في قبضة الكولونيل!
كان يومًا عصيبًا إلى أقصى حد بالنسبة ﻟ «إلهام» … وقد راحَت تفحص ما يزيد عن ثلاثين سجينًا كانوا جميعًا يعانون من شتى الأمراض ولكن حالاتهم لم تكن خطيرة.
وقرابة العاشرة مساءً اقتحم الكولونيل حجرة الكشف ووقف يحدق في «إلهام» لحظة وهي تفحص أحد المساجين ثم قال لها: هل أنتِ معتادة على العمل حتى منتصف الليل؟!
أجابَته «إلهام» في إرهاق: تبقَّت حالة واحدة سأفحصها الليلة، وسأؤجل الباقين إلى الغد. تساءل الكولونيل بعينين ضيقتين: هل تعنين السجين المصري … إن اسمه هو التالي في قائمة المساجين؟!
دق قلب «إلهام» سريعًا وأدركَت أنها صارت قاب قوسين من هدفها، وتظاهرت بعدم الاهتمام وهي تقول: إنني لم أقصد سجينًا معينًا، ولم أطلع حتى على كشوف المساجين، ولا يعنيني إن كان السجين التالي مصريًّا أو هنديًّا.
وأشارَت بيدها للحارس الواقف على باب الحجرة، فدفع بالسجين التالي إلى الداخل.
كان هو … المهندس «حلمي» … وكادت «إلهام» تشهق عندما وقع بصرُها على السجين المصري … كان في حالة يُرثَى لها وقد ظهرَت آثارُ تعذيب وحشية أدمَت وجهه وذراعيه حتى كاد يتحول إلى هيكل عظمي … وترنَّح «حلمي» ثم تهاوَى على الأرض فاندفعَت «إلهام» إليه … وأخذَت تقيس نبضه وضغطه.
كان نبضُه ضعيفًا تصدر عنه أصواتٌ مختلطة، وقد راح يشهق بشدة ممسكًا بصدره في ألمٍ حادٍّ … ولم تكن «إلهام» في حاجة إلى خبرة كبيرة لتكتشف ما يعاني منه «حلمي».
كان مصابًا بأزمة قلبية حادة، فالتفتت إلى الكولونيل بوجه شاحب هاتفة: إن هذا السجين في حاجة لنقله إلى المستشفى فورًا؛ فهو مصاب بأزمة قلبية، إذا لم يتلقَّ العلاج المناسب فقد لا تُشرق عليه شمس الصباح!
التمعَت عينَا الكولونيل في بريق وحشي، فقال: هذا رائع وأفضل مما كنَّا ندخره له من نهاية!
تساءلت «إلهام» في غضب: ماذا تعني أيها الكولونيل؟!
أجابها مدير السجن وهو يتفحصها بعينَيه الماكرتَين: لا تشغلي نفسَكِ بأمر هذا السجين يا عزيزتي … ولتنعمي بنوم هانئ إلى الصباح … فقد أعددنا لك فراشًا وثيرًا.
فتحَت «إلهام» حقيبتها في عنف، وأخرجَت جهازًا لاسلكيًّا صغيرًا وهي تقول للكولونيل غاضبة: إنني سوف أستدعي قائد الهليكوبتر لنقل هذا السجين إلى أقرب مستشفى و…
ولكن الكولونيل «فريدريك» انتزع جهاز اللاسلكي من قبضة «إلهام»، وتفحصه في مكر قائلًا: إنه جهاز شائع الاستعمال … بالنسبة لمن يعملون في خدمة الحكومة الإيطالية على الأقل.
دقَّ قلب «إلهام» في عنف، وأضاف الكولونيل: كما أن اهتمامك البالغ بهذا السجين المصري يُقلقني بشدة … وأنا عادة لا أحب ترك الأمور التي تُقلقني معلقةً وأميل إلى حسمها سريعًا!
غمغمت «إلهام»: ماذا تقصد بقولك هذا؟! … إن المهندس «حلمي» ليس أكثرَ من مجرد سجين مريض بالنسبة لي و…
ثم توقَّفت عن الحديث وعضَّت شفتَيها ندمًا … فقد تنبَّهَت متأخرةً إلى خطأ ما … ولم يكن الكولونيل من الغباء بحيث لا يتنبه إلى نفس الخطأ، فقال لها في مكر: كيف أمكنك معرفة اسم السجين وعمله … دون أن يُخبرَك أحد بذلك؟!
أدركَت «إلهام» أن أمرها انكشف … ولم يكن هناك سبيلٌ للإنكار … ولمحَت الحراس الذين أشهروا أسلحتَهم في وجهها دون انتظار إشارة رئيسهم.
وأطلق الكولونيل ضحكة ساخرة وهو يقول: لقد اكتشفتُ حقيقتَكِ منذ أكثر من ساعتين يا عزيزتي.
