الحكماء السبعة
المشهد الأول
(المؤرخ يُقلِّب في الأوراق، يجمع الوثائق ويتحقق من الحقائق التي
اختلطَت بالغرائب والخرافات والأساطير وحكايات الخوارق، وعندما يَدلهِمُّ الأُفق وتأخذه
الحَيرة من كل سبيل يرفع صوته: يا أشباح الزمن الماضي، من عُمق القرن السادس قبل
الميلاد، صوتٌ من زمن المحنة يدعوكم فاستمِعوا له، شبحٌ يتشبَّث بالصدق وبالحكمة في عصر
الكذب الشائن والغَدرِ الخائن، يرجو أن يتحاور معكم، أن يسألكم وتجيبوه، تَزدحِم
الأشباح وترتفع الأصوات، السبعة صاروا سبعة عشر وأكثر، والحَيْرة تزدادُ عليه
فيهتف):
المؤرخ
:
عشتُم مثلي في زمن المحنة، والمِحنة عاناها الشعر وقاسَتْها الكلمة، في
العقود الأُولى من قَرنِكُم السادس كانت أصوات الشعراء ما تزال عاليةً شجية:
سافو وألكايوس من جزيرة لسبوس، سيمونيدس وميمنيرموس من أيونيا، صولون الشاعر
والمُشرِّع الشهير من أثينا. لكن لا بُد أنهم قد ماتوا جميعًا قبل انتصاف القرن
ولم يخلُفهُم أحد، ولا بُد أن الجيل الذي تلاهم قد خبَت فيه نار الشعر وخَرسَت
قيثاره، حتى حلت سنة ٥٣٠ فانطلقَت شرارته المقدَّسة من جديد، هذا الجيل
المُجدِب هو الذي ازدهَرَت فيه حِكمتُكم، حِكمتُكُم التي لم تكن شعرًا ولا
فلسفة، بل تجسيدًا للفطنة والخبرة والتجربة العملية.
الحكماء
:
تَتسرَّع في توجيه التهمة وتضِنُّ علينا بالحكمة، مع أنَّا منذ القِدم
نُسمَّى الحكماء.
المؤرخ
:
معذرة، أنا لا أتهم ولا أدافع، بل أتلمَّس آثار الحكمة أو أبكي فوق الأطلال،
ما ذنبي إذا كان عصري هو عصر سقوط القيم وزمني ضاعت فيه الحكمة والعقل؟ ما ذنبي
إن كانت كتُب التاريخ تُمجِّدكم أحيانًا أو تَبخَل في أحيانٍ أخرى فتُسمِّيكم
الرجال الأذكياء؟ هلَّا أجبتم على سؤالي؟
الحكماء
:
لا ندري كيف نرُدُّ عليك، ربما لأن الواقع العملي في أيامنا بدأ يفرض سلطانه
فازدَرَى الشعر، واستَصغَر شأن الكلمة، وأخذ يُولِّي وَجهَه شَطْر حقائق
الحياة.
المؤرخ
:
ربي، هذا ما نلقاه الآن.
الحكماء
:
أتُدينُ زمانكَ وزماني؟
المؤرخ
:
لا لا، بل أَهمِس مِن عَجزِ لساني وجَناني، أكمل قولكَ.
الحكماء
:
أو لأن العاطفة الدينية شطَّت في التحليق حتى تاهت وسقَطَت في الهاوية
العميقة التي تستَعصِي على العبارة والخطاب.
المؤرخ
:
مهما يكنِ الأمر فقد راجت حِكمتُكم.
الحكماء
:
حِكمتُنا؟ ها أنتَ إلى الحق تعود؟ لقد تناقلَتها الأفواه فلم تكن بحاجة إلى
التدوين، اللهم إلا على أحجار «أوستيا» أو على جُدران معبد «دلفي»؛ ولهذا ليس
عجيبًا أن يَنسِبها الإغريق إلى الإله أبولُّو أو إلى جِنِّيٍّ بَحريٍّ حكيم
كانوا يَدْعونه عجوز البحر الإلهي.
المؤرخ
:
معنى هذا أنها وُجدَت قبل وجودكم؟ انتظروا، لقد ورَدَت في اللوح الحادي عشر
من مَلحَمة جلجاميش البابلية سِيرةُ سبعةِ حُكماء أسَّسوا مدينة أوروك، كما
تلقَّى حكماء الهند السبعة الذين يُسمَّون «الريشي» الحكمة وفن الغناء من
الآلهة، ووضَع شاعركم هوميروس مجلس حكماءَ سبعة تحتَ تصرُّف أجاممنون وبرياموس،
حِكمتُكم أَقدَمُ مما أَتصوَّر، أَقدَمُ مما كنتُ أُقدِّر.
الحكماء
:
ولكن لم يتأكَّد صِدقُها إلا بنسبتها إلينا، نحن الذين كافَحنا وأسَّسْنا
وتجوَّلْنا فوق الأرض الفانية بدمنا ولحمنا.
المؤرخ
:
ورُفعتُم لمصافِّ الأبطال ونُسجَت حولكم الحكايات والخرافات.
الحكماء
:
هل يقع الذنب علينا؟ كنَّا بشرًا مثل البشر، صمَدنا لأعاصير الزمن القلِقة،
أعلَينا بناء حياتنا وحياة شعوبنا. أتلومنا لأن الناس جلَّلَت رءوسنا بغار
الحكمة الذي بَخِلَت به على رءوس الشعراء، أم لأن الأفكار العظيمة لا يُصدِّقها
الناس حتى يَنسِبوها إلى عظيم حقَّقها في الواقع، أم لأن الحكايات والخرافات
والأساطير عادةً ما تُغزَل خيوطها بعد موت أبطالها؟ أولا يكفينا أن حِكمتَنا
راجت؟!
المؤرخ
:
بل ما زالت رائجةً وعلى كل لسان، انتَشَرت بين الأمم وفي مختلف
الأزمان.
الحكماء
:
حِكمتُنا راجت في قَرنٍ سكتَت فيه أوتارُ الشعر.
المؤرخ
:
وبدأَت تَزدهِر شجرةُ الفلسفة.
الحكماء
:
الفلسفة؟
المؤرخ
:
صفةٌ أخرى للحكمة، ولحب الحكمة، كان من الممكن ألا تبدأ لولاكم، كان من
الممكن ألا تزدهر الشجرة لولا البَذْرة.
