الثقافة
يزور الأمريكيان، بوب وكارول، إسبانيا للمرة الأولى. يتناولان غداءهما في مطعم صغير خلاب، يضم نضدًا خشبية مكسوة بمفارش منقوشة بالمربعات، والخبز لذيذ بشكل خاص: ساخن وطازج ورقيق. عندما استلما الفاتورة وجدا بها ٣ يورو زائدة عما توقَّعا، وعلما أن الزيادة المقررة مقابل الخبز، فاشتكى بوب قائلًا: «لكني لم أطلب خبزًا»، فردَّ النادل: «لكنك أكلته.»
عادة ما يتفاجأ الأمريكيون عندما يُطالَبون بدفع كلفة إضافية مقابل الخبز في إسبانيا، أو مقابل المقبِّلات في البرازيل، أو البهارات في سلوفاكيا. كما نُصاب بالقدر نفسه من الدهشة جرَّاء العكس؛ مثلًا، نطلب المزيد من زجاجات الجعة في الصين عما نشرب فعليًّا لكننا نُحاسب على ما استهلكناه فحسب. في كل هذه الحالات نتفاجأ؛ لأن المعيار الاجتماعي القائم بالولايات المتحدة هو الدفع مقابل ما تطلب؛ ومقابل ما تطلب فحسب، وأي شيء يُقدَّم دون طلب يُفترض أنه مجاني، وهذا عادل في الثقافة الأمريكية، لكن العادل في إسبانيا هو أن تُحاسب على ما تأكله!
تشير المسافة من السلطة إلى قبول الاختلافات في السلطة داخل الثقافة الواحدة، ويمكن تقسيمها إلى: مسافة بعيدة عن السلطة في «ثقافة هرمية»، ومسافة قصيرة من السلطة في «ثقافة أفقية». في الثقافات الهرمية مثل الهند والبرازيل تُقبل التفاوتات بين المجموعات باعتبارها المعيار السائد. أما في الثقافات الأكثر أفقية، كألمانيا الغربية سابقًا والولايات المتحدة، بدرجة أقل، فتقل درجة قبول التفاوتات.
تشير الفردية أو الجمعية إلى ما إذا كان الناس عادة ما يرون أنفسهم ككيانات منفصلة أم كأفراد ضمن جماعة. يعرِّف الفردانيون أنفسهم من منطلق الذات، ويُعرِّف الجمعانيون أنفسهم من منطلق الجماعة التي ينتمون إليها. تُعتبر الولايات المتحدة أكثر البلدان فرديةً في العالم. ألمانيا — أو على الأقل ألمانيا الغربية السابقة — تهيمن عليها النزعة الفردية كذلك، لكنها ليست بدرجة الفردية المتوحشة التي تتصف بها الولايات المتحدة. في المقابل، تُعد الهند دولة جمعية، وتزيد عنها البرازيل في تلك النزعة.
العدالة الشخصية بين الثقافات
لا غرو أن الناس من كل الثقافات يستجيبون انفعاليًّا للسعر الزائد عن المتوقع أو لممارسة التسعير المختلفة عن المنتظر. إنهم يتفاجئون ولا يسرُّهم ما يجدون. لكن لكل ثقافة معاييرها الاجتماعية التي تصوِّر المتوقع، والطبيعي في ذاك المجتمع بعينه. كما شرحنا سابقًا، المعايير التي تصوِّر ما يُعتبر «اعتياديًّا» يُطلق عليها معايير التسعير الوصفية.
-
ارتفاع سعر الخدمات في ألمانيا.
-
انخفاض سعر الخدمات في الهند.
-
الدراجات المجانية بشوارع أوسلو.
-
رفض البقشيش في المطاعم الصينية.
-
إدراج الضرائب في الأسعار الأوروبية.
-
غياب الكوبونات من الصحف الهندية.
-
حساب كلفة أكياس البقالة بالمتاجر الكبيرة في ألمانيا.
-
المساومة على الأسعار في المغرب.
-
طلب «البقشيش» في مصر.
-
إدراج الإفطار في الفنادق الإنجليزية.
-
التكلفة الإضافية للخبز في بعض المطاعم الأوروبية.
في جميع مجموعات التركيز البحثية، عبَّر المشاركون عن غضبهم عندما ظنوا أن معايير التسعير الاجتماعية تعرضت للانتهاك، ثم أرادوا تبريرًا لذاك الانتهاك للمعايير.
