ثالثًا: النفس الناطقة

وتعني النفس الناطقة ظهور العقل في النفس متجاوزًا الحس والحركة، ويبرز موضوع اللغة هل هو أقرب إلى النفس البدنية أو النفس العاقلة أو إلى كليهما؟ لأن المنطق نفسيٌّ أيضًا. وتشمل قسمين: العقل بكل درجاته ابتداءً من الحس حتى الخيال، والنبوة ونظرية الاتصال وكل ما يتعلق بالوحي والإلهام.

(١) العقل

ويضم العقل الحس وجميع أنواع العقول، الهيولاني والمستفاد، بالقوة وبالفعل، والعقل الفعال.

(أ) نظرية العقول (الكِنْدي)

العقل أحد مظاهر النفس. لذلك دخلت رسالة «في العقل» ضمن الرسائل النفسية مع «القول في النفس» و«الكلام في النفس». الصور العقلية في النفس، والنفس شيء واحد مما يدل على وحدة الذات والموضوع. ويتم الانتقال من العقل إلى النفس ثم إلى الصورة والمادة وكأن الموضوع ما زال في النفس الطبيعية. يرتبط العقل بالنفس، فالمنطق إحدى قوى النفس، والمعقولات تنشأ باتحاد النفس بالكليات. وتصبح النفس عاقلة بالفعل بعد أن كانت عاقلة بالقوة. والعقل المستفاد أو العقل بالفعل أو العقل بالقوة هو النفس وليس العقل.

ويقسِّم الكِنْدي العقلَ إلى عقل أول وعقول ثوانٍ من أجل إفساح المجال للتصور الديني للعالم. فالعقل الأول هو الله، والعقول الثواني عقول البشر، وهي نفسها قضية الوحدة والكثرة التي يظهر فيها التوحيد الإسلامي والتصور الثنائي للعالم، تفرد الله بعقل واحد وتكثر العقول الإنسانية. العقل الأول علة لجميع المعقولات الثواني. والعقل الثاني القوة للنفس إن لم تكن النفس عاقلة بالفعل. والثالث هو العقل بالفعل الذي للنفس مكتسب كالكتابة في الكاتب استعدادًا يستعملها متى يشاء. وهو عقل ظاهر للنفس متى أخرجته كان موجودًا لغيرها بالفعل الثالث قنية للنفس أي إمكانية واستعداد. والرابع تحقق العقل بالفعل. فإذا كان الثالث الاستعداد الداخلي فالرابع التحقق الخارجي. أسماء العقول المتكثرة مجرد أسماء تدل على مراحل التعليم والاستفادة من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل إلى مرحلة الظاهر. ولا حاجة إلى العقل الظاهر إلا إذا كان هو العقل عندما يتحول إلى علم وصور في النفس بعد أن كان مجرد ملكة أي التمييز بين العقل الفطري (بالفعل) والعقل الظاهر (المكتسب).١ العقل الثالث البرهان للنفس. والعقل الرابع البرهان للآخر. الأول نظري والثاني عملي. وأهمية نظرية العقول أن بها تغيُّرًا وحركة واستفادة وقضاء على الجهل والثبات والتلقين. إنما السؤال هو: من أين يأتي الجهد؟ من الأنواع والكليات أم من الإنسان؟ صحيح أن التركيز على فاعلية الأنواع والكليات يجعلها قادرة على الإبداع. فالفكر يولد ذاته. ويتم ذلك أيضًا من خلال الجهد الذاتي وإلا تحول الفكر إلى آلة، والنشاط الذهني إلى آلية. لا تهم الأنواع بل الفكرة العامة حتى لا يتحول الفكر إلى مجرد نسيج. كما لا تهم النفس أو العقل بل الإنسان كذات عارفة ونشاط ذهني.

ويتم ارتقاء النفس بالعلم والتعليم بتحويل العلوم الرياضية من المستوى الصوري والعلوم الطبيعية من المستوى المادي إلى مستوى النفس. يهبط الصوري إلى النفسي والاجتماعي والسياسي. ويرتفع المادي إلى النفسي والاجتماعي. ثم يرتفع النفسي والاجتماعي إلى الروحي. ويتم التحول من النظر إلى العمل، من الغربة إلى الاغتراب، من الصوري والمادي إلى النفسي، ومن النفسي إلى الإلهي.

فالنظر في الهندسة العقلية ومعرفة خواص العدد والأشكال يُعين على فهم تأثير الأشخاص الفلكية وأصوات الموسيقى في نفوس المستمعين. والنظر في كيفيات تأثيرات الحس في منفعلاتها يُعين على فهم كيفية تأثير النفوس المفارقة في النفوس المتجسدة في العالم. ويتداخل علم النجوم باستمرار مع علم النفس من أجل شدِّ الانتباه وجذب النفس خارج العالم والوقوع في الاغتراب. وتكشف موسيقى الكون ونغم الطبيعة وتناغم الأعداد عالم النفس ثم عالم الروح. وهو غرض الحكماء من استعمال الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات عند القرابين نظرًا لخاصية الألحان في تليين القلوب القاسية وتذكير النفوس الساهية وكأنها نظرية في الخلاص عن طريق الموسيقى والسمع عند الصوفية. فتستغني النفس عما هو مكتوب في الألواح؛ لأن موسيقى القرآن أبلغ من كتابته. العلم في النفس حتى يشرق الله فيها، وتزهر العناية والاختراع والإبداع، ألفاظ الإخوان قبل ابن رشد. فالله والروح مرتبطان بالنفس.٢ العلم قضية النفس، والسؤلات الفلسفية هي المقولات العشر في المنطق. فالمنطق علم نفسي.

(ب) نظرية الاتصال (الفارابي)

والنفس الناطقة عند الفارابي هي القوة الخامسة بعد الغاذية والحاسة والمتخيلة والنزوعية. وهي جزآن: نظري للرياضيات، وعملي للأخلاق. والعملي قسمان: فكري للروية، ومهني للصناعات. النظري للنظري الخالص، والعملي للسلوك والأفعال. ومقياس التمييز بين النظري (الرياضي) والفكري (العملي) أن الأول لا يمكن تغييره في حين أن الثاني يمكن تغييره، تميزًا بين الحتمية والحرية، بين الضرورة والإرادة، بين الطبيعة والاختيار، بين الثابت والمتحول. والمهني والصناعي قبل التجارة والفلاحة والطب والملاحة.٣ لذلك يقسم الفارابي أحيانًا النفس إلى قوًى حساسة ومتخيلة ونزوعية، وناطقة عملية، وناطقة نظرية، مسقطًا الغاذية، ومقسمًا الناطقة إلى عملية ونظرية.

والبشر من حيث فِطَرهم مختلفون بالنسبة إلى قبول المعقولات الأُوَل نظرًا لتفاضلهم بالطبع والمقدمات. وهم ثلاث فِرَق من أدنى إلى أعلى. الأولى مَن لا تقبل بالطبع شيئًا من المعقولات الأُوَل. والثانية مَن تقبلها على غير جهتها مثل المجانين. والثالثة مَن تقبلها على جهتها وهم أصحاب الفطر الإنسانية الذين ينالون السعادة. وذو الفطر السليمة لهم فطرٌ مشتركة لقبول معقولات مشتركة للسعي بها نحو أفعال وأمور مشتركة، ثم بعد ذلك تأتي الفروق الفردية والجماعية. والبعض معدٌّ لقبول معقولات خاصة ليست مشتركة. فهناك نوعان من المعقولات، عامة للجميع وخاصة للبعض كما هو الحال عند الصوفية وقسمة الناس إلى عامة وخاصة. والمعقولات الخاصة لجنس آخر لا يشارك فيها أحد. البعض معدٌّ لمعقولات لجنس واحد، والبعض الآخر معدٌّ لمعقولات تصلح لجميع ما في ذلك الجنس. فالتفاضل موجود في القوى الاستنباطية من معقولات واحدة. يمكن لواحد أن يستنبط شيئًا أقل، وللآخر أن يستنبط شيئًا أكثر. يمكن لواحد أن يستنبط شيئًا واحدًا في الجنس، ولآخر أن يستنبط جميع ما في الجنس.

قد يتساوى اثنان في القدرة على استنباط الأشياء بعينها ولكن واحدًا أسرع من الآخر في استنباط أفضل ما في الجنس، والآخر أبطأ في استنباط أحسن ما في الجنس. وقد يتساوى اثنان في قوة الاستنباط، والبعض ليس له هذه القدرة. وقد يتساوى اثنان في كل شيء، ويختلفان في القدرة على الأفعال البدنية أي في الفروق الجسمية.٤
وترتبط النفس بالإدراك الحسي حتى الإشراق عليها. والإدراك للملائم أي المنافر، اللذة إدراك الملائم، والأذى إدراك المنافر. وكلُّ إدراك له لذتُه وكماله سواء كان ملائمًا أو منافرًا. وكمال الإدراك المنافر يستطيعه مثل القلب للغضب، والرجاء للوهم. وكل كمال معشوق لقوة إدراكه. فالكمال في التحقق. والإدراك الأخلاقي هو الإدراك الديني الروحي الصوفي. فكمال النفس في إدراك كمالها الأول. وينتهي الاتصال بين الذات والموضوع، بين المدرك والمدرك إلى لذة الاتصال وتفنَى عن ذاتها. فإذا رجعت تأففت. ولا يتم الأمر آليًّا بين العاشق والمعشوق طبقًا للحاجة بل بعد كشف الغطاء. فليس كل محتاج إلى صحة يفطن لها، وليس كل ممرور يستعذب الحلو، وليس كل جائع يحتاج إلى طعام. وكشف الغطاء مفهوم صوفي، كشف عن النفس حتى يشتاق الحسُّ إلى ما ينقصه. وبعد رفع الحجاب تشاهد الذات الملكوت. ويعشق الحق لذاته كما هو الحال في الحسن والقبح عند المعتزلة، وحب الله لذاته عند الصوفية.٥
ومعرفة الحق تتطلب الالتزام. فالنظر عمل ولا وسط بينهما إلا خمولًا أو عجزًا، وهو نوع من الجذرية في عدم وجود وساطة بين الإيمان والعمل مثل الخوارج مما يدل على أن التصوف صعود إلى أعلى خارج العالم. كما أن الخوارج نزول إلى أسفل داخل العالم.٦

ويتضح الجانب الصوفي في نظرية المعرفة عند الفارابي، واستعمال عبارات صوفية وأحاديث نبوية وكأننا في «المنقذ من الضلال». كما يظهر القرآن الحرفي، مثل: وكلكم آتيه يوم القيامة فردًا. ويتوجه الفارابي إلى القارئ بالنداء وكأنه شيخ فيجذب المريد وصاحب دعوة بين الناس. والسؤال هو: لماذا يكون إدراك الكمال الأول للنفس إلى أعلى وليس إلى أسفل، خارج العالم وليس داخله؟ هل الاتصال الدائم لذة أم الاتصال بعد الانقطاع هو اللذة؟ قد تدل لغة الإدراك والعشق واللذة على حبٍّ إنساني ضائع والتسامي به، حب الإسلام الضائع والحق المهضوم. وقد يكون حبًّا جنسيًّا مكبوتًا يجد عوضه في الحب الصوفي.

ويفصل الفارابي في «آراء المدينة الفاضلة» القوة الناطقة وكيف تعقل وسبب ذلك وهي نظرية العقول، المنفعل (الهيولاني وبالقوة)، والعقل بالفعل، والعقل الفعال. ترتسم المعقولات في النفس الناطقة. والمعقولات إما في جوهرها عقول بالفعل ومعقولات بالفعل، وهي الأشياء البريئة من المادة أو معقولات ليست بجوهرها معقولة بالفعل كالحجارة والنبات وكل ما هو جسم، والعقل الإنساني هيئة في مادة معدة لقبول رسوم المعقولات، عقل بالقوة أو عقل هيولاني. وهي أيضًا بالقوة معقولة وسائر الأشياء التي في مادة لا يمكن أن تصير من تلقاء نفسها معقولات بالفعل بل تحتاج إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى الفعل تصير عقلًا بالفعل إذا حصلت المعقولات التي تصير كذلك بالفعل بفعل فاعل. هو ذات، جوهر، عقل بالفعل، مفارق للمادة. وهو العقل الفعال الذي يعطي العقل الهيولاني ضوءًا كالشمس بالنسبة للمبصر.٧

والمعقولات الأولى المشتركة ثلاثة أصناف: الأولى أوائل الهندسة التعليمية أي الرياضيات دون ذكر للمنطق وكأن الرياضيات بديل عنه. والثانية أوائل الجميل والقبيح في سلوك الإنسان وهي الأخلاق. والثالثة أوائل أحوال الموجودات التي يعقلها الإنسان ومبادئها ومراتبه مثل السموات والسبب الأول وسائر المبادئ الأُخَر وهي الإلهيات والطبيعيات.

تمتاز نظرية العقول باعتبارها تفصيلًا للقوة النظرية بالحركة والتدرج والانتقال من النقص إلى الكمال، ومن القوة إلى الفعل، وليست آلية مادية. وينتقل الفارابي من المستوى المادي الطبيعي في تحليل المني والأنثيَين في النفس الطبيعية إلى تحليل العقول على المستوى الغيبي في ازدواجية ربما ما زالت قائمة حتى الآن. ولا يظهر تعبير عقل مستفاد أو عقل بالملكة. ربما لا يعني شيئًا إلا مجرد المزاج الوقتي والإحساس باللغة. ليس المهم أسماء العقول، بالقوة هيولاني، منفعل، فهي كلها مصطلحات وألفاظ وتعبيرات وليست أشياء. وكذلك بالفعل أو مستفاد فهي تعبيرات عن عملية التعلم عن طريق العوامل الخارجية والداخلية، الخارجية المتمثلة في العقل الفعال والداخلية في العقل الإنساني وجهده في اكتساب المعارف. وإذا كان العقل مع الله والثواني والنفس وكل الجواهر المفارقة كصفات لله تحولت إلى وجود وأسباب الطبيعة الأبدية، فإن العقل الفعال هو المرتبة العاشرة. جمع بين الأعلى والأسفل، لقربه من السماء والأرض.

نظرية العقل الفعال هي في الحقيقة نظرية الرؤية والإبصار ولكنها مشخصة في الوجود على نحوٍ كوني وليس على نحوٍ معرفي فقط. هي نظرية في الإدراك تقوم على أن الشعاع يأتي من الخارج إلى العين وليس على صدور الشعاع من موضوع البصر إلى العين أو من العين إلى موضوع البصر. وتكرار صورة الشمس والبصر يدل على أن الخطاب أدبي إنشائي وليس خطابًا علميًّا. ويكون ابن الهيثم على حق في تحويل الصورة الفنية إلى نظرية في الإبصار، تقوم على الشعاع المزدوج بين العين والشيء في علاقة أفقية وليس بين العقل الفعال والعقل المنفعل في علاقة رأسية.

ونظرية الاتصال بالعقل الفعال بين النفس الناطقة والنفس الأخلاقية، نظرية في المعرفة ونظرية في السعادة في آنٍ واحد. وتكون السعادة بإعطاء العقل الفعال الإنسان المعقولات الأُوَل التي هي المعارف الأُوَل. فالنفس تعرف الخير بالعقل الفعال، وتشتاقه بالقوة النزوعية، ويعمل ويروي فيها بالقوة العملية. والقوتان المتخيلة والحساسة مساعدتان للقوة الناطقة حثًّا للنفس على الخير. يصعب التفرقة إذن بين القوة النظرية للمعرفة والقوة العملية للأخلاق. فحصول القوة الناطقة وتحوُّل العقل الهيولاني إلى عقل مستفاد وإلى عقل بالفعل كل ذلك مقدمة للفعل الخلقي من أجل السلوك الفاضل.

