لاعتقاده بأن فتح قونيه يفضي إلى الثورة على السلطان؛ لذلك أصدر أمره إلى إبراهيم بأن يعود من قونيه بعد دخولها، ولكن إبراهيم لم يكن في ذلك على رأي والده؛ فوالده كان يقول بترك الرأي العام يفعل فعله في الآستانة، وأما هو فكان يقول بقيادة الرأي العام إلى ما يريد.
يجب علينا — حسب أوامرك — أن نتقهقر إلى الوراء بعد الاستيلاء على قونيه، فالشائع أن الصدر الأعظم يزحف علينا بقوة كبيرة، فإذا نحن تقهقرنا عَزَوْا ذلك إلى الجُبن والخوف وعلى عجزنا عن مقابلته، وفوق هذا كله فإن الصدر الأعظم يغنم الفرصة للزحف على قونيه، وقد يتجاوزها للحاق بنا مذيعًا خبر تقهقرنا، ومن يدري ما يكون من وراء ذلك؛ فقد ينضم إليه الشعب، وقد تثور سوريا والأناضول علينا ويظل الغرض من تقهقرنا خفيًّا لا يُفهم. وبناء على ما تقدم لا ينبغي لنا أن ندع الفرصة تفوتنا، فنحن نذهب إلى قونيه ونُشتت العدو، وننتظر فيها وصول الصدر الأعظم لنقهره إذا أراد مهاجمتنا؛ لذلك أطلب منك يا والدي أن ترسل آلايين من المدد في الحال.
وسأطلب من خادم الفتوى فتواه في إعلان عزل السلطان.
فتلقى إبراهيم باشا من والده في ١٣ نوفمبر الأمر القاطع بألا يتجاوز قونيه؛ «لأن التقدم إلى ما وراء قونيه في الظروف الحاضرة لا تنظر إليه الدول بعين الرضا.» وفي ١٦ ردَّ محمد علي على كتاب إبراهيم باشا الذي كان قد أرسله إليه في ٣ نوفمبر، فأقرَّه على رأيه، ولكنه يُحرم عليه تجاوز قونيه لأنه لا يعرف — بوجه قاطع — رأي الدول. أما الفتوى بخلع السلطان، فقد قال محمد علي لإبراهيم إنها مناقضة لمصلحة مصر في الوقت الحاضر.
ثم سلَّم بعد ذلك باستصدار الفتوى على شرط أن تكون صادرة من بلاد السلطان لا من مصر، حتى يقال إن الشعب هو الذي أسقط سلطانه «ولا يعترض أحد علينا»، ولكن الحجة لم تُقنع إبراهيم باشا؛ «لأن الأمة لا تملك المقدرة على العمل، فالواجب أن نعمل نحن ثم نطلب ثقتها.»
في ١٤ أكتوبر بدأت طلائع إبراهيم بالاتجاه إلى قونيه، فتقدمت فرقة من جيشه النظامي إلى نمرود، وأخرى من العربان إلى «تشفت خان»، فانسحب الترك بلا قتال إلى أركلي. وفي ١٥ أكتوبر دخلت قوة إبراهيم أركلي وظلت فيها إلى ٢٠ نوفمبر ثم نهضت تريد قونيه، وقابلتها قوة أخرى من كرمانيا. وقبل الوصول إلى قونيه أخلاها التُّرك، فأرسل في أثرهم الفرسان، فغنموا الذخائر والمؤن وبعض المدافع. وبعد أن دخل قونيه أرسل قوة ومعها فرسان العرب، فأدركت القوة المصرية الجنود التركية في طريق آك شهر، فأخذوا بعض الأسرى وعادوا إلى قونيه التي أخذ إبراهيم في تحصينها.
وفي ١٨ ديسمبر ظهرت طلائع الجيش التركي غربي قونيه بقيادة رءوف باشا، فدار القتال بينه وبين إبراهيم باشا، ففرَّق جيش إبراهيم طلائع الترك، وغنم ثمانية مدافع، وأسر منهم ألفين. وتجدَّد القتال في اليوم التالي فأسر إبراهيم ٧٥٠ مقاتلًا ومعهم كريدلي محمد باشا أوغلو، وفي مساء ذلك اليوم تقدم ٥٠٠ أرناءوطي متطوعين في خدمة جيش إبراهيم، وبعد ذلك تلقى إبراهيم باشا الأخبار بأن رشيد باشا الصدر الأعظم قادم بجيش كبير لقتاله، فاتخذ الأهبة لملاقاته.
