أولًا: هل النفس موضوع مستقل؟

إذا كان المنطق علمًا مستقلًّا، علم قواعد النظر، وطرق الاستدلال علاقة الذات بنفسها، وكانت الطبيعيات والإلهيات علمًا واحدًا، علاقة الذات بموضوعها، فإن النفس موزعة بين هذين العلمَين المستقلين في النفس الناطقة أي النفس العاقلة، والنفس الطبيعية قوى التغذي والنمو والتوليد والحس والحركة، والنفس الأخلاقية بما فيها من انفعالات وإرادات ورغبات وأشواق، والنفس الإلهية، النفس الخالدة التي تتجاوز البدن وتتجه نحو المعاد.

هي جزء من المنطق لأن المنطق يعتمد على المدركات الحسية والمجريات خاصة في الاستقراء. كما أن التصورات والأحكام أعمال ذهنية. والعقل من قوى النفس، والنفس الناطقة، أداة العلم.

وهي جزء من الطبيعيات نظرًا لاتصالها بالبدن. فهناك النفس النباتية ووظائفها في النمو والتغذي والتوليد. والنفس الحيوانية التي تشارك في وظائف النفس النباتية وتضيف عليها الحس والحركة. وهناك النفس الناطقة التي تشارك في جميع وظائف النفس النباتية والنفس الحيوانية بالإضافة إلى الحواس الداخلية والنفس الأخلاقية وقوى الشهوة والغضب والعقل.

وهي جزء من الإلهيات في نظرية الاتصال بالعقل الفعال والنبوة والوحي والإلهام والمقامات والملائكة، والتحول من العقل إلى الاشتياق ومن النفس إلى الله. وعلى هذا النحو تُصبح النفس موضوعًا للحكمة النظرية.

ونظرًا لارتباط النفس بالنزوع والرغبات والأهواء والانفعالات والإرادات فإنها تكون أيضًا بداية الحكمة العملية وأساسها، الأخلاق والاجتماع والسياسة فهي حامل الفضائل، العفة، والشجاعة والحكمة طبقًا لقواها الثلاث، الشهوية والغضبية والعاقلة كما فعل مسكويه خاصة. وهي أساس علم الاجتماع والسياسة أو العلم المدني بتعبير الفارابي بهدف هذا العلم هو تحصيل السعادة. وربما تكون النفس هي العامل الأول المحرك في حركات الشعوب ومسار التاريخ.

النفس إذن ليس لها موضوع خاص بل هي حاضرة في كل موضوعات الحكمة النظرية والحكمة العملية. بدايتها في الحكمة النظرية في المنطق والطبيعيات والإلهيات، ونهايتها في الحكمة العملية، الأخلاق والاجتماع، السياسة والتاريخ.

يتراوح الحديث عن النفس إذن بين هذه المستويات الثلاثة: الطرفان والوسط، فهي نفس «فزيولوجية» على صلة بالبدن والأخلاط والعناصر الأربعة، وهي نفس قدسية روحية تتصل بالعقل الفعال والملائكة والروح واللوح والقلم والكرسي والعرش، محط النبوة. وهي نفس ترتسم فيها المقولات عن طريق الحواس وبها قواها الإدراكية من حسٍّ وتخيُّل وتوهُّم وحفظ وعقل.

وقد تطرق الفلاسفة جميعًا لموضوع النفس مع اختلاف التركيز على النفس الناطقة مثل الكِنْدي والفارابي وأبي حيان، أو النفس الطبيعية مثل ابن سينا وابن باجه، أو النفس الخالدة مثل إخوان الصفا.

ليس في الفلسفة الأولى عند الكِنْدي تحليلٌ للنفس أو للعقل أو للنوم والرؤيا أو ما يتعلق بهذا العالم الإنساني المتوسط بين الطبيعيات والإلهيات في تصور ثنائي للعالم دون نفس، وكأن الفلسفة الأولى فقط هي مناهج بحث وتصنيف علوم أو العلاقة بين الفلسفة والدين. فبالرغم من إشارات الكِنْدي إلى موضوع النفس في الفلسفة الأولى إلا أنها موضوع ملحق بها قبل أن تنقسم الحكمة في بنية ثلاثية محكمة عند ابن سينا.