والعقل الفعال يُخرج العقل من القوة إلى الفعل فيصبح عقلًا بالفعل. والقوة العملية من أجل السلوك والفعل حتى يصبح العقل عقلًا بالفعل، وينتقل من العقل الهيولاني إلى العقل المستفاد. وبقدر ما تتم تصفية القلب يُشرق العقل الفعال. وأحيانًا يضع الفارابي التقابل بين العقل النظري والروح. فوظيفة العقل النظري التجرد والتصفية. والروح مِرآتُه، وهو صقل لها. المعقولات ترتسم فيه من الفيض الإلهي. والصقل للخلاص من الشهوة والغضب والحس والتخيل، وهذا يتطلب جهدًا ومعاناة وتحولًا، تحول المعرفة إلى سعادة بالاتصال باللذة العليا. فالأخلاق شرط المعرفة. ويستعمل الفارابي تعبيرَ الروح القدسية التي لا يشغلها العالم السفلي عن العالم العلوي، ولا يشرف حسها الظاهر حسها الباطن. وقد يتعدَّى تأثيرها من بينها إلى الأجسام العالية. تقبل المعقولات من الروح والملائكة بلا تعلم. لا يشغلها شيء مما يشغل الروح العامي.

والسؤال هو: هل إخراج العقل من القوة إلى الفعل يتم بجهد العقل الفعال في النفس أم بالجهد الإنساني وتصفية النفس أم بكليهما والجهد المشترك كسبًا وموهبة، تحصيلًا وإلهامًا، نقلًا وإبداعًا؟٨

والكليات في الأذهان لا في الأعيان، والمثل والصور الطبيعية ليست مفارقة في حين أن التعليمات الرياضية بذواتها مفارقة. وهو ما سيعود إليه ابن سينا في الحديث عما قبل الكثرة (الموجودات المفارقة)، ومع الكثرة (الرياضيات) وبعد الكثرة (الصور الحسية للمجردات).

وقد تضيع القوى النظرية والعلمية المعرفية من العالم الخارجي في النظرية الإشراقية والمعرفة من الفيض الإلهي. وبدل أن تعمل الحواس عضويًّا يعمل العقل ليصقل مِرآة الروح لتعكس الفيض الإلهي.

والروح القدسية هي روح إنسانية سامية، روحٌ بالمعنى المجازي أي النفس الطاهرة الصافية القادرة على تلقِّي العلوم من الملائكة مباشرة دون تعلُّم واكتساب. ليس لها حواسُّ ظاهرةٌ أو باطنة مثل النفس. قد ترمز إلى الوعي الخالص قبل أن تتحول إلى وعي مغترب خارج العالم.٩

وبحصول العقل الفعال يتم الانتقال من المعرفة إلى الأخلاق على عكس أصول الدين عند المعتزلة الذي يبدأ بالفعل الحر كأول فعل للعدل ثم يظهر العقل بعد ذلك في الحسن والقبح العقليَّين. «أنا أريد إذن أنا أفكر» في الكوجيتو الاعتزالي، و«أنا أفكر إذن أنا أريد» في الكوجيتو عند الفلاسفة. فالمعرفة عند الفارابي ليست مجرد معرفة بل حنين وشوق ونزوع. لا يحب الإنسان إلا المعرفة، أي الحب العقلي وليس حبَّ الأشياء أو العالم أو الأشخاص. لا يحب الإنسان إلا المعاني والأفكار.

(ﺟ) الحس والعقل واللغة (التوحيدي)

نظرًا لاعتماد التوحيدي على أبي سليمان فإن ما يردُ على لسانه يعبر في نفس الوقت عن رأي الاثنين. فالرواية اختيار، والتبليغ رسالة. ولم يحدث تراكم فلسفي كافٍ عند أبي حيان والكِنْدي إلى الفارابي ربما لأن أبا حيان أديب أولًا وفيلسوف ثانيًا، أو لأنه يمثل الثقافة الشعبية في حين يمثل الحكماء الثقافة العالمة. لذلك أتت أفكاره متقطعة جزئية قصيرة النفس، حدوس ورؤًى أكثر منها أنساقًا وبراهينَ.

عند أبي حيان توجد ثنائية الحس والعقل، الأدنى والأعلى، الحيوان والإنسان. ويتم عرض الموضوع ابتداء من الغناء وليس النفس. فالمغني إذا سانده آخر يكون ألذ وأطيب تأييدًا للغناء الجماعي و«الهارموني» والتقابل الصوتي. فالحس واحد والمسموع واحد. واجتماع الحسَّين يصحح بعضهما البعض مما يدل على أهمية التناغم والتوافق. والفن لا يخاطب الحس فقط بل العقل أيضًا. التقابل بين الحس والعقل هو تقابل بين التهيج والسكون. وللسمع والبصر الأولوية على باقي الحواس الجمالية. والعقل كالوجدان يشتاق.١٠ نموذج الفن الموسيقي وليس الرسم أو التصوير في حضارة الشعر.١١
وطبقًا لقسمة وسائل المعرفة إلى حس وعقل ينقسم العلم إلى معرفة وعلم، جزئي وكلي، حسي وعقلي. وأحيانًا يدخل الإلهي فتصبح القسمة ثلاثية: حسي وعقلي وإلهي، وكأن الله هو الضامن لصدق المعرفة.١٢ ولا يستغني الحس عن العقل. ووجود الإلهي يسمح بالبعد الجديد، المعارف الإلهية. الله هو علة المحسوسات والمعقولات (النوشجاني). فالعلاقة بين المعارف علاقة شمول وكمال. والموجودات أيضًا تنقسم إلى حسية وعقلية، فيحدث تطابق بين الوجود والمعرفة.١٣ والعقل له معانٍ عديدة، هيولى في البداية، ومستفاد في الوسط، وفعال في النهاية صعودًا، أو فعال في البداية، مستفاد في الوسط، وهيولى في النهاية نزولًا. وهو في حوار مع العقلاء لا مع الحمقى.١٤ والحس والقبح عقليان.

والعلم أيضًا هو العلم الشعوري، والكلام هو الكلام الشعوري. العلم صورة المعلوم في النفس ينتقل من القوة إلى الفعل.

ثم ينفصل العلم عن النفس ويصبح منطقًا مستقلًّا، كليات بسيطة وجزئيات مركبة، من الأولى إلى الثانية استنباط، ومن الثانية إلى الأولى استقراء. وهي نفس ثنائية العقل والحس على مستوى مناهج التفكير، من العقل إلى الطبيعة أو من الطبيعة إلى العقل، مجرد تدريبات عقلية متتالية، الطبيعة من البسيط إلى المركب، والعقل من المركب إلى البسيط. وكلاهما في حاجة إلى توسط.١٥ الكلي مفتقر إلى الجزئي، والجزئي مفتقر إلى الكلي في نظرة شاملة متكاملة مثل الفارابي في «الجمع بين رأيَي الحكيمَين».
وللتعريف حدود. فالحد ليس حقيقة وبينهما بونٌ شاسع. الحد من الذات، والمحدود من الموضوع. الحدود متعددة والمحدود واحد.١٦ وإثبات الذوات الإبداعية يُغني عن البحث عن ماهياتها وكأن وجودها ماهياتها. وهناك علاقة بين الزائد والنقص، بين الإيجاب والسلب، بين الذات والغير. وهي علاقة أحادية الطرف، علاقة الجنس بالنوع، العقل بالطبيعة. فالمتقدم بالذات غير المتقدم إلينا. والعلم هو العلم بالمبادئ الأولى لكل صناعة مع ضرب المثل بالموسيقى. ويمكن دراسة مصطلحات المنطق من ناحية نفسية لتأسيس المنطق النفسي خاصة إذا كانت مصطلحات تجمع بين المنطق الصوري والمنطق المادي والمنطق الشعوري.١٧ وهو فكر ديني مقنع على مستوى المنطق والطبيعة، ثنائية الله والعالم، الآخرة والدنيا، النفس والبدن. كما تظهر لغة الافتقار والاستغناء.
ومعارف الإنسان وأصولها ثنائيات أو ثلاثيات تكشف عن الأساس الشعوري للعلم، مثل: الوهم والظن، العقل والحدس، الشك واليقين، السابق والغالب، الإيجاس والإيهام، السانح والخاطر واللائح، القلة والكثرة، الضعف والقوة، اللين والشدة، المزاج والهيئة، الطبيعة والخلط، العادة والمنشأ، التقليد والاستبداد.١٨
وينشأ الضحك طبقًا لأبي سليمان من قوة ناشئة بين المنطق والحيوانية، حركة النفس بين الداخل والخارج، تدريجيًّا باعتدال (الفرح والسرور) أو دفعة واحدة (الغضب). تتجاذب قوتان فيحدث الاستهزاء والقهقهة، جمعًا بين التفسير الفزيولوجي والتفسير الشعوري. والحس يرتبط بالنفس الغضبية. والعمى عمى القلب والفؤاد. فهناك فرقٌ بين البصر والبصيرة كما هو الحال عند الصوفية. ويرتبط العقل بالانفعال وهو رأيُ أبي سليمان. العقل غير صوري بل شعوري. والانفعال هنا له معنًى إيجابي. والحسن والقبح تجربتان شعوريتان. ويرتبط العقل بالنفس (الحياة)، وبالبدن (العافية)، وبالمجتمع والفقر والغنى وهو رأي عيسى بن علي.١٩
واللغة دليل على النفس في ثنائية اللفظ والمعنى، والكثرة والوحدة، والاختلاف والاتفاق، وتكشف عن الأساس النفسي لها. والأدب مادة التحليل. فالكلام المعدُّ سلفًا يبدأ من اللغة واللفظ. والسليقة تبدأ من المعنى النفسي. ومن هنا ينشأ الصراع بين المحفوظ والمطبوع، بين النقل والإبداع، بين الصنعة والطبيعة.٢٠
واللغة هي المدخل للفكر، أساس تقسيم العلوم إلى منطق وطبيعيات وإلهيات. النحو منطق الفكر، منطق الطبيعة، والإلهيات منطق اللغة، تحليل العبارات التي فيها الله موضوعًا للقضية. واللغة أساس قسمة الظرف إلى زمان ومكان، والمكان إلى لطيف وكثيف. ولسان الجاحد أشد من قلب الجاهل؛ لأن الأول وهمٌ والثاني عجز. وعدوٌ عاقل خيرٌ من صديق جاهل.٢١ والعقل من العقال أي الربط. وتعجز اللغة عن وصف الأمور الباطنية.٢٢
والناس في عقولهم على مراتب من أسفل إلى أعلى. الأولى مغمورة بالشهوات، والثانية منتبهة ولكن مخلوطة بالجهل، والثالثة ذكية ملتهبة ولكن عامية عن الآجلة، والرابعة مضيئة من الله.٢٣
والإنسان أيضًا على ثلاث مراتب من أسفل إلى أعلى: الإنسان الطبيعي وهو المائت ثم الحي ثم الناطق. المائت الحي يشارك فيه الحيوان، والناطق يتفرد به بنور العقل من قِبَل الإله. وهو ما يتجاوز قول القدماء من أنه حيٌّ ناطق مائت، حيٌّ من قِبَل الحس والحركة، وناطق من قِبَل الفكر والتمييز، مائت من قِبَل السيلان والاستحالة. من حيث هو حيٌّ شريك الحيوان الذي هو جنسه. ومن حيث هو مائت شريك ما يتبدل ويتحلل، ومن حيث هو ناطق إنسان عاقل حصيف، ومن حيث يبلغ إلى مشابهة الملك بقوة الاختيار والنور الإلهي، وينعت بصمة العقيدة وصلاح العمل وصدق القول. هو ملك أو جامع لصفاته. وكما يرتقي الجنس إلى نوع كامل يرتقي النوع إلى شخص كامل.٢٤
وغاية المعرفة الاتصال بالمعروف. والنفس علم، والبدن جهل. النفس في الأصل علاقة، والعلم صورتها. ولما لابست البدن وصار البدن بها إنسانًا اعترضت حجبٌ بينها وبين صورتها كثيفة ولطيفة فصارت تمزِّق الحجب بكل ما استطاعت لتصل إلى غيبها. فصارت تعلم الماضي بالاستخبار، وتعلم الآتي بالتلقي، وتعلم الحاضر بالتعارف والمشاهدة. وكلُّها علوم زمانية بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالعلم في الزمان. أما المعرفة خارج الزمان فخاصة بالله وحده. ولا يقاس على المعرفة الإنسانية في الزمان بالرغم من اشتراك الأسماء والصفات.٢٥ وفعل النفس إثارة العلم من مظانه، واستخلاصه من العقل بشهادته، واستفادة صور ومنافع بمنهج العيان والمشاهدة.
وتتدرج الوسائل والغايات، ويترتب النقص والكمال، وتتعدد بمنهج مراتب العبودية والطريق إلى الله في ثنائيات وثلاثيات أو رباعيات تدل على الطريق والحركة من أسفل إلى أعلى مثل أغلال النفس، وأفعال القلوب والسبب الداعي، ومراتب التقرب، وتعرف على الذات بحسب المنتهى، ومراتب العيش في الآخرة، ومراتب العبودية في المعيشة الدنيوية، ومراتب العبودية بحسب القوة العملية وفراق العبد للمولى.٢٦ وتتوالى الثنائيات الخلقية المروية عن الصوفية خاصة أبي سليمان.٢٧

(د) الصور الروحانية (ابن باجه)

والنفس الإنسانية بها ثلاث قوًى: الحس والعقل والحدس. ويجعل ابن باجه الإلهام والإلقاء في الروع جزءًا من الحدس. وهي تدخل ضمن الانفعالات العقلية ولا يعتبرها جزءًا من العقل حتى لا يتحول إلى عقل إشراقي، وفي نفس الوقت إفساح المجال للنبوة بالمعنى الإشراقي، التأويل، وليس بالمعنى الفقهي، التنزيل.٢٨

وموضوع النفس «الصور الروحانية». وهو العنوان الوحيد في «تدبير المتوحد»، وموضوعه الفرد والجماعة وكأن وظيفة الفرد المعرفة الخالصة والإشراق والمدن الفاضلة. وتبدو أهمية عالم الصور، صور الأشياء الذهن. فالعالم صور ذهنية. وتختلف فيما بينها خسة ورفعة، وتتغير الصور. والأجسام صور ارتفاعًا وانخفاضًا، والجسم صورة. أما المعقولات فليس فيها ارتفاع ولا انخفاض، رفعة ولا خسة. فهي كيف لا كم.

والروح على درجات لأنها لفظ مشترك عند الفلاسفة. وقد يعنون به الحار الغريزي أي الروح المادي.٢٩ ويعني الأطباء بالروح ثلاثة أشياء: الطبيعي للتغذي والنمو والتوليد، والحاس للحس الداخلي والخارجي، والمحرك للحركة الإرادية وغير الإرادية.

وعند الفلاسفة الروح على مرتبتين، من أدنى إلى أعلى: الحس المشترك أو الروحانية الخالصة، والروحاني المطلق، أي العقل الفعال للمعقولات الروحانية العامة. فتتحول القسمة الرباعية عند الأطباء إلى قسمة ثنائية عند الحكماء، والقسمة المزدوجة إلى قسمة بسيطة بعد استبعاد الصور الفلكية وضم الثانية والثالثة بدلًا منها في مقابل الرابعة.