يا والدي
إنك تصدر إليَّ الأمر المطاع بناء على تقرير المستر بريجس وغَضَب القومندان الروسي بألا أعلن سقوط السلطان وبأن أقف دون تجاوز قونيه!
فيا والدي، إن السياسة السليمة هي قبل كل شيء درس الحالة كما هي، وتقدير نتائجها، ثم الإقدام بعد ذلك على العمل بكل حزم دون التفات إلى زيد أو عمرو.
فمنذ عشرين يومًا أبحتَ لي إعلان سقوط السلطان والآن تُحرِّمه عليَّ، فمَهْما كانت فائدة الرجوع وتغيير الرأي من جانبنا، لا يجوز لنا أن ننسى أن جيشًا قويًّا باسلًا مثل جيشنا لا يحتمل سياسة التردد وجس النبض، وهي السياسة التي لا تعرف الانتفاع من وراء الواقع على أن هذا الجيش لا يستطيع الوقوف دهرًا طويلًا مكتوف الأيدي. ونحن ذهبنا إلى قونيه اتباعًا لأوامرك، فكيف يكون باستطاعتنا العودة على أعقابنا، بينما الصدر الأعظم يزحف علينا بجيش قوي حسن النظام كثير المدافع.
فهل تظن يا والدي أو ترى أن مصلحتنا في الوقوف في قونيه أو في الارتداد عنها؟ وفي حالة انتصارنا على جيش الصدر الأعظم يكون قادرًا على الارتداد إلى الوراء، ثم لَمِّ شعث جيشه والارتداد إلينا إذا نحن لم نقتفِ آثاره بعد النصر! وهل يجوز أن يخطر بخاطرنا أن يكون الشعب الأناضولي في جانبنا وقد حكمه الترك ستة قرون إذا نحن ظهرنا بمظهر التردد؟ ألا يُعد تقهقرنا غلطة عسكرية فظيعة؟ لقد أمرتني قبل الآن بأن أقف في حلب، ثم سمحت لي بالتقدم إلى كولك بوغاز وإلى قونيه، فدعنا الآن يا والدي نهدم جيش العدو الأعظم. واعلم أن هذه البلاد وجوَّها لا تشبه أرض مصر ولا جوَّها، فهي ليست صالحة في كل وقت للأعمال العسكرية، وفوق هذا إن ما يقال في مصر لا يمكن تطبيقه على الحالة الفعلية هنا، فلا يجوز إذن الأخذ بتقارير المستر بريجس ولا بملاحظات قومندان سفينة.
ومهما يكن من الأمر، فإني أرى من مدعاة الأسف أن أضطر مرة أخرى للانتظار عشرين يومًا؛ أي إلى أن أتلقى كتابك وأوامرك إلخ …
إن سكوت الإنكليز هو من بعض الوجوه مفيد لمصر، ولكنهم على ما يظهر ليسوا مَيَّالين لتقدم ولدي إبراهيم نحو الآستانة في الظروف الحاضرة.
ومهما يكن من الأمر، فإني لا أود أن أعرف هل دخولنا إستامبول لا يتفق مع نظر الحكومة الإنكليزية؟
فإذا أرادت إنكلترا أن تقف في موقفنا الحاضر فإني قادر على أن أُكره النفس على ذلك.
تَعْلَم أن حسين باشا عَيَّنَ سردار أكرم لقيادة العسكر الشاهاني المرسَل إلى آسيا؛ لِيُؤَدِّب التأديب اللازم العاصي محمدَ علي، وأن ولايات مصر والحجاز وكريد والحبشة وجهت إليه. ولكن الأقدار لم تساعده، فتراءى لنا اتخاذ الوسائل الفعالة. وأمَلي بالله أن تُوفق في هذه المهمة طبقًا لإرادتنا الشاهانية كما وُفقت في ألبانيا والبوسنة.
ومنذ برهة من الزمن لم يكن بالاستطاعة الاهتمام بشئون الرعية والأهالي، ويهمني من صميم الفؤاد راحة رعاياي سكان سوريا، وأمنيتي أن جميع الأعمال تُقضى على سنن الشريعة المطهرة. وإذا أراد الله بعدما تُعيدون السكينة إلى سوريا، ترفعون إلى عتبتي أسماء الولاة والحكام الذين أحسنوا، وقد اخترتموهم لإدارة تلك البلاد، والآن أعهد بها إلى كفائتهم.
