مقدمة
توجد ثلاث محطات وقود على طريق يقع بالقرب مني، وكلها إلى الجانب نفسه من الطريق. تخفِّض إحداها دائمًا أسعارها عن أسعار الآخرين بمقدار ٠٫٠١ دولار إلى ٠٫٠٣ دولار للجالون الواحد. يصطف سائقو المركبات على هذه المحطة؛ مما يسد الطريق في كلا الاتجاهين. ينتظر المستهلكون كي يدَّخروا في المتوسط ٠٫٠٢ دولار للجالون الواحد. في حالة خزان وقود يسع ٢٠ جالونًا، سيبلغ مقدار التوفير ٠٫٤٠ دولار. لكن إذا انتظرت ست دقائق في كل مرة، فسيبلغ إجمالي التوفير ٤ دولارات في الساعة، وهو ما لا يكافئ حتى الحد الأدنى للأجر، كما أنه سلوك غير عقلاني.
يتصرف مستهلكو الوقود بنحو غير عقلاني لأنهم غاضبون. والسبب وراء غضبهم هو أن سعر الوقود جائر. إنهم يرون السعر جائرًا لأنه مرتفع — إذ تجاوز مؤخرًا ٣ دولارات للجالون الواحد — علاوة على أنهم يظنون أن قطاع النفط لا يتصرف بنزاهة.
تمارس منظمة الأوبك سلطة جائرة على إمدادات النفط؛ فهي الآن تتحكم في حوالي ٤٠ في المائة من إنتاج النفط وأكثر من ٦٠ في المائة من احتياطيات النفط الخام. تجني شركات النفط أرباحًا جائرة. أعلنت شركة إكسون موبيل تسجيلها لأعلى أرباح في تاريخ الشركات. ويتلقى تنفيذيُّو شركات النفط أجرًا جائرًا؛ فالرئيس التنفيذي لإكسون موبيل يتلقى ما يربو على ١٤٤ ألف دولار في اليوم. ويفرض بائعو الوقود بالجملة أسعارًا جائرة؛ فيوظفون نظام تسعير جغرافي سري بحيث يفرضون على بعض المناطق ما يصل إلى ٠٫٥٠ دولار للجالون زيادة عن مناطق أخرى. وفي محطة الوقود، يتحمل المستهلكون سعرًا جائرًا؛ ففي الأيام الحارة يحصلون على كمية وقود أقل مما يدفعون مقابله لأن الوقود يتمدد.
يردُّ المستهلكون على ما يرونه ظلمًا بالضغط على شركات النفط بالطريقة الوحيدة المتاحة لهم؛ بالتعبير عن غضبهم بمحطة الوقود. يتصرف كل مستهلك من تلقاء نفسه، فيشن المستهلكون حروبًا فردية ضد أسعار الوقود الجائرة، لكن قواهم المنسَّقة ستكون هائلة.
- (١)
«عليك تخمين عدد الدقائق التي ستستحوذ فيها على الكرة للعامين المقبلين. لا تبالغ ولا تتهاون في تخمينك وإلا فستدفع الثمن.»
- (٢)
«يتمتع أحدث من ينضم للمعلب بمزايا خاصة؛ وعليه فالأطفال المنضمون حديثًا يحصلون على الألعاب الجديدة ولا يحصل عليها من سبقهم.»
يوضح إعلان شركة سبرينت الظلم الذي يكتنفه تسعير شركات المحمول: رسوم إضافية لتقديرها أنك بالغت في استخدامك أو كان استخدامك متدنِّيًا جدًّا، وكذا رسوم أقل للعملاء الجدد. كان يمكن أيضًا أن يذكر الإعلان فرض رسوم إضافية جائرة مقابل «مسائل تنظيمية» والارتباك الجائر الناجم عن الأنظمة المتعددة والفواتير التي يصعب فك طلاسمها.
يشرح الإعلان أن شركة سبرينت الآن بصدد إعادة صياغة القواعد «لجعل ممارساتها منصفة» اتجهت سبرينت إلى تغيير سياساتها بناءً على الاستجابة الشعبية الهادئة — وإن كانت فاعلةً — لممارسات التسعير الجائر لشركات المحمول. فمن الواضح أن الشركة شرعت في استيعاب أن الإنصاف مهم.
كما يبدو أن شركات الطيران بصدد استيعاب الرسالة أيضًا. منذ طرح شركة أمريكان إيرلاينز في عام ١٩٨٥ لما يُطلق عليه «التسعير المتغير»، راحت شركات الطيران تهنئ نفسها بالاستيلاء على فائض المستهلِك (الفرق بين ما يدفعه المستهلِك فعليًّا لقاء سلعة وما هو مستعد لدفعه في سبيل الحصول عليها)؛ إذ تجعل كل عميل يدفع أقصى مبلغ هو مستعد لدفعه.