وتنقسم قوى النفس من جديد إلى أربع قوًى من الأدنى إلى الأعلى: الحس المشترك، والتخيل، والتذكر، والقوة الناطقة.٣٠ وقد يتساءل البعض عن أولوية التخيل والتذكر في الترتيب أيهما أقرب إلى الحس وأيهما أقرب إلى العقل.

وقد تنقسم الصور الروحانية الخالصة التي لكل جسم كائن فاسد في وسائل إدراكها إلى قسمة ثلاثية: الحس المشترك، والقوة المتخيلة وهي الفضائل الإنسانية وهي محبوبة بالطبع، والقوة الذاكرة فحسب دون الناطقة. وهناك روحانية أقل أو أقرب إلى الجسمانية وتسمى الصنم.

وقد تنقسم قوى الإنسان قسمة سداسية: الأسطقسية وهي الاضطرار، والغاذية وهي باضطرار أيضًا، والمولدة وهي أقرب إلى الاختيار، والحاسة وهي أيضًا أقرب إلى الاختيار. فاللمس باضطرار والبصر باختيار، والانفعالات مثل الحس مع الأفعال الاضطرارية في الحيوان والاختيارية في الإنسان، وأخيرًا الفكرية، التصور والتصديق باضطرار ولكن أفعالها باختيار. تقسم قوى الإنسان إذن طبقًا لمقياس الاضطرار والاختيار أي الفعل الحر. فإذا كان المنطق اضطرارًا وكذلك أفعال الطبيعة فإن أفعال النفس والأخلاق اختيار في القوى الفكرية. وكل الأفعال الاختيارية مرتبطة بالناطقة. وكل النظام والترتيب في أفعال الإنسان من أجل النفس الناطقة، وهو ترتيب من الأدنى إلى الأعلى.٣١
والأحوال التي توجد للصور الروحانية الخاصة من حيث نسبتها العامة إحساسات أو خيالات.٣٢ والإنسان النفسي حسٌّ وتخيُّل وتذكُّر ونطْق.٣٣
وتنقسم الصور الروحانية إلى ما له حال وما لا حال له. وما له حال إما له حالة طبيعية مثل الولد والوالد أو حالة طبيعية نقصًا مثل التشويهات والأمراض أو كمالًا مثل حسن الصورة والفضائل. والكمال جسماني أو نفسي أو فكري. والنفس فكرية. وقد تكون القسمة غير دقيقة أو مكررة الأطراف، قسمة ما له حال إلى حالة طبيعية وحالة طبيعية مما لا يستدعي القسمة، وقسمة الاكتساب بالنسب وبالنسب. وقد تتكرر نفس القسمة لشيئين مختلفين مثل قسمة كلٍّ من الشرف والخسة إلى الجدوى والضرر. المهم هو التصور العام للصور الروحانية ومراتبها. ولا تذكر نقائض الفضائل الفكرية. وإذا كانت الفضائل بالطبع فلا استحقاق.٣٤
والآلات جسمانية وروحانية. والجسمانية صناعية وطبيعية. والطبيعية أعضاء وبدن.٣٥ وذلك كمقدمة للحديث عن الواحد والمحرك في رسالة «اتصال العقل بالإنسان». ووجود العقل الإلهي في الحيوان مجرد تشبيه أي القوة الدافعة. فاللغة الدينية تشبيهية تقريبية في مراحل ما قبل العلم، وكذلك لفظ الروح والروحانيِّين.٣٦

أما بالنسبة للموضوع فالصور الروحانية على أصناف من أدنى إلى أعلى: المعاني الموجودة في قوى النفس، الحس المشترك أو التخيل والتذكر، والمعقولات الهيولانية، وصور العقل الفعال إلى الفعل المستفاد، وصور الأجسام المستديرة، صور الأفلاك. الأولى وسط بين المعقولات الهيولانية والصور الروحانية، والثانية لها نسبة هيولى، والثالثة غير هيولانية، والرابعة خارج الذات، موضوعية خالصة. وهناك نسبة بين الذات والموضوع، بين الحس والمحسوس. لذلك تكثر الإشارة إلى «الحس والمحسوس».

وتتفاوت الصور الروحانية في مراتبها الجسمانية. كلما نزلت زاد الجسم وقلَّت الصورة. وكلما صعدت قلَّ الجسم وزادت الصورة. وتتفاوت فيما بينها بين الأكثر والأقل من أدنى إلى أعلى: الجسمانية والروحانية الخالصة والروحانية العامة. الجسمانية مثل الفلاحة، والروحانية الخاصة مثل الصناعات، والروحانية العامة المعقولات مثل التعليم والشعر. الصور المتوسطة ليست غايات بل توجد منها أكثر الصناعات في حين أن المتوحد يبحث عن العلوم النظرية الخالصة تعففًا من الصناعات وفي حضارة أعطت الأولوية للفضائل النظرية على الفضائل العملية. العالم كله صور، المهن والصانع والعلوم.

وفي رسالة «الوقوف على العقل العقال» بالرغم من الشك في صحتها تنقسم مراتب الوجود إلى أربعة مما يكشف عن التشكل الكاذب الخالص: الأسطقسات، والمتكون، والقوة المتخيلة، والعقل الهيولاني الذي بالفعل. ويمكن الوقوف على العقل الفعال عن طريق القياس بين التوطئات والغايات. فالتوطئات أسباب لوجود الغايات في الأجسام. والغايات أسباب وجود التوطئات في الوجود المعقول.٣٧
والصورة ونسبتها إلى الحس نوعان، بالعرض أو بالذات. ولو رأى أحد إنسانًا راكبًا فرسًا ثم رأى الفرس ذكره بالإنسان.٣٨ وللحيوان المحصل بعض الصور الروحانية الخاصة مثل الثعلب والذئب والفيل الذكي، وفي الإنسان مثل تحرك العيون والحدقة في علم الفراسة. والطبيعة بذاتها لا تفيد إلا صورًا روحانية صادقة وملائمة لها. والبليد هو الذي تقتصر فيه الصورة المحسوسة على القدر الذي يخصها من الروحانية. والأرعن هو مَن اقتصرت الصورة المحسوسة عنده على روحانيتها التي يستفيدها من الحس.٣٩

والحمل المنطقي هو تباين النسبتَين بين الجسمي والصوري أي بين المشخص والعام. فعن طريق الصور الروحانية يتحول علم النفس إلى منطق، والمحسوسات إلى معقولات. فأصول الاعتقاد مظنونة أو يقينية. والمظنونة كاذبة أو صادقة، وهي الصور الروحانية. وهي أقل رتبة من البرهان اليقيني الصادق ضرورة وأعلى من الظن الكاذب في مرحلة متوسطة بين اليقين والظن، بين الصدق والكذب. يصدق الإنسان بها أو يكذب.

وأفضل الصور الروحانية الصادقة أو ما مر بالحس المشترك.٤٠ وأكذبها ما لم يمرَّ بالحس المشترك مثل يأجوج ومأجوج. منها أمور بعيدة لا تعتمد على الشهادة الحسية مثل الأخبار وشروط التواتر مثل امرؤ القيس. ومنها نتخيل ما لا نشاهد دون حس مشترك مثل يأجوج ومأجوج. وقد لا يمر الصادق بالحس المشترك ولكن يمر بما يقوم مقامه وهو اسم أو ما يدل عليه ومر بالصورة واستقر في الذكر. الصادق مثل امرؤ القيس، والكاذب مثل كليلة ودمنة والأخبار الموضوعة.
والأمور المستقبلة مثل الرؤيا الصادقة والكهانات من قِبَل العقل الفعال بتوسط القوة الناطقة. وهي ليست باختيار الإنسان وليس لها أثرٌ في وجوده في فرد دون فرد، وفي زمن دون زمان. وليست موضوع صناعة ولا تدبير، أشبه بالإلهامات الإلهية، خارجة عن التدبير، ومَن له هذه القوة هو المحدث وصاحب الظنون الصادقة. والفرق بين المحدث وصاحب الظن الصادق أن الثاني يتقدم لديه بالوضع أحد جزأَي التناقض فيسبق إليه فيظن أنه أبدًا على غير قياس. والمحدث ينشأ لديه الأمر الصادق دون أن يتقدم مع نقيضه ودون منكر، ولا يتشوق إلى علم ذلك بفكر أو قياس. صاحب الظن الصادق ينشأ لديه التصديق دون التصور. والمحدث ينشأ لديه التصور والتصديق معًا.٤١

وهذه الصور الروحانية زائدة على الأمور الطبيعية لأنها إلهية. وليست موضوع صناعة أو تدبير لأنها في أقل الناس. إنما التفاوت في الدرجة. عند البعض أكثر الظنون صادقة، قريب الظن. وعند البعض الآخر أكثرها كاذبة، بعيد الظن.

والظن حاضر حسب الأحوال. والموضوع يتوقف على الفحوص والوضوح، والقلة والكثرة، والكيف والكم. وما حكتْه العرب في الظن ممكن، مثل: زيد نحوي. والضروري والأكثر يحول الإنسان بالتجربة والإمعان في النسب إلى المتحنك. والمتحنكون هم الذين عركوا التجارب، وقليلًا ما يخدعون.

وقد تكون الأمثال صورًا روحانية كاذبة فيما لا وجود له أو ما له وجود مثل ما كانت تحكيه العرب عن زرقاء اليمامة وتأبط شرًّا وما تحكيه النصارى عن بناء الهياكل لقوم بأسمائهم، قتلوا ثم أحيَوا ثم أحرقوا ثم أحيَوا بالرغم مما قد يكون لذلك رصيد في التجربة البشرية. تجعلها صادقة في البداية كاذبة في النهاية. وهي غير الصور الروحانية الكاذبة التي تقع بالحس والتي منها تأتي صناعة المشعبذين.

وإذا اجتمعت القوى الثلاث حضرت الصورة الروحانية وكأنها محسوسة، وتكون صادقة. وهو ما ظنَّه الصوفية غاية الإنسان في دعائهم «جمعك الله وعين الجمع» وبقصورهم عن الصور الروحانية المحضة التي قامت هذه الصور الروحانية مكانها. تدبير المتوحد إذن أعلى من التصوف. التصوف خيالات، وغاية الصوفية بالعرض لا بالذات، وغاية المتوحد بالذات لا بالعرض.

والصور اليقينية في محمولات الصور الخاصة توجد في أشخاصها وتدرك بالحس. تمر بالحس المشترك مثل الميت الحي. ووقوع اليقين في محمولات من الصور الروحانية بالذات وفي الأخبار وتواترها بالعرض لاعتمادها على الحس، الحواس الثلاث. الأخبار إذن مثل التصوف أقل من المعرفة اليقينية. فالرواية غير الدراية. ويقين السند قد لا يؤدي إلى يقين المتن بالضرورة.٤٢

والصور الروحانية العامة نوعان: الأولى عامة بالعرض كالصور الروحانية الخاصة والثانية عامة بذاتها كالأنواع والأجناس. الأولى في التذكر وتعمل بالحس، والثانية بالذات وتعمل في العقل. فالصور الروحانية في نفس الوقت موضوع للنفس وموضوع للمنطق.

والصور الروحانية مع نسبتها العامة نوعان: الأولى تمر بالحس المشترك، والثانية لا تمر بالحس المشترك. الأولى في النفس الطبيعية، والثانية في النفس المنطقية. والصور الروحانية الخاصة تهدف إلى الإفادة العامة إما للحيوان من خلل الحواس أو الطبيعة كالعطش للماء، وإما للإنسان من خلال الفكر أي الروية أو العقل الفاعل دون روية أي الإلهامات والرؤى الصادقة. هي إما متجهة إلى أسفل نحو الجسم أو إلى أعلى نحو العقل، نحو الطبيعة أو نحو ما بعد الطبيعة.

كما تعرف الصور الروحانية بالخيال إما عن طريق الحواس الخمس والصور الجسمانية أو عن طريق الحس المشترك خاصة البصر. وتغلظ الخيالات بسبب ألفاظها. لذلك أتت الاستعارة وأنواعها. وهي قاصرة على الإنسان دون الحيوان. ولا يحتاج الخيال إلى الحس إلا في وجود الأجسام القابلة للصور. ويظل السؤال هل يمكن أن توجد صورة روحانية مخترعة مادتها القريبة لم يمرَّ نوعها بذلك الحس المشترك؟ ويتصل الخيال بالنزوعية من أجل الحركة. والنزوعية إما بالعرض أو بالذات. وهي حالة طبيعية تقوم على الملائمة ضد الملل والسآمة.

والفكر إما استنباط يخص الإنسان وحده أو إلهام دفعة واحدة وقد يوجد للحيوان والحشرات. ويقوم القياس والبرهان على الصور الروحانية أي المعقولات. بها صدق وكذب بل يكثر الكذب فيها عن الصدق. وتدخل فيها الأماني وأقوال الشعراء. أما ما وجد عن العقل الفاعل فصادق.٤٣ هنا يتم الانتقال من علم النفس إلى المنطق. فالمعقولات كلية ضرورية.

(٢) النبوة

وتبدأ الموضوعات الدينية الصريحة في النفس الخالدة مثل الوحي والنبوة والمنام والملك وتأويل المنامات والرؤَى، والجن والشياطين، وأمور المعاد من ثواب وعقاب، وجنة ونار. وهي ما سمي في علم العقائد السمعيات أو النبوات في مقابل الإلهيات أو العقليات. فالإخوان في نسق العقائد أحيانًا تضحي بالعقليات من أجل السمعيات. ومن السمعيات يتم التركيز على النبوة والمعاد والإيمان دون الإمامة. فالأئمة خلفاء الرسل فحسب. فإذا استعملت حجة عقلية تأتي ملحقة بالحجج النقلية وشواهد التاريخ.

(أ) المنامات والأحلام (إخوان الصفا)

الوحي إنباء عن أمور غائبة تقدح في النفس من غير تكلف ولا قصد. وهو أقرب إلى تعريف الأحوال عند الصوفية. ويكون الوحي في اليقظة إما سماعًا لصوت أو سماعًا لصوت ورواية عن شخص وهو تعريف خاص. وقد يكون في المنام والنوم وهو استعمال النفس للحواس، وهو تعريف عام.

ويتم الوحي في اليقظة، وترى الملائكة ويسمع كلامهم. والإنسان وسط بين طرفَين الملائكة والحيوان. وله ثلاث مراتب. الأولى المؤمنون المصدقون، الأخيار الفضلاء الأبرار. والثانية الصديقون. والثالثة الأنبياء. والوسط أقرب إلى الطرف الأعلى لوجود قاسم مشترك بينهما هو النفس. ولا فرق بين المهام الملائكة ووحي الأنبياء. وكلام الملائكة إشارات تستلزم التفسير والتأويل. والوحي كلام من الناس، عبارات وألفاظ، ومن الملائكة إشارات وإيماءات. وكلاهما يتوجهان نحو المعاني. الوحي من الملائكة إلى الأنبياء وإيماءات وإشارات. ثم تختار الأنبياء ألفاظ أممها. فالوحي بالمعنى وليس باللفظ. ويتفاوت فهمُ الناس لخطاب الأنبياء حسب قدرات إفهامهم حتى الصلاة.٤٤
والحقيقة أن الوحي نداء للواقع وإجابة على سؤال يطرحه الواقع.٤٥ الوحي لا يكون في المنام إلا في تاريخ الأديان، إبراهيم ويوسف. أما الرسول فله الدعوة والدولة في اليقظة والوعي، والإرادة والقصد. الوحي واحد لا يتغير، معانٍ خالدة أبدية في العلم الإلهي. تتغير ألفاظه وتتبدل في النبوات كما قال ابن عربي في أبياته الشهيرة. وإذا كان التشابه في المعاني والصور وليس في المحكمات أي الشريعة فإنه يمكن تأويل الشرائع كما هو الحال عند الشيعة.