فقد التقطت كاميراتنا السرية عدة صور لك وأرسلنا بها إلى أصدقائنا في مكان ما نسألهم عن هويتك الحقيقية، وجاءنا الردُّ سريعًا … ولكن اللعبة أعجبتني فتركتُكِ تمارسينها … ولا أنكر أنك أبديت براعة لا يُستهان بها … أليس كذلك يا «إلهام»؟!
تراجعت «إلهام» للخلف … ولكن … ولم يكن وراءها غير الحائط والصمت وهي لا تملك أيَّ سلاح.
وواصل الكولونيل حديثَه وهو يتقدم تجاهها قائلًا: لم أُنكر أن خطتك كانت بارعة … ولكن بطبعي تأخذني الريبة من الغرباء … خاصة إذا كانوا من الأشخاص الواثقين من أنفسهم … أكثر من اللازم. ومدَّ يده نحو «إلهام»، فهتفَت قائلة: لو أنك حاولتَ لمسي لقتلتُك أيها الوغد. أطلق الكولونيل ضحكة وهو يقول: وبأي شيء ستقتلينني أيتها القطة المشاكسة؟! … بأظافرك؟!
وامتدت يداه نحو «إلهام» فصرخَت فيه: فلتجرب هذه الأظافر أيها القذر.
ومزَّقَت بأظافرها وجنتَي الكولونيل، وصرخ من الألم الشديد، وقد صنعَت أظافر «إلهام» خطوطًا دموية في وجهه … واندفع الحراس المسلحون نحو «إلهام» وأيديهم تستعد للضغط فوق أزندة مدافعهم الرشاشة … ولكن قبضة «إلهام» امتدت إلى أقربهم فأسقطَته، وطارَت قدمُها لتُصيبَ آخر … واختطفت مدفع غريمها الرشاش ولكن وقبل أن تتمكن من استخدامه هوى شيءٌ ثقيل فوق رأسها من الخلف.
كان مسدس الكولونيل قد أصاب رأسها فأسال دماءَها وجعلها تترنَّح وسقط سلاحُها من يدها، واقترب الكولونيل من «إلهام» شاهرًا مسدسه صوب رأسها … فراقبَته «إلهام» بعينَين غائمتَين، وقال لها في حقد: يمكنني قتلك برصاصة واحدة في رأسك … ولكني لن أفعل ذلك قبل أن تلاقي عذابًا قاسيًا … ستتمنين معه الموت … وسأترك ذلك المصري الذي جئتِ لإنقاذه يموت أمامك بأزمته القلبية، فإذا لم تقضِ عليه حتى الصباح تكفلت جرعة مضاعفة من السم لتُنهيَ حياته … أما إذا فكر رفيقك قائد الهليكوبتر في المجيء لإنقاذك فسيجد في انتظاره حفلًا حاشدًا أيضًا.
وصرخ الكولونيل في حراسه: خذوا هذه الفتاة وقيدوها إلى سقف السجن.
فاقتاد الحراس «إلهام» إلى الخارج وهي تسير مترنحة … واقترب منها أحدهم ليُقيد يدَيها بحبل سميك فعاجلَته بضربة من قدمها فترنَّح للخلف، ولكن زميله عاجلها بضربة قاسية أسالَت الدماء من فمها.
وغمغمَت «إلهام» في ألم: لسوف تدفعون الثمن مضاعفًا أيها الأوغاد! … وأُقسم على ذلك.
والتقط بعض الحراس نهاية الحبل ومرروه من حلقة حديدية في سقف السجن، ثم جذبوا الحبل، فوجدت «إلهام» نفسها ترتفع في الهواء والحبال تجذبها من يدَيها في ألم قاتل.
عضَّت «إلهام» على شفتيها لتكتم آهة ألم قاسية كادت تفلت من شفتيها، لكيلا تُظهرَ أية بادرة ضعف أمام أعدائها … وأطلق الكولونيل ضحكة قاسية وهو يراقبها قائلًا: فلنرَ كم من الوقت ستتحملين هذه الآلام أيتها الفتاة!
ولوَّح بيده مضيفًا: ولكني أعدك أن أخلصك من عذابك بطلقة واحدة من مسدسي … قبل أن تُشرق شمس الصباح.
وأشار بيده فدفع الحراس بالمهندس «حلمي»، وطرحوه قريبًا من «إلهام»، فسقط على الأرض وهو يشهق بألم حاد ممسكًا بصدره … وقد بدَا أن أزمته القلبية قد تضاعفت … وأن شمس الصباح لن تشرق عليه حيًّا هو الآخر.
وتجمَّعَت الدموع في عينَي «إلهام» … لم تكن آلامها تهمُّها ولا حياتها … وكل ما تمنَّته في تلك اللحظة هو إنقاذ المهندس «حلمي» مهما كان الثمن.
ولكن كان يبدو أملًا مستحيلًا في تلك الظروف. وفكرت … حتى لو بادر الشياطين إلى مساعدتها في الحال ما استطاعوا إنقاذها أبدًا أو اقتحام السجن الرهيب.
وتضاعفت آلامها فصارت لا تحتمل … وأنقذها فقدانها لوعيها من الآلام القاتلة في الوقت المناسب.