توجد النفس فقط عرضًا في تحليل الواحد والكثير، وبيان أنواع الوجود الأربعة، في العين، وفي الفكر (الذهن)، وفي اللفظ، وفي الخط، وكلها مرتبطة بالنفس، العين حاسة، والذهن تصور، واللفظ لغة، والخط رسم باليد، الأولان لهما وجود ذاتي داخل النفس، والآخران لهما وجود عرضي خارج النفس، الأولان ذات، والآخران موضوع بما في ذلك اللغة، كما يظهر موضوع الكليات وارتسامها في النفس. وهو موضوع منطقي يُضيف إليه الكِنْدي حلًّا رابعًا وهو الوجود في النفس (الشعور) بعد الوجود في الأذهان (المثالية)، والوجود في الأعيان (الواقعية)، والوجود في الألفاظ (الاسمية).

ليس الكِنْدي فيلسوف النفس مثل إخوان الصفا أو ابن سينا، فمن مجموع الرسائل الفلسفية هناك قليل منها في النفس، أحدها تأليف في الوافد، أفلاطون وأرسطو، وأخرى مترجمة، والمطبوع والمخطوط والمعروف منها لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من مجوعة مؤلفات الكِنْدي.١ ففي رسالة «في أنه توجد جوهر لا أجسام» مقدمة عامة للنفسانيات تعادل الفلسفة الأولى كمقدمة عامة للإلهيات يتم تفصيلها في «كلام وجيز في النفس» و«مختصر الكلام في النفس». تعرض للنفس فقط دون الإشارة إلى باقي الجواهر المفارقة كما هو الحال في علم أصول الدين في مبحث الجوهر في المقدمات النظرية الأولى مثل الله والملاك والعقل والنفس. و«العقل» رسالة مستقلة. والله في التصور الثنائي للعالم والملاك أحد موضوعات الدين الصريح. الواحد الحق لا نفس له ويمكن استخدام موضوع النفس والعقل، الحسيات والكليات من أجل إثبات الوحدة الحقة وليس الواحد بالمجاز، وليس من أجل تأصيل حكمة إنسانية وبعد إنساني مستقل عن التصور الثنائي للعالم.٢

وإخوان الصفا هم وحدهم قبل ابن سينا الذين أفردوا الجزء الثالث من الرسائل للنفسانيات والعقليات بعد الجزء الأول عن المنطق والرياضة والجزء الثاني عن الطبيعيات. أما الإلهيات فقد ظهرت في الناموسيات الإلهية والشرعية، أي في الحكمة العملية، وليست في الحكمة النظرية بالرغم من أن الأقسام الأربعة تقود كلها إلى الإلهيات. ونظرًا لسيادة موضوع النفس عند الإخوان فإنه يصعب تصنيف أعمالهم في المنطق أو الطبيعيات أو الإلهيات لأنها كلها نفسانيات.

وقد غلبت على الجميع النظرة الإنسانية خاصة عند إخوان الصفا والتوحيدي وإلى حدٍّ كبير عند ابن سينا فيلسوف النفس وكما تجلت عند الصوفية.