ويستعمل الإخوان تفسير الأحلام وتأويل الرؤى لإثبات جوهرية النفس مما يوقع في الدور. جوهرية النفس تُثبت الوحي، والوحي يُثبت جوهرية النفس. والسؤال هو: هل الأحلام دليل على جوهرية النفس أم أن الأحلام لها تفسير علمي؟ وما الضامن، ألَا تكون أضغاث أحلام؟

واختلف المفسرون في تفسير الأحلام بين خلط سوداوي ومزاج خليط، وفكر رديء وتخيُّل فاسد، وحين، وأضغاث أحلام.٤٦ وأحيانًا تتدخل موجبات أحكام النجوم ووساوس الشيطان وإلهام الملائكة والوحي الإلهي، وتبدأ من أسفل إلى أعلى من التفسير الفزيولوجي، فالسوداوي يرى السواد والبلغمي الأمطار، والدموي الفرح، والصفراوي الحريق. وأضغاث الأحلام استمرار لما يراه الإنسان في يقظته من هموم الدنيا. وأحكام النجوم لها دور في المنامات، ولا فرق بين الملائكة والشياطين والله في نفس الوظيفة.

ويمكن تأويل المنامات مثلًا بمثل، حلم بسفر فيقع السفر، وضدًّا بضد، حلم ببكاء فيقع الفرح، وما له تفسير، حلم بطيران فيقع السفر، ولكل رمز معنًى لقرينه بينهم مثل سواد البدن الذي يعني سواد الوجه عند الله، وطول الشعر الذي يعني الحزن، والبئر الذي يعني الهاوية.

ويمكن تأويل التأويل. فالأحلام عن طريق الضد نتيجة للحرمان والتعويض والذكريات الأولى بالرجوع إلى الوراء، وتمنِّي الخلاص في المستقبل.٤٧ فالمنام حديث النفس الباطني تعبيرًا عن مكونات الماضي وليس تنبؤات المستقبل. وكثيرًا ما بدأت الإبداعات النظرية والعملية بحلم ورؤيا على نحو فردي للملوك والسلاطين والعلماء. كما يلاحظ في بنية الحلم ثنائية الدنيا والآخرة، الظاهر والباطن، الخارج والداخل.٤٨ تدل المنامات على النزعة الصوفية الباطنية وإيجاد معانٍ للأشياء كما هو الحال في الآداب الشعبية حركة الجفن الأيمن شرٌّ، والأيسر خير.
ويرتبط تفسير الأحلام بقوة البروج وأوضاعها وحركاتها كما هو الحال في التصورات الشعبية.٤٩ والحقيقة أن علم الفلك ليس له هذا الدور الذي للعلوم السياسية والاقتصادية أي الحكمة العملية ومنطق الشعور والنزعة الإنسانية الطبيعية.
ثم يتم تفصيل إلهام الملائكة والشياطين في موضوع واحد. ويتم التحول من موضوع الوظيفة إلى موضوع ماهية الشخص، الملائكة والشياطين ولكل منهما لفظ، إلهام الملائكة ووسوسة الشياطين. والعجيب أن يتم التركيز على إلهام الملائكة ووسوسة الشياطين أكثر مما يتم التركيز على الإلهام من الله. وصدقُ الوحي أو صحته ترجع إلى مصدره، إلهام الملائكة أو وسوسة الشياطين أو إلى مضمونه الأخلاقي. فكل رؤيا فيها موعظة أو دلالة على النفوس أو حثٌّ على الخير أو تزهيد في الدنيا أو ترغيب في الآخرة أو ذكر المعاد فهو إلهام من الملائكة. الأخلاق شرط الدين.٥٠ ويروى الإخوان قصة تدل على أن الشذوذ الجنسي من عمل الشياطين.٥١ وقد يدل لفظ الملائكة على المعنى المجازي. فنفوس المؤمنين ملائكة بالقوة بالرغم من وجاهة سؤال: ولماذا لا تكون نفوس الأشرار شياطين بالقوة؟ هل لأن الطبيعة خيرة، والنفس من روح الله؟ وما يقال في الملائكة يعاد من جديد في الشياطين عن طريق القلب. وقبول نفوس الأخيار إلهام الملائكة ويتحول بالقلب إلى قبول نفوس الأشرار وسواس للشياطين.
وتتهيأ النفس للإلهام ابتداء من إصلاح الأخلاق. ودرجات الإلهام من الملائكة مشروطة بدرجات صفاء النفس ومعرفة العلوم. ومراتب العلوم ثلاثة صعودًا، الرياضيات والطبيعيات والإلهيات. وترتقي النفس في العلوم من إصلاح الأخلاق حتى الإلهام إلى السيرة العادة إلى العلة الحسية في الطبيعيات إلى الأمور العقلية في الإلهيات إلى الإلهام من الملائكة. فالمقدمة إما الأخلاق أو الرياضيات. ولا بد من الرياضيات في كثير من الأمور والمعارف لتصور هذه الأمور.٥٢ ونظرًا لتفاوت الناس في العقول فإنهم يتفاوتون في درجات العلوم. وقد تمت مخاطبتهم بألفاظ مشتركة حتى يفهمها كلُّ واحد على قدر فهمه.

وترتقي نفوس الملائكة في درجات الجنان ومقامات المعارف كما ترتقي النفوس الإنسانية. ولما كان الارتقاء قانون الأحياء ترتقي نفوس الحيوانات كذلك إلى الرتبة الإنسانية. فالحيوان إنسان في نزعة إنسانية وتصور إنساني للأحياء. وأحق الناس بالارتقاء الأشقياء حيوانًا أم إنسانًا. النفوس المتعوبة في التعبد، المنقادة إلى أحكام الشريعة، الخادمة في الهياكل والمساجد والبِيَع والصلوات والصوم والقرابين والدعاء والتأليه. هي النفوس الملائكية الواصلة. وإذا كانت الملائكة لا تسلم إلا على أبناء جنسها فهل بها إمكانية للترقي وهي نموذج الكمال؟

ويعيد الإخوان إلى بناء الموضوع كلِّه بين الإنكار والإثبات، مرة من جانب الموضوع، ومرة ثانية من جانب الذات، ومرة ثالثة من جانب الغاية. فمن جانب الموضوع الموجودات إما أجسام بلا أرواح ولا معارف ولا شعور وهو الجماد أو مركبة وهو الحيوان أو أرواح لا أجساد لها وهي الملائكة. ومن حيث الذات تتفاوت الحيوانات في شعورها ومعارفها من حاسة واحدة إلى حاستَين إلى ثلاثة إلى أربعة إلى خمسة. كما تتفاوت الناس في العلوم والمعارف بين بلهاء وعقلاء، جهلًا وعلماء. ويتفاوت العلماء في مراتب العلوم ودرجات المعرفة. فصاحب المعلومات الروحانية أقرب إلى الملائكة مثل الأنبياء. ومن ناحية الهدف كل نفس ملك بالقوة، ويمكن أن يصير ملكًا بالفعل إذا سلكت مسلك الأنبياء. وهي شيطان بالقوة إذا سلكت مسلك الشياطين. الملائكة سكان الجنان الأربعة: جنة الفردوس والنعيم والخلد والمأوى، والدور الأربعة: دار السلام والمتقين والمقامة والقرار. والشياطين سكان النيران، وهي سبع طبقات: جهنم، وجحيم، وسقر، ولظى، وحطمة، والسعير، والهاوية.٥٣ الإنسان في أول درجة في النار وآخر درجة في الجنة مما يدل على أن كل ذلك إسقاط إنساني.
وهناك تمييز بين اليقظة والنوم، بين الحس والحلم. فالنفس لها بُعدٌ باطني. فهي قادرة على الإلهام بالوساطة، بمزاج متهيِّئ أو تطهير وتصفية. والناس دهماء وعوام، نفوس كدرة بالجهل أو خاصة ترتقي في المعارف وذلك لإفساح المجال للنبوة.٥٤

لذلك يشار إلى الكهانة والغيب والتنجيم والنبوة. وهي موضوعات تظهر في الإلهيات في الإشراق، وفي الطبيعيات في علم أحكام النجوم. فللنبوة ميدانها، وهي موضوع حساس قد يؤدي إلى الاتهام بالكفر. الكهانة لأمور الدنيا قبل الآخرة، والحاجة إليها للتخلص من شوائب الحس، ويخطئ الكاهن كما يخطئ المنجم بسبب عدم خلاص نفسه.

والسؤال هو: هل يخطئ صاحب النبوة ولو على طريق السهو والخطأ؟ وماذا عن حديث تأبير النخل ثم الرجوع عن الرأي؟ فالأنبياء إما صادقون معصومون أو كذبة محتالون.

والكلام له ثلاث مراتب: الدنيا والوسطى والغاية التي لا غاية وراءها وهي النبوة. وبعض المسائل توجد بالفكر والرواية وبعضها بالخواطر والإلهام. ويختلف العلماء في الرقَى والعزائم بين صحتها وبطلانها.

ويدل على وجود النفس الباطنة إمكان كتمان السر. فالشعور في حالة عطاء، والإنسان ذات وموضوع، داخل وخارج، معنًى ولفظ. وهو إحساس بشرف النفس، الخطأ من الطبيعة والصواب من العقل. فالطبيعة هنا مضادة للعقل.٥٥ والنفس ليست فعل الملكية لا يملك الإنسان نفسه كما يملك الثوب. فالعلاقة بينهما ليست علاقة ملكية. الشيء في النفس، وحضور الأشخاص في الشعور.٥٦ وحديث النفس قد يتحول إلى عادة مثل حديث الوالدة، وحديث صاحب الشريعة، وحديث الموت، وحديث الله.٥٧ ومع ذلك يتحدث أبو حيان عن النفس الفلكية تقليدًا للفلاسفة دون برهان.
وهناك قصة مشابهة رمزية من قصص الأنبياء إلى عالم الأفلاك والنجوم. فقد اجتمعت سادة النجوم ورؤساء الكواكب في بيت المريخ وتشاوروا بينهم، الشمس، وزحل، والمشتري، والمريخ، والناهية، وأخوهم الأصغر، والقمر أم النجوم وهم سبعة لكل منها شخصيته الإنسانية.٥٨ وتشخيص الأفلاك يقوم على إسقاط العالم الإنساني في العالم الطبيعي لإيجاد التقابل بين العالم الأصغر والعالم الأكبر، دفعًا للأرض إلى السماء وجذبًا للسماء إلى الأرض. بعض الأسماء فارسية مع العربية مثل كيوان (زحل)، بهرام (المريخ)، برجيس (المشتري). وهناك ألفاظ أخرى ليس لها مقابل عربي مثل الناهيد أخت النجوم. وهناك ألقاب دون أسماء مثل أخيهم الأصغر، وكنيات مثل أم النجوم للقمر، لا فرق بين مذكر ومؤنث. وقد يكون المقصود إعادة توظيف الصابئة ووضع الكواكب في الوجدان، والنجوم في الشعور دون تأليه وكما فعل القرآن في سورة يوسف عندما خرَّت الشمس والقمر له ساجدين. ويتم الحديث عن المسلمين كآخر مما يدل على أن الشارح لا ينتمي إليهم.

ويتم تفصيل مرحلة الابن السادس، آخر الأنبياء، فقد مكث في الرحم أربعين يومًا، وهو عدد رمزي في القرآن، مواعدة موسى أربعين ليلة، عشرون منها في الرضاع. وقد تعني أربعين سنة قبل النبوة أصبح بعدها أديبًا عالمًا حكيمًا، ملكًا عزيزًا، إمامًا عادلًا، نبيًّا مرسلًا. فولَّاه أبوه المملكة. قهر ورفع، أعز وتحكم ثلاثين يومًا ثم أعجبته نفسه فأحبته العين فاعتدل وبقي في الفراش ألف يوم. ثم تحول إلى دار أخرى فسكر من خمرها، ودخل إلى كهف أبيه، ونام مع إخوته حتى أتى الميعاد، يوم الجمعة. مكث أربعين يومًا في الرحم، وثلاثين يومًا في الحكم من أيام الشمس، وعشرين يومًا في الاجتماع. وكلها أعداد رمزية في القرآن أصابته العين حسدًا، والحسد أيضًا مذكور في القرآن. وتشير القصة إلى العدد ثمانية وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ أو سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. كان أشبه بالأخ الثالث، إبراهيم نظرًا للتشابه بين المشتري وعطارد. صفاته الأدب والعلم والحكمة. جمع بين العلم والنجاح في الدين، بين الحكمة النظرية والحكمة العملية، بين المثال والواقع.

مرض وتحوَّل إلى دار أخرى، الهجرة وربما الآخرة، مرض مائة يوم قمري [ويوم ربك ألف سنة مما يعدون]. تم له النصر في النهاية، ثلاثين يومًا من أيام الشمس. ولا يوجد إعلان صريح بالموت. ربما تكون الدنيا رمزًا صريحًا للجنة. وتبدأ مشاهد القيامة في نهاية الزمان. وعلامات اليقظة النفخ في الصور، وهي علامات الميلاد الجديد.

(ب) الوحي والرؤى (الفارابي)

وعند الفارابي يتم الانتقال من المعرفة إلى الأخلاق إلى الدين في حركة نحو الكمال.٥٩ فبعد قوى النفس وأنواعها يتم الانتقال إلى الموضوعات الدينية الخالصة من أجل إفساح المجال للموروث في الوافد واتساع تصور الوافد بحيث يحتوي الموروث. الوافد يعطي قوى النفس البدنية، والموروث يكملها بقواها الروحية.

تظهر المقولات الدينية المباشرة مثل الروح والنبوة والملائكة والرسل واللوح وكل المفاهيم المكونة لنظرية النبوة. وتتحول نظرية الإدراك إلى نظرية في النبوة، من الله وعالم الأمر والروح الخالص بعيدًا عن النفس والبدن والحواس.

والنبوة مرتبطة بالروح القدسية التي يذعن لها العالم المخلوق كما يذعن البدن للروح فتأتي بمعجزات خارجة عن العادات. ولا يصدر أو ينتقش علمها من اللوح المحفوظ بل عن طريق ذوات الملائكة. وهي رسل تبلِّغ ما عند الله إلى الخلق. ويتلقَّى القلم معاني الأمر، ويستودعه اللوح بالكتابة الروحانية.٦٠

وهذا الجزء من أضعف الأجزاء في فلسفة الفارابي. فالنبوة تعتمد على روح واحد في الإنسان وفي النبوة، فهي جزء من كل. وفي نفس الوقت يقول الفارابي بذوات حقيقية للملائكة مخالفة لذوات الناس حرصًا على التنزيه واعترافًا بالتشبيه قياسًا للغائب على الشاهد وتشبيه الروح الإنسانية بالروح الملائكية. كما أنها لا تشير إلى الواقع، أسباب النزول الذي كان الوحي استجابة له وردًّا على أسئلته. فالوحي ليس من أعلى فقط بل من أسفل أيضًا دفاعًا عن مصالح الناس. ليس الوحي فقط من الملاك عن طريق اتصال الحس الظاهر والباطن للإنسان بالملاك بل هو قياس على الواقع بداية منه في أسباب النزول ونهاية له في الناسخ والمنسوخ. وهو خروج أيضًا عن الطرق الثلاث المعروفة المستنبطة من آية وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا، الطريق المباشر أو غير المباشر من وراء حجاب أو بإرسال رسول. كما تستحيل المعجزات في آخر مرحلة من مراحلها بنص الوحيوَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.

