المهم … مَن يضحك أخيرًا!
كان لا يزال باقيًا على انقشاع الليل بعض الوقت، وقد بدأت خيوط النور تتسلل مخترقة ستار الظلام تطعنه برماحها فيتراجع كسيرًا مدحورًا في بطء، وكأنه مصرٌّ على التشبث بموقعه حتى الرمق الأخير … كانت صفحة السماء شاعرية فاتنة في ذلك الوقت من الصباح الباكر.
ولكن نظرة مدققة إليها كانت ستلمح شيئًا ما كان يحلق في الأفق في دوائر متسعة.
كان طائرًا أسود اللون بجناحَين عريضَين … لم يكن طائرًا واحدًا، بل ستة أو سبعة راحَت تعمل معًا بشكل متسق وهي تتبادل مواقعها في السماء محلقة فوق أسوار السجن بلا صوت، ودون أن ينتبه إليها حراسُ السجن.
وعندما مال أحدها في هبوط سريع حاد، كشفت بعض أضواء السجن حقيقته … لم يكن طائرًا … كان شخصًا في ملابس سوداء وقد تشبَّث بطائرة خفاشية، ساعدَته مهارته على التحليق بها والحركة في يسر.
واختار صاحب الطائرة الخفاشية مكانًا في قمة سور السجن فسقط فوقه في خفة، دون أن ينتبه الحارس القريب الذي جلس يغالبه النوم … وفي الحال طوى صاحبنا جناحَيه الخفاشية، والتقط من حزامه عددًا من القنابل الموقوتة زرعها في أكثر من جزء من السور.
وتنبَّه الحارس أخيرًا إلى ذلك الشبح الأسود الذي انتصب فوقه، ففتح عينيه في ذهول متسائلًا: هل أنت إنسان أم شبح؟! … ومن أي أرض أقبلتَ؟!
أجابه «مصباح» بابتسامة قاسية: لقد أتيتُ من أرض الشياطين، وحملتُ معي لك هدية خاصة، وطارَت قبضة «مصباح» لتُصيبَ الحارس فترنح للخلف، وبضربة من ساقه أطاح بالحارس فارتفع عاليًا، ثم تهاوى من فوق السور وسقط على الأرض في دويٍّ مكتوم.
والتفت «مصباح» فشاهد بقية زملائه من الشياطين وهم يسقطون فوق مواقعهم التي انتقوها من قبل؛ «بو عمير» … «فهد» … «باسم» … «ريما» … «زبيدة» … «رشيد»… كانوا جميعًا لا يقلون مهارة في ذلك الهبوط، وقد تعوَّدوا على العمل في مثل تلك الظروف.
واندفع بقية الشياطين يزرعون قنابلهم في كل مكان دون أن يشعر بهم أحد الحراس … ولحسن الحظ فإن أحدًا منهم لم يكن ينتظر هجومًا آخر ذلك الصباح.
واقتربت «ريما» من «باسم» هامسة: هل نبدأ هجومنا لتحرير الشياطين الأسرى؟
أجابها «باسم» وهو ينظر لساعة يده المضيئة: ليس قبل خمس دقائق عندما تنفجر أول قنابلنا فتُثير الارتباك والذعر بين صفوف المسلحين والحراس.
ريما: فلنستغل إذن هذه الدقائق في تقديم بعض الألعاب لهؤلاء الأوغاد.
واختفت في قلب الظلام … ثم ظهرت فجأة لأحد الحراس كأنما انشقت الأرض عنها، فحدق فيها الحارس مندهشًا، وقبل أن ينطق بشيء هوَت «ريما» بمدفعها الرشاش فأرسلته إلى عالم الغيبوبة المؤلم.
وفي الجانب المقابل كانت «زبيدة» و«بو عمير» يؤديان نفس المهمة … أما «فهد» فاختار مبنًى خاصًّا بالحراس، وتسلل داخله، وتعامل مع حارسه بالطريقة المناسبة، ثم أغلق الباب الفولاذي على بعض الحراس النائمين داخل المبنى.
ألقى «باسم» نظرة أخيرة إلى ساعته، والتمعَت عيناه وهو يقول: الآن!
ولم يكد يُتمُّ عبارتَه حتى دوَّى انفجار عنيف أطاح بجزء من سور السجن وهز المكان بعنف، وعلى الفور علا صوت صفارة إنذار طويلة … وتصاعدت صرخات مفزوعة للحراس، واندفع بعضهم في اضطراب، لتفاجئهم قنبلة أخرى انفجرت على بعد عدة ياردات منهم أطاحت بنصفهم.
وأشار «فهد» ﻟ «مصباح» و«بو عمير» … كان عليهم تنفيذ الجزء الثاني من الخطة … واندفعوا ثلاثتهم إلى المبنى المحجوز به بقية الشياطين.