المشكلة أنه كان بإمكان أحد الركاب ألا يدفع سوى ١٥٠ دولارًا مقابل رحلة الطائرة من نيويورك إلى لوس أنجلوس في حين كان يضطر راكب آخر على الطائرة نفسها إلى دفع ١٥٠٠ دولار. من دفعوا ١٥٠٠ دولار كانوا ركاب درجة رجال الأعمال الذين لا يحجزون رحلاتهم إلا في اللحظة الأخيرة ولا يقضون ليلة السبت في وجهتهم. كان هذا مقبولًا لدرجة ما؛ فعلى كل حال، كان ركاب درجة رجال الأعمال يتلقَّون خدمة متميزة. لكن هل كانت جودتها أفضل بمقدار ١٠ أمثال جودة الخدمة التقليدية؟
لم يكن الاختلاف في الأسعار المدفوعة مقابل الرحلة الواحدة سوى جزء من المشكلة؛ بينما كان الجزء الآخر أنه لم يتوصل أحد إلى كيفية تحديد الأسعار. لم تبدُ الأسعار منطقية، وبدا أنها تتغير كل ساعة. لم يتلقَّ العملاء أي معلومات، فرفعوا راية التمرد على شركات الطيران. وكما كان الحال مع شركات المنتجات النفطية وشركات المحمول، كانت الثورة هادئة لكنها راسخة.
لسوء حظ شركة دلتا فإن إجراءاتها لم تكن كافية ولم تأتِ إلا بعد فوات الأوان؛ إذ لم ينتبه الجمهور إلى التفاتها إلى عدالة الأسعار؛ فأفلست الشركة ولم تقف على رجليها مجددًا إلا منذ وقت قريب.
إضافة إلى شركات المنتجات النفطية، وشركات المحمول، وشركات الطيران، وخراطيش حبر الطابعات، ثمة معارك مشابهة تدور رحاها ضد الأسعار الجائرة في كثير من القطاعات. أحيانًا ما تكون المعركة خاطفة، مثل صد محاولة موقع أمازون تحصيل أسعار مختلفة مقابل مشغِّل الموسيقى ذاته من مختلف العملاء؛ طُولب البعض بمبلغ ٢٣٣٫٩٥ دولارًا في حين طُولِب آخرون بمبلغ ١٨٢٫٩٥ دولارًا. ونظرًا لغضب العملاء، سارعت أمازون بالتوقف عن هذه الممارسة، وعرضت رد المبالغ إلى كلِّ مَن دفع السعر الأعلى.
وأحيانًا ما تكون المعركة حامية؛ مثل مخترقي الكمبيوتر الذين يبررون قرصنتهم لبرامج شركة مايكروسوفت بأنهم يعتقدون أن أرباحها مرتفعة للغاية. في صيف عام ٢٠٠٣، عندما شن المخترقون هجومًا بالفيروسات والديدان الإلكترونية على نظام ويندوز التشغيلي، تركت إحدى الديدان الإلكترونية هذه الرسالة: «بيل جيتس، أنت السبب في هذا! كُفَّ عن جني الأموال وأصلح برمجياتك!»
السعر العادل
تشير الأدلة إلى أنه إن لم يتحلَّ البائعون بالنزاهة في معاملاتهم، فإن العملاء سينصرفون عنهم. لكن ما هو السعر العادل؟
أما السعر «المستحَق» فهو حكم على السعر بأنه «مُبرَّر»؛ أي أنه «منزَّه عن المحاباة أو الانحياز؛ موضوعي … منصف لكل الأطراف؛ مقسِط … متَّسق والقواعد أو المنطق أو الأخلاقيات.»
والفارق بين السعر العادل «المقبول» والسعر العادل «المستحَق» هو الفارق بين ما نطلق عليه هنا العدالة الشخصية والعدالة الاجتماعية. إنه الفارق بين سعر تفضله لأنه يستوفي معاييرك الشخصية وسعر تحكم بأنه مقبول لأنه يستوفي معايير المجتمع.
والسعر العادل على المستوى الاجتماعي هو السعر الذي يدفعه الجميع، ولا يعود على البائع بأرباح باهظة بشكل غير معقول، ولا يستغل طلب المستهلكين، وما إلى ذلك. أسعار الوقود التي تتجاوز ٣ دولارات للجالون الواحد جائرة على المستوى الشخصي؛ التسعير الجغرافي للوقود — حيث يضطر البعض إلى الدفع أكثر من غيرهم — جائر على المستوى الاجتماعي.