واللوح المحفوظ مجرد صورة فنية للتدوين، فالعلم ليس فقط في الأذهان بل في الأعيان. ويمكن تأويل القلم والروح والنفس. فالكتابة تصوير للتدوين والحفظ لأن الحقائق في الذهن وفي الواقع مثل في اللوح المحفوظ وفي الألواح والصحف.

والرسل بشر وليسوا ملائكة، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.٦١

ويفصل الفارابي مكونات النبوة في الروح والإنسان والملائكة وكأنه من كبار الصوفية. فالنبوة مختصة في روحها بقوة قدسية تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر. كما تذعن غريزة عالم الخلق الأصغر. فتأتي بمعجزات ولا تصدأ مِرآتها، ولا يمنعها شيء من انتقاش ما في اللوح المحفوظ من الكتاب وذوات الملائكة. وتقوم الرسل بتبليغ ما عند الله إلى الخلق.

والروح من جوهر عالم الأمر. لا يتشكل بصورة، ولا يتخلق بخلقه، ولا يتعين بإشارة، ولا يتردد بين سكون وحركة. لذلك تدرك المعدوم الذي فات والمنتظر الآتي، وتسبح في عالم الملكوت، وتنتقش من خاتم الجبروت.

والإنسان مركب من جوهرين. الأول مشكل مصور مكيف مقدر متحرك ساكن متحيز منقسم. والثاني مباين لهذه الصفات غير مشارك له في حقيقة الذات. يناله العقل ويعرض عنه الوهم. جمعت من عالم الخلق وعالم الأمر. الروح من الله والبدن من خلق الله.

والملائكة ذوات مثل الله والإنسان، ذوات حقيقية لها ذوات بحسب قياس الناس الذوات الحقيقية الأمرية. يشابهها من حيث البشر الروح القدسية الإنسانية. إذا تخاطبت انجذب الحس الباطن والظاهر إلى أعلى فيمثل لها من الملك صورة بحسب ما تحتملها. فترى ملكًا على غير صورته، وتسمع كلامه وهو الوحي. فالوحي من مراد الملك للروح الإنسانية بلا واسطة وهو الكلام الحقيقي. فالكلام تصوير باطن المخاطِب إلى باطن المخاطَب. فإذا عجز عن ذلك مس الخاتم الشمع فجعله مثله. اتخذ من الباطنين سفيرًا من الظاهرين، يتكلم بالصوت أو يعبر بالكتابة والإشارة. وإذا كان المخاطبان روحَين لا حجاب بينهما تم اللقاء كما بين الشمس والماء. والمنتقش إذا كان قويًّا يسبح في الباطن فينطبع فيتلقَّى الوحي ويتمثل صورة الموحى إليه، ويعرض للقوى الحسية شبه الدهش والغش للموحى إليه.٦٢ وعلى هذا النحو يتحول المنطقي العقلي العالم إلى الإشراقي الصوفي الإلهي الملكوتي الغيبي.
ويفسر الفارابي سبب المنامات بتوسط القوة المتخيلة بين الحاسة والناطقة، فالخيال متوسط بين الحس والعقل، قوة جامعة، وقوة في التوسط. يفعل الحس، وتنفعل المخيلة بما يورده عليها الحس. كما تكون مشغولة بخدمة القوة الناطقة وبإرفاد القوة النزوعية. فإذا صارت الحاسة والنزوعية والناطقة على كمالاتها الأُوَل بألَّا تفعل أفعالها كما هو الحال في النوم تفردت المخيلة بنفسها، وتخلت عن خدمة القوى الناطقة والنزوعية، وترتسم ما اختزنته من الحواس ورسوم المحسوسات المحفوظة، فتركب بعضها إلى بعض، وتفضل بعضه عن بعض بالإضافة إلى فعل ثالث وهو المحاكاة، محاكاة الأشياء المحسوسة المحفوظة فيها. تحاكيها المحسوسات بالحواس الخمس أو تحاكي المعقولات أو تحاكي القوى الغاذية أو القوى النزوعية، وتحاكي أيضًا مزاج البدن. وإذا كان المزاج يابسًا حكت يبوسة البدن وحرارته إذا كان مزاجه كذلك. ولما كانت قوة نفسانية فإنها تُقبل طبقًا لقدرتِها وهيأتِها طبقًا للأجسام.٦٣

وهكذا يتم الانتقال من علم النفس إلى التحليل النفسي، ومن الفزيولوجي إلى الخالص؛ إذ إن عمل المنامات في المختزنات في النفس عن طريق التحليل والتركيب ودون أن يكون لذلك أدنى صلة بأرسطو في «الطبيعيات الصغرى» في موضوع النوم واليقظة. والموضوع بعد في الموروث لتفسير رؤيا الحلم والرؤيا والوحي وإفساح المجال في الثقافة الوافدة وتوسيع أفقها بحيث تكون أعمَّ وأشمل لميدان جديد من الموروث في نظرة عامة شاملة تجمع بين المصدرَين، الوافد والموروث.

وتحدث المحاكاة طبقًا لاستعداد المخيلة وقواها. وإن كانت في جوهرها محاكاة الشيء الذي ارتسم فيها تم ذلك بوجهين. الأول أن تقبله كما هو وكما ألقى عليها. والثاني أن تحاكيَ ذلك الشيء بالمحسوسات التي تحاكي هي بدورها الشيءَ؛ لأنها لا تعقل المعقولات. ولو أعطتها القوة الناطقة معقولات حاكتْها بالمحسوسات. وقد أعطاها المزاج محسوسات حاكتْها بأُخَر مشابهة. وقد تحاكي القوة النزوعية فتقوم القوة المتخيلة بأفعال النزوعية تشبُّهًا بها فيكون الإنسان كالهازل أو الميت. وقد يتدخل المزاج وتتم المحاكاة طبقًا للمزاج وبتوسط بين المخيلة والنزوعية. فالمزاج يتبع شهوة النكاح في القوة النزوعية فحاكت القوة المتخيلة أمثال النكاح فتنهض أعضاء النكاح استعدادًا للفعل لا من شهوة ومثير في ذلك الوقت. وكذلك إذا قام إنسان من نومه وضرب آخر دون أن يكون المنبه موجودًا بالفعل.

وتتم محاكاة السبب الأول والأشياء المفارقة بأفضل المحسوسات وأكمل مثل الأشياء الحسنة المنظر والمعقولات الناقصة بأخس المحسوسات وأنقصها مثل الأشياء القبيحة المنظر. القوة النظرية للمعقولات الكلية، والقوة العملية فعل الجزئيات الحاضرة والمستقبلة. ويعطي العقل الفعال القوة المتخيلة من الجزئيات بالمقامات والرؤيات الصادقة، ويعطيها من المعقولات فتحاكيها بالكهانات على الأشياء الإلهية.

المحسوسات والمعقولات موضوعات للمحاكاة. أما محاكاة القوى الغاذية والنزوعية والبدنية أيضًا فتثير بعض التشكك والتردد. كما أن تفسير محاكاة مزاج البدن عن طريق الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة تفسيرٌ فزيولوجي خالص. إذا كان المزاج رطبًا حاكت الرطوبة بتركيب المحسوسات التي تحاكي الرطوبة مثل الحياة والسباحة. وإذا كان المزاج يابسًا حاكت يبوسة البدن بالمحسوسات التي تحاكي اليبوسة. وكذلك تحاكي برودة البدن وحرارته إذا كان مزاجه كذلك. والسؤال هو: كيف تكون القوى نفسانية وتحاكي الغاذية والأمزجة؟ هل هي محاكاة للبدن وللمحسوسات أم أنها تصوير الأشياء اعتمادًا على قياس الغائب على الشاهد قياسًا خطبيًّا إقناعيًّا تأثيريًّا وليس قياسًا منطقيًّا برهانيًّا؟ هل تتعامل القوة الناطقة مع المتخيلة وتعطيها معقولات وتهبط المعرفة من أعلى إلى أسفل أم أن المعرفة صعود من أسفل إلى أعلى، من المحسوسات إلى المتخيلات إلى المعقولات؟ هل تحاكي القوة المتخيلة المعقولات؟ كيف يحاكي الخيال ما لا يستطيع نَيله أو إدراكه؟ وهل المعقولات موضوع للخيال فحسب؟ تبدو نظرية العقول من جديد وكأنها مفتاح سحري يحل كل شيء ما يحس ويتصور وما يحاكي ويتخيل.٦٤

والنوع الأول من المحاكاة القائم على التقليد والمطابقة ليس محاكاة بل تقريرًا وصفيًّا. المحاكاة لما لا يظهر للحس والعقل والتعبير عنه بالصورة الفنية على نحو جمالي مثل تصوير الثواب والعقاب بالجنة والنار. المحاكاة إذن ليست لحقائق أبدية بالصورة الفنية ولكنها مرتبطة بالحواس والنزوع وأقرب إلى إثارة شهوة النكاح بتخيل المثير دون وجوده بالفعل. وهو تفسير فزيولوجي خالص للخيال أو المخيلة أو المتخيلة.

أما التنبؤ بالمستقبل فليس بفضل العقل الفعال وتدخُّله في المخيلة بل له أصوله وقواعده في العلم الطبيعي فيما سماه الكِنْدي «تقدمة المعرفة». كما أن الرؤيا الصادقة ليست بتدخل العقل الفعال بل بكثرة الهموم والقدرة على معرفة مسار الحوادث وقوانين التاريخ. وليست الكهانات على الأشياء الإلهية بتدخل العقل الفعال في المعقولات لوجود تمييز بين الكهانة والوحي. الوحي يتم في اليقظة والكهانة في النوم. الوحي في الكليات والكهانة في الجزئيات. وهو قياس الغائب على الشاهد على مستوى الوجدان.

ويطبق الفارابي موضوع الرؤية على الوحي والملك. وهو موضوع موروث خالص بعد تنظيره على مستوى ثقافة العصر. وما دامت إمكانية الرؤية قد ثبتت فما أسهل بعد ذلك من إثبات الوحي والملك الموضوع مع الحامل، الرسالة مع المرسل معه. وإذا كانت القوة المتخيلة في إنسان قوته جدًّا كاملة، وكانت المحسوسات الواردة عليها من الخارج لا تستولي عليها بأسرها ولا خدمتها للقوة الناطقة بل كان فيها مع اشتغالها بالأعلى والأدنى فضلٌ كثير تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصها سواء في وقت اليقظة أم في وقت النوم. وكثيرًا مما يعطيه العقل الفعال تتخيله القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية وتعود فترتسم في القوة الحاسة التي تراه بالبصر كأنه رسوم في الهواء بشعاع البصر ثم يعود الشيء إلى العين وإلى الحس ثم إلى القوة المتخيلة فيصير متخيلًا مرئيًّا للإنسان ما دامت قوى النفس مرتبطة بعضها ببعض.٦٥ وكل ذلك معاونة للقوة الناطقة. فإذا كانت المحسوسات المتخيلة في غاية الجمال والكمال قال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن أن توجد في سائر الموجودات أصلًا. ومحاكاة المعقولات تؤدي إلى النبوة بالأشياء الإلهية وهي أكمل المراتب في النوم واليقظة. ولا يحتاج التخيل هنا إلى بصر. وأقل من هذا مَن يرى ذلك في النوم فقط. وقد تكون الأولى كرامة والثانية نبوة.

ويتفاوت الناس في تحقيق الأقاويل (التعبير) على رموز وألغاز وإبدالات وتشبيهات في سبع طبقات، قبول الجزئيات ورؤيتها في اليقظة فقط دون المعقولات، قبول المعقولات ورؤيتها في اليقظة دون الجزئيات، قبول بعضها ورؤيته دون البعض الآخر، رؤية شيء في اليقظة وعدم قبول البعض في النوم، عدم قبول شيء في اليقظة، وقبول الجزئيات في النوم دون المعقولات، قبول شيء من هذا وشيء من هذه وهو حال أكثر الناس الذين يتفاضلون فيه، وأخيرًا قبول شيء من الجزئيات فحسب، ويبقى البعض زمانًا، والبعض إلى وقت ما ثم يزول، وهو حال النبي والولي. وقد يفسد المزاج ويرى البعض تحايل لا وجود لها، وهم المحرورون المجانين. ويلاحظ أن هذه الطبقات السبع على التقابل باستثناء الطبقة السابعة بناء على ثنائيات الجزئيات والكليات والنوم واليقظة.

وبالرغم من محاولة الفارابي تفسير الرؤيا علميًّا عن طريق قوى النفس إلا أنه جعل الوحي رؤيا مثل الإسراء والمعراج وليس تنزيلًا طبقًا لأسباب النزول والناسخ والمنسوخ. جعل الوحي أقرب إلى الموضوعات الغيبية الصوفية مثل رؤية عظمة الله وجلاله المشروطة بالقوة المتخيلة التي تعمل مع الحاسة والعقل الفعال، وكأن مَن ليس لديه قوة حاسة البصر لا يستطيع أن يرى عظمة لله وجلاله. الوحي رؤية أشياء عجيبة وليس دفاعًا عن مصالح الناس، فيتحول الدين إلى أوهام وغيبيات. ومَن يرى عظمة الله وجلاله لا يشعر بما تم في عقله من قبل، وأن صراخه قد تم بناء على أشياء سابقة في مخيلته. وإذا كان المقصود التصوير الفني فإن ذلك لا يتم في رؤية بل في تحليل لغوي نفسي لها لمعرفة مدى إثارتها للخيال والتأثير على النفس. ما زال الفيلسوف هو النموذج وليس النبي، العقل وليس الخيال، الحكمة وليست الكهانة، الخاصة وليست العامة.

وبعد إدراك الوحي والنبوة والقلم واللوح والكتابة تنشأ عقيدة القضاء والقدر من مجرد صورة فنية عن العلم والإرادة والقضاء من القلم، والتقدير من اللوح. يشمل القضاء على مضمون أمره الواحد، ويشتمل التقدير على مضمون التنزيل بقدر معلوم. ومنها يسبح إلى الملائكة التي في السموات ثم يفيض إلى ملائكة الأرض ثم يحصل المقدور في الوجود. فالحتمية الكونية والقضاء والقدر نهاية الإلهيات مثل ابن سينا في موسوعاته الثلاث، ولكنها حتمية طبيعية كونية وحرية إنسانية.٦٦ الحتمية الكونية ضرورية للعلم، وحرية الإرادة والاختيار أساس العلم المدني في الأخلاق والاجتماع والسياسة.
كل ما يحدث في العالم عن سبب وإن لم يكن بسبب وصار سببًا فإن ذلك لسبب. هناك إذن سببية شاملة في الكون دون اختيار، ويرتقي كل شيء إلى مسبب الأسباب، العلة الأولى. وتستند الأسباب إلى الرتب، والرتب إلى التقدير، والتقدير إلى القضاء، والقدر من الأمر.٦٧

ويعطي الفارابي سبع حجج ضد الاختيار دفاعًا عن الضرورة الكونية يمكن الرد عليها بسهولة. أولًا أن الاختيار ليس مصاحبًا للإنسان من أول الوجود. وهذا صحيح قبل حالة الوعي والاستقلال الذاتي. فإذا حدث الوعي الذاتي ظهرت الحرية. ثانيًا أنه لا يوجد اختيار أول، والسبب في ذلك إسقاط العلل من أجل الوصول إلى العلة الأولى. وهو نموذج التفكير الطولي الديني وليس التفكير الدائري العلمي. كما أن الاختيار الأول يتم في الدنيا بعد الخلق وليس قبله، وبعد الوعي الذاتي وليس قبله وهو ما سماه الأصوليون العقل أو التكليف. ثالثًا أن لكل حادث سببًا والاختيار له سبب. هذا صحيح ولكن لا يعني ذلك أن وجود سبب للاختيار الوقوع في الحتمية، فالسبب ذاتي، والاختيار الحر. فالحرية علة ومعلول. رابعًا هناك اختيار لا عن اختيار وهي الضرورية الذاتية، الاختيار بناء على الرسالة في الحياة والغائية في الكون. فالحرية في موقف، والاختيار يقوم على باعث. خامسًا الاختيار التزام وتلك طبيعة الحرية. وفرق بين الالتزام الذاتي والإلزام الخارجي. سادسًا كل شيء له سبب في الأزل، والأصح أن كل شيء له سبب في الواقع وليس في الأزل، والواقع هو ميدان ممارسة حرية الاختيار. سابعًا وأخيرًا الشرور من الأزل، والحقيقة الشرور من الواقع وليس من الأزل، ومن تخلِّي الإنسان عن مسئولياته ومن صراع الأضداد. وهي سنة الكون في التدافع والكد والكدح والسعي أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. كما أنه لا يمكن نفْي الاختيار وإثباته بحجج صورية جدلية فارغة، فالحرية شعور باطني لا تقضي عليه المماحكات الجدلية وعلى هذا النحو يكون أصل العدل الاعتزالي فُضل من هذه النهاية الحتمية في علوم الحكمة.