وعندما برزت لهم مجموعة الحراس داخل المكان تكفَّلت رصاصات الشياطين الثلاثة بإسقاط الحراس جرحى يئنون من الألم … وبرشقة رصاص عنيفة في قفل الباب الفولاذي تهشم القفل وانفتح الباب على مصراعيه.
واندفع «مصباح» و«فهد» و«بو عمير» داخل الزنزانة، فتطلع إليهم بقية الشياطين في ذهول من ظهورهم المفاجئ، أما «أحمد» فلم تكن ملامحه تحمل أي قدر من الدهشة وهو يستقبل زملاءه الثلاثة قائلًا: إنكم لم تتأخروا عن معادكم ثانية واحدة.
تطلع «عثمان» في ذهول إلى «أحمد» وقال له: هل كنت على علم بوصول بقية الشياطين لمساعدتنا؟!
أجابه «أحمد» وهو يلتقط أحد مدافع الحراس: هناك بعض الأشياء لا تقال إلا في وقتها المناسب.
والتفت إلى «علا» قائلًا: عليك بحماية المهندس «حلمي» لحين انتهائنا من تصفية الحراس. تمالكَت «إلهام» نفسها وهي تشعر بدبيب النشاط في بدنها، بالرغم من آلام معصميها، وقالت وهي تلتقط مدفعًا رشاشًا لنفسها: إن هناك حسابًا قاسيًا يجب تصفيته مع هؤلاء الأوغاد.
فأشار «أحمد» لها باسمًا، وقال: لا تجعلي للحساب بقية … فربما لا تُتاح فرصة أفضل من هذه، واندفع الجميع خارجين وسط دوي انفجارات بقية القنابل المزروعة في كل مكان، وقد بدأت في الانفجار متتابعة كل نصف دقيقة، فأحالت السجن إلى جحيم وأمسكت النيران بكثير من المباني.
واستقبل الشياطين بعض الحراس بالرصاص … وقال «مصباح»: سأذهب لتحرير مجموعة السجناء ليشاركوا في الانتقام من هؤلاء الأوغاد.
واندفع إلى مبنى السجن الرئيسي وخلفه «رشيد» و«ريما».
واستدار «أحمد» على صوت هدير قوي، فشاهد عددًا من المصفحات والمدرعات، يقود أولها الكولونيل «فريدريك» وهي تتجه صوب الشياطين، وقد وجهت فوهات مدافعها إليهم.
وصرخ «أحمد» في زملائه: حاذروا!
وألقى الجميع بأنفسهم متدحرجين بعيدًا لتحاشي جحيم الطلقات التي انفجرت نحوهم … وبحركة بارعة تشبَّث «أحمد» بمؤخرة المصفحة التي يقودها الكولونيل، وقفز فوقها كالفهد وأسقط قنبلة يدوية بداخلها.
ودوى انفجار شديد وتوقفت المصفحة مكانها. وحدث نفس الشيء لعدد آخر من المصفحات، على حين استولى «باسم» على إحداها وأخذ يقذف بقية مصفحات ومدرعات الحراس بالقذائف فأشعل فيها النار.
نظرت «إلهام» إلى الأرض وقالت: لقد لقيَ هذا الكولونيل الوحشي النهاية التي يستحقها وها هي الضحكة الأخيرة كانت من نصيبنا!
ودوَّى انفجار رهيب في نفس اللحظة واندلعَت كرة لهب ضخمة إلى السماء، فقالت «زبيدة»: لقد انفجر مخزن أسلحة وقنابل السجن … وسوف يرى الانفجارَ كلُّ سكان جزيرة «صقلية».
قالت «إلهام» في قلق: علينا أن نُسرع لمغادرة هذه الجزيرة في أسرع وقت، وإلا هرعت كل رءوس المافيا إلى هنا في أقل من نصف ساعة.
وبرز «مصباح» و«رشيد» و«ريما» وخلفهم مجموعة من السجناء وقد تسلحوا بكل ما وصلت إليه أيديهم، واندفعوا نحو بقية الحراس ليردوا ما سبق ونالوه على أيديهم من آلام وتعذيب.
وانتهت المعركة خلال دقائق، فقال «عثمان» في توتر: لنسرع بمغادرة الجزيرة قبل وصول رجال المافيا أو الشرطة من «صقلية».
قالت «هدى» في قلق: ولكن كيف سنغادر هذه الجزيرة ونحن لا نملك الزوارق الكافية لذلك لنحمل معنا هؤلاء المساجين التعساء؟!
قال «قيس» بقلق أشد: وحتى لو امتلكنا هذه الزوارق فإننا لن نستطيع أن نذهب بها إلى أي مكان … فأقرب جزيرة أو أرض تبتعد مسافة كبيرة … ولن يمكننا بالطبع العودة إلى «صقلية»!