الحكماء
:
والبَذْرة ألقيناها في التربة، هل ما زِلتَ تَضِنُّ علينا؟
المؤرخ
:
لستُ أضِنُّ عليكم بالحكمة، لستُ بخيلًا باسم الحكماء، لكنَّ التاريخ
يُحيِّرني وتُحيِّرني الأسماء، حتى العددُ اختلفَت فيه الآراء.
الحكماء
:
هذا ليس جديدًا، من منتصف القرن السادس قالوا سبعة. زادوا العدد فقالوا سبعة
عشر حكيمًا. ليس جديدًا ما نسمعه مِنكَ.
المؤرخ
:
بل ما تَشهَد به الوثائق أو تشهد عليه. مع ذلك تَتردَّد فيها أربعة أسماء:
صولون المُشرِّع.
صولون
:
والشاعر أيضًا، لا تَنسَ.
المؤرخ
:
كيف لأحدٍ أن يَنساكَ؟ الشكُّ يُحيط بأخبار الحكماء الستة، أما أنت فرأسُ
الجَبَل يُطِل على تاريخِ اليونان.
صولون
:
رأس الجبل؟ كلامُكَ هذا يُضحِكني، مع أن الكاهن العجوز في مصر قال لي: يا
صولون! يا صولون! ستَبقَون على الدوام أطفالًا أيها الإغريق؛ إذ لا يُوجد شيخٌ
إغريقي.
المؤرخ
:
تلكَ روايةُ أفلاطون، لكنْ حَفِظ التاريخ لنا أشعارًا مِنكَ.
صولون
:
هل تذكُرون مرثيتي التي بدأتها بهذه السطور:
الآنَ عَرفتُ الأمر،
والألم عميقٌ في أعماق الصدر،
وأنا أشهد أكبرَ أبناءِ أيونيا ينهار ويُدْحَر.
المؤرخ
:
هكذا بدأتَها بعد أن اشتد النزاع في الدولة، واستَعبدَت الأقلية أغلبية
المواطنين، وثار الشعب على الأغنياء والأعيان، احتدمَ الصراع بينهما وطال،
وانتخبوكَ رئيسًا وقاضيًا يفصل بينهم، وكلَّفوكَ بتدبيرِ نظامهِم ووَضْعِ
دستورهم. كنتَ حكيمًا ورحيمًا، لم تُؤْثِر أيَّ الِحزبَين على الآخر، فوقَفتَ
في صَفِّهِما ونصَحتَهما بالصلح ووَقفِ الصراع. كان الكل يُجلُّكَ ويُقدِّر
موهبتكَ، مع أنكَ لم تكن أغناهم أو أرفعهم في المنصب والجاه، ورُحتَ تُحذِّر
الأغنياء من التَّرَف والتطرُّف، وتنصَحُهم بالتواضُع والاعتدال، وتُلقي الذنبَ
عليهم وعلى تكبُّرهم وجشَعِهم إلى المال فيما حاق بالمدينة من خراب. اسمع
شهادةَ حكيمٍ آخر بعدك: حَرَّر صولون الشعب في الحاضر والمستقبل عندما حَرَّم
اقتراض المال في مقابل رَهْن الجسد، ووضَع القوانين وأَصدَر تشريعًا بالإعفاء
من الديون العامة والخاصة أو بنفض الأعباء.
المؤرخ
:
ويُذكِّرنا هذا باسمٍ آخر.
بيتاكوس
:
بيتاكوس من ميتيلينه، سمَّوْني الطاغية وكنتُ رحيمًا بالأوغاد.
صولون
:
طاغية ورحيم، حقًّا ما أَغربَ هذا!
بيتاكوس
:
وما وجه الغرابة يا صولون؟ أنتَ نفسكَ سَمِعتَ عني كما سَمِعتَ كلمتي.
صولون
:
لما بلغَني قولُكَ: من الصعب أن يكون المرء طيبًا. أَعجبَتني حكمتُكَ وقلتُ:
ومن الصعب أن يكون جميلًا.
بيتاكوس
:
وهل عرفتَ متى قلتُها أو كيف؟ لقد رأيتُ أعدائي يتكاثرون، ولاحظتُ الكراهية
في عيون الشعب الذي أنصَفتُه وكافحتُ لكي أرفعه من وَهْدة بؤسه، وفي ضمائر
الأغنياء والنبلاء الذين قلَّمتُ مخالبهم من أجله، ونفَيتُ بعضهم من المدينة
فأخذوا يُهدِّدونني ويتآمرون على قتلي، واشتَد بي اليأسُ فذَهبتُ إلى معبد
الإله وتوسَّلتُ أمام المذبح أن يُحرِّرني من السلطة.
المؤرخ
:
نعم نعم، أدركتُ صعوبة أن يكون الإنسان طيبًا في عالمٍ شِرِّير.
أدركتُ أن الحاكم مهما فعَل يظل كريهًا مكروهًا؛ فالأغنياء كرهوكَ لأنكَ
وقفتَ بجانب الشعبِ وانحدَرتَ من صُلبه، والشعب كَرِهكَ لأنكَ كنتَ فقيرًا مثله
وجلَستَ على كرسي الحكم.
وردَّد الجميع أغنيةً تسخر منكَ،
اطحني أيتها الطاحونة اطحني؛
فقد كان بيتاكوس نفسه يطحن،
بيتاكوس الملك في ميتيلينه العظيمة.
طاليس
:
سَمِعتُ الأغنية بنفسي لمَّا زرتُ جزيرة لسبوس وتوقَّفتُ بقرية
أريسوس.
بيتاكوس
:
هل سَمِعتَ كذلك أناشيد الحقد والهجاء التي أطلقَها الشاعر ألكايوس وعصابته؟
أنا لم أكرهه ولم أكره شِعره، تمنيتُ أن يضع يده في يدي ويُساعِدني مع غيره من
النبلاء على النهوض بالمدينة، لكنهم أنكروا عَدْلي وشجاعتي التي اعترف بها
الإغريق في كل مكان، لم يغتفروا لي أبدًا أنني تَزوَّجتُ امرأةً من طبقَتهم هي
ابنة دراكون ومن نسل الأتريديين، وأخذَ الشاعر الحقود يُعيِّرني بقدَمي
المُفلطَحة التي كنتُ أَجرُّها بصعوبة، ويصِفُني بالدعيِّ والمتَّسِخ والمبطون،
بل أشاع أنني أُوفِّر ضوء المصباح وسمَّاني مُلتَهِم الظلمات.