عندما نصف سعرًا بأنه جائر، فغالبًا ما نستحضر العدالة الشخصية إلى جانب العدالة الاجتماعية. أسعار المستحضرات الدوائية تُعتبر جائرة لأنها مرتفعة، ولأنها أغلى من نظيراتها في كندا. أسعار الكتب الأكاديمية جائرة لأنها مرتفعة ولأن الطلاب مجبرون على شرائها. ضرائب المبيعات جائرة لأنها باهظة ولأن الفقراء يدفعون مبلغًا أكبر نسبيًّا.
الأعراف الاجتماعية
تُحدَّد العدالة الشخصية والعدالة الاجتماعية بالالتزام ﺑ «الأعراف الاجتماعية». وهذه الأعراف هي القواعد التوافقية التي تحكم أي مجتمع من المجتمعات. وهي تنطبق على كل جانب من جوانب التبادل الاقتصادي: لا السعر في حد ذاته وحده، بل السلعة المسعَّرة أيضًا، ومن يحدد السعر، والأشخاص الذين يحصلون على استثناءات في السعر، والمعلومات المتوافرة عن الأسعار، وما يشتمل عليه السعر، وما إلى ذلك.
كثيرًا ما تكون الأعراف الاجتماعية مفهومة ضمنًا، بل لا نلاحظها إلا إذا تصادف وانتهكها أحدهم. إنها لا تُملي علينا سلوكنا، بل تكون بمثابة خطوط إرشادية متفق عليها بالإجماع لما هو ملائم.
هَب أن المطاعم تفرض مبالغ إضافية مقابل البهارات. هب أنه عليك أن تدفع بقشيشًا للممرضة مقابل خدماتها. هب أن السمراوات والشقراوات عليهن دفع أتعاب إضافية.
نطاق الأعراف الاجتماعية للتسعير | أمثلة على الأعراف الاجتماعية للتسعير |
---|---|
السلعة المسعَّرة | ينبغي أن تدفع مقابل تناولك الطعام بالمطعم، لكن لا ينبغي أن تدفع لزوجتك مقابل إعدادها الطعام. |
من يحدد السعر | ينبغي للباعة أن يحددوا الأسعار في محلات التجزئة، لا في المزادات. |
ما هو أساس التسعير | ينبغي أن تتنوع أسعار تذاكر القطارات حسب العمر، لا الوزن. |
من يحصلون على استثناءات تسعيرية | ينبغي أن تكون أسعار تذاكر السينما مخفضة لكبار السن من محدودي الدخل، وليس للفقراء محدودي الدخل. |
مكان اختلاف الأسعار | ينبغي أن تكون أسعار الجعة في الفنادق أعلى منها في محالِّ البقالة. |
من يحصلون على رواتب أعلى/أدنى | ينبغي أن يحصل الأطباء على مرتبات أعلى من سائقي حافلات المدارس الذين لا يقلُّون عنهم أهمية. |
السلعة المسعرة بسعر أعلى/أدنى | ينبغي أن يكون سعر بلورات الماس أعلى من سعر بلورات الملح. |
كيف يُحدد السعر | ينبغي أن تتضمن أسعار الوقود تسعة أعشار سنت إضافية، ولا ينبغي لأسعار سلع البقالة ذلك. |
المعلومات المقدمة عن الأسعار | ينبغي لصق الأسعار على السلع في متاجر البيع بالتجزئة على عكس أسواق السلع المستعملة. |
ما يشتمل عليه السعر | ينبغي تضمين خدمة المصاعد في سعر المكاتب، لكن لا ينبغي تضمين الستائر. |
متى يمكن أن يتغير السعر | ينبغي أن يكون مردُّ زيادات الأسعار هو زيادة التكلفة، لا زيادة الطلب. |
ربما تردُّ بأن مثل هذه الأمور لن تحدث، لكن في سلوفاكيا، بعض المطاعم تطلب من السياح مبالغ إضافية مقابل الخردل والكاتشب. وفي الهند، بعض الممرضات يطلبن بقشيشًا قبل أن تتناول الأم مولودها. والأجانب في الهند يدفعون رسومًا مقابل دخول تاج محل تزيد على ما يدفعه أهل الهند. في نظر الأمريكيين كل هذه المصاريف خاطئة، ويعتبرونها جائرة!
ثمة معايير اجتماعية مختلفة للتسعير تفضي إلى العدالة الشخصية والعدالة الاجتماعية. معايير العدالة الشخصية هي «معايير وصفية»؛ فهي تُملي ما يمكن توقعه بناءً على العُرف المتبع في الماضي. إنها تعبر عما يُعتبر عمومًا سلوكًا طبيعيًّا، مثل القيادة على الجانب الأيمن من الطريق.
تشمل المعايير الوصفية للتسعير دفع النفقات نفسها لإرسال خطاب بالبريد أينما كانت وجهته، وتضمين الإطارات في سعر السيارة، مع إضافة تسعة أعشار السنت إلى أسعار الوقود. وعندما تُنتهك هذه المعايير الوصفية، يرى المرء أن الأمر جائر على المستوى الشخصي.