النتائج العادلة بين الثقافات
في مجموعات التركيز البحثية التي باشرناها، كان الإنصاف أحد التبريرات المقبولة بوجه عام لسعر غير متوقع، أو إجراء تسعيري غير متوقع. وحسب معيار الإنصاف، ينبغي أن يعكس السعر قيمة المنتج/الخدمة التي يشتريها المشتري، فإن زاد السعر ٢٠ في المائة، اتفقت المجموعات كلها على أن القيمة ينبغي أن تزيد في المقابل كي يظل السعر عادلًا.
رغم أن معيار الإنصاف يبدو عالميًّا، فإن معيار التكافؤ يتنوع بحسب ما إذا كانت الثقافة هرمية أو أفقية. تفضِّل الثقافات الهرمية التفاوت حيث يُعامَل البعض معاملةً مختلفة بسبب سلطتهم أو الطبقة التي ينتمون إليها أو مكانتهم. على سبيل المثال: في بلد هرمي كالهند، يُعتبر تحصيل كلفة أعلى من الأغنياء إجراءً عادلًا، وكما أوضح المشاركون في مجموعات التركيز البحثية الهندية: «سيطالبني صاحب المتجر بأسعار أعلى لأنه يعلم أن بمقدوري الدفع»، «يتوقف السعر على نوع الملابس التي ترتديها، ومحفظة النقود التي تحملها، ونوع السيارة التي نزلت منها.»
في الثقافات الجمعية، المعيار الكائن هو تقديم أسعار أفضل لأفراد المجموعة الداخلية. «إذا كنت تعرف صاحب محل، فستذهب إليه مباشرة وأنت على بينة من أن بمقدورك الحصول على خصم كبير. يعتمد الكثيرون على الحصول على خصم شخصي.» «قد يعطي صاحب المحل خصمًا، لا لعميل دائم فحسب، وإنما لشخص يشعر بالامتنان إليه لسبب آخر؛ فربما يكون قريبًا أو تجمعه به روابط عملية.»
تنتهك المعاملة غير المتكافئة للعملاء معيارَ التكافؤ الاجتماعي القائم في الثقافات الأفقية الفردية مثل ألمانيا الغربية سابقًا. في ثقافات كهذه، المعيار القائم هو معاملة جميع العملاء على قدم المساواة، ورغم إمكانية حصول أفراد الأسرة أو الأصدقاء على تسعير تفضيلي، فإن الأمر لا يشيع بالدرجة نفسها التي يشيع بها في الثقافات الجمعية والهرمية.
ولأن الفردانيين يؤمنون بالمعاملة المتساوية للجميع، يستجيب شعبا الولايات المتحدة وألمانيا لحاجة العمال بصورة أكبر عما يفعل شعبا البرازيل والهند، اللتان تتسمان بثقافتهما الجمعية. في مجموعات التركيز البحثية، قبِل الألمان زيادة في الأسعار نَتجت عن زيادة في الأجور: «ستكون تسوية الأجور مفهومة تمامًا»؛ «إن تسويات الأجور سياسة ممتازة في ألمانيا.»
إلا أن البرازيليين لم يقتنعوا بسهولة بالزيادات السعرية الناتجة عن الزيادات في الأجور، وكانت تعقيباتهم من قبيل: «أهذا سبب عادل؟»؛ «سأتشكك في مبرر كهذا، إنه لمبرر واهٍ ومبهم.» (ترددهم في منح العمال زيادة في الأجر ربما يرجع في جزء منه فقط إلى قبولهم بالتفاوت، ولا شك أنه ينبع أيضًا من خوف البرازيليين الكبير من التضخم.)
كما طالعنا في الفصل الثامن، تفضي انتهاكات المعايير الاجتماعية إلى إلقاء اللوم على الشخص المسئول، لكن مختلف الثقافات تلقي باللوم في مختلف الاتجاهات، فالجمعانيون يميلون إلى لوم القدَر على النتائج السيئة، واعتباره مسئولًا عن النتائج الطيبة أيضًا. إلا أن الفردانيين ينزعون إلى تلقِّي الثناء مقابل أي شيء طيب يحدث، وإلى إلقاء اللوم على الآخرين — مثل البائع — جرَّاء أي شيء سيئ يحدث مثل ارتفاع الأسعار.