المؤرخ
:
ولهذا نفيتَه عن المدينة ولم ينقطع هجاؤه ولا دعواته للآلهة الأقوياء بأن
يُخلِّصوه من محنة المنفى ومرارته، ويُطْلقوا ربَّات القِصاصِ عليكَ، ويُعينُوه
وعُصبتَه على قتلكَ بالسيف وتحرير الشعب من آلامه ومخاوفه، زاعمين أنكَ حنَثتَ
بالقَسَم الذي قطَعتَه على نفسِكَ وابتلعتَ المدينة في جَوفِكَ.
بيتاكوس
:
ومع أني عفوتُ عنهم بعد القبض عليهم، فلم يرحمني التاريخ من وصمة
الطغيان.
المؤرخ
:
ولا رَحِمكَ المؤرخون؛ فاللقبُ ارتبط باسمِكَ في كل المأثورات. أما «بياس»
القاضي من آسيا الصغرى فقد سخا عليه الزمن بلقب الحكيم.
بياس
:
معظم الناس أشرار؛ هذا ما قُلتُه. لمَّا حاصر إلياتيس ملك الليديين بريينه
أصدرتُ الأمر بأن يُعلف بغلان إلى حد التخمة ويُساقا إلى معسكر الأعداء، وفزع
الملك حين رآهما وعرف أن لدينا من مخزون الغلة ما يكفي حتى الحيوانات؛ ولهذا
بعث إلينا رسولًا يطلب السلم والسلام.
المؤرخ
:
وكيف لَفظتَ الأنفاس؟
بياس
:
اسمع يا ولدي، لمَّا شِختُ وطعنَت بي السن استُدعيتُ للشهادة أمام المحكمة،
وتكلَّمتُ وأبرأتُ المظلوم من التهمة، وانطلق محامي الخصم وأخذ يدافع عنه
فسَئِمتُ، وأَملْتُ الرأس على حجر حفيدي حتى نمتُ، هل بلغَكَ يا ولدي ما فعلوه
بالمظلوم؟
المؤرخ
:
برَّأه القضاة من التهمة، ثم وجدوكَ ميتًا على حِجْر حفيدكَ.
بياس
:
حمدًا للآلهة فقد صدَق كذلك ما قُلتُه: إن أردتَ أن تقيم في مدينة فكن طيبًا
مع جميع المواطنين.
المؤرخ
:
كلمةٌ بليغة من رجلٍ خلَّدَته البلاغة، والاسم الرابع هو طاليس
الملطي.
طاليس
:
أوَّل من نقَّى الحكمة من سُحُب الأسطورة وضباب الغيب، أوَّل من سأل سؤال
العقل عن المبدأ والأصل وقال …
المؤرخ
:
أصلُ جميعِ الأشياء هو الماء، بالآلهة امتلأَت كل الأشياء.
طاليس
:
وكذلك قلتُ: اعرِفْ نفسَكَ.
المؤرخ
:
أأنت القائل أم نُقِشَت قَبلكَ فوق جدار المعبد في دلفي؟ ما أَعمقَها كلمة!
لكن تتنازعها الأسماء.
بيرياندر
:
أيُّ جحودٍ هذا؟ كيف نسيتُم اسمي؟
الحكماء
:
مهلًا يا بيرياندر، هل يُنسَى الطاغية القاسي من كورنثه؟ مَن بلَغ الذروةَ في
القَسوة ولهذا احتاج إلى الحرسِ الخاص؟
المؤرخ
:
وكان قِوامه ثلاثمائةٍ من حَمَلة الدروع والحراب.
بيرياندر
:
أتذكُرون صرامتي وتَنسَون عدلي؟ لقد حرَّمتُ على المواطنين أن يكون لهم عبيد،
نهيتهم عن تبديد الوقت في اللهو والفراغ وأوجدتُ لكلٍّ منهم عملًا، أعلنتُ
الحرب على الترف، وعاقبتُ المُتَسكِّعِين في الأسواق. لم أُثقِل على الناس
بالضرائب، واكتفيتُ بما نُحصِّله من السوق والميناء، وزَّعتُ أراضي النبلاء على
الفقراء، لم أتخطَّ حدود العدل ولم أتَعدَّ على إنسان، وكرهتُ الشر وألقيتُ
القوَّاداتِ بقاع البحر! أنسيتم كيف صالحتُ بين أهل ميتيلينه (تحت قيادة بيتاكوس)
وأهل أثينا (تحت زعامة فرينون) عندما تصارعا على ملكية
«سيجايون» ففصلتُ بينهم بالحق، واحتفظ كل منهم بما كان يملكه؟ لقد ازدَهرَت في
عهدي التجارة والحضارة، يكفي أن الشاعر «أريون» كان صديقي!
المؤرخ
:
أريون الميثميني من أهالي لسبوس؟ من تمَّت في عَهدِكَ مُعجزتُه؟ أشجى الأصوات
غناءً فوق القيثار وأوَّل من أنشد شعر الديثيرامب وسمَّاه وقدَّم جوقته فوق
المسرح في كورنثه؟ لا لن ينساك التاريخ ولن ينساه، لن ينسى معجزته التي رواها
علينا أبو التاريخ إذ استقَلَّ مركبًا كان عليها قراصنةٌ ولصوص تآمروا عليه
عندما ظنُّوه يُخفي الكنوز، مع أنه لم يكن يملك إلا قيثاره! وانطلق يغني علَّ
غناء الشاعر يُسكت فيهم نَزعاتِ الشر. جاء الدلفين — صديق الإنسان — على صوت
غنائه، وسرعان ما ألقى الشاعر بنفسه على ظهره فحمله إلى البر ورسا به على رأس
تانياروس.
لا لم يَنسَ التاريخ، وكذلك يذكر قولكَ: كل شيءٍ يرجع إلى المران. لكنَّ
سؤالًا يحضرني الآن.