المعايير الاجتماعية للعدالة الاجتماعية هي «معايير تقادمية»، وهي تُملي كيف ينبغي للناس التصرف وفق قيم المجتمع. المعايير التقادمية هي قواعد متفق عليها بالإجماع بين أفراد المجتمع.
من الأمثلة على المعايير التقادمية للتسعير: فرض السعر نفسه على المستهلكين كلهم، وعدم إقحام أتعاب إضافية خفية، وعدم استغلال المستهلكين. عندما تُنتهك هذه المعايير التقادمية، لن يقع الظلم على المستوى الشخصي فحسب، بل على المستوى الاجتماعي أيضًا.
الاستجابة الانفعالية
عندما يكون السعر جائرًا على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ينفعل الناس. لكن حدَّة الانفعال تختلف حسب نوع الجَور الواقع. فردُّ الفعل إزاء الجور الشخصي طفيف، وانتهاك معيار وصفي، مثل توقُّع فرض سعر منخفض، يؤدي إلى الاستياء، فمثلًا: يؤدي فرض سعر إضافي على الخبز في المطعم إلى ضيق وتبرُّم طفيفَين.
لكن على النقيض من الألم الطفيف نسبيًّا المتسبب فيه الجور الشخصي، يكون رد الفعل إزاء الجور الاجتماعي المجحف شرسًا. عندما يرى المستهلك أن السعر جائر اجتماعيًّا؛ فإنه يشعر برغبة غير عقلانية في «الانتقام» من البائع، حتى إن كان ذلك يتطلب جهدًا أكبر من المال المدفوع. سيجادل المشتري جدالًا مطولًا مع مدير المتجر لاسترجاع اﻟ ٥ دولارات التي دفعها مقابل منتَج معيب. وسيقود المستهلك سيارته خمس دقائق إضافية لتجنُّب الصيدلية التي تفرض أسعارًا جائرة.
موجز الفصل
السعر العادل هو سعر مناسب من الناحية العاطفية. إنه مقبول ومستحَق، وتجاوَزَ اختبار العدالة الشخصية والاجتماعية عن طريق الالتزام بالأعراف الاجتماعية. لكن احترس عندما تُنتهَك المعايير ويصدر حكم شخصي واجتماعي على السعر بأنه جائر! تتصاعد الانفعالات، ويستشيط الغضب. وحينها يقول المستهلكون: «إما النزاهة وإما الرحيل!» ويُستحسن أن تنتبه الشركات إلى ذلك.
لشرح المقصود بالسعر العادل، يلجأ هذا الكتاب إلى مختلف أنواع الأدلة: النقلية والنظرية والتجريبية، ويُضَمِّن الخبرات الشخصية والتقارير من المجلات الإخبارية ومواقع الإنترنت وآراء المدوِّنين. قوام هذا الكتاب أن جميع مصادر البيانات قيمة؛ فأي شيء له أن يساعدنا على فهم فكرة السعر العادل المراوِغة.
هذا الكتاب منظم في ثلاثة أجزاء: الخلفية والنموذج والتطبيقات العملية للنموذج.
يضم قسم الخلفية هذا الفصل والفصل التالي حول تاريخ السعر المستحَق.
يشرح قسم «النموذج» كيف تؤدي العدالة الشخصية والاجتماعية إلى تصاعد حدة الانفعالات والأعمال العقابية. ثم أتناول كل عنصر بالنموذج بمزيد من الشرح في الفصول اللاحقة. توضح هذه الفصول كيف أن الأحكام على عدالة السعر يمكن أن تزيد من الثقة وأنها مدعومة بالثقة، لكن يمكن أن تتبدد الثقة سريعًا بفرض سلطة البائع. يتضمن كل فصل مُلحقًا لتعريف المفاهيم الأساسية، وهذه المفاهيم مجمعة في مسرد في نهاية الكتاب.
في قسم «التطبيقات»، يجري تطبيق النموذج على حالات معيَّنة من عدالة الأسعار: البقشيش واختلاف سعر السلعة الواحدة، والمفاوضات، والضرائب، والتفاوت بين الثقافات. يتناول هذا القسم السبب في أن العرف المُتَّبع هو دفع بقشيش إلى النادل، والسبب في اهتمامنا بالمبالغ التي يدفعها الآخرون، والسبب في أن الضرائب القديمة هي أفضل ضرائب.
رغم أن أول ثمانية عشر فصلًا تتناول عدالة السعر من وجهة نظر المستهلك، يلقي الفصل الأخير الضوء على عدالة السعر من وجهة نظر البائع. ويوضح الفصل التاسع عشر كيف تتجنب أن يقول لك المستهلك: «ثمة خطأ في السعر! إنه سعر جائر!»