إخوان الصفا هم الذين أفردوا جزءًا من أقسام الحكمة إلى النفسانيات والعقليات، وهي عشر رسائل يتضح منها أن النفس بداية تأسيس أنثروبولوجيا طبيعية وعقلية وإنسانية واجتماعية وسياسية وتاريخية دون أن تظهر رسالة صريحة بعنوان النفس؛ إذ تظهر الطبيعيات صراحة في الرسالة التاسعة عن العِلل والمعلولات. كما يظهر المنطق في الرسالة العاشرة عن الحدود والرسوم. فالنفس والعقل هما نقطة البداية التي تُحيل إلى النسق كله، المنطق والطبيعيات والإلهيات. كما تحيل النفس إلى مبادئ الموجودات العقلية، أي إلى التماهي بين الوجود والعقل، والعقل إحدى قوى النفس، وأن المبادئ روحانية وجسمانية لارتباط النفس بالبدن كما هو واضح في الرسالتَين الأولى والثانية والتأكيد على أن العالم كروي الشكل، كما تُحيل النفس إلى الإنسان ويُحيل الإنسان إلى العالم من جديد في تقابل بين العالم كإنسان كبير، والإنسان كعالم صغير. ثم تظهر موضوعات الدين والطبيعة والتاريخ مع النفس والعقل، انتقالًا من موضوع إلى آخر لتجنيد القارئ وإغراقه في عالم الوحدة الشاملة. ففي الرسالة الثانية عن كمية أجناس الحركات في الفصل السادس بيان مشاهدة العلماء العارفين المستبصرين الذين هم أولياء الله المصطنعون الذين يرون صانع العالم بعين البصيرة. والفصل السابع في بيان وجود العالم عن الله عودًا إلى نظرية الفيض، والرسالة السابعة في البعث والقيامة، وتظهر الأنثروبولوجيا التاريخية صراحة في الأكوار والأدوار، وهي مفاهيم شيعية ظهرت عند السجستاني.٣ ومع ذلك يظل الفارابي هو فيلسوف السياسة وابن سينا هو فيلسوف النفس.

والسؤال هو ترتيب النفس وقواها؟ بأيها تكون البداية؟ هل تبدأ بقوى النفس الناطقة ثم النفس الطبيعية ثم النفس الإلهية طبقًا لترتيب أقسام الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، أم بالنفس الطبيعية «الفزيولوجية» الحس والحركة، ثم النفس الناطقة لما كان العقل من قوى النفس الناطقة وأخيرًا النفس الخالدة؟ في الحالة الأولى تسبق النفس الناطقة النفس الطبيعية، وفي الحالة الثانية تسبق النفس الطبيعية النفس الناطقة. وفي كلتا الحالتين تأتي النفس الإلهية أو النفس الخالدة في النهاية. في الحالة الأولى يكون المسار من الفلسفة إلى العلم إلى الدين، وفي الحالة الثانية يكون المسار من العلم إلى الفلسفة إلى الدين.