خيلون
:
قبل سؤالكَ، هل يُمكِن أن تُهمِل اسمي؟ أم تُهمِل تحذيري: إن ضَمِنتَ غَيركَ
حلَّت بكَ المصائب، أوَلَم يَبنِ أهالي أسبرطة لي المعبد في الطريق من المغزلِ
إلى أبوابِ المدينة؟
المؤرخ
:
وهناك قدَّسوكَ ورفَعوا ذِكرَ البطل الخالد، لكنِّي أرجع لسؤالي: لم آثرتُم
هذا الكَلِم المُوجَز؟
الحكماء
:
من يَستصغِر شأن الكلمة يَقتصِد في استعمالها، كانت أيامنا تُوجِب العمل
وحَسْم القرار؛ ولهذا بقِيَت كلماتنا القليلة قواعدَ لهداية الحياة، تحذيراتٍ
من الوقوع في الأوهام الساذجة والتسرُّع في الثقة بالناس، نصائحَ باللجوء إلى
التحفُّظ والحرص والاعتدالِ والتزامِ الحد.
المؤرخ
:
لكن بَالغتُم في الإيجاز، يكفي أن يروي الشاعر «ألكايوس» هذه الكلمة التي
يقولها على لسان «أريستوداموس» الذي ضُمَّ إليكم في العصور المتأخرة: «الرجل –
المال» وأن يُضيف الشاعر «بندار» وكأنه يشرحها: قال هذا عندما اختَفى أصدقاؤه
مع اختفاء أملاكه. يكفي أيضًا أن تقرأ كلماتٍ أخرى تُوحي بتشكُّكِكُم في
الإنسان ورؤيتكم للوجه الشائه خَلْف قِناع البهتان: «لا تتطرَّف في شيء»، «صعبٌ
على المرء أن يكون طيبًا»، «الحد هو الأفضل»، «أغلب الناس أشرار».
الحكماء
:
هل آمنتَ بما قلناه؟ هل صدَّقتَ الحكماء؟
المؤرخ
:
بل صدَّقتُ الأيام الصعبة والأرزاء، مع ذلك فالحكمةُ أوسعُ من هذا.
الحكماء
:
لم تكن الحكمة في أيام المحنة شيئًا يختص به الشعراء أو الحكماء، كانت ملك
الشعب العامل والفقراء؛ فالنجار البارع يبني سقفًا يصمُد للعاصفة فيصبح أحد
الحكماء، وكذلك شأن الحوذي أو الخبَّاز أو الملَّاح أو الشاعر والفنان، هل ما
زلتَ تُسيئ الظن، تُوازن بين الآراء؟
المؤرخ
:
الحِكمة والحَيرة صِنوان.
الحكماء
:
فانظر في الأوراق وراجع، وابدأ قصتنا بالقول المُحكَم والكلم الرائع، قد يقطع
ذلك شكَّكَ ويُزيل الحَيْرة.
المؤرخ
:
أو ينفع جيلًا قد بيعت فيه الكلمة بفُتاتٍ زائل، والحكمة صُرِعَت بسهام
الخِسَّة والغدر القاتل.
الحكماء
:
ولهذا تبقى الحِكمة.
المؤرخ
:
في جَوْف الكُتب المنسيَّة.
الحكماء
:
أو في أعماق القلب، ابدأ يا ولدي، أسمع جيلًا يفتقر لحُبِّ الكلمة.
المؤرخ
:
أو يفتقر إلى الحب.
المشهد الثاني
المؤرخ
:
آه! تتضارب كل الأقوال وتتناقض كل الآراء، الأسماء مختلَف عليها من كاتب إلى
آخر، والقول الواحد قد يُنسَب إلى أكثر من واحد.
طاليس
:
اعرِف نفسَكَ؛ هذا ما قُلتُ.
المؤرخ
:
بل هذا ما تتصوَّره أنت وبعض الكتاب، هل تعلم أن «تيوفراسط» يُرجِّح أن يكون
مثلًا شعبيًّا من قديم الزمان، وأن بعض المؤرخين يُرْجعه إلى زميلك خيلون،
والبعض الآخر يأتي به على لسان خصيٍّ مغمور كان من حُراس قُدس الأقداس في معبد
دلفي؟ بل إن أرسطو في محاورته عن الفلسفة ينسبها إلى عرافة هذا المعبد، وكل هذا
يؤكد أنها كانت قد نُقِشَت قبلك وقبل خيلون الأسبرطي على معبد دلفي قبل أن
يدَّعيها كلاكما لنفسه.
خيلون
:
أنا لم أدَّعِ شيئًا، بل قدَّمتُ النذر ووفيتُ العهد؛ فبعد أن وصلتُ إلى دلفي
وضحَّيتُ وأحرقتُ البخور أمرتُ بأن تُحفَر هذه الحِكَم على عمود المعبد: اعرف
نفسك! لا تتطرف في شيء! سبب المصائب أن تضمن غيرك!
طاليس
:
حتى هذه الحِكَم تُقال على لسان غيركَ وغيري.
المؤرخ
:
فلنقرأ ما اتفَق عليه الإجماع، في أقدمِ قائمةٍ بالأسماء وبالأقوال.
طاليس
:
قُل وسيهتف كلٌّ منا باسمه!
المؤرخ
:
اعرف نفسك!
طاليس
:
طاليس!
المؤرخ
:
لا تتطرَّف في شيء!
صولون
:
صولون!
المؤرخ
:
إن تضمَن غيركَ فتوقَّعْ كل مصيبة!
خيلون
:
خيلون!
المؤرخ
:
اعرف فضل اللحظة.
بيتاكوس
:
بيتاكوس، والأفضل من هذا: اللحظة إن واتتكَ فلا تتركها تَفلِت منكَ!
المؤرخ
:
معظم الناس أشرار.
بياس
:
بياس، عن تجربة، وبحقِّ زيوس، ما قلت!
المؤرخ
:
كل شيءٍ يرجع للمران.
بيرياندر
:
بيرياندر، عن تجربة أيضًا، والآلهة شهود!
المؤرخ
:
تبقي حكمة كل الحكمة، قائلها المجهول يُلخِّص فيها …
كليوبولوس
:
كليوبولوس، هذا هو كليوبوليس! كيف تجاهل هذا الزمن الجاحد ابن أوجاروس، من
لندوس فوق جزيرة رودوس؟ كيف تَناسَى من كَتَب النقش على قبر ميداس الملك
الأسطوري؟
المؤرخ
:
ميداس؟ من أعطاه ديونيزيوس أن يَتحوَّل ما يلمسه ذهبًا.