وبما أنه لم يبقَ لحسين باشا من عمل في المعسكر، ففي استطاعتكم أن تكتبوا إليه ليعود إلى إستامبول، أعانكم الله بجاه النبي المصطفى.
وبعد هذا الخط سَلَّمه السلطان خطًّا آخر بولاية مصر والحجاز وكريد والصعيد وحلب وعكا والقدس، وخطًّا شريفًا ثالثًا بالقيادة، وذهب السلطان إلى المعسكر باسكودار ووجه الكلام على مسمع من الجيش إلى رشيد باشا قائلًا: «أنقذ الدولة؛ فإن شكري لك ولعساكرك إذا أنت فعلتَ لا يكون له حدٌّ.»
ثم أصدر السلطان أمْرَهُ باستدعاء الضباط الأوروبيين من الجيش عندما بلغه خبر تَذَمُّر الأرناءوط وسواهم من وجودهم فيه.
وقبل أن يلتقي الجيشان في ميدان القتال، كرر سفير فرنسا على الباب العالي كلمة الصلح على قاعدة إجابة مطالب محمد علي، وهي المطالب التي كان الباب العالي يَعِد بإجابتها، فأجاب الباب العالي أنه يعطيه الجواب بعد ثمانية أيام، ففَهِم السفير أن القصد من التسويف انتظار نتيجة المعركة. ولما حدَّث في ذلك «ريس أفندي» قال له إن المجلس موافق بالإجماع على اقتراحه، ولكن الكخيا برتو بك المقرَّب من السلطان هو الذي يحول دون الاتفاق.
وفي الوقت ذاته وصل إلى الآستانة الجنرال مورافيف الروسي، وأبلغ السلطان أن روسيا تضع أسطولها في البحر المتوسط تحت تصرفه لقتال محمد علي، وأنها مستعدة لإرسال جيش بري لقتاله.
إن المسلمين الذين عيَّنهم منذ عهد قريب خسرو باشا السر عسكر لحُكْم هذه الجهات، يرتكبون أشد المظالم ويحيط بهم رجال مُلْحدون مثلهم، فهم يُلَوِّثون الإسلام ويخالفون أوامر الله وأحكام الشريعة المطهرة. ولم يكن باستطاعتنا احتمال هذا المسلك طويلًا، فنَبَّهْنا إلى ذلك مُتَسَلِّمَنا فلم يُصغِ إلى كلامنا، وزاد مع العمى المحيطين به غلوًّا، وشكا إلى الباب العالي الرجال النزهاء المخلصين. ثم غادر مع أتباعه المدينة وأوقد الحرب على الأهالي، ولم يَدَعْ فظيعة لم يرتكبها ضد الأهالي من قتل ونهب وإحراق. ومثل هذا الجور لم يكن إلا لِيَزيد الإسلام حماسة في الصدور، فسار المؤمنون بقيادة الحاج مصطفى أغا وقاتلوا هؤلاء اللصوص، وقتلوا المُتَسَلِّم وأسَرُوا رجاله، وانسحب الباقون إلى ثماني ساعات من هنا، والأهالي من كل جهة يسيرون ضدهم وقد استَوْلَوْا على مدافعهم وذخائرهم وقتلوا كثيرين منهم، والباقون منهم خرجوا من الولاية منتظرين المدد من إستامبول. فنحن أهالي هذه الولاية عزمنا على أن نترك الحكومة التي لا تستطيع أن تُقدِّم لنا أقل ضمانة للأمن والراحة، ولا توفير الغبطة والسعادة التي ينعم بها الرعايا الذين أنقذتموهم، فنقدم لكم خضوعنا، ونلتمس أن نكون تحت حمايتكم، وأن تعيِّنوا لنا مُتسلِّمًا يكون الحاج مصطفى أغا المشهور بحبه للإنسانية وبنزاهته وبطول خبرته.
وأبلغ محمد علي هذه العريضة المرسلة إليه من أعيان قسطموني إلى القناصل، مبينًا لهم أن المسألة لم تبقَ مسألة السلطان محمود ومحمد علي، وأنه يرى — حقنًا للدماء وتفاديًا عن الخطر الأكبر — بَذْلَ وساطة الدول لإقناع الباب العالي بالتسليم بالأمر الواقع، وبَيَّنَ لهم أنه ليس هناك أقل أمل بنجاح رشيد باشا.