ولا تجوز رؤية الله. فالإدراك إما للخاص أو للعام. الأول بحاسة والثاني بغير حاسة بل استدلالًا. ولا يُدرَك الغائب إلا استدلالًا. وما ينال بالاستدلال ويحكم على إنيَّته ويثبت فإنه لا يكون غائبًا وتكون المشاهدة بملاقاة ومباشرة كما هو الحال في الرؤية أو بلا ملاقاة ومباشرة. والحق الأول لا تخفى عليه ذاته وليس ذلك بالاستدلال بل بالمشاهدة لذاته وكماله. فإذا ما تجلَّى أغنى عن الاستدلال وكان بلا مباشرة أو ممارسة وكان مرئيًّا لأن المباشرة تعني اللمس. والله قادر على أن يخلق في البصر إدراكًا يمكن أن يكون به مرئيًّا بعد البعث يوم القيامة من غير تشبيه ولا محاذاة. وهو تحويل لموضوع الرؤية إلى موضوع الإرادة، من الله كموضوع إلى الله كذات، بالإضافة إلى التحول من الدنيا إلى الآخرة، ومن الواقع إلى الإمكانية، ومن الحكمة إلى الإرادة.٦٨
ويكون خفاء الشيء إما لسقوط حاله في الوجود مثل النور الضعيف أو لشدة قوته وعجز المدرك نور الشمس وإما لستر مباين كالحائط أو مخالط مثل حقيقة الإنسانية التي في حاجة إلى قشر العقل عن الأمور والتصفية، وإما ملاصق الثوب الملابس.٦٩ ويُخفي الموضوع الحقيقة عندما يتبع الانفعالات من اللواحق الغريبة كالنطفة الصغيرة عندما تتحول إلى إنسان ضخم. والحق ليس به قربٌ أو بُعد مكاني. فالقرب مكاني أو عضوي، والمكاني اتصال من قبل الوجود. والعضوي اتصال من قبل الماهية، وكلاهما لا ينطبقان على الله. فالله وجوده عين ماهيته دون ملاصقة أو قرب.

حاول الفارابي الجمع بين نفْي الرؤية كالمعتزلة وإثباتها في الآخرة مثل بعض الأشاعرة والمعتزلة. وتقوم كلتا الحالتين على قياس الغائب على الشاهد، ورؤية الله على رؤية الأشياء، والله على الطبيعة. وفي موضوع الرؤية تبدو سيادة التصوف على الفلسفة لحساب الإشراق والفيض كما هو الحال عند إخوان الصفا. والحقيقة أن رؤية الله تعني رؤية الذات لموضوعها في الشعور حدسيًّا عن طريق الاستبطان. كما أن رؤية الحق لذاته هو الوعي الذاتي والإدراك الذاتي عندما يكون الذات والموضوع واحدًا.

ولا تُدرك الذات الأحدية بل تُعرف بصفاتها، وغاية ما يمكن إدراكه هو أنها لا يمكن إدراكها كما هو الحال في اللاهوت السلبي، الحد والرد والنفي، ورفض كل مظاهر التشبيه، وهو الوعي الخالص. ويتداخل مع اللاهوت الإيجابي في القضايا الإنشائية مثل إثبات الكمال والظهور في مقابل النقص والخفاء. والوحدانية ليست فارغة بل تتطور وتتخارج، تظهر وتتجلَّى.٧٠ والله يدرك ذاته وليس من موضوع خارجي مثل إدراك الوعي لذاته توحيدًا بين الذات والموضوع. الله عالم بذاته وليس مفارقًا له. الصفة ليست ذاته بل ملازمة لها كما هو الحال عند المعتزلة في التوحيد بين الذات والصفات. والله يعلم الأشياء قبل كونها، يعلمها بالأمور الكلية والقوانين وليس بالجزئيات. وهي التهمة الشائعة التي أطلقها الغزالي على الحكماء، إنكار علم الله بالجزئيات، دون قبلية أو بعدية في الزمان بل بالذات.٧١ فالقبل له خمسة معانٍ: بالزمان مثل الشيخ والصبي، وبالطبع مثل الواحد والاثنين، وبالترتيب مثل الأول والثاني، وبالشرف مثل أبي بكر وعمر، وبالذات وهو استحقاق الوجود. وهي قسمة تشابه قسمة المتكلمين لأنواع التقدم. وتبدو الحتمية الكونية من جديد في عبارة أراد الله فكان الشيء وليس كان الشيء فأراد الله تفسيرًا لا شعوريًّا لآية كُنْ فَيَكُونُ. والحق له ثلاثة معانٍ من أسفل إلى أعلى: الحق المطابق للخبر والمخبر عنه كما هو الحال في المنطق، والموجود الحاصل كما هو الحال في الطبيعة، وما لا سبيل إلى بطلانه كما هو الحال في الإلهيات. وهو أقرب إلى نفي النفي منه إلى التعريف، والحق بالمعنى الثالث يشمل المعاني كلها. وهو باطن لأنه شديد الظهور. غاب ظهوره على الإدراك فخفيَ. لذلك لا يمكن إدراك الذات إلا بالحدس الباطني وبالوعي الذاتي الخالص لأنها هي هذا الوعي في ذروة التركيز عليه.٧٢

كما تظهر المبادئ العامة في علم الكلام مثل الواحد والكثير، الله واحد والعالم كثير، وما بينهما مراتب الوحدة والكثرة، واتصاف الله بالواحدانية لا الكثرة لتفادي الكثرة في الذات. المشكلة كلامية، والفلسفة تطوير للكلام في مواجهة الوافد، غير الخارجي كما كان الكلام تطويرًا للعقيدة في مواجهة الموروث، غير الداخلي. ولا يهم هنا الأثر التاريخي. فقد تكون مسألة الواحد والكثير قد عادت إلى الكلام المتأخر من الفلسفة وأصبحت جزءًا من بنائه النظري في المبادئ العامة في أول نظرية الوجود وهي في أصلها صفة الوحدانية من أوصاف الذات في علم الكلام تحولت إلى الفلسفة بعد ذلك، والفكر الديني يتحول إلى فكر فلسفي وينتقل من «الثيولوجيا» إلى «الأنطولوجيا».

وهذا كله استعادة لموضوع الذات والصفات دون نسق بل مجرد خطاب إنشائي تتداخل فيه الصفات بلا ترتيب ودون تمييز بين الأوصاف والصفات والأسماء. والتوحيد بين الذات والصفات اعتزال في التوحيد والقول بالإرادة والاختيار اعتزال في العدل. ومع ذلك ينتهي التوحيد إلى الفناء الصوفي، لذة الإدراك وظهور العالم الأعلى، عالم الربوبية يصدر عن الأول كل شيء. هو أول الوجود والغاية، وأول الزمان، وأول بمعنى أن كل شيء فيه. وهو الآخر لأن الغاية القصوى وهي تعبيرات قرآنية. وهو المعشوق كما يعرفه الراسخون في العلم. وكل ذلك اقتضاء، والتعبير عما ينبغي أن يكون كما يبدو من عبارات «لا يجوز أن يقال أن»، وكما يبدو أيضًا من عبارات التنزيه، مثل: تقدست أسماؤه، جل ثناؤه، سبحانه وتعالى، تعالى الله عما يصفون.

(ﺟ) تأويل الرموز (ابن سينا)

يظهر الدين المباشر في المقالة العاشرة في إلهيات «الشفاء». وهي أصغر المقالات وبدون عنوان. وتشمل فصولًا خمسة. الأول في المبدأ والمعاد، ويتداخل مع موضوع الفصل الثاني عن النبوة بقول مجمل في الإلهامات والمنامات والدعوات المستجابة والعقوبات السماوية وأحوال النبوة وحال أحكام النجوم، وهو موضوع من الطبيعيات. ويسمى المعاد وهو الموضوع الثاني في السمعيات في علم أصول الدين، المبدأ والمعاد، البداية والنهاية. المعاد كنهاية يفترض الخلق كبداية والخلق كبداية تفترض المعاد كنهاية. والثاني في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله والمعاد إليه. فالنبوة وهي الموضوع الأول في السمعيات يشمل أيضًا المعاد مما يدل على تداخل الموضوعَين معًا في التاريخ العام، النبوة ماضي البشرية والمعاد مستقبلها.٧٣ والثالث في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة وهو ما يعادل الإيمان والعمل في علم أصول الدين. والرابع في عقد المدينة وعقد البيت والنكاح والسنن الكلية وهو استمرار للعمل على المستوى الاجتماعي في الإمامة أو ما يعادل الناموسيات والشرعيات عند إخوان الصفا. والخامس في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما، والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق وهو ما يعادل الإمامة في علم أصول الدين.٧٤ ونظرًا لأنها آخر المقالات، مع أنها أصغرها إلا أن دلالتها كبيرة، وهو أن الدين المباشر هو القصد والغاية للإلهيات التي ينتهي إليها. فالوافد يصب في الموروث، ويعاد التعبير عن الوافد بألفاظ الموروث.
والموضوع شائع ومتكرر في رسائل ابن سينا، مثل «في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم».٧٥ والموضوع محلي صرف، لا أثر لليونان فيه بالرغم من استعمال الثقافة اليونانية الفلسفية الشائعة بعد تعريبها وتحويلها إلى جزء من الثقافة العربية الإسلامية. وهو قول صريح بالتأويل. فالدين رموز وأمثال. ولما كان ابن سينا من أصل شيعي فإن التأويل لديه صدًى لنظرية المثل والممثول على نحوٍ فلسفي. فالتأويل ليس فقط منهجًا اعتزاليًّا أو صوفيًّا بل هو أيضًا فلسفي. الغرض منه إزالة الشكوك في تصديق النبوة لاشتمالها على دعاوى لا برهانية ولا جدلية بل ممتنعة مثل الخرافة. فهي وسيلة للإثبات لا للنفي، وللدفاع لا للهجوم في مواجهة اعتراضات العلماء والعقلانيِّين والملحدين والطبيعيِّين، خصوم النبوة ومنكريها.

وتبدأ الرسالة ببيان السياق العام للتأليف والإجابة على سؤال، ثم بالطبيعيات كمقدمة عامة، ثم بالنفس كمقدمة خاصة لإثبات النبوة، ثم إثبات صحة نبوة محمد، ثم تفسير الآيات والأحاديث القدسية الخاصة بها. البداية بالنظرة العقلية الصرفة، القسمة الثنائية، فعل وقوة، ذات وعرض، وهي ثقافة العصر، المثالية اليونانية التي تعبر عن الوجدان الديني كما ظهر طبيعيًّا وتلقائيًّا في التنزيه. البداية بالمعاني التجريدية والنظريات الخالصة دون حجج نقلية أو حتى عقلية جدلية، فالعقل أساس النقل. البداية من عل وعن بعد تأصيلًا للموضوع في الذهن أو التاريخ منذ آدم. ونظرًا لثقافة العصر تظهر مصطلحات العقل الفعال، والعقل المنفعل، والعقل الكلي، والعقل بالملكة، والعقل المستفاد. وقد ارتبط إثبات النبوة وصحتها بهذه المصطلحات وهذه الثقافة دون السؤال، فإذا ما اهتزت هذه المصطلحات وتغيرت هذه الثقافة فماذا يكون مصير النبوة؟ ويبدو الأسلوب أحيانًا غير عربي أو لأن الأسلوب تجريدي الطابع أو لأن المؤلف فارسي الأصل أو لأنه ينقل من مصادر مكتوبة وصامت عنها.

وتثبت النبوة وملحقاتها، الوحي والملك والرسالة، بنظرية عامة في السببية ولفهمها على نحو علمي. فالأسباب إما قائمة بذاتها أو غير قائمة بذاتها. والقائمة بذاتها إما صورة لا في مادة أو صورة ملابسة للمادة. والصورة الملابسة للمادة إما نامية أو غير نامية. والنامية إما بملكة أو بغير ملكة. وما بالملكة إما ناطق أو غير ناطق. والناطق إما بملكة أو بغير ملكة. وما بالملكة إما خارج العقل التام أو غير خارج العقل التام. وما خارج العقل التام إما بواسطة أو بغير واسطة. وما بغير واسطة هي النبوة والوحي والملك والرسالة والرسول، وما بواسطة هي السياسة. فإلى النبي ينتهي التفاضل في الصورة المادية. فهو يرأس جميع الأجناس. والوحي هو هذه الإفاضة. والملك القوة المقبولة المفيضة كأنها عليه إفاضة متصلة بإفاضة العقل الكلي. وسميت الملائكة بأسماء مختلفة لمعانٍ مختلفة، والعملية واحدة غير متجزئة. والرسالة وضع الوحي أي الإفاضة في عبارة استصوبت ليحصل بآرائه صلاح العالم الحسي بالسياسة والعلم العقلي بالعلم.٧٦

ويغلب على القسمة الطابع الثنائي المتتالي من البداية حتى النهاية كما هو الحال في نظرية الفيض. وأحيانًا تتوالى القسمة مرة من أعلى مثل القيام بالذات والنامي والملكة والتام والمباشرة، وأحيانًا من أسفل مثل الصورة الملابسة للمادة. الأعلى هو المتخارج، والأسفل هو المتداخل، والمباشر مثل النبي أدخل من اللامباشر. والأفضل يرأس المفضول. تثبت النبوة بتصور رأسي لا أفقي مما يتفق مع نظرية الفيض. ويتحد الوجود بالقيمة في الأفضل والأتم والأكمل.

ويستعمل ابن سينا أحيانًا الألفاظ على نحوٍ مجازي من أجل التعبير عن فيض العلم ونقله من أعلى إلى أدنى. وفي نفس الوقت يحول التشبيه إلى تنزيه، والأشياء إلى دلالات، والرموز إلى معانٍ. والهدف من هذا كلِّه وضْع مصطلحات جديدة لثقافة قديمة لإيجاد وحدة بين القديم والجديد، والقضاء على دينية القديم وعلمانية الجديد.