صولون
:
حتى المطعم والمشرب، مسكين يا ميداس!
كليوبوليس
:
كانت فوق القبر المشهور فتاةٌ أخذَت شكل الهولى؛ ولهذا قلتُ: فتاةُ من
البرونز أنا وأرقد على قبر ميداس، ما دام الماء يسيل، والشجر يخضَرُّ، والقمر
يطلع ويضيئ، والشمس تُنير الكون، ما دامت الأنهار تتدفق، وموج البحر يوشوش
للشاطئ، فسأبقى في هذا الموضع، فوق التل المرتفع على المنطقة المنكوبة أُعلِن
للعابر ولكل مُسافرٍ في هذا الموضع يرقُد ميداس تحت الأرض.
المؤرخ
:
لم يَنسَ التاريخ كذلك أشعارك، لم تتسربْ ألغازكَ من كفَّيه.
صولون
:
لكن تبقى حِكمتُه أخلدَ ما قال.
كليوبوليس
:
قلتُ من الحكم كثيرًا، أيَّةَ واحدةٍ تقصد؟
المؤرخ
:
الحد هو الأفضل.
الحكماء
:
هي حكمتنا، كنز العقل الإغريقي وآيةُ وجدانه، كلمته للعالم أجمع.
المؤرخ
:
ولهذا ليس عجيبًا أن يلتقط الحكماء الكلمة، من كل الأجناس وكل الأديان يقول
العقلاء فلا يُسمَع قول: لا تتطرف! لا تَشتَط! الزم حَدَّكَ، واعرفْ أنكَ
إنسان.
الحكماء
:
إنسانٌ فانٍ، لستَ إلهًا، فتذكَّر هذا واترُكْ سيف الطغيان، يسقط من يدكَ
فلستَ سوى بشرٍ فانٍ!
المؤرخ
:
حقًّا! هذا شيءٌ أكَّدتُموه أيها الحكماء وأَجمعتُم عليه، وعندما اجتمعتُم
كما يقول القدماء.
الحكماء
:
اجتمعنا؟ أجل أجل، عند الملك كرويزوس.
المؤرخ
:
أغنى ملكٍ في عصره.
الحكماء
:
وتكلَّم صولون فقال …
صولون
:
أنا؟ للملك كرويزوس، ذاكرتي ضعُفَت يا ولدي.
المؤرخ
:
سأذكركَ فأنصِت.
المشهد الثالث
المؤرخ
:
كانت أعينكم تَلتفِت إلى الشرق الساحر باستمرار، الشرق الغامض ذي القوة
والترف الباذخ والجبروت.
الحكماء
:
لكنَّنا ذهبنا إليه لنتعلَّم أيضًا.
المؤرخ
:
وتعلَّمتم الكثير، وإن كنا نفتقد الأدلة والأسانيد.
طاليس
:
أنا مثلًا سافرتُ إلى مصر.
المؤرخ
:
وتعلَّمتَ الرياضة وجلَبتَ الهندسة إلى الإغريق، أما أنت.
صولون
:
أنا طَوَّفتُ بآسيا لأُشاهد هذا العالم، وحديثي مع كاهن مصر الشيخ حديثٌ
مشهور، كم يُعجِبني حين أُفكِّر فيه الآن!
الحكماء
:
أنَّا ما زلنا أطفالًا؟ رغم مُرورِ قرونٍ وقرون؟!
صولون
:
ولماذا الغضب وقد صَدَق الشيخ؟
الحكماء
:
أم سخر كعادة أبناء النيل؟
صولون
:
بل صدَق وحَقِّ زيوس، وامتدَح الإغريقَ مديحًا أتمنى لو كانوا أهلًا له،
أطفالٌ نحن وفي كلٍّ منا طفل.
الحكماء
:
وتريد من الحكماء السبعة أن يُصدِّقوه؟ أنتَ يا صولون؟
صولون
:
من قال بأن الحكمة تعني العجز أو الشيخوخة؟ من ينكر حكمة الطفولة وطفولة
الحكمة؟ أليست حِكمتنا في بساطتنا، وبساطَتُنا هي التي جعلَتنا نصمُد لتحدي
الملك الجبار ونواجه قُوَّته وغناه الفاحش بالبراعة والقناعة والحكمة؟
المؤرخ
:
معذرةً يا صولون، ولقد أَدهَشْتَه بالبراءة الحكيمة أو بالحكمة البريئة
وتعجَّب مما قُلتَ وغَضِب وثار. نريد الآن أن نعرف ماذا قُلتَ لهذا الملك وماذا
قال، كيف التقيتَ به وأين كان اللقاء.
صولون
:
لم أرَهُ وحدي، طلَب لقاء الحكماء السبعة.
المؤرخ
:
وذهبتم لزيارته، وذُهِلتُم لمَّا رأتِ العينُ كنوزه.
الحكماء
:
ورثينا له.
المؤرخ
:
لأغنى ملكٍ في الأرض؟
الحكماء
:
ورفضنا أن يُوصَف هذا الملك بأسعد إنسان، فليتكلم عنا صولون.
المؤرخ
:
أرجوكَ، تكلَّم.
صولون
:
لمَّا فرغ كرويزوس من إخضاع آسيا الصغرى بأكملها وضمها إلى مملكة الليديين،
زحفَت حشود الإغريق الحكماء إلى عاصمة ملكه المزدهرة سارديس، وزَحفْتُ كذلك
معهم، كنتُ قد ذهبتُ إلى مصر التي يحكمها أمازيس وشاهدتُ العالم وتجوَّلتُ فيه
عشر سنوات. واستقبلني الملك في قصره مع بقية إخواني فأحسن الاستقبال. وفي اليوم
الثالث لزيارتنا أمر الملك خدمه وعبيده أن يأخذونا إلى دهاليزه ومخازنه لنتفرج
على التحف والكنوز التي أَودعَها فيها، ثم رجع بنا الخدم والعبيد إلى قاعة
العرش حيث كان الملك يجلس في أُبَّهتِه محاطًا بأعوانه وقُوَّاده وأعيان
مملكته. لم يكَد يراني حتى هتَف صائحًا: «أيها الضيف من أثينا، وأنتم أيها
الضيوف! وصلَتنا عنكم وعن حِكمتِكم الأخبار، وسمعنا عنكَ يا صولون وعن أسفاركَ
التي قمتَ بها حبًّا في الحكمة، والآن تُحرِّكُني الرغبة في أن أسالكَ: هل رأيت
في أسفارك أحدًا يمكن أن يُوصَف بأنه أسعد إنسان؟»
لم يخَفْ عليَّ أن الملك وجَّه إليَّ هذا السؤال وفي نيته أن أقول أنتَ أيها
الملك الغني العظيم أسعدُ إنسان. لكني لم أتملَّقه بل صارحتُه بحقيقة رأيي:
«أيها الملك! إنه تيلوس الأثيني!» تَعَجَّب الملك من قولي وأَسرعَ بالسؤال:
«وكيف حَكمتَ بأن تيلوس هذا هو أسعدُ إنسان؟» قلتُ: «عدة أسباب يا مولاي: أولها
أن كان لتيلوس هذا عدة أبناء تحلَّوا بالذكاء والصلاح والجمال، ولقد سَعِدَت
عيناه برؤية أبنائه في حياته. والثاني أن الرجل بعد أن تقدم به العمر وعاش
أطيبَ حياةٍ ممكنة مات كذلك في النهاية أروعَ ميتةٍ ممكنة؛ فقد شارك مواطنيه
الأثينيين في الحرب التي اشتبكوا فيها مع جيرانهم في إيلويزيس، وطارد الأعداء
الذين فروا مهزومين، ومات أثناء هذه المطاردة أجل ميتة، ودفَنَه الأثينيون حيث
سقط صريعًا على نفقة الدولة، وكرَّموه وأقاموا له طقوس التوديع
والإجلال.»
استَمع الملك إلى قصة تيلوس وهو يعَضُّ على شفتَيْه وأسنانه، سكَت قليلًا ثم
غالَب غيظه وسأل: «ومن هو أسعد إنسان رأيته بعد تيلوس؟» قلتُ: «هما اثنان أيها
الملك العظيم.» قال في لهفة: «احكِ عليَّ قصتهما يا صولون.» قُلتُ: هما كليوبيس
وبيتون. كانا من حيث المولد من أجروس؛ ولهذا وجدا ما يكفيهما للحياة، وكان
كلاهما حَسَن الصورة قويَّ الجسد، وحصَلا على جوائزَ كثيرةٍ في المسابقات
الرياضية، تسألني يا مولاي أن أحكي قصتهما؟ إنهما سيُغنِيانِني عن هذا ويَرويان
القصة بنفسهما.
كليوبس وبيتون
:
كان أهالي أرجوس يحتفلون بعيد هيرا ربَّة السماء وسيدة الآلهة وشقيقة زيوس
وزوجته، وكان علينا أن نذهب بأُمنا المريضة إلى معبد الآلهة للتبرُّك وزيارة
قُدس القداس، لكن الثيران التي تجُرُّ العربة التي ستَستقِلها لم تكن قد رَجعَت
بعد من الحقل، وضاق الوقت عن الانتظارِ فوضَعنا رقابنا في النِّير وجَرَرْنا
العربة التي حملَتْها إلى الاحتفال مسافة خمسة وأربعين فرسخًا حتى بلغنا
المعبد، ورآنا الناس على هذه الحال فهلَّلوا، لكن الأنفاس تخلَّت عنا فختمنا
حياتنا الفانية أجمل ختام، وأثبت الإله بموتنا أن من الأفضل للإنسان أن يموت
على أن يحيا دون وفاء أو إحسان؛ فقد التفَّ أهالي أرجوس حولنا وأثنَوا على
قوتنا وشبابنا وراحوا يُحْيون أمنا العجوز ويُهنِّئونها بابنيها. أما الأم التي
أَفعَم فؤادها الفرح فقد وقفَت أمام تمثال الالهة وأخذَت تبتهل إليها أن يلقى
ولداها أفضل ما يمكن أن يلقاه الإنسان. وبعد أن أدت الصلاة تقدَّمنا نحن
وضحَّيْنا للربة وأكلنا مع الآكلين، ثم أرحنا أجسادنا المنهكة على أرض المعبد
ولم نقُم من رقدتنا أبدًا. وأقام لنا الأرجيون تمثالَيْن نصبوهما بعد ذلك في
معبد دلفي ليَضمَنا لنا الخلود.
صولون
:
استمع الملك إليَّ في هدوء ثم قال:
كرويزوس
:
أيها الضيف القادم من أثينا، أهكذا تبدو سعادتي في نظرك هباءً ولا أستحق أن
تُسوِّي بيني وبين عامة الناس؟!
عرفتُ مقصده فأجبتُ في خشوع: مولاي الملك كرويزوس، تسألني عن حياة الإنسان
ومصيره. وأنا لا أعلم إلا أن أحكام الآلهة غامضةٌ وأن مقاديرهم مظلمةُ الأسرار.
هب أن الإنسان يعيش سبعين سنة — وهي الحد الذي أضعه لعمر البشر على الأرض — فكم
عليه أن يرى في حياته مما لم يكن يريد رؤيته، وكم يتحمل من آلام ويقاسي؟ وإذا
أكمل السبعين، فقد عاش خمسة وعشرين ألف يوم ومائتَيْن، هذا دون حسابٍ للشهر
الزائد، فإذا أضفتَ شهرًا لكل سنتَيْن، حتى تتواءم فصول السنة مع بعضها، فلقد
قدَّرتَ على مدى السبعين سنة خمسة وثلاثين شهرًا زائدًا، ومن الأيام على قدر
السنوات السبعين، كانت ستة وعشرين ألفًا ومائتين وخمسين يومًا، ليس فيها يومٌ
واحد يشبه سواه. هكذا ترى يا كرويزوس أن حياة الإنسان مصادفة بحتة — وها أنت ذا
ملكٌ غني واسع الثراء، تتحكم في بشر لا يحصيهم عد، لكن سؤالك إن كنت سعيدًا لا
أملك عنه الآن جوابًا، لا أملك هذا حتى أسمع أنك أنهيتَ حياتك خير نهاية؛ فليس
الغنيُّ الفاحش الغِنَى بأسعدَ ممن لا يجد سِوى قُوتِ يومه، إلا أن يواتيه الحظ
فينتهي أجله وهو متمتع بأملاكه وجميع خيراته، ما أكثر الأغنياء الأشقياء وما
أكثر الراضين بنصيبهم القليل! فالغني الذي يشعر رغم غناه أنه تعِس وشقي يتقدم
خطوتَيْن على المغتبط بحظه الطيب، أما هذا فيتقدم على الغني خطوات وخطوات،
والأول يمكنه أن يُحقِّق الرغبة التي تعتمل في نفسه، ويتحمل الأذى الذي يصيبه،
أما الثاني فلا يسعه أن يطمع فيما يطمع فيه الأول أو يتحمل ما يتحمل، فقَدرُه
الطيب قد أغناه عن الطمع ووقاه الأذى والضرر. أضف إلى هذا أنه لا يشكو ضعفًا
ولا علة ولا ألمًا، وأن الحظ باركه بالبنين وجمَّله بالجمال، فإذا حسُنَت
خاتمته وأنهى حياته نهايةً جميلة، فهو الذي تبحث عنه أيها الملك ويستحق أن
يُوصَف بأنه سعيد، وعلينا أن نحترس فلا نقول عنه أثناء حياته وقبل موته إنه
سعيد، بل يجب أن نكتفي بقولنا إنه طيب الحظ. من المستحيل على الإنسان الواحد أن
يملك كل شيء، ومن المتعذِّر على أي بلد أن يكفي نفسه من كل شيء، فلديه شيء
وعليه أن يحصُل من بلدٍ آخر على شيء، وكلما زاد نصيبه مما لديه كان هذا أفضل،
ويصدق الأمر نفسه على الفرد الواحد؛ فهو لا يكفي نفسه بنفسه، وهو يملك شيئًا
ويفتقر إلى شيء آخر. أما من كان لديه ما يكفيه حتى آخر عمره ثم ختم حياته
ختامًا حسنًا فذلك، يا مولاي، هو الذي يستحق أن يُوصَف بأنه إنسانٌ سعيد. يجب
علينا أن ننظر إلى نهاية كل شيء؛ فما أكثر الذين منحَهم الإله شيئًا من السعادة
ثم غَيَّر أحوالهم رأسًا على عقب؛ هكذا ختَمتُ حديثي للملك.
المؤرخ
:
ولم يعجبه كلامكَ ولا رضي عنكَ.
صولون
:
قاطعني ولم يكترث بوجودي ولا ببقائي أو رحيلي. اقتنع بأني أحمق، وأن الأحمق
من يتخلى عما بين يدَيْه وينظر في نهاية كل شيء.
المؤرخ
:
وليتَه نظر في نهايته هو.
الحكماء
:
بل ليته حاول أن يفكر فيما قاله عزيزنا صولون. لقد تجهَّم وجهه واربدَّت
ملامحه بسحابةٍ سوداء كثيفة أطبقَت عليها وحوَّلَته إلى وحشٍ كاسر. نظر إلى
زميلنا «بياس» والشررُ يتقد من عينَيْه الغاضبتَيْن وسأله:
كرويزوس
:
هل هذا رأيكَ أيضًا؟ أتعتقد أن صاحبكَ قد أجاب بالحق؟
بياس
:
بالحق والعدل أجاب يا مولاي. لقد أراد أن يرى الكنوز التي في نفسِكَ فلم يجد
إلا الكنوز التي في يدكَ.
كرويزوس
:
أترد عليَّ مثله بالألغاز؟ أريد منك جوابًا قاطعًا: ماذا يقصد بكلامه؟
بياس
:
أن البشر تسعدهم كنوز النفس لا كنوز الذهب والفضة.
كرويزوس
:
إذا كنتم لا تُقدِّرون السعادة ولا الثروة الحقيقية بما أملكه من كنوز، ألا
ترون أن عندي من الأصدقاء والأنصار أضعاف ما عند أي ملك أو حاكمٍ آخر؟ هذا واحد
منهم جاء إليَّ من أثينا. أيها العبيد! أحضروا ألكميون.
الحكماء
:
وفجأة فُتحَت الأبواب وظهر إنسانٌ عجيب وسط عددٍ من الحراس والعبيد. كان يبدو
تائه العينَيْن زائغ البصر، وبدا عليه الاضطراب وكأنه قد عجز عن السير خطوةً
واحدة؛ فقد انتفخ ثوبه الواسع بصورةٍ مذهلة كأنه بطن امرأةٍ أوشكَت على الوضع،
وعندما دفعه الحراس وشدُّوه قريبًا من الملك، وقعت أبصارنا على شعره الذي حشاه
بسبائك الذهب، بل لقد تعجَّبنا من انتفاخ أوداجه وأدركنا أنه حشا فمه بقطعٍ
ذهبية صغيرة سقطَت إحداها على الأرض عندما حاول أن يسعل، وهلَّل الملك وصاح وهو
يتلوى من الضحك:
كرويزوس
:
قل لهم يا ألكميون! ألستُ أسعد إنسان؟ ألم تصبح أنت أيضًا أسعد إنسان بعد أن
سمحتُ لك بزيارة كنوزي وأخذ ما تستطيع أخذه منها؟ ألا يكفي هذا الذهب الذي
حملتَه في ثيابكَ ودفنته في طيات جسدكَ وحشوتَ به فمك أن يجعلك سعيدًا؟ أم إن
المفلسين والجوعى أسعد منك وأحكم؟
(حاول ألكميون أن يضحك فسقَطَت قطع الذهب من
فمه ورنَّت على الأرض، وازداد ضحك الملك فقلنا له):
الحكماء
:
العقل هو أعظم الكنوز، والسعيد من يبقى سعيدًا إلى النهاية.
المؤرخ
:
نعم نعم! ليت الملك فكَّر عندئذٍ في نهايته.
الحكماء
:
تكلَّم، ماذا حدث له؟
المؤرخ
:
تمضي الأيام فيغزو قورش الثاني ملك الفرس مدينة سارديس عاصمة المملكة
الليدية، ويأْسِر كرويزوس بعد أن حكم أربعة عشر عامًا، ويُحاصِر عاصمة ملكه
أربعة عشر يومًا، ويُحضِره الجنود مقيدًا في الأغلال فيمثُل بين يدَي الملك
الذي أمر بتجهيز المحرقة ووَضعِ الأسير عليها مع سبعة من شباب الليديين. ربما
قصد قورش من وراء ذلك أن يُقدِّمهم قربانًا لإلهه، أو يفي بوعدٍ قطعه على نفسه،
وربما بلغه أن كرويزوس كان ورعًا تقيًّا، فأراد بإحراقه حيًّا أن يختبر قدرة
إلهه على انقاذه. مهما يكن الأمر فقد أصدر قورش أمره، فلما أن وقف الملك
المسكين على المحرقة خطر على باله وهو في محنته ما قاله له صولون: ما من حي
يمكن أن يُوصف بأنه سعيد. وانكشفَت له الحجب فتأوَّه بعد صمتٍ طويل وهتف ثلاث
مرات: صولون! صولون! صولون! سمع قورش صيحتَه فطلب من المترجمين أن يسألوه عن
الاسم الذي استغاث به، وتقدَّم منه المترجمون وسألوه فلاذ بالصمت طويلًا قبل أن
يقول «هو إنسان كان حديثه أقيَمَ من كلِّ ما ملك جميع الطغاة من ثرواتٍ عظيمة.»
بدا لهم القول لغزًا فألحَّوا عليه بالسؤال عما يقصد، وبدأ الملك المنكوب يروي
عليهم كيف حضر إليه صولون الأثيني.
كرويزوس
:
ها أنتَ قد رأيتَ كنوزي، ما رأيك يا صولون؟
صولون
:
رأيي؟ في أي شيء يا مولاي؟
كرويزوس
:
هل آمنتَ بأني أسعد إنسان؟
صولون
:
ربما تكون سعيدًا والحظ الطيب يرعاك، لكنك لست بأسعد إنسان.
كرويزوس
:
ومن في رأيكَ هو أسعدُ إنسان؟
صولون
:
هو من بقي سعيدًا حتى آخر عمره، قبل حلول الأجل بلحظات يمكن أن ينقلب الحال
ويصبح أشقى الناس.
كرويزوس
:
غضبتُ عليه وصِحتُ: يا لكَ من إغريقيٍّ فظٍّ! أتضِنَّ عليَّ بالسعادة بعد كل
ما رأيتَ من كنوزي وأملاكي!
صولون
:
ستكون سعيدًا لو حضَركَ الموتُ وهي مِلكُ يَمينِك.
كرويزوس
:
وها أنا ذا أذكُره الآن وأذكُر ما قال، أتذكَّر حكايته عن الأب الذي سعد
برؤية أبنائه وبالموت في سبيل وطنه، وعن الولدَيْن اللذيَن جَرَّا العربة التي
حملَت أمهما المريضة إلى المعبد بدلًا من الثيران ثم ماتا راضيَيْن بعد أن
أدَّت الصلاة. إن كلمات هذا الأثيني لم تصدُق عليَّ وحدي، أعرف الآن أنها تصدُق
على كل إنسان، خصوصًا من زيَّنَت له الأوهام أنه أسعد السعداء.
المؤرخ
:
استمع قورش إلى حديث كرويزوس. كان الملك الأسير يقف صلبًا متجلدًا فوق
المحرقة والنيران تئزُّ حواليه وتُطلق شَرَرها عليه، وتَفكَّر قورش فيما قاله
المترجمون، وحَدَّثَته نفسه قائلة: حقًّا إن كلمات الملك المنكوب لا تنطبق عليه
وحده، ها أنا ذا إنسانٌ مثله، أحسب نفسي منتصرًا وسعيدًا، أُسلم للنار إنسانًا
لم يكن أقل مني سعادة، من يدري؟ هل تقتص الأقدار مني؟ من يضمن ألا يحدث لي ما
حدث له؟ آه! من يضمن شيئًا في هذا العالم؟ لا شيء أكيد فيه؟ لا أمان للحياة!
ونظر إلى الملك الذي التفَّت حوله النيران فأمَر بأن تُطفأ على الفور ويُنزل هو
ومن معه من فوق المحرقة.
وحاول الجنود أن يُنفِّذوا أمر الملك، لكنهم عجزوا عن السيطرة على النار،
ولاحظ كرويزوس أن الملك غيَّر رأيه، وأن الخدم والحشم يكافحون النار ولا
يستطيعون إطفاءها، فاستغاث بأبولُّو وهو يصرخ: إن كنت تذكُر تضحياتي وهداياي
إليكَ، إن كنتُ قد استطعتُ أن أُرضِيكَ، فاذكُرني في محنتي وخفِّف عنى الويل!
الطُف بي يا رب النور الساطع واكشف عني ضَنْك الليل! وبكى كرويزوس كما لم يَبكِ
في حياته، وابتهَلَ وتمتَم بالدعواتِ وسالت أنهار دموعه، ورفَع بصره إلى السماء
الصافية فوجدَها تَتلبَّد فجأةً بالسحُب المظلمة.
وخطفَ البصرَ بريقُ البرق، وانهمَر المطر سيولًا أطفأتِ النار، كان قورش
ورجاله يُتابِعون المشهد وهم يحبسون الأنفاس، وعَرفَ الملك الجبار أن إهاب
الملك المنكوب يشِفُّ عن إنسانٍ طيب، وصاح بالرجال أن يُعجِّلوا بإنزاله من فوق
المحرقة، وقرَّبه منه وسأله وهو يشدُّ على يده: كرويزوس، من حرَّضَكَ على
محاربة بلادي ومعاداتي بدلًا من أن تكون صاحبي وصديقي؟ قال كرويزوس أيها الملك،
فعلتُ هذا لما حالفك الحظ وخاصمني، والذنب في هذا هو ذنب إله الإغريق الذي
دفعني إلى الحرب، وليس يُفضِّل الحرب على السلام إلا الأخرق والأحمق؛ ففي ظل
السلام يدفن الأبناء آباءهم، أما في الحرب فيواري الآباء أبناءهم التراب، لكن
الآلهة اختارت، شاءت هذا ومشيئتها كانت؛ هكذا قال. ومدَّ قورش يده ففكَّ قيوده
وأجلسه بجانبه وأظهر له المودة والهيبة والكرامة، وتطلَّع إليه الملك والحاضرون
بإجلال وإعجاب.
الحكماء
:
لا تقُل إنكَ سعيد ما دُمتَ حيًّا، والإنسان لا يأمن ما تأتي به الحياة قبل
لحظات من مفارقة الحياة.