وهو كلُّه نسقٌ فكري حضاري واحد، لا فرق بين علوم الطبيعة وعلوم الروح، الشيء والبدن والنفس والمجتمع والتاريخ كما هو الحال في «علم الميزان» عند الشيعة. وهي تجربة إنسانية عامة، والانتقال من النفس إلى الطبيعة في التشبيه أو من الطبيعة إلى النفس في التنزيه في نصف عالم الشعور وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.٤
والإنسان يجمل كل هذه المستويات، النفس الطبيعية والنفس العاقلة والنفس الأخلاقية، والنفس الخالدة. ويذكر لفظ الإنسان صراحة على أنه أحد مراتب الفيض كوحدة واحدة، لا بدن ولا عقل ولا نفس ولا روح. البداية بالإنسان الطبيعي ومجموع قوى النفس، ترتيبها وعددها. ويأتي البدن قبل النفس في ترتيب الإنسان الطبيعي، إحصاء أعضائه ومراتبها، وأي قوة في أي عضو، وأي قوة هي الرئيسية، ومراتبها في الرياسة، وأيها الخادمة. ثم حدوث الإنسان من الإنسان، والذكر والأنثى وترتيبهما وقوة كل واحد، وكيف يتم التوليد ونسبة كلٍّ منها من الذكورة والأنوثة، وأي الأعضاء يحدث أولًا، ثم تظهر النفس العاقلة كيف يحدث العقل وكيف يفعل العقل الفعال في الجزء الناطق، وأصناف المعقولات الأول، وكيف تحدث النفس الأخلاقية، ومعنى الإرادة والاختيار والفرق بينهما، ومعنى السعادة والشقاء، ومصير الإنسان إلى أحدهما باختياره، ومعنى الأفعال الجميلة الفاضلة والأفعال القبيحة الرذيلة. وأخيرًا تظهر النفس الخالدة، المنام وأصناف الرؤيا لأي جزء من النفس، وما الرؤيا الصادقة وقوتها في النفس، وعلى أي شيء تدل، وكيف تدل، والتعبير عنها، وصدْق الإنذار بما سيكون، واتصال النفوس الإنسانية بالعقل الفعال حتى تبقى وتفنى النفوس الحية، لا فرق في ذلك بين الموروث والوافد، أفلاطون وأرسطو، الوحي وبأي قوة يكون، والملاك الذي يبلغه والإنسان المبلغ به أي النبوة. فالوحي جزء من العلم الإنساني. والنفس من موضوعات العلم المدني أيضًا؛ لأن علاقتها بالبدن مثل علاقة الإمام بالمدينة.٥
١  الكندي، رسائل، ج١، ص٢٦٥–٢٦٩. وهذه الرسائل هي: (١) رسالة في أنه توجد جواهر لا أجسام (ص٥)، (٢) رسالة في القول في النفس في المختصر من كتاب أرسطو أفلاطون وسائر الفلاسفة (٨)، (٣) كلام الكندي في النفس: مختصر وجيز (٢)، (٤) رسالة في ماهية النوم والرؤيا (١٩)، (٥) رسالة في العقل (٦)، (٦) رسالة في دفع الأحزان (٢٧). وهي ستُّ رسائل من مجموع ٤٢ رسالة تمثِّل ١٦٪ من مجموع الأعمال. وهناك ثلاث رسائل مترجمة من مجموع ٤٢ بنسبة ٧٪، وهي (١) هل يجوز أن يتوهم ما لا يرى؟ (٢) رسالة في الفراسة، (٣) في الرؤيا والمنام، والمعارف كله مطبوعًا ومخطوطًا حوالي ١٥ رسالة من جملة ٣٦١ بنسبة ٤٪، منها: (١) كتاب في أوائل الأشياء المحسوسة، (٢) كتاب (رسالة) في أن النفس جوهر بسيط غير دائر مؤثر في الأجسام، (٣) كتاب (رسالة) في مائية الإنسان والعضو الرئيسي فيه، (٤) كتاب (رسالة) في خبر اجتماع الفلاسفة على الرموز القسمية، (٥) رسالة فيما للنفس ذكره وهي في عالم العقل قبل كونها، (٦) آداب في النفس، (٧) رسالة في علم الحواس. ومجموع صفحاتها ٦٧ص في مقابل ٣٧ص في الفلسفة، وما يزيد على ١٠٠ص في الفلسفة الأولى. ومن مجموع الأعمال المخطوطة والمطبوعة والمترجمة تمثِّل النفس ١٤٪ ومن المؤلفات المعروفة وحدها ١٥٪.
٢  الكندي، الفلسفة الأولى، ص١٣٤-١٣٥.
٣  الرسائل العشر هي: (١) في مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريِّين، (٢) في المبادي العقلية على رأي إخوان الصفا، (٣) في معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير، (٤) في العقل والمعقول، (٥) في الأدوار والأكوار، (٦) في ماهية العشق، (٧) في البعث والقيامة، (٨) في كمية أجناس الحركات، (٩) في العلل والمعلولات، (١٠) في الحدود والرسوم.
٤  وكما قال فيرلين «إنها تُمطر في السماء كما تمطر في قلبي.»
٥  الفارابي، فصول المدني، ص٨٣-٨٤، كتاب الملة، ص٦٣، التعليقات (٥٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