تنبهت «إلهام» إلى شيء … كان عدد الشياطين على الجزيرة مكتملًا عدا واحدًا … وتساءلت في دهشة: أين «خالد»؟!
وجاءتها الإجابة سريعًا في نفس اللحظة عندما برزت مقدمة غواصة كبيرة أمام سواحل الجزيرة وانفتحت طاقتها بسرعة وبرز فيها وجهٌ مألوف … وجه «خالد»!
صرخت «إلهام» بفرحة: لنسرع إلى الغواصة … فقد جاءت في اللحظة المناسبة!
أجابها «أحمد» باسمًا: لقد جاء «خالد» في موعده تمامًا.
وسرعان ما كان جوف الغواصة يتسع للشياطين والسجناء، وأخذت تغوص مرة أخرى فاختفت في قلب الماء، تاركة جزيرة السجن وقد تحولت إلى كتلة من الحطام المشتعل.
وهتف «خالد» في زملائه: أسرعوا بحمل المهندس «حلمي» إلى حجرة الجراحة … فقد أعددنا حجرة عمليات خاصة داخل الغواصة، وفيها طاقم جراحي ماهر لعمليات القلب.
فحمل «قيس» المهندس «حلمي» إلى حجرة العمليات … وخلال أقل من خمس دقائق بدأت العمليات الجراحية الخطيرة، والغواصة تأخذ طريقها إلى البحر الأبيض المتوسط وقد وقف الشياطين أمام باب حجرة العمليات في قلق وتوتر.
وسألت «هدى» «مصباح» بدهشة: ولكن مَن أخبركم بما جرى لنا؟! وكيف أمكنكم الوصول إلينا في اللحظة المناسبة؟!
أشار «مصباح» إلى «أحمد» قائلًا: إنه وضع هذه اللحظة!
تعلَّقت عيون الشياطين ﺑ «أحمد»، فقال: لقد خشيت من البداية من وقوعنا في قبضة حراس السجن بأية خدعة، ولذلك طلبت من رقم «صفر» أن يتبعنا بقية الشياطين في غواصة تختفي قريبًا من شواطئ جزيرة السجن، ورسمتُ لبقية الشياطين خطة العمل بالدقيقة في حال وقوع المجموعة الأولى في الأسر … وقد قاموا بتنفيذها ببراعة!
قطب «عثمان» حاجبَيه قائلًا: ولماذا لم تُخبرنا بذلك يا «أحمد»؟!
قال «أحمد»: لقد خشيت أن يكون هناك مَن يراقبنا طوال الوقت، وأن أعداءنا ربما يفهمون لغة العيون والأصابع التي نجيدها فتفتضح الخطة؛ ولهذا احتفظت بها سرًّا.
تطلَّعَت «علا» بإعجاب ﺑ «أحمد» وتساءلت: وماذا ستفعل بهؤلاء المساجين الذين حررناهم؟
أجابها «أحمد»: سوف نعود بهم معنا إلى «مصر»، وبعد ذلك سيكون من حقهم البقاء فيها أو العودة إلى بلادهم وفضح ما قامت به الموساد والمافيا ضدهم.
ورمق «أحمد» «علا» بإعجاب مضيفًا: أنتِ أيضًا قمتِ بعمل رائع يا رقم «٧٧» … ولحسن الحظ أن من اكتشفوا حقيقتك على جزيرة السجن انتقلوا إلى الجحيم، فيمكنك العودة إلى «صقلية» لتمارسي عملك مرة أخرى.
قالت «علا» باسمة: ليس قبل أن أحصل على إجازة طويلة في «مصر»؛ فقد أوحشتني كثيرًا.
ومرت ساعتان بطيئتان مثقلتان بالقلق الشديد، قبل أن يظهر أحد الجراحين خارجًا من حجرة العمليات وعلى وجهه علامات إرهاق شديدة.
وصاحت «إلهام» به: كيف كانت نتيجة العملية؟
أجابها الجراح: كانت الحالة حرجة جدًّا … ولو تأخر نقل هذا المريض إلينا دقائق قليلة لما أمكننا أن نفعل شيئًا له!
واتسعَت ابتسامة منه وهو يضيف. ولكننا تمكنَّا من إنقاذ حياته بفضل الله … وسوف يستعيد صحتَه بسرعة.
صرخ الشياطين من الفرحة، وتعانقوا بشدة بعيون امتلأت بالدموع، فشاركهم بقية المساجين فرحتهم البالغة … وقد بدَت الغواصة التي تحملهم في جوفها مثل مارد عملاق يتسيد المياه، ويستحيل على أيِّ مخلوق التصدي له أو هزيمته.