وتظهر صحة نبوة محمد للعاقل. فالعقل شرط التصديق مقارنة بتاريخ الأديان وتطور الوحي في التاريخ. ويتحدث الأنبياء رمزًا أو إيماء كما يذكر أفلاطون. ولم يوقف محمد العلم على الأعرابي الجافي بل هو مبعوث للبشر جميعًا. وسياسة الأنبياء واضحة والتكليف ليس في حاجة إلى تأويل. لذلك يبدو ابن سينا مجددًا للغاية مثل محمد عبده في «رسالة التوحيد» في إثبات النبوة على الإطلاق ثم إثبات صحة نبوة محمد دون الحديث عن الوحي ممكن الوقوع وانتشار الإسلام في التاريخ.

ويظهر موضوع النبوة في تحليل قوَى النفس ووصف أحوالها. فالموضوع علمي وإن كانت الدلالة دينية، ونفسي وإن كانت خاتمته دينية مع موضوعات متعلقة بها قبل الملائكة والسعادة والشقاوة أي ما يتعلق بأمور المعاد.

إذ تحصل النبوات للنفس في حالة اليقظة والأحلام الصادقة في حال النوم. تثبت النبوة بثبوت الرؤية وتعبير الرؤيا، واشتراك غير الأنبياء فيها بعد تقسيم الناس ثلاث طبقات: حسية وخيالية دون تعبير وخيالية وتعبير. وفي الدرجة الثالثة تتم مشاهدة صور إلهية عجيبة وسماع أقاويل إلهية على النحو التصاعدي الآتي:
  • (١)

    من مشاهدة لا شيء حسي إلى تخيُّل شيء آخر.

  • (٢)

    من الخيال إلى الرؤيا دون تعبير.

  • (٣)

    من الخيال إلى الرؤيا بتعبير (النبوة في حال اليقظة).

لا فرق إذن بين النبوة في علوم الحكمة وفي علم أصول الدين ما دامت في كلَا العلمَين رأسية، إلهامًا ومعجزة. في علم أصول الدين هناك على الأقل إعجاز القرآن، دراسة لغوية. وهناك الرسالة وتحليل اللغة والخطاب. وفي علوم الحكمة يتحول إعجاز القرآن إلى نظرية في التخييل، من علم اللغة إلى علم النفس، من الكلام إلى الفلسفة.٧٧

والسؤال هو: هل النبوة في البُعد الرأسي أم في البُعد الأفقي؟ أليست النبوة حركة في التاريخ وتقدُّم في الوعي الإنساني عبر تاريخ الأنبياء؟ فالنبوة فعل في التاريخ، عمل وممارسة، وحركة وبطولة أفراد وشعوب، أنبياء وأمم، قادة وجماهير. ولماذا يكون المدخل إلى النبوة عرفانيًّا بالضرورة؟ هل هذا هو المدخل الأوحد؟ وهل النبوة بالضرورة تصوير ما يحدث في المستقبل؟ أليس هذا هو التصور اليهودي؟ والفعل «نبأ» قد يكون بمعنى رؤية المستقبل وقد يكون بمعنى الارتفاع. والارتفاع شرط الرؤية عن بُعد. وقد يكون بمعنى الخروج أي تحوُّل المجتمع في تطوره التاريخي من مرحلة إلى مرحلة. إن غاية النبوة تحرير الحاضر بناء على تجارب الماضي والإعداد للمستقبل طبقًا لقوانين التاريخ. ليس الأنبياء أصحاب أحوال وصرع وغشي وكأنهم دراويش صوفية، بل هم قادة وأبطال الشعوب. ليست النبوة ألغازًا وأسرارًا صوفية بل هي رؤَى للعالم وأيديولوجيات سياسية واقتصادية واجتماعية تبني أوطانًا وتحقِّق مطامح شعوب.

وترتبط النبوة بالعقل طالما أنها مرتبطة بالنفس. والعقل إحدى قوى النفس، النفس العاقلة. إذ يتميز الحيوان الناطق عن غير الناطق بقوة تصور المعقولات وهي النفس الناطقة. والعقل النظري على أنواع: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل والعقل القدسي.

وتحصل الصور في العقل الهيولاني على ضربَين: الأول الإلهام الإلهي من غير تعلُّم أو استفادة من الحواس كالبديهيات. والثاني الاكتساب القياسي والاستنباط البرهاني مثل الحقائق النطقية والأمور الطبيعية، وإثبات المبدع الأول، ومعرفة السياسة الإلهية والطبيعية الكلية والعناية الأولية والوحي والنبوة والروح المقدسي الرباني والملائكة العلوية وحقيقة تنزيه المبدع عن الشرك والتشبيه، ومعرفة ما أعد للمحسنين من ثواب وللمسيئين من عقاب، واللذة والألم للنفوس بعد فراقها الأبدان.

وتتصل القوة النطقية في بعض الناس بالعقل الكلي دون مقياس أو روية بل بالإلهام والوحي مثل الأنبياء؛ فالإلهام هنا بديل عن الاستنباط دون الإعلان عن مساوقته للبداهة. تستعد القوة النطقية في بعض الناس من اليقظة والاتصال بالعقل الكلي بما ينزهها عن المفزع عند التصريف إلى القياس والروية. تكفيها مئونة الإلهام والوحي. وتسمى هذه الخاصية التقديس. وتسمى بحسبها روحًا مقدسًا. ولن ينال هذه الرتبة إلا الأنبياء والرسل.٧٨
وليس الفيض أو الإلهام خاصًّا بالنبوة وحدها بل يكون عامًّا يشارك فيه الحكيم. فالفيض الإلهي مثل الحس والتجربة أحد مصادر المعرفة. الجوهر العقلي في الأطفال خالٍ من كل صورة عقلية وفيه المعقولات البديهية من غير تعلُّم ولا روية، إما من الحس والتجربة أو بفيض إلهي متصل. وكلاهما مستفاد من فيض إلهي متصل بالنفس المنطقية.٧٩
وإذا كان الإلهام يعادل البديهيات فإن ذلك نوعٌ من عقلانية الوحي بالرغم من أن الفلسفة الإلهية برهانية وليست بديهية، وإذا كانت المعرفة كسبًا وإلهامًا فإن هذه هي قسمة الصوفية العلم إلى إنساني ولدنِّي ومقامات وأحوال. والتجربة وحدها أي العلم الإنساني لا يفيد حكمًا.٨٠
ويفسر ابن سينا آية النور اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تفسيرًا فيضيًّا إشراقيًّا على درجات محولًا الآية إلى نظرية عقلية ابتداء من ثقافة العصر. فالنور إما ذاتي مثل كمال المشف (أرسطو) أو مستعار وهو الخير أو السبب الموصل إلى الخير. فالنور له معنى حسي وافد ومعنى عقلي موروث. والعقل الأول واحد من جهة وكثير من حيث هو صور كليات كثيرة. فليس بواحد بالذات وهو واحد بالعرض. وهو مستفيد الوحدة ممن له ذلك بالذات، وهو الواحد جل جلاله. والسموات والأرض هما الكل بالرغم من ثنائيتهما وفتقهما. والمشكاة هو العقل الهيولاني والنفس الناطقة. والزجاجة مرتبة بين العقل الهيولاني والعقل المستفاد، والكوكب الدري الشفافة، والشجرة المباركة الزيتونة التي توقد هي القوة الفكرية لا شرقية ولا غربية. ويكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار: مدح للقوة الفكرية. فالله خير بذاته. وسبب كل خير. راعى التمثيل وشرائطه حين جعل أصل الظلام النور.٨١
ولا ترتبط النبوة بالنفس فحسب أي بالمعرفة، بل أيضًا بالوجود أي بالفيض. والنفس هي حلقة الاتصال بين المعرفة والوجود. فهي النفس الناطقة وفي نفس الوقت الفيض الثاني بعد العقل الفيض الأول. فالنبوة تقتضي وجود الملائكة وثبات الموجودات الروحانية عن طريق مراتب الوجود في تصور هرمي للعالم يبدأ بالله ثم تقل درجات الشرف تدريجيًّا، سقوطًا وانهيارًا، من الله إلى العقول إلى النفوس إلى الأجرام السماوية. العقول هي الملائكة الروحانية المجردة، والنفوس هي الملائكة الروحانية العمَلة. أما المادة المقابلة للصور فتترتب نزولًا من الإنسان إلى الحيوان إلى النبات إلى العنصر إلى المركبات. فالإنسان أرقى الموجودات الطبيعية. وهو أقل من الموجودات السماوية. ومع ذلك فهو أفضل الموجودات على الإطلاق.٨٢

النفس اسم مشترك يقع على معنى مشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات والإنسان والملائكة السماوية. وأول الكائنات من الابتداء إلى درجة العناصر العقل والنفس والأجرام. ومن الأجرام تحدث نفوس وعقول، ويفيض الكل من الباري. وتفيض الصور من المبادئ من الأعلى إلى الأدنى. والملك جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير حادث، واسطة بين الباري والأجسام الأرضية. منه عقل، ومنه نفس، ومنه جسماني. والجن حيوان مشف الجرم، يتشكل بأشكال مختلفة.

والسؤال هو: كيف يمكن معرفة الجن نقلًا أم عقلًا، مشاهدةً أم علمًا؟ النقل متعدد وتختلف مستويات اليقين فيه. والعقل مبرر للمعطيات سلفًا وقادر على البرهنة على كل شيء في ثقافة دينية موروثة ومثالية وافدة. وكيف يمكن الحصول على معنى لو استعصى الحد أو الرسم؟ هل هو موضوع طبيعي أم إلهي أم نفسي؟ هل هو مصطلح عقلي أم نقلي.٨٣ وهذا هو أضعف جزء في علوم الحكمة، القوى والأجرام السماوية مما لا يتفق مع نزعتها العقلانية والعلمية.
النبوة الكونية ربطٌ بين الله والعالم والإنسان، بين الإلهيات والطبيعيات والنفس في مراتب الوجود، الخلاف بينها في الدرجة وليس في النوع، تحويلًا المطلب إلى وجود، والذات إلى موضوع، والمعرفة إلى كون.٨٤

النبوة استمرار للفيض ولمراتب الموجودات على مستوى الإنسان. فالنبي أكمل البشر. يتميز بالكمال النفسي والعقلي. وكلاهما مراتب الوجود الروحاني. يجمع النبي بين العقل والنفس. وهو محصل الأخلاق والفضائل العملية. في قواه النفسية خصائص ثلاث:

سماع كلام الله، رؤية ملائكته بعد أن تتحول إلى صور مرئية، والوحي إليه.٨٥
وتتعرض «الإشارات والتنبيهات» إلى النبوة والمعجزة والسحر والنيرنجيات والطلسمات؛ وذلك أن الأمور الغريبة تنبعث في عالم الطبيعة من مبادئ ثلاثة: الهيئة النفسانية وخواص الأجسام العنصرية مثل جذب الحديد للمغناطيس، والقوى السماوية التي بينها وبين أمزجة الأجسام الأرضية هيئات وضعية أو بينها وبين قوى النفوس أرضية مخصوصة بأحوال ملكية فعلية أو انفعالية مناسبة تستتبع حدوث آثار غريبة.٨٦

ويبقى السؤال: هل هناك أمور عينية في الطبيعة؟ هل قوى النفس أمور غريبة؟ هل خواص الأجسام العنصرية كذلك؟ هل القوى السماوية مثل قوى النفس وخواص الأجسام قوى غريبة؟ وهل الإصابة بالعين حقيقة؟ وهل يكفي الدليل النقلي على ذلك دون دليل عقلي طبيعي؟ وهل هي واقعة طبيعية أم حالة نفسية، حدوث تغيير في قوانين الطبيعة أم مجرد تفسير نفسي، حدوث ما يتوقعه الحاسد من شر للحسود ولولا هذا الحسد لما تم الإدراك أو إدراك ما يقع له من خير؟ وهل النبوة في حاجة إلى معجزة كما هو الحال في مراحل الوحي السابقة أم إلى إعجاز أدبي وفكري وتشريعي كما هو الحال في المرحلة الأخيرة؟ وهل الكرامات والنيرنجيات من نفس المنبع والمصدر وعلى نفس المستوى؟ إن هذا الجزء أضعف الأجزاء في فلسفة ابن سينا، يبدو فيها أشعريًّا غزاليًّا. وهو هنا مثل إخوان الصفا، إزاحة العقلانية عند الفارابي والعلمية عند الكِنْدي ووضع التصوف محلهما.

تعتمد النبوة على علوم سابقة في الطبيعيات والإلهيات بالرغم من أن بعض نتائج هذه العلوم غير صحيحة وبعضها مشكوك فيها، مثل: لكل معلول علة. وهو صحيح فقط في إطار ممكن الوجود. الحركة السماوية اختيارية. وهو إسقاط من الإنسان على السماء دون برهان موضوعي. الاختيار الكلي لا يوجب جزئيًّا. وهو أشبه بإنكار علم الله بالجزئيات. وخطأ المقدمات في الطبيعيات والإلهيات أنها السبب في تصور النبوة رأسيًّا لا أفقيًّا. ولو أن المقدمات من العلوم الاجتماعية والتاريخية لظهرت النبوة أفقيًّا لا رأسيًّا.