وكان محمد علي يسارع في الوقت ذاته لإرسال الأمداد إلى جيشه، فأرسل — بناء على طلب إبراهيم باشا — الميرالاي كاني بك على رأس فرقة من ست أورط مشاة، وأرسل اللواء محمد بك ناظر الجهادية على رأس فرقة أخرى، وعيَّن إبراهيم بك مدير المهمات ناظرًا للجهادية والمهمات. وكانت دار الصناعة قد أتمت بناء خمسة مراكب حربية، فأمر ببناء خمسة أخرى، وأرسل الخلع إلى أعيان الشام، وأرسل ٦٠٠ فارس من عرب الجوازي والفوائد و٣٠٠ من عربان أولاد علي، وعيَّن سليمان أغا قبجي ناظرًا لأعمال تحصين عكا، وعيَّن أحمد باشا يكن رئيسًا للقوة العسكرية بالحجاز لإسكان الفتن التي ظهرت هناك، واللواء إسماعيل بك محافظًا لمكة، وأرسل إلى ابنه إبراهيم نشانًا من الألماس كتب عليه «لك عون الله» تذكارًا لفتح قونيه.
ولما كانت الجنود المصرية قد تعبت من البرد، أمر محمد علي معامله بصنع الملابس الصوفية والأحذية وإرسالها بلا إبطاء لراحة الجيش في فصل الشتاء.
وهكذا وقف إبراهيم في قونيه ينتظر وصول رشيد باشا ويدرب قواته على القتال ويُمرنها على الطرقات وعلى الخطط التي وضعها مع أركان حربه.
لما وصل الخبر إلى إبراهيم باشا بأن رشيد باشا يزحف لمقاتلته بجيش كبير لجب، أرسل إلى الأمير بشير أمير لبنان بأن يوافيه إلى طرسوس، وأرسل مركبًا حربيًّا لركوبه، فلما وصل أبلغه أمْرَ رشيد باشا، وأنه بحاجة إلى جَمْعِ كل قواته من أطراف سوريا، فهو يَكِل إليه أمر تلك البلاد ويطلق يده في تعيين المتسلمين. فعاد الأمير بشير، وتولى الأمر بنفسه، وعيَّن المُتسلمين لصُور وصيدَا وبيروت وطرابلس واللاذقية من أبناء عمه الأمراء الشهابيين، وأبقى ابنه الأمير أمينًا لدى إبراهيم باشا ليكون صلة الاتصال بينهما، وقَبِل إبراهيم باشا المتطوعين من بلاد أدنه وكرمانيا، وعاد إلى قونيه، وأخذ يُمرِّن جيشه في سهول قونيه وجبالها ومعابرها على طرق القتال فيها وعلى تنفيذ الخطة التي وضعها.
ولما وصل رشيد باشا إلى أك شهر ونزل في قديم خان — وهي على مسيرة ٩ ساعات من قونيه — كتب إلى الباب العالي أن الجيش المجتمع لديه يبلغ عدده ستين ألفًا، وأنه عزم على مهاجمة إبراهيم، وأنه أرسل ٢٠ ألفًا بقيادة سليمان باشا من سيواس لِلَّفِّ حول ميسرة إبراهيم باشا من كرمانيا، وقال في تقريره إن جيش إبراهيم باشا لا يزيد على ٢٥ ألفًا، وإن طلائعه أوقعت الخسارة بمقدمات المصريين، ففرحت إستامبول لهذه الأخبار.
على أن إبراهيم باشا أرسل قوة بقيادة أبو دبوس باشا لاحتلال قيصرية والوقوف في وجه سليمان باشا.
أخي وعزيزي إبراهيم باشا
إني قد تَلَقَّيْتُ من مولانا السلطان الأمر بمهاجمة جيشك وطَرْده من البلاد التي يحتلها الآن، فأنا أسألك باسم الله الذي نعبده جميعًا وباسم ما بيننا من الصداقة والإخاء، إلا كففتَ عن إراقة دماء المسلمين، فإنك تعلم أن تبعة القتال تقع بعد الآن عليك، فعليك أن تضع حدًّا لهذه الحرب بانسحابك مع جيشك من بلاد احتلها بدون وجه من وجوه الحق.