العملية العادلة بين الثقافات
يشير نموذج السعر العادل في الفصل الثالث إلى أنه إن أُلقي بلائمة السعر على البائع، فستُصبِح حينها إجراءات البائع لتحديد السعر شاغلًا، وهذه الإجراءات تقيدها معايير اجتماعية. تمنح هذه المعايير الباعة قدرًا من السيطرة، وهو ما يُعتبر عادلًا، وعندما يشعر المشترون في أي مكان أنهم يفتقرون للسيطرة، فإنهم يرفعون أصواتهم بالاعتراض: «هذا جائر!»
على سبيل المثال: اشتكى أحد البرازيليين قائلًا: «هذا الأمر برمَّته جائر! فلا يوجد أمامك خيار!» وأضاف آخر: «تزداد ثورتي عندما لا يتسنَّى لي إبداء رأيي!» وعلى غرار هذه المشاعر، عبَّر مشارك أمريكي عما يعتمل داخله: «حين لا تملك أي قدر من السيطرة، فإن هذا يصيبك بالجنون!»
تُعَد ألمانيا مثالًا على ذلك، فهي ذات ثقافة فردية أفقية؛ حيث يرفض الشعب أي تحكم حكومي في الأسعار: «غير مسموح للحكومة عامةً بتحديد الأسعار، فحينها لن نكون في اقتصاد سوق حر!»
على الناحية الأخرى، في البرازيل، وهي ذات ثقافة جمعية هرمية، يوجد قبول أكبر للتدخل الحكومي (رغم أنهم يرتابون في الحكومة، كما سنرى). ذكرت مجموعات التركيز البحثية البرازيلية التي درسناها أن زيادات الأسعار تكون عادلة إذا «قررت الحكومة صرف أجرة إضافية»؛ «الزيادات القائمة على مثل هذه العقود زيادات عادلة. قد لا تبدو عادلة للمستهلك، لكنها متوقعة في إطار العقد المبرم مع الحكومة.»
وفي الهند، حمَّلَت جماعاتُ التركيز البحثية الحكومةَ المسئولية الأساسية عن تحديد الأسعار. «ينبغي أن تثبِّت الحكومة أسعار السلع الأساسية»؛ «ليس بمقدورنا فعل أي شيء حيال ذلك [الربح الفاحش] ما لم تحلَّ الحكومة هذه المشكلات»؛ «إذا كانت سلعة بعينها مكلفة بسبب الطلب العام، فبوسع الجماهير ممارسة ضغط على الحكومة، وبوسع الحكومة توفير أموال الدعم لخفض سعر تلك السلعة.»
كما طالعنا في الفصل التاسع، يُعتبر السعر عادلًا عندما يجعل الباعة إجراءات تحديدهم للسعر شفافة، لكن مطالبات المستهلكين بشفافية التسعير تتباين. وتتوقف الاختلافات بين مطالباتهم لا على الثقافة فحسب، بل على الاقتصاد أيضًا؛ أي إن كان سوقًا للمشتري أم سوقًا للبائع؛ ففي سوق البائع بصورته التقليدية في البلدان النامية، ربما يلقى غياب الشفافية كراهية لكنه لا يزال يلقى قبولًا بوصفه المعيار السائد. في البرازيل، قال أحد المشاركين بالمجموعات آسفًا: «ثمة مقدار ضئيل جدًّا من الشفافية فيما يتعلق بالمستثمرين أو المستهلكين. في الاقتصاديات الأكثر نموًا، ثمة قواعد تحكم المعلومات التي تصل إلى الأشخاص المعتادين على الحصول على هذه النوعية من المعلومات.»
ردود الفعل إزاء التسعير الجائر بين الثقافات
قد يكون ارتفاع مستوى معيشة الفرد هو السبب وراء تصاعد الأصوات الصادحة بالشكوى للبرازيليين، رغم أنهم جمعيون: «أصبحنا أقل تسامحًا وأكثر مطالبة بشأن جودة الخدمات»؛ «إن لم تتصرف أو تتحول إلى بائع آخر أو تشكو، فإن شركة الخدمات ستظن دومًا أنك غير مكترث بالسعر.» «بالتأكيد سأشكو.»
اتفق كل المشاركين في مجموعات التركيز البحثية التي باشرناها في ألمانيا على أنهم لن يرفعوا شكوى إلى الشركة، ليس شخصيًّا على الأقل، وقال المشاركون: «لا أرى أن بوسعك حثهم على أي استجابة»؛ «لن تجني سوى إثارة غضبهم»؛ «أعرف من آخرين أن بعض العملاء تقدموا بالشكوى، وتسبب ذلك في إزعاج للشركة؛ إذ ما برح الناس يتصلون ويشتكون.» ربما قال الألمان إنهم سيرسلون خطابًا مهذبًا، لكن كان ذلك كل ما في الأمر.