١  الكندي، في العقل، رسائل، ج١، ص٣٥١–٣٥٧.
٢  فصل في العلم والمعلوم والتعلم والتعليم وأوجه السؤال، ج١، ٧، ٢٦٢–٢٦٦، والفصل في أجناس العلوم تلخيص للعلوم الرياضية والمنطقية، ج١، ٧، ٢٦٦–٢٧٢. وأيضًا ج١، ٢، ١١٣، ١٠١، ج١، ٤، ١٦٧، ج١، ٥، ١٩٩-٢٠٠، ٢٠٨، ١٨٦، ٢١١.
٣ 
الفارابي، فصول المدني، ص٢٧–٣٠، الفقرة ٧.
٤  الفارابي، السياسات المدنية، ص٤٦–٥٠.
٥  السابق، ص١٤٠–١٤٤.
٦  الفارابي، السياسات المدنية، ص١٤٠–١٤٤.
٧ 
الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٥٧–٦٠.
٨  الفارابي، السياسات المدنية، ص١٥٣–١٥٦.
٩  يمكن إجراء عدة رسائل عن الخاصة والعامة، دراسة في طبقات المعرفة عند المتكلمين والفلاسفة والصوفية.
١٠  التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٤٠-٤١، ٦٥، ج٢، ٨٤–٨٧، ١٨٥، ج٣، ١١٣.
١١  وذلك مثل الأوبرا، الفن الشامل عند هيجل.
١٢  كما هو الحال عند ديكارت في نظرية الصدق الإلهي واسبينوزا في المعرفة من الدرجة الثالثة، ويعتبر كانط في الفلسفة الحديثة أكبر تراكم فلسفي من العصر الوسيط كله خاصة الإسلامي بروح البرهان. وهو أفضل من الصراع المفتعل بين لوك وليبنتز، بين هيوم وكانط، بين بيكون وديكارت. وتأتى شهرتهم من الخطأ، ردُّ الكل إلى أحد أجزائه والصراع بين الأجزاء والحيرة النظرية. انظر: مقدمة في علم الاستغراب، ص٦٤٢–٦٦٥.
١٣  هل هناك غير المعقول والمحسوس، التوحيدي، المقابسات، ص١٨٢-١٨٣، في أن الفاعل الأول هو علة المحسوسات والمعقولات، ص١٨٢–١٨٦. في أن الموجود على ضربَين: موجود بالحس وموجود بالعقل، ص١٩٢-١٩٣. في أن اسم العقل يقال على معانٍ كثيرة، ص٢٨٩. في أن الأشياء التي توجد بالعقل وبالحس كلها اتبعت العلل، ص٣٥١–٣٥٤. ومعظمها آراء أبي سليمان ص٢٧٢.
١٤  التوحيدي، الإمتاع، ج١، ٤٠، ٦٥، ج٢، ٨٢–٨٤، ١٨٥، ج٣، ١١٣، المقابسات، ص٢٩٨-٢٩٩.
١٥  هذا هو رأي العامري وأبي النضر النفيس، الإمتاع، ج٢، ٨٤–٨٧.
١٦  التوحيدي، الإمتاع، ج٣، ١١٣.
١٧  مثل: الذكر، الذهن، الذكاء، الشك، الارتياء، اليقين، العلم، الحكمة، التمييز، العزم، اليقين، المعرفة، الجزم، الوهم، التوهم، التصور، الحفظ، الحس، التخيل، الإدراك، الروية، العقل، الوقت، البصر، النفس، الكل … إلخ، المقابسات، ص٣٠٨-٣٠٩.
١٨  اعتمادًا على أبي زيد البلخي في أقسام العلوم وعيسى بن علي. وهي أيضًا بين الفلسفة والأدب مثل الجاحظ وأبي حيان وابن حزم، المقابسات ص٤٨، واعتمادًا على أبي سليمان في معارف وأقسام العلوم بالقول المجمل على التقريب، السابق، ص١٧٨-١٧٩.
١٩  السابق، ص٢٢٢، ٢٣٤–٢٣٨، ٢٤٤-٢٤٥، ٢٠٢–٢٠٤، ٢٧٤.
٢٠  هذا ما عرفه شيللر بعد ذلك في الأدب الغربي في القرن الثامن عشر فأصبح من دعائم الرومانسية، السابق، ص١٤٤-١٤٥.
٢١  في ظرف الزمان وظرف المكان إجابة على سؤال الأندلسي عن كثرة ظرف الزمان على ظرف المكان، السابق، ص١٧٢–١٧٤. في علة تفاوت وقع الإلف في السمع والمعاني في النفس سؤال أبي بكر القومسي، السابق، ص١٥٨-١٥٩. في السماع والغناء وأثرهما في النفس وحاجة الطبيعة إلى الصناعة، المقابسات، ص١٦٣–١٦٥. في أن تقرير لسان الجاحد أشدُّ من تعريف قلب الجاهل، السابق، ص٢٣١.
٢٢  السابق، ص٣٥١.
٢٣  التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٢٠٤-٢٠٥.
٢٤  السابق، ج١، ٢٠٤، ج٣، ٢٠٢-٢٠٣.
٢٥  السابق ج٣، ١١٠-١١١.
٢٦  انحلال النفس: بالكسل وعلاجه استشعار التقوى، وبالغباوة وعلاجه المحافظة على العبادات، وبالقحة وعلاجه الاتفاق وسبيل الأنفس، وبالانتهاك وعلاجه السيطرة على النفس. وأفعال القلوب: بالرين وعلاجه النداء، وبالغشاوة وعلاجه اليقين بالآخرة، وبالختم وعلاجه التصديق بالرسالة. ومراتب انفعالات النفس: المدرجة، فالغيرة، فالمحبة. والسبب الداعي إلى الفعل: الترد أو اللذة أو الرئاسة أو المحمدة. ومراتب التقرب حسب العمل: الخدمة، والطاعة، والعبادة. ومراتب القربى: التوبة، والتفويض، والاتصال. والتعرف للذات بحسب المنتهى بعدة تساؤلات: لماذا هو؟ كيف السبيل إليه؟ ما الذي يحتاج إليه في التوجه نحوه؟ وما الذي يعوق عن بلوغه؟ والتعرف على موضوع الذات بعدة تساؤلات أخرى: ما هو؟ ومَن جاء به وكيف جاء؟ ومراتب العبودية بحسب القوة العملية: المتقون من علائق الخوف، والمحسنون من علائق الرجاء، والأولياء من علائق المحبة، والصالحون من علائق الاستقامة، ومراتب العيش في الآخرة: الاغتباط بنَيلها، والاغتباط بالأمن من زوالها. ومراتب العبودية في المعيشة الدنيوية: الاهتمام بالسعادة والسلوك إليه، والحصول عليها، والاستحسان بها. وفراق العبد للمولى بالقطع، والطرد، والحسر، والحجب، السابق، ص٣٠٣–٣٠٥، ٣٢٦-٣٢٧.
٢٧  وذلك مثل: إذا سعد العبد بوصال مولاه على الحقيقة فقد صارت دنياه آخرتَه وموتُه حياتَه، وفقره غناه، ومرضه صحتَه، ونومه يقظته، وضعفه قوته، وهمُّه فرجَه، السابق، ص٣٠٥. الحواس مهالك، والأوهام مسالك، والعقول ممالك. فمن خلص نفسه من المهالك قويَ على المسالك. ومَن قويَ على المسالك أشرف على الممالك، شرفًا يوصله إلى المالك. الحواس مضلة، والأوهام مزلة، والعقل مدلة. فمن اهتدى في الأول وثبت في الثاني أدرك في الثالث. ومَن أدرك في الثالث فقد أفلح. ومَن ضلَّ في الأول وزلَّ في الثاني خاف، ومَن خاف في الثالث فهو من الهمج، السابق، ص٣٢٦.
٢٨  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص٨٦-٨٧، ١٠٢.
٢٩  وذلك مثل ديكارت في انفعالات النفس ولوك وهوبز وهيوم وكل التيار المادي في العصور الحديثة في الغرب.
٣٠  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص٥٥–٥٨.
٣١  السابق، ص٦٦–٦٩، ٧٣، ١٢١–١٢٦.
٣٢  السابق، ص٨٨–٩٣.
٣٤  السابق، ص٧٠–٧٣.
٣٦  هذا ما قاله فيكو وكومت ومعظم فلاسفة التاريخ الوضعيين. فالفلسفة الغربية في العصور الحديثة مجردُ التركيز والإبراز لجزء يتحول إلى كلٍّ بدلًا من الكل الذي يطمر كل الأجزاء فيه مثل الفلسفة الغربية في العصر الوسيط وتراثنا القديم.
٣٧  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص٥٥–٥٨، ١١٠–١١٢؛ الوقوف على العقل الفعال، ص١٠٧.
٣٨  هذا هو الارتباط الشرطي الذي عُرف به بافلوف. وقد ارتبطت الفكرة به لأنه أول مَن قال بها في الغرب بعد هيوم وتداعي المعاني بالارتباطات الحسية نظرًا لمركزية الغرب وجهاز إعلامه وسيطرته، ومرحلته التاريخية بعد إسقاط الغطاء النظري الوسيط وإخفاء مصادره.
٣٩  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص١١٧–١١٩.
٤٠  وهذا ما حاوله ديكارت في الحس المشترك ونقله من مستوى الظن في العصر الوسيط إلى مستوى العقل في العصور الحديثة. وهو ما سماه كانط أيضًا السيمائية الترنسندنتالية Schématisme Transcendental.
٤١  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص٥٨–٦٦.
٤٢  انظر دراستنا: من نقد السند إلى نقد المتن، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة، ١٩٦٦م، ص١٣١–٢٤٣.
٤٣  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص١٠٥–١١٦.
٤٤  إخوان الصفا، الرسائل، ج٤، ٥، ٨٤، ١١٦-١١٧، ١٢٢.
٤٥  انظر دراستنا: الوحي والواقع، دراسة في أسباب النزول، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٨٨م، ص١٧–٥٦.
٤٧  الفقر = الفقر بعد الموت. العري = الأعمال الصالحة. الجوع والعطش = شهوات الدنيا. سواد البدن = سواد الوجه عند الله. طول الشعر = الحزن. تلويث البدن = الأفعال. الجبل الشاهق = الجبلة. الملك الوعر = طريق الآخرة. الوادي = جهنم. البئر = الهاوية.
٤٨  الرسائل، ج٤، ٥، ٨٦–٩٩.
٤٩ 
(١) الزهرة الوحي والزجر والكهانة زواج ونكاح
(٢) المشتري العبادات والصوم والصلاة معاملات وثمارات وأخذ وعطاء
(٣) المريخ الذهاب في المطالب وطلب البشارات الحراب والخصومات والمناعات
(٤) عطارد العلوم الدقيقة والأسرار الخفية المحاسبات والمحاورات والخصومات
(٥) الشمس الهياكل وبيوت العبادات والأعياد والجماعات الملوك والسلاطين
(٦) زحل أسفار بعيدة وأمور قديمة المشايخ الأكابر.
(٧) القمر الأحاديث والأخبار والروايات العوام وجمهور الناس.
٥٠  وهو موقف كانط وفشته في الفلسفة الغربية.
٥١  الرسائل، ج٤، ٥، ١٠٨–١٢١.
٥٣  السابق، ج٤، ٤، ١٢١-١٢٢.
٥٤  في أن اليقظة التي لنا بالحس هي النوم والعلم الذي لنا بالفعل هو اليقظة (ثابت بن قرة)، المقابسات، ص١٧٩-١٨٠. في علة امتناع الرؤيا في المنام، ص١٩٠-١٩١. في أن كل شيء في اليقظة يجوز في المنام إلا التركيبات ص٣٤٩–٣٥١. في الكهانة وما يلحق بها من أمور الغيب، ص٢٢٦–٢٣٠. في أن بعض المسائل توجد بالفكر والروية وبعضها بالخواطر والإلهام، ص٢٣٨–٢٤٠، في اختلاف العلماء بين بطلان الرُّقَى والعزائم وبين صحتها وفى شيء من أقوال العلماء، ص٢٤٨، ٢٧٠–٢٧٢.
٥٥  عكس الرواقية وكانط.
٥٦  مثل مارسل وهيدجر وميرلوبونتي.
٥٧  في كتم السر وعلة ظهوره، المقابسات، ص١٤٥-١٤٦. في قول الإنسان حدثتني نفسي بكذا وكذا إجابة على سؤال أبي زكريا الصيرمي، ص١٦١-١٦٢. هل يقال الإنسان ذو نفس كما يقال ذو ثوب؟ ص٨١. في شيء من مذكرات المؤلف مع بعض الأطباء (أبو سليمان)، ص٢١٤-٢١٥. في حديث النفس وما يغلب عليها ويصير دينًا لها. سؤال الصيرمي لأبي سليمان، والسؤال أعمق من الإجابة، ص٢٧٥–٢٧٨.
٥٨  الشمس تدل على العظمة والرياسة والسلطان والفرد والمتعة والأبهة والبهاء والمدح والثناء والبذل والعطاء. وزحل يدل على الحلم والوقار والصبر والثبات وبُعْد الغور وعلو الهمة والحفظ والأمانة والفكر والروية. والمشتري القاضي العدل، صاحب الدين والورع، الخير والصلاح، العدل والإنصاف، الصواب والصدق، والوفاء والصيانة والمروءة. والمريخ صاحب الجيوش اليقظ، والعزم والصراع، والنجدة والشجاعة، والهمة والبسالة، والظفر والغلبة، والبذل والسخاء. والناهية أخت النجوم، لها الحسن والجمال، والتمام والكمال، والرأفة والرحمة، والزينة والنظافة والحب والمودة، والسرور واللذة. وأخوهم الأصغر أخفاهم منظرًا، وأجلُّهم مخبرًا، صنعته أظهر، وعلومه أكثر، وعجائبه أشهر، صاحب الفصاحة والنطق والتمييز والفطنة والنظر واللطافة والقراءة والنغمة والعلوم والحكمة. والقمر أمُّ النجوم، صاحبة النور والبهاء، والزيادة والنماء، والحركة والتنقل وبلوغ الآمال والسير والأخبار وعلم مواقيت الآجال، الرسائل، ج٣، ٧، ٣١٧–٣١٩.
٥٩  وذلك مثل مراحل الحياة عند كيركجارد، من الجمال إلى الأخلاق إلى الدين.
٦٠  الفارابي: السياسات المدنية، ص١٤٥-١٤٦، ١٦٢–١٦٤؛ فصول المدني ص٨٣-٨٤؛ التعليقات، ص٥٤؛ وأيضًا «كتاب العلة».
٦١  الفارابي، السياسات المدنية، ص١٤٥-١٤٦، ١٦٢-١٦٣.
٦٢  السابق، ص١٤٥-١٤٦، ١٦٢-١٦٣.
٦٣  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٦٣-٦٤.
٦٤  السابق، ص٦٤–٦٨.
٦٥  السابق، ص٦٩-٧٠.
٦٦  وذلك مثل اسبينوزا وهيجل.
٦٧ 
الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص١٦٤–١٦٦.
٦٨  السابق، ص١٦٧–١٦٩.
٧٠  وذلك مثل هيجل في «ظاهريات الروح» وبرجسون في «التطور الخالق».
٧١  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص١٧٠–١٧٦.
٧٢  «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الأول، المقدمات النظرية، ص٤٧٢–٤٧٤.
٧٣  أكبرها الأول ثم الرابع ثم الخامس ثم الثالث وأصغرها الثاني.
٧٤  «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الربع: النبوة — المعاد، المجلد الخامس: الإيمان والعمل — الإمامة، مدبولي، القاهرة ١٩٨٨م.
٧٥  ابن سينا، النبوات، ص١٢٠–١٣٠.
٧٦  السابق، ص١٢٣–١٢٥.
٧٧  السابق، ص١١٤–١٢١؛ أحوال النفس، ص١٢١.
٧٨  ابن سينا، أحوال النفس، ص٦٧-٦٨؛ قوى النفس، ص١٦٨، ١٧١، ١٧٦؛ ابن سينا، في ذكر النفس الإنسانية من مرتبة بدنها إلى مرتبة كمالها، قوى النفس، الفصل الثامن، ص١٦٨-١٦٩.
٧٩  وهي نفس الأمثلة الديكارتية في الأفكار البديهية. والسؤال هو: هل هذا التشابه بين ديكارت وابن سينا توارد خواطر أم أثر وتأثر، وهو مالم يطبق حتى الآن لمعرفة المصادر الشرقية للفلسفة الأوروبية، إبقاء على المعجزة اليونانية المستمرة من اليونان القديم إلى الغرب الحديث. كما يتحدث ابن سينا عن التحليل والتركيب كما يتحدث ديكارت. فإبداع ديكارت بهذا المعنى أسطورة. أخذ من العصر البسيط الذي يقبع المسلمون فيه، وعبَّر عنه بروح العصور الحديثة، العقلانية وليس القطعية.
٨٠  وهذا أيضًا عند كانط. هناك إذن أسطورة الفلسفة الحديثة. هي مجرد اتجاه عقلاني في الدين حمل لواءَه المفكرون المسلمون.
٨١  ابن سينا، النبوات، ص١٢٥–١٢٨.
٨٢ 
الشفاء، الإلهيات (٢)، ص٤٣٥–٤٣١؛ النجاة، ص٢٩٩؛ الحدود في تسع رسائل، ص٨١، ٨٩-٩٠.
٨٣  هو الموضوع الأخير في نظرية الوجود في علم أصول الدين. انظر: من العقيدة إلى الثورة، المجلد الأول، المقدمات النظرية، ص٦٢٣–٣٢٦.
٨٤  وهو نفس التوحيد عند كانط وفشته بين المطلب Exigence والوجود Existence.
٨٥  الشفاء، الإلهيات (٢)، ص٤٣٥-٤٣٦.
٨٦  ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ص٢٥٤–٢٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