أخي وعزيزي رشيد باشا
لا أقدر أن أصف لك مقدار أسفي لاضطراري إلى مُنازَلة رجل أُحبه وأُجله، وقد تَسَنَّى لي أن أُقَدِّره حق قدره، ولكن إذا كان صديقي وزميلي رشيد باشا قد تلقى الأوامر بمهاجمتي من سيده ومولاه، فإن إبراهيم قد تلقى الأوامر ذاتها من سيده وأبيه، فهو ليس أقل منه رغبة في حقن دماء المسلمين، ولكنه ليس في الحقيقة سوى خادم مطيع، فلا لوم علينا ولا تثريب نحن الاثنين معًا، ولسنا نحن — أنت وأنا — بمسئولَيْن عن الدماء التي تُراق، ولكن التبعة تقع على الذين أمرونا به، ولا سبيل إلى مخالفة ما أمروا.
بعد وصول هذا الكتاب إلى رشيد باشا زحف بجيشه إلى سهول قونيه في ٢١ ديسمبر. وكان إبراهيم باشا يعرف أخلاق رشيد باشا في القتال، ويعرف أنه ينقضُّ على خصمه انقضاض الصقر، فاتخذ إبراهيم الحيطة لِيُوقِعه في الشراك، فتظاهر بالخوف من الاصطدام به، وسحب قواته إلى ما وراء قونيه في مكان يُمَكِّنه من إخفاء شطرين من قوته؛ أحدهما على ميمنة رشيد باشا، والآخر على ميسرته. أما رشيد باشا فإنه زحف بكل حزم وعزيمة صادقة على الصدر، وكانت معركة شديدة جدًّا، وكان عدد الفرسان مع رشيد باشا نحو عشرة آلاف انقضت عليهم الجنود المصرية من كَمِينها على اليمين وعلى الشمال، فأخذ أولئك الفرسان على غرة من كل جانب، فذعروا وتفرقوا وأحدثوا الاضطراب، وهجمت الجنود المصرية، واشتدت المدافع المصرية بالضرب، حتى إذا ما دنت الشمس من الغروب كان جيش رشيد باشا قد تمزق كل ممزق.
قال إدوار جوين: كان الأتراك ثلاثة أضعاف المصريين في هذه المعركة، إلا أنهم كانوا أضعف منهم في ميدان القتال؛ لفساد التمرينات العسكرية ولبسالة إبراهيم وسليمان بك وبراعتهما في تحريك قوات الجند، فقد ترك التُّركُ بعد الانهزام في هذه المعركة اثنين وتسعين مدفعًا وثلاثة آلاف قتيل وعشرة آلاف أسير، ووقع الصدر الأعظم — وهو السر عسكر، وهو مندفع بقوة بسالته وحماسته — في ميدان القتال أسيرًا في أيدي العربان المصريين، وجيء إلى إبراهيم باشا فتلقَّاه بالإجلال والإكرام. ولما كان هذا القائد يعتقد أنه لن يعيش إذا انهزم جيشه، فإنه استودع كاتم سره مفاتيح الباب العالي ومفاتيح السر عسكرية. ولما أوشكت المعركة أن تنتهي هَجَم بنفسه للقتال، فتقدم منه بعض العساكر الذين خدموا تحت إمرته في بلاد المورة، وقالوا له والدمعة تجول في عيونهم: يا باشا لقد قضي الأمر. فأجابهم: «تَشَجَّعوا ولا تيأسوا، ما دامت في العروق قطرة دم فلا محل لليأس.»
ولما نقل كلامه إلى أحد كبار الشيوخ في قونيه قال: «لما كَشفت النباتات للقمان عن سر خواصها الطبية، لم يقل نَبْتٌ واحد منها إن لي خاصة الشفاء من الموت. وقد كان محمد رشيد باشا في هذه المعركة لقمانَ، ولكن دولتنا كانت الجثة الهامدة الخامدة.»
وهكذا فقدت الدولة العثمانية في أقل من ستة أشهر جيشين كبيرين؛ أحدهما جيش الباشاوات في حمص، والثاني جيش رشيد باشا في قونيه.
وقد قال الترك في تقاريرهم عن معركة قونيه: إن إبراهيم باشا خدع محمد رشيد باشا؛ إذ بلغه أنه سيهاجمه في ٢٣ ديسمبر، فخطر لرشيد باشا أن يتغداه قبل أن يتعشاه، فهجم في ٢١ ديسمبر ووقع في شراكه.