الآثار الأخرى للثقافة
لكن يبدو أن البرازيليين الجمعانيين يرتابون في كلٍّ من الحكومة وقطاع الأعمال عامة، وحسبما أطلعنا أعضاء مجموعة التركيز البحثية ﻓ «المشكلة هي أنه عندما تدخل الحكومة كطرف في اللعبة ستشعر أنك تتعرض للاحتيال»، «تنزع إلى التفكير في أن الشركة تستغلك من البداية»، «إنها مؤامرة دائرة، والجميع بها ضدك.» «إنهم يكذبون.»
أما بخصوص الضرائب، فإن الفردانيين، كالأمريكان، يؤمنون بالاكتفاء الذاتي والمعاملة الخاصة لمن يستحقها؛ ومن ثَمَّ يفضلون إنصاف الضريبة التصاعدية، مثل: ضريبة الدخل الفيدرالية الحالية بالولايات المتحدة. أما الجمعانيون، كأبناء أوروبا الشرقية، فإنهم يشددون على العلاقات داخل الجماعة، ويفضلون المساواة في المعاملة لتعزيز التواؤم؛ ومن ثَمَّ يريدون أن يتحمل كل شخص مقدارًا متساويًا من الضرائب، الأمر الذي ربما يفسر نجاح تطبيق الضريبة الثابتة في كثير من البلدان الشيوعية السابقة.
موجز الفصل
ينطبق نموذج السعر العادل بالفصل الثالث عامة على مختلف الثقافات، لكن ثمة اختلافات بين المعايير الاجتماعية للتسعير التي نشأت، والكيفية التي يعاقِب بها المرء انتهاكات هذه المعايير. يمكن تفسير بعض هذه الاختلافات بالفروق بين الموضوعات الثقافية، كالفردية/الجمعية، والهرمية/الأفقية.
لكن لا توجد ثقافة تُعتبر مثالًا صِرْفًا على هذه الموضوعات؛ فالثقافات كافة تمثل أمزجة متناقضة، ورغم أن أهل الولايات المتحدة يتمتعون بدرجة عالية من الفردية، فإنهم يحسنون تقلد الأدوار في الفريق.
علاوة على ذلك، فمع أن بعض المعايير قد تعكس ثقافة المجتمع، فقد نشأت معايير أخرى بمحض الصدفة أو بموجب مرسوم؛ وعليه، فلا توجد طريقة منظمة لتفسير معايير التسعير المختلفة كافة بمختلف المجتمعات، فلا يسع المرء سوى الإقرار بها وقبولها.
ومن ثَمَّ، ربما لم تطلب خبزًا في ذاك المطعم الأوروبي، لكنك إن قضمت قضمة صغيرة من الرغيف، فستدفع تكلفة إضافية. هذا هو المعيار القائم، وهو يُعتَبَر عادلًا!
تعريفات
فشل يوتوبيا السعر العادل
هل يبدو لك هذا الوصف مألوفًا؟ هذا لأن هذه اليوتوبيا كانت منظومة التسعير في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. كانت منظومة تسعير مصممة لتكون عادلة. إذن، أين كانت المشكلة؟
ربما كانت عادلة نظريًّا، لكن ليس على أرض الواقع. لم تكن الأسعار تعكس القيمة كما لمسها المستهلك. كان تحديد القيمة يتم على يد مصالح حكومية مترهلة بناءً على حسابات معقدة للتكلفة والربح، إضافة إلى تكاليف التوزيع، مع قيمة ومنفعة الاستهلاك. لم تكن لدى المستهلك أية فكرة عن الكيفية الفعلية لتحديد الأسعار. لم يرتبط العرض بالطلب. كانت السلع الاستهلاكية ناقصة دومًا مهما كانت قوة الطلب.
كانت المنظومة مفروضة من السلطة العليا؛ ومن ثَمَّ لم يكن لدى المستهلك أي رأي؛ وعليه، فلم يشعر بأي قدر من وخز الضمير عند مخالفتها علنًا، وانتعشت السوق السوداء. ورغم أن جميع المستهلكين دفعوا نظريًّا الثمن نفسه، فلم يتحقق ذلك على أرض الواقع.
كانت منظومة التسعير غير منصفة، وغير متكافئة، وغير قابلة للسيطرة، وغير شفافة. كان هناك خطأ في الأسعار؛ وهذا ليس عادلًا.