قلب الجحيم!
حلَّقت الطائرة الهليكوبتر التي تحمل شعارَ الداخلية الإيطالية فوق أسوار السجن الرهيب … كان المشهد من أعلى مثيرًا ومقبضًا … وقد ظهرَت صخور جزيرة «أوستيكا» من أسفل ومياه البحر «التيراني» تضربها في عنف شديد … وقد أقيمت أسوار السجن الصخرية على أكثر من نصف مساحة السجن يحيط بها من أعلى أسلاكٌ شائكة لم يكن من شك في أنها مكهربة، وبوابات حديدية ضخمة يستحيل اختراقها إلا بالمدرعات الثقيلة. وقد تناثرَت أبنية السجن المقبضة الشكل في كل أركانه، تحيط بها المدرعات الثقيلة يركبها عددٌ من الحراس كأنهم يستعدون بها لإحباط أيِّ تمرد من المساجين وسحقه تحت جنازير مدرعاتهم دون شفقة.
قطَّب «أحمد» حاجبَيه وقد اتخذ مكان قائد الطائرة وهو يقول ﻟ «إلهام»: إن المكان هنا أسوأ مما توقعتُ … كأنه ثكنة عسكرية يستحيل على طائرة اختراقها … وكأنما نخطو إلى قلب الجحيم بأقدامنا!
إلهام: كانت رقم «٧٧» على حقٍّ في رأيها بشأن مخاطرة اقتحامنا لهذا السجن … فقد كنا سنسقط في مصيدة رهيبة يستحيل الخلاص منها … ولحسن الحظ أنها وفرت لنا هذه الهليكوبتر بعد أن دفعت رشوة لشخص ما في «روما».
وأضافَت بعد لحظة: إنني لا أدري ماذا كنَّا سنفعل في هذه المهمة دون رقم «٧٧»!
أحمد: إن رقم «صفر» يختار دائمًا الأشخاص المناسبين لكل مهمة.
ودار بالطائرة فوق فناء السجن، قبل أن يحصل على الإذن بالهبوط … وأخيرًا استقرت الطائرة في فناء السجن وقد جاء إليها عشرة حراس مدججين بالسلاح.
وهبطت «إلهام» خارج الطائرة ووقفَت تحدق في الحراس الصامتين، وقالت بلهجة محلية لأبناء الريف الإيطالي: أين قائد هذا السجن؟
ومن الخلف جاءها صوتٌ يقول بلهجة «صقلية»: ما ظننت أنهم سيُرسلون لي امرأة … على هذا القدر من الحسن والجمال!
التفتَت «إلهام» فوقع بصرُها على قائد السجن … الكولونيل «فريدريك توسكانيني».
كان وجه الكولونيل يبدو أشد قسوة وفظاظة من الصور التي أطلعَتها عليها رقم «٧٧»، وبوجهه الخشن المليء بالندوب وشاربه الضخم الأسود وحاجبَيه الكثيفَين وعينَيه الواسعتَين الماكرتَين وقد تمنطق بمسدس كبير سريع الطلقات، واحتفظ في يده اليمنى بسوط كبير لم يكن هناك شكٌّ في أنه خاصٌّ بتأديب المساجين على أقل هفوة.
أجابَته «إلهام» في فظاظة: إن هذه الدولة ديمقراطية، والنساء فيها لهن نفس حقوق الرجال ويمكنك أن تشكوَ لرؤسائك فيما بعد أنهم أرسلوا إليك فتاة … بدلًا من طبيب رجل!
غمغم الكولونيل في دهشة قائلًا: أتتحدثين عن الديمقراطية في هذه البلاد … فيا لَها من نكتة! … وأطلق ضحكة عالية خشنة قاسية … ثم توقف عن الضحك فجأة والتمعَت عيناه بوميض شرير قاسٍ وهو يقول: إن هذا السجن هو مملكتي ولا يمكن لأحد أن يحاسبني عما يجري فيه خاصة إذا كانت امرأة جميلة مثلك.
أجابَته «إلهام» في ثبات قائلة: لا أظنك من الفطنة والذكاء بحيث تعترض على مهمتي … خاصة وأن هناك عيونًا عديدة بدأت تتنبَّه إلى ما يجري في هذا المكان … وهي مستعدة للإطاحة بأي رأس كتضحية حتى لا تطيَر رءوسها هي …
بان التردد في عينَي الكولونيل … كان من الواضح أن ولاءه الأكبر للمافيا … ولكنه كان موظفًا حكوميًّا في النهاية … وكان يعرف مغزى ما قالته «إلهام» جيدًا … فتحسَّس سوطه بيده وقد زمَّ شفتَيه القاسيتَين، ثم طوح بالسوط في الهواء في فرقعة قوية، والتفت إلى «إلهام» قائلًا: إنني واثق أن تقريرك في النهاية سيكون لصالحي … فهذا ما يفعله الأشخاص العاقلون … الذين يرغبون في العيش طويلًا.
ومد يده مضيفًا: إنني لم أطلع على أوراقك بعد.
أخرجَت «إلهام» أوراقها من حقيبتها ومدَّتها إلى الكولونيل الذي تفحصها في صمت، ثم دسَّها في جيبه قائلًا: سوف آمرُ رجالي بأن يعدوا لكِ أفضل حجرة في السجن … بالقرب من مكتبي.
أجابَته «إلهام» متصنعة الغضب: إنني لم آتِ هنا للاستجمام والراحة … فهناك مهمة يجب أن أبدأها في الحال.
قال الكولونيل متحدثًا: ولكنكِ ستستغرقين وقتًا على أي حال … فإن فحص مائة سجين أو أكثر سيتطلب منكِ البقاءَ في ضيافتنا بضعة أيام على الأقل.
كان «أحمد» يراقب المشهد الذي يجري أمامه صامتًا … وتمنَّى في أعماقه لو أنه حلَّ محلَّ «إلهام» في تلك المهمة … ولكن خبرته الطبية كانت قليلة جدًّا … وفي تلك اللحظة ندم على ذلك أشد الندم.
وتنبَّه الكولونيل «فريدريك» إلى نظراتِ «أحمد»، فقال له: لا أظنك تنوي البقاء أيضًا يا عزيزي في ضيافتنا … فإن هذا السجن لا توجد به غرفُ ضيوف كافية.
أدرك «أحمد» أن الكولونيل يأمره بالرحيل، ولم يستطع الرفض على أي حال، فاتجه إلى طائرته وقبل أن يُديرَ محركها، التفتَت «إلهام» إليه قائلة: عُدْ إليَّ بعد أربعة أيام، وإن كانت هناك أية حالة عاجلة تتطلب علاجًا سريعًا بأحد المستشفيات فسأستدعيك باللاسلكي.
أومأ «أحمد» برأسه مجيبًا بنعم … وحلَّق بطائرته عاليًا … واندفع بها في اتجاه العاصمة الإيطالية وهو يشعر أنه ترك قلبه خلفه.
أطلق الكولونيل ضحكة قصيرة، وقال ﻟ «إلهام»: عن أي مستشفى تتحدثين يا عزيزتي … إن قواعد السجن لا تسمح بخروج أي سجين منه إلا إلى المقبرة.
أجابَته «إلهام» في صرامة: إن الأوراق التي أحملها معي صريحة وقاطعة … وأي سجين سأرى أنه في حالة تستدعي لنقله إلى أي مستشفى فسأفعل في الحال.
قال الكولونيل: أملي أنكِ لن تجدي سجينًا في حاجة لنقله إلى المستشفى.
كانت لهجة الكولونيل قاسية وساخرة في آنٍ واحد … وقد بدَا في ملامحه أنه يعني ما يقوله بالفعل … وفجأة اندفع أحد الحراس إلى الكولونيل صائحًا: لقد تشاجر أحد الحراس مع أحد السجناء فطعنه الحارس بسكين في ذراعه و …
قاطعه الكولونيل في صوت بارد قائلًا: إنك تقصد القول بأن السجين هو الذي حاول طعن الحارس، أليس كذلك يا عزيزي؟
غمغم الحارس في قلق قائلًا: تمامًا يا سيدي … ولكن الحارس قفز بعيدًا فأصاب السجين نفسه!
أشار الكولونيل إلى «إلهام» قائلًا: هيَّا يا عزيزتي فقد جئتِ في الوقت المناسب لتشاهدي بنفسك كيف نعتني بضيوفنا من السجناء.
قاد الحراس «إلهام» إلى حجرة ضيقة قذرة كانت تُستخدم للجراحات البسيطة وقد رقد السجين فوق طاولة خشبية، وراحَت ذراعه تنزف بغزارة من أثر السكين، فقامت «إلهام» بتطهير الجرح والتفتت إلى الكولونيل قائلة: إنني بحاجة إلى بعض المخدر لخياطة هذا الجرح.
هزَّ الكولونيل كتفيه قائلًا: لا توجد لدينا أية مواد مخدرة لمثل هذه العمليات … وسجناؤنا معتادون على عدم وجودها … والآن فلترينا مهارتك في العمل دون مخدر.
وفي صمت قامت «إلهام» بخياطة الجرح والسجين المصاب يعضُّ شفتَيه لشدة الألم … وأخيرًا هتف الكولونيل: رائع … إنك جراحة ماهرة!
قطبت «إلهام» حاجبَيها في غضب متسائلة: وماذا تفعلون بالمصابين ممن يحتاجون إلى جراحات كبيرة وحجرة عمليات؟!
أجابها الكولونيل وهو يُشعل سيجارًا كبيرًا: إن طبيب السجن في إجازة دائمًا لسوء الحظ، وهو ما يجعلنا نطلب من هؤلاء المساكين الصلاة إلى الله لكي يشفيَ جراحهم، والمؤسف أن الله لا يستجيب لصلواتهم ويقبض أرواحهم سريعًا!
غمغمت «إلهام» في غضب قائلة: أي مكان بشع هذا؟! … إنه أشبه بسجون العصور الوسطى!
واستدارَت إلى الكولونيل مضيفة: إنني أريد بدء مهمتي في الحال لأغادر هذا المكان بأسرع ما يمكنني.
الكولونيل: إنني رهن إشارتك يا سيدتي … فإذا أردتِ فحصَ كلِّ المساجين فلا بأس … فهل تحبِّين أن تبدئي بأقدم المساجين أم أحدثهم؟
كانت لهجة الكولونيل تبدو ماكرة، وأحسَّت «إلهام» بأنه ينصب لها فخًّا، فأجابته بعد لحظة: من الأفضل أن أبدأ بأقدم المساجين.
واستدارَت تغادر الحجرة الكئيبة وعينَا الكولونيل تتفرسان فيها من الخلف في شك عظيم!
ومال على أحد جنوده يهمس إليه بكلمات سريعة وحاسمة لم تَصِل إلى أُذُني «إلهام» … وقد ارتسمَت فوق وجهه ابتسامةٌ قاسية وحشية … ابتسامة ذئب يستحيل خداعه.