ولقد اضطرب السلطان محمود وجزع لاندحار جيشه ولِأَسْرِ السِّر عسكر، فكتب إلى قيصر روسيا يطلب مساعدته وإمداده بخمس بوارج وست فرقاطات و٤٠ ألف جندي، وإرسال الجنرال مورافيف قبل ذلك إلى الإسكندرية لإنذار محمد علي. وكانت فرنسا وحدها تعارض في ذلك وتلح على السلطان بقبول شروط محمد علي الذي يتحول بعد قبول شروطه إلى أقوى مساعد للدولة.
وفي الوثائق المصرية المحفوظة «جورنال» كاتب السر عسكر إلى محمد علي عن محادثة طويلة في ٢٦ ديسمبر بين إبراهيم باشا ومحمد رشيد باشا عن خلع السلطان محمود وتعيين ابنه عبد المجيد سلطانًا.
هذه المحادثة كان إبراهيم باشا يقصد منها ضَمَّ رشيد باشا إليه في خلع السلطان.
أستطيع أن أصل إلى الآستانة ومعي محمد رشيد باشا، وأستطيع خلع السلطان حالًا وبدون صعوبة، ولكني مضطر أن أعرف هل تسمح لي بتنفيذ هذه الخطة حتى أتذرع باتخاذ الوسائل اللازمة؛ لأن مسألتنا لا تسوَّى إلا في إستامبول. فالواجب أن نذهب إلى إستامبول حيث نملي إرادتنا، وإني مضطر أن أكرر على مسامعك أن العداوة لا توصلنا إلى أغراضنا. وإذا أنت رميتَ من الإشاعات التي تذيعها إلى غرض سياسي بأنَّا نُهدد إستامبول لتقبل شروطنا، كان من العبث أن نقف في قونيه فلا نتقدم منها إلى الأمام، فإن قونيه بعيدة عن رجال الآستانة، فهم لا يقبلون عقد الصلح معنا إلا إذا دخلنا عليهم في العاصمة، كذلك هم فعلوا مع الروس، فإنهم لم يقبلوا إبرام الصلح معهم إلا بعد وصولهم إلى جلمجة بضاحية إستامبول. فالواجب إذن أن نواصل الزحف حتى بورصة على الأقل، مع احتلال المدن الواقعة على بحر مرمرة وجَعْل هذه المدن مراكز تموين لجيشنا في البحر، حينئذ فقط نستطيع أن نذيع الأخبار التي قد تقضي إلى عزل السلطان. وإذا نحن لم نفلح في إسقاط السلطان تَوَصَّلْنا — على الأقل — إلى إبرام صلح يحقق أمانينا. وأنا لولا الأمران الأخيران اللذان تلقيتهما منك لكنتُ الآن على أبواب إستامبول، وإني لأُسَائِل نفسي: ما هو الداعي الذي دعا إلى إصدار تلك الأوامر إليَّ؟ أهو الخوف من أوروبا أم هو شيء آخر لا أعرفه؟
ألتمس منك أن تُنيرني في هذه المسألة قبل انفلات الفرصة من أيدينا. نعم إني ألتمس إبلاغي أمركم القاطع بهذا الصدد.
فلما وصل هذا الكتاب إلى محمد علي سلَّم بنظرية ابنه إبراهيم وأذِنَه بالتقدم، فنهض بجيشه من قونيه في ٢٠ يناير. وكان برد الشتاء على الجيش المصري شديدًا، فقسمه إبراهيم شطرين. ولم يصل هذا الجيش إلى كوتاهيه إلا في ٢ فبراير؛ أي بعد ٥٦ مرحلة، ولم يبقَ بينه وبين إستامبول سوى ٥٠ مرحلة. وقبل وصوله إلى كوتاهيه تلقى الأمر من والده بأن يقف عن الزحف، وأن يكون وقوفه ساعة وصول الكتاب إليه، فوقف في كوتاهيه وهو يعلم أنه ليس للسلطان جندي واحد في طريقه إلى إستامبول، وأن السلطان أرسل خليل رفعت باشا إلى والده ليتفق معه، ولكنه لم يعتقد بإخلاص السلطان، فكتب إلى والده كتابًا مُطَوَّلًا في